إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [32-34]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في سورة الأحزاب أفرد الله تعالى جزءاً عظيماً لمخاطبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليهن من الآداب والأحكام، وما ينبغي أن يكن عليه من حفظ وتلاوة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتبليغهما، وأن يلازمن بيوتهن ولا يتبرجن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ...)

    تأديب أمهات المؤمنين وذكر فضلهن

    قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:32-33].

    هذه آيات على نسق واحد في أمر أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم بآداب وأخلاق تليق بأمثالهن؛ لأن الله سيجعلهن قدوة يقتدي بهن أمثالهن من النساء.

    فالله جل جلاله هدد أمهات المؤمنين وأوعدهن إذا صنعن ما لا يليق بهن، ثم أمرهن بالأخلاق العالية وحضهن عليها فقال: (من يقنت منكن) أي: من تطع الله ورسوله وتعمل الصالحات نؤتها أجرها مرتين في الدنيا والآخرة، ونهيئ لها الرزق الكريم في الدنيا بحيث لا تتعب في ذلك، وفي الآخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

    ثم إن الله رفع من شأنهن فقال: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32] أي: أنتن أشرف النساء إطلاقاً، وأعلى النساء مقاماً، هذا إذا اتقيتن الله، وعملتن من الصالحات ما يليق بأمثالكن.

    ثم قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].

    أي: فلا تلن الكلام ولا ترققنه، ولا تتكسرن فيه، فيطمع ويرغب ويمني نفسه من في قلبه مرض من الفساق والفجار وأمراض القلوب، ولكن إذا تحدثتن فتحدثن بالقول المعروف الذي يرضي الله ورسوله، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، بكلام هو إلى الخشونة أقرب، من غير تكسر ولا تغنج.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ...)

    ثم عاد فأمرهن بقوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

    أي: الزمن بيوتكن لا تكثرن خروجاً ولا دخولاً، فإن كان ولا بد من الخروج فإلى المساجد وأنتن تفلات غير متعطرات ولا متبرجات.

    وقد أمر الله الرجال بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) أي: لا تمنعوا النساء إذا أردن الصلاة في المساجد، ومع ذلك قال لهن صلى الله عليه وسلم: (صلاتكن في مخدعكن أفضل لكن من صلاتكن في بيوتكن، وصلاتكن في بيوتكن أفضل لكن من صلاتكن في المساجد)، لكن إذا خرجن إلى الصلاة وأبين إلا ذلك فلا يخرجن وهن متعطرات، بل يخرجن تفلات بلا عطر ولا تبرج ولا إظهار زينة، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

    إذاً: الزمن بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لضرورة دينية أو دنيوية، فالضرورة الدينية مثل الخروج إلى المساجد، على أن يخرجن غير متبرجات ولا متعطرات ولا سافرات ولا متغنجات، أو يخرجن للحج على نفس الحال، أو خروجاً دنيوياً لصلة أرحامهن كالأب والأم ومن لا بد أن يزرنه من أقاربهن المحارم، لا يكون في هذا الخروج تبرج كتبرج الجاهلية.

    التبرج في القديم والحديث

    قال الله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

    التبرج هو: إظهار النساء المحاسن، وخروجهن متبخترات، متعطرات، متكسرات في مشيتهن، فالله منعهن من ذلك، وحرم عليهن ذلك، وقال لهن: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

    وكما قال ابن عباس : (ما كانت جاهلية أولى حتى كانت جاهلية ثانية).

    وقال قتادة بن دعامة السدوسي : (لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، والجاهلية الثانية ستأتي في آخر الزمان).

    فما أصدق ابن عباس في فهمه وقد أوتي حسن التأويل، وما أصدق قتادة بن دعامة في فهمه كذلك لكتاب الله.

    والجاهلية الأولى هي التي كانت قبل الإسلام، عندما كان النساء يخرجن متبرجات، متعطرات، مبرزات محاسنهن، متعرضات للرجال في ثياب هي إلى العري أقرب ويمشين في تكسر وميلان.

    وهذه الجاهلية الأولى التي حرم الله على النساء أن يفعلنها عاد إليها النساء في زماننا هذا الفاسد، كما فسر ابن عباس وكما صرح قتادة بن دعامة ، فلقد عادت النساء للخروج وهن متبرجات متكسرات متغنجات، مبرزات للمحاسن ساقاً وفخذاً وصدراً وظهراً وعنقاً وخداً وشعوراً، من غير خوف من الله ولا خشية من الناس، وهذا ما قد حرمه الله في كتابه على أمهات المؤمنين، وعلى غيرهن تبعاً لهن، فالأمر للنساء عموماً.

    وقد روى مسلم في الصحيح، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وعن أبي سعيد الخدري قالا: قال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من الناس لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، يأتين أبواب المساجد على المياثر، لا يرحن ريح الجنة، وإن بينهن وبينها مائة عام، ورجال ...).

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (صنفان من الناس) أي: نوعان من الخلق أو فئتان: فئة من النساء لم يرهن بعد، وفئة من الرجال لم يرهم بعد، أي: لم يكونوا في عصره ولا زمانه، بل لم يكونوا بعد عصره بأكثر من ألف عام، إلى أن كانوا في عصرنا هذا، العصر اليهودي الفاسد الفاجر.

    فقد وصف صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن كاسيات عاريات، يلبسن ألبسة هي إلى العري أقرب، تظهر منها جميع محاسنهن، من ظهور وصدور وشعور وسوق، وتكاد تكون عارية، مع التكسر والتبختر والتعطر، وعرض أنفسهن على الرجال، فهؤلاء يخرجن في الشوارع وهن إلى العري أقرب، يلبسن على رءوسهن برانيط وقبعات، ويضعنها تارة على اليسار وتارة على اليمين، يملن على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف.

    أسنمة: جمع سنام، كما يكون عادة سنام الجمال الهزيلة المائلة يميناً وشمالاً، وهي عادة ذات سنامين، يأتين على هذه الحالة إلى أبواب المساجد، مما يدل أنهن في الأصل محرمات.

    يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: (لا يرحن ريح الجنة) أي: لا يشممن لها ريحاً، مع أن ريحها يشم من مسيرة مائة سنة، فإذا كانت المرأة على هذه الحالة لم تقبل لها صلاة، ولا يقبل لها صيام، ولا يقبل لها حج ولا عبادة، ما لم تتخل عن هذه الفواحش والبلايا والمصائب، وقديماً قالت الحكمة: التخلية مقدمة على التحلية.

    فبدل أن تذهب المرأة وتزف لزوجها وقد تعطرت ولبست الحلي والحلل، تذهب لتغسل بدنها وتتنظف، ثم بعد ذلك تزف.

    وهكذا المؤمنة قبل أن تذهب للطاعة من صلاة وحج وصيام فلتتطهر من الأرجاس والأدناس والعري والتبرج، وما لا يليق بالمسلمات.

    حض أمهات المؤمنين وغيرهن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

    قال تعالى: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ [الأحزاب:33].

    أمرهن الله كما أمر النساء عموماً بأن يقمن الصلاة، وإقامة الصلاة المحافظة عليها أوقاتاً وطهارة وحشمة وستر عورة، وواجبات وسنناً ومستحبات، وأن يقمن الصلوات الخمس في أوقاتهن في كل حياتهن، كذلك إن كان لكن ما تتصدقن به، وجوباً أو سنة نافلة فافعلن ذلك، وزكين أموالكن، وتصدقن على كل سائل ومحروم.

    وقوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33] خصص ثم عمم جل جلالة، فأمر بالتزام البيوت، وأمر بالحياء والحشمة وعدم التبرج منهن، إلا أن يخرجن لزيارة رحم كأب أو أم أو لمسجد أو لحج بشرط ألا يتبرجن، وأمرهن بملازمة الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها، وبأن يؤدين الزكاة الواجبة والنافلة، ثم عمم عموماً فقال: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]، وطاعة الله طاعته في كتابه، وطاعته في طاعة رسوله، بأن يقمن بكل الأركان، من شهادتين، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وأن يتركن كل حرام حرمه الله، وأن يقمن بكل واجب أوجبه الله، ما أمرن به فليفعلن منه ما استطعن، وما نهين عنه فلينتهين عنه ألبتة.

    كذلك أمر الله أمهات المؤمنين بأن يطعن رسول الله في سنته، وفيما يأمرهن به كفاحاً ومواجهة، يطعنه في كل أمر ونهي؛ لأنهن سادات النساء، ولأنهن لسن كأحد من النساء.

    معنى الرجس الذي أذهبه الله عن أهل البيت

    قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

    (إنما) أداة حصر، أي: ما أمر الله به أمهات المؤمنين مما ذكر في الآيات السابقة، إنما أراد الله بها أن يطهر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الرجس، وهن من أهل البيت.

    والرجس: هو السوء والشهوة، وهو عمل الشيطان، وهو كل ما نهى الله عنه ورسوله.

    إذاً: الرجس كل سوء من النواهي، وكل شر من الأعمال، وكل أعمال الشيطان.

    فقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [الأحزاب:33] أي: ليذهب الشر والإثم والفاحشة والسوء وما لا يليق بكن يا أهل بيت رسول الله.

    وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] أي: أن تطهرن من السوء والفحشاء، ومن الذنوب والمعاصي.

    حقيقة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

    من هم آل البيت؟

    الخطاب في الآية لأمهات المؤمنين، وهي صريحة بأن أمهات المؤمنين من آل بيت رسول الله.

    وقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33] أي: يا أهل البيت.

    ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه الآية، فيما ترويه أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة ، وفيما يرويه أبو هريرة وأبو سعيد وزيد بن أرقم رضي الله عنهم وغيرهم كما في الصحاح والسنن، قالوا: (عندما نزلت هذه الآية الكريمة: نادى عليه الصلاة والسلام علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم أخذ كساء أسود كان يلبسه، وغشاهم به، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).

    فكان هذا الحديث زيادة بيان وتفسير وشرح لمعرفة آل البيت، فآل البيت هم في الدرجة الأولى بناته عليه الصلاة والسلام، ثم سلالته من فاطمة ، ولم يكن له سلالة من غيرها.

    وفي الحديث المتواتر الذي صححه أئمة الشام، والشاميون إذا صححوا حديثاً عن آل البيت وعن بني هاشم فعض عليه بالنواجذ، كما إذا صحح أهل الكوفة والعراق أحاديث في أبي بكر وعمر فتمسك بها؛ لأن الحديث الذي صح عادة بشهادة من اتهم في هؤلاء واتهم في هؤلاء يكون صحيحاً.

    فعن زيد بن أرقم وعمر بن الخطاب وعن جماهير من الصحابة قالوا: عندما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة، وهو عائد للمدينة المنورة مع من معه من الحجاج أقام ونزل في الجحفة ودعا: الصلاة جامعة، فحضر من معه من الحجاج، فصلى بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم وقف خطيباً بعد ذلك، فأشاد بـعلي بن أبي طالب وأشاد بآل بيته رضوان الله عليهم جميعاً، ثم قال: (علي مولاي، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وتركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي آل بيتي، ولن يختلفا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟!).

    نص الإمام ابن كثير والإمام الذهبي والمزني وكلهم من الشام على تواتر هذا الحديث، وأنه كان في يوم مشهود عند غدير خم في الجحفة، وقد انجحفت وذهبت واندثرت، وهي أقرب ما يكون إلى ما يسمى اليوم رابغ.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة...)

    قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب:34].

    قال ربنا لأمهات المؤمنين: (واذكرن) إما من الذكر والتلاوة، وإما من التذكر والاعتبار، وإما أن يذكرن ذلك ويأمرن غيرهن بالمعروف، وينهين عن المنكر، وإما أن يذكرن نعمة الله عليهن بما أولاهن وأكرمهن به، وكل ذلك صالح في تفسير هذه الكلمة.

    وقوله: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:34].

    أي: يا أمهات المؤمنين اذكرن الذي يتلى في بيوتكن ويقرأ من كتاب الله، ومن أوامر الله ونواهيه، ومن العقائد والقصص، من أخبار الأمم السابقة واللاحقة، ومن أخبار الآخرة جنة وناراً، ومن يوم الحساب والعقاب عندما يحيي الله الأمم ويعيد الرمم كما كانت عليه في الحياة الدنيا، وما يضمه القرآن وتجمعه دفتاه.

    واذكرن ما يتلى كذلك في بيوتكن من الحكمة، والحكمة هي سنته صلى الله عليه وعلى آله، فالله يأمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلن من هذا البيت الطاهر جامعة ومدرسة يتعلمن فيها ما يوحي الله به من كتابه الكريم على زوجهن عليه الصلاة والسلام، وما يتلى في بيوتهن من سنة رسول الله وحديثه وبيانه، ومن كتاب الله شرحاً وتفسيراً وبياناً، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فهو صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان والشرح والتفسير، مكلف بأن يبين للناس ما نزل إليهم من كتاب، ومن هنا يقول الإمام الشافعي: السنة كلها شرح وبيان لكتاب الله.

    والسنة أجمع بياناً وتفسيراً للقرآن، ولا يسع أي مسلم فرداً كان أو جماعة، شعباً كان أو حكومة، إلا أن يلتزم بالقرآن دستوراً، وبالسنة قانوناً وشريعة وبياناً، ومن لم يفعل ذلك لا يكون مسلماً ألبتة.

    كما أمر آل بيت النبوة بأن يتعلمن ويدرسن ويحفظن ما يتلى في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من كتابه الخالد الدائم، من كتابه المهيمن على الكتب السابقة، كذلك يتعلمن ويعين الحكمة والبيان من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن جمع بين الكتاب والسنة فقد جمع بين خيري الدنيا والآخرة، وجمع بين جميع العلوم والمعارف، علوم الشرع، وعلوم الأمر والنهي والحكم والإدارة والدولة، علوم الدنيا والآخرة، سعادة الدنيا والآخرة.

    ومن هنا وجدنا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين بين رواة السنة، فقد روينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي عالمة النساء التي كانت أعلم بكثير من الرجال، فلقد روينا عنها أكثر من ألفي حديث.

    وكما كانت عالمة محدثة فقد كانت بليغة وخطيبة، وكانت فقيهة، فلقد استنبطت من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لو سجل في صحائف وجمع لزاد على سفر ضخم، وفيه فقهها وفهمها واستنباطها واجتهادها، وهو ما أعمل له عملاً في جامعة الملك عبد العزيز في جمع فقه الصحابة ابتداءً من الخلفاء الراشدين إلى أمهات المؤمنين، وقد جمعت من فقهها ما يزيد على مجلد، وأطمع أن يكون ذلك في مجلدين.

    قال ابن حزم : يمكن أن يجمع من فقه الصحابة سفر ضخم لكل واحد من سبعة، وسمى السبعة فقال: هم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأم المؤمنين عائشة. فقد ذكر من فقه عائشة ما لو دون وسجل لخرج سفراً ضخماً، أي: مجلدات عديدة.

    ونحن نعرف المراجع في ذلك، فلا نكاد نجد تفسيراً يعتني بالأحكام إلا نجد فيه فقه عائشة، وذلك ككتاب الجامع للقرطبي، وكتفسير ابن كثير ، وكتفسير البغوي، وغيرهما من التفاسير التي تعتني بالأحكام، ونقلها عن مختلف الأئمة من صحابة وتابعين وأئمة مجتهدين.

    ونقل الاستنباط في فقه القرآن والسنة عن أزيد من ثلاثمائة من الصحابة، رجالاً ونساءً، مهاجرين وأنصاراً، ورويت السنة والحديث عما يزيد عن عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم، ولكل واحد منهم ترجمة، وقد ترجم لهم على التوالي ابن عبد البر الإمام الأندلسي المالكي، في كتابه (الاستيعاب) في مجلدين، وقد طبع أكثر من مرة، وترجم لهم ابن الأثير الجزري في (أسد الغابة) وهو في خمسة أجزاء، وترجم لهم وهو آخر من ترجم في القرن التاسع الحافظ ابن حجر العسقلاني سيد الحفاظ، وإمام العلماء والمحدثين:

    إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام

    وذلك في كتابه (الإصابة) في أربع مجلدات ضخام، أوصل تراجمهم إلى اثني عشر ألف صحابي وزيادة، وذكر روايتهم، وأين توجد، وهو من أعظم كتب الإسلام، ومن أعظم كتب الحافظ رحمه الله وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

    إذاً: أمر الله أمهات المؤمنين أن يذكرن ويقرأن ويتعلمن ويعلمن ما يتلى في بيوتهن من كتاب الله، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثلن الأمر الإلهي والأمر النبوي، وتفاعلن معه وذكرن ودرسن وروين ذلك، فنحن منذ عصر النبوة إلى عصرنا هذا نرويه ويرويه معنا رفاقنا، كما رويناه عن شيوخنا، وهم عن شيوخهم، عن شيوخهم من مشارق الأرض ومغاربها، إلى الأئمة المجتهدين، إلى أتباع الصحابة، إلى الصحابة، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جبريل، إلى رب العزة جل جلاله وعلا مقامه.

    قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب:34] أي: كان لطيفاً بكن، حيث أكرمكن بأن تكن من أزواج رسول الله سيد الخلق والبشر، سيد الجن والإنس والملائكة، حيث شرفكن وأعلى مقامكن، ولطف بكن فجعلكن أمهات المؤمنين، الراويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعته الداخلية التي لا يراها سواكن، وهذا ما اختصصن به، فالرجال رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعماله خارج بيته، أما عندما يدخل بيته، وعندما ينام في بيته، وعندما يتهجد في بيته، وعندما يعامل زوجاته، وعندما يأمرهن وينهاهن، فمن الذي روى لنا السيرة العطرة الداخلية؟ رواها لنا أمهات المؤمنين، ومن هنا كان فضلهن على المسلمين كبيراً، وهن شيوخنا في الإسلام، شيوخنا في كتاب الله، شيوخنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    من أسرار تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وكثرتهن

    من أسرار تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تسع وإلى ما ملكت أيمانه بغير عد ولا حصر يتبين مما يلي:

    كأن من عادة الرؤساء والقادة والزعماء قديماً وحديثاً أن يكون لهم وجه أمام الناس ووجه داخل بيوتهم، يكونون مزدوجي شخصية، ولا يليق هذا بنبي، بل ولا يليق بخاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليهم جميعاً، فكانت أمهات المؤمنين زيادة على كونهن زوجات للرسول صلى الله عليه وسلم وأمهات للمؤمنين، كن رقباء على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخلية، فعندما رويناها عنهن وجدنا النبي عليه الصلاة والسلام ظاهره كباطنه، ما يعلنه يبطنه، وما يبطنه يعلنه، هو في تقوى من الله، وطاعة لله، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، أمام الناس في خارج بيته، وأمام نسائه في داخل بيته، في حضره وسفره، لم يتغير ظاهر عن باطن، ولم يتبدل باطن عن ظاهر، من الذي بلغنا ذلك، وما حكمة كون أمهات المؤمنين تسع نساء؟

    الجواب: مهما كتمن عنه، ومهما سترن عنه فلا بد أن تقول واحدة أو اثنتان ما يمكن أن يعد عيباً أو نقصاً، ولكن العيب والنقص لا يوجد، فقد أكرم الله ظاهره كما أكرم باطنه، وكانت سيرته سيرة عطرة تصلح للأئمة المسلمين علماء وقادة ورؤساء.

    ويجب أن تكون السيرة النبوية هي القدوة الحسنة لأئمة الاجتهاد، كما يجب أن تكون القدوة للأب وللأم وللولد وللسيدة وللخادم وللكل.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إماماً نعم الإمام، وكان زوجاً نعم الزوج، وكان أباً نعم الأب، وكان جداً نعم الجد، وكان براً رحيماً رءوفاً، وكان لطيفاً بأصحابه، حريصاً على هدايتهم، عزيزاً عليه خروجهم عن أمر الله وطاعة الله، حريصاً على أن يكونوا جميعاً مؤمنين، قال الله تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].

    من الأدلة القاطعة والبراهين التي لا ينكرها عقل سليم أن النبي عليه الصلاة والسلام منذ ظهر في هذه البقاع المقدسة وهو يأمر الناس بأنه رسول الله المتكلم عن الله، المبلغ لرسالات الله، منذ أمر أن ينذر أقربائه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، إلى أن أمر أن يأمر الناس جميعاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، لمدة ثلاث وعشرين سنة إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى، وهو عليه الصلاة والسلام في ليله ونهاره، في حضره وسفره، في حربه وسلمه، بين نسائه وأصحابه، بين أصدقائه وأعدائه، كان الإمام وكان النبي الذي لم يتغير ظاهره عن باطنه.

    ومن هنا فحق أن يجعله الله مثالاً أعلى عندما يقول للمؤمنين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فهو القدوة والأسوة في أعمالنا الظاهرة وأعمالنا الباطنة، أعمالنا الأبوية، وأعمالنا الزوجية، وأعمالنا القضائية، وأعمالنا العسكرية، وأعمالنا الإخوانية، وأعمالنا مع الصديق والعدو.

    هذا إذا أكرم المؤمن بأن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله وحده صلى الله عليه وسلم الآمر الناهي، والمقتدى به في الحلال والحرام، في الآداب والأركان، وفي جميع أعمال الحياة إلى أن يلقى الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755901127