إسلام ويب

تفسير سورة النور [58-61]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن ديننا هو دين الأدب والأخلاق والتحضر، ومن الآداب التي أمرنا الله تعالى بها: آداب الاستئذان عند الدخول على الغير، وفي ذلك من الحكم الشيء الكثير، فذلك حتى لا تنكشف العورات، ولا يطلع على ما يكره الاطلاع عليه. ومن الآداب أن القواعد من النساء يجوز لهن أن يضعن من ثيابهن الخارجية غير متبرجات بزينة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم ...)

    ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].

    هذه الآية الكريمة من آداب الإسلام، يعلمنا الله كيف نكون في بيوتنا مع خدمنا وأولادنا ونسائنا، وأن لا نعيش داخل بيوتنا هملاً رعاعاً، بلا أدب ولا حياء، كما اشتملت السورة جميعها على هذه الحكم والأحكام.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58] يخاطب سبحانه المؤمنين ويأمرهم بلام الأمر في قوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) أي: عبيدكم وإماؤكم وخدمكم وصبيانكم، ليستأذنوكم في ثلاث حالات وثلاث مرات.

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ٌ [النور:58] أي: وأطفالكم المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، ولم يصبحوا بالغين، فلم تفرض عليهم صلاة ولا صيام، فهم لا يزالون قبل البلوغ، ولكنهم مع ذلك مميزون مدركون، وتكون هذه لمن كانوا بين السادسة والعاشرة من أعمارهم إلى وقت البلوغ، وكل بلد حسب طبيعته وحالته من حرارة وبرودة، ففي هذه البلاد الحارة يسرع البلوغ للأطفال وللبنات الصغار، وفي البلاد الباردة يتأخرون في بلوغهم سنوات عما يكون في البلاد الحارة.

    فأمر الله تعالى أن نأمر خدمنا وعبيدنا وإماءنا وأطفالنا قبل البلوغ بالاستئذان في الثلاثة الأوقات، كأن يقف على الباب فيطرق فإن أجيب بالدخول فليفعل، وإن كان بلا فلا يدخل، وإن لم يجب فمعناه أنه لم يؤذن له، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [النور:58].

    أمارات البلوغ

    الحلم: هو البلوغ، والبلوغ يكون بالمني أو بالإنبات في العانة، أو بعلامات أخرى، أو بالحيض بالنسبة للبنت، أو ببلوغ الثامنة عشرة بالنسبة للبلاد الباردة، إذا لم يكن هناك مني ولا إنبات ولا غلظ صوت ولا ما يشبه هذا، وأما البلاد الحارة فتبلغ البنت بين الثامنة والتاسعة إلى العاشرة، والولد بين العاشرة والثانية عشرة، هذا يعلم من القديم والحديث، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص بينه وبين أبيه أحد عشر عاماً، فقد حملت به أمه وأبوه عمرو سنه لا تتجاوز الحادية عشرة.

    وتزوج النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة وكانت بالغة، وهذا الموضوع قد تعلق به الكفرة وتعلق به المنافقون، أي: كيف يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم طفلة صغيرة بسن عائشة؟! فهؤلاء قالوا ذلك لأنهم يعيشون في بلاد باردة، فلا يكاد يبلغ الولد في تلك البلاد إلا بعد أن يصل إلى الثامنة عشرة، ولا تبلغ البنت إلا بعد أن تتجاوز الخامسة أو السادسة عشرة.

    والنساء هنا في المدينة منهن من يبلغن في العاشرة، ومنهن من يبلغن في التاسعة أو الحادية أو الثانية عشرة، وهناك من أولاد المدينة المنورة من بلغوا وهم في الحادية عشرة وشهور، فإذاً ليس هناك استغراب ولا تعجب من أن النبي تزوج طفلة، وهو لم يتزوج طفلة، بل كانت عائشة في سن التاسعة، وهي على غاية ما يكون من النضج والفهم والعقل والإدراك.

    وهذا معلوم في البلاد الحارة، وكم أخبرتنا الصحف اليوم عن بلاد أمريكا وبلاد الهند في صحاريها الحارة، فقد ذكروا من فسوقهم وفسادهم أن وجدت بنات قد ولدن بلا أزواج، يعني هناك فساد في سن مبكرة، فذلك يأبون أن تزوج الفتاة؛ ليزداد الفساد انتشار، واللقطاء كثرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    قال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58].

    هذا أمر من الله بلام الأمر، فيأمرنا أن نأمر غلماننا وخدمنا أن يستأذنونا، والغلمان هم الأطفال قبل بلوغ سن التميز بين الخامسة والعاشرة، وقوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58] قوله: (منكم) أي: من الأحرار فيستأذنونكم ثلاث مرات.

    أوقات الاستئذان الواجب

    ثم فصل الله تعالى وذكر هذه المرات الثلاث في اليوم والليلة، فقال تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]، فعادة الإنسان أن يكون نائماً قبل صلاة الصبح، وأن يكون في غرفته مع زوجته أو وحده، وقد يكون عرياناً أو نصف عريان، وقد يتعرى وهو نائم ولا يشعر، فلو دخل عليه طفله أو دخل عليه غلامه فسيراه في حالة لا يرضى أن يكون عليها.

    وقد حدث من الصحابة من عمر ومن غيره، ومن النساء والرجال أن قالوا: يا رسول الله! يدخل علينا خدمنا وأولادنا ونحن في حالة نكره أن يرونا عليها، وبعضهم قد يكون مع المرأة في الحالة التي يكون عليها الزوج والزوجة عادة، وإذا بالآية تنزل كما أمر الله تعالى بالاستئذان ثلاث مرات.

    والمراد بقوله: (ومن قبل صلاة الفجر) يعني: قبل أذان الفجر، ويكون الإنسان عادة نائماً، أو في وقت خلوة وعورة له.

    ثم قال تعالى: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ [النور:58] أي: عند القيلولة، وذلك عندما يعود الإنسان من عمله، أو من متجره أو مزرعته أو مكتبه أو مدرسته، فيعود فيأكل لقمة أو لقمتين ثم يقيل، وفي الحديث النبوي: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فيدخل غرفته أو بيته ويغلق عليه الباب ويرخي الستور، ويضع الثياب لينام في وقت الظهيرة، أي: وقت الظهر أو وقت الزوال أو وقت وقوف شمس في كبدء السماء.

    ثم قال تعالى: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]، فالعادة أن الإنسان عندما يصلي العشاء فإنه يذهب للنوم؛ ليأخذ راحته، وليستعين بالنوم باكراً على الاستيقاظ لصلاة الصبح في وقتها.

    واستدل بالآية على أن الإنسان ينبغي له أن ينام بعد صلاة العشاء، وأما العشاء فيجب أن يكون قبل ذلك؛ حتى لا تمرض معدته، فلا يملأ معدته ثم يذهب للنوم فهذا ضار بالبدن.

    ويكره النوم قبل صلاة العشاء والصحو بعدها، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسمر أحياناً في بيت أبي بكر ، ولكن لمصالح المسلمين، والعمل لمصالح المسلمين هو عبادة في حد ذاته، ولا يجوز السهر إلا في هذه الحالة ونحوها، وما عدا ذلك فلا بل ينام مبكراً.

    والآن مع وجود التلفزيون الذي قد دخل البيوت، وانتشر في الأرض، ولا يمكن الفرار منه بحال، يخالف كثير من الناس ما تقدم، لكن يجب على رب البيت أن يكون رجلاً، وألا يكون ضعيف الإرادة، أو خائراً، فيجعله في وقت محدود عندما يكون فيما ينبغي أن يرى، وأما ما لا ينبغي أن يرى فيجب أن يمنع منه نساءه وأولاده، ولو أن يزيله البتة، أو يكسره بيده أو بآلة حادة، أو يجعله في مكان فيغلق عليه، لكان حسناً.

    وأما إذا كان ضعيف الإرادة خائراً في بيته، فالأمر يصبح مصيبة، ويبقى من البلاء المنتشر ما الله به عليم، وليس التلفزيون فقط، بل تكون السهرات من غير تلفزيون فيما لا يرضي الله، ولا يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك بلاء ومحنة وفتنة للإنسان؛ ليختبر هل هو مؤمن حقاً يأمر أولاده بما يجب أن يأمرهم به، وهل يلزم امرأته بما يجب أن تلتزم به من الإسلام وأخلاقه وطاعاته.

    علة وجوب الاستئذان في الأوقات الثلاثة

    هذه المرات الثلاث هي عورات، لماذا؟ لأن الرجل أو المرأة عندما تدخل غرفتها وتغلقها عليها، سواء كانا معاً أو كان كل واحد منهما في مكان مستقل، فقد تتقلب وتتكشف عندما تزيل ثيابها الخارجية، والرجل كذلك، فإذا دخل عليها طفلها أو خادمها فقد يرى عورتها، أو ما لا يسرها أن تراه.

    ففي هذه الحالة من الأدب الواجب أن يعلم الخادم والطفل ألا يفعل ذلك، وأما الكبار فالأمر في حقهم من باب أولى، فلماذا الخدم والصغار؟ لأن الله تعالى قال: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58] فهذه الأوقات الثلاثة تعتبر عورة لما ينكشف فيها من العورة.

    وقال الله بعدها: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ [النور:58] أي: لا مانع ولا جناح ولا متابعة ولا مسئولية عليكم أو عليهم -عليكم يا أصحاب البيوت من أب وأم، وعليهم أي: يا من في البيوت من الخدم والأطفال- بعد هذه الأوقات الثلاث الدخول بغير أذن؛ لأن العورة لا تكون إلا هنا، والاستئذان لا يكون إلا هنا؛ لأن الله تعالى قال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ [النور:58] أي: أن خدمنا يدخلون في غرفة ويخرجون من أخرى للخدمة، والأطفال كذلك لا يفترقون عن أمهم ولا يبتعدون عن أبيهم، طوافين خارجين داخلين ملتزمين بيوتهم؛ لأنهم يسكنون معك، فيريدون مرة من أمهم أكلاً أو شرباً، ومن أبيهم درهماً أو ديناراً أو كلمة، أو شيئاً يتعلق بهم من دراسة أو لباس أو نحو ذلك.

    فقال تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58] أي: يطوف بعضكم على بعض، فأنتم تسألونهم ذلك وهم يسألون ذلك، وأنتم تطوفون بهم وهم يطوفون بكم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عندما سأل عن الهرة تشرب من الإناء ثم نتوضأ منه، فقال: (هن من الطوافين عليكم والطوافات) يعني: ملازمات للإنسان في البيت، وكانت تأتي القطة والنبي عليه الصلاة والسلام يتوضأ فيصغي لها الإناء لتشرب، ثم يتوضأ من نفس الماء؛ لأن الشأن فيها أنها نظيفة، إلا إذا رأيناها تأكل نجاسة أو جيفة ميتة، فعند ذاك نتحفظ منها.

    ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ [النور:58] أي: كذلك يبين الله لكم آياته من أحكام وأوامر ونواه، حتى تصبح بينة واضحة مفسرة مفهومة.

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58] الله جل جلاله عليم بكل شيء، فيريد أن يعطينا من علمه ويؤدبنا ويعلمنا ويوجهنا، وهو حكيم في أفعاله وأوامره ونواهيه، وحكمة هذه الأوامر والاستئذانات ألا يكون هناك كشف للعورات.

    وكل هذا من الآداب العامة، وإذا لم يكن هذا فيدل على فساد في الأدب وفي الدين وفي الأخلاق، ويبقى من لا يفعل هذه الآداب ولا يراعيها همل في همل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم...)

    ثم قال تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59].

    الآية الماضية في الخدم والأطفال الذين هم دون البلوغ، وهذه الآية في الكبار، قال تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ [النور:59] أي: من الأحرار، والحلم: البلوغ، إذاً: فالكبار يستأذنون في جميع الأوقات؛ لأن الشأن في الكبار ألا يكونوا معكم دوماً، فكل له أدبه وعادته وبيته، وليسوا عادة كالأطفال الصغار ولا كالخدم، أي: ليسوا من الطوافين ولا الطوافات.

    قال تعالى: فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59] أي: من الخدم والأطفال، ولكن استئذان الكبار دون قيد، فليس محظوراً فقط في هذه المرات الثلاث فقط، ولكن يجب أن يكون عاماً في كل الأوقات والأزمان، فما دامت الغرفة مغلقة أو الستور مرخاة فلا يجوز للكبير أن يفتح الباب ويزيل الستار دون أذن، ولا يدخل إلا بعد أن يؤذن له بالدخول، فإن لم يؤذن فلا يفعل.

    وأما الأطفال والخدم الطوافون والطوافات فيستأذنون في أوقات ثلاثة فقط، وما عدا ذلك فلا حاجة للاستئذان.

    ثم قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [النور:59] أي: يفسر ويوضح آياته وأحكامه وأوامره نواهيه.

    ثم قال سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:59] أي: عليم بكل شيء، فلذا يعطينا ويعلمنا من علمه، ويزيل عنا الجهل في أدبنا داخل البيت وخارجه، مع النساء والأطفال والخدم والناس جميعهم، وهو حكيم أيضاً في أوامره ونواهيه، فليس هناك أمر ولا نهي لا حكمة فيه، والحكمة واضحة هنا، فمن الذي يقبل أن يرى عورة أمه، أو أن ترى عورته من أولاده أو خدمه أو أي إنسان سوى الزوجة، فالزوجة فقط هي التي لم تؤمر بالاستئذان، ومع ذلك فلا بد من السلام عند الدخول عليها، وكذلك لا بد لها عند دخولها على زوجها من السلام، وهو يكون أيضاً استئذان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء...)

    ثم قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

    هذه الآية خاصة بالعجائز، يقول تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور:60] القواعد جمع قاعد، كحائضات وحائض.

    وقوله: اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60] هن النساء اللاتي انقطع حيضهن، وما عدن يردن الأزواج، فأصبحن أرامل بموت أو طلاق، أو لأي سبب من الأسباب، وهؤلاء القواعد أكثر حياتهن جلوساً، فلهن الأولاد والنساء يخدمنهن، وهن اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق:4] أي: اللائي لم يعدن يلدن.

    ووصفهن الله بقوله: اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا [النور:60] أي: لا يرجون ولا يرغبن ولا يشتهين النكاح، وهذا ليس للتي انقطع حيضها فقط، فقد ينقطع الحيض عند الأربعين أو قبلها أو بعدها بقليل، ويبقى فيها آثار الجمال، وتكون مرغوبة، ولكن هذه الآية تطلق على العجائز اللاتي لم يعدن يرغبن لا في زواج ولا في جماع، ولو وقع لها فلا تلد؛ لأنها يئست من المحيض، وهؤلاء في هذه الحالة لا يرغب فيهن، فرخص الله تعالى لهن أن يخففن من سترهن دون الشواب.

    فقال تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] أي: لا جناح عليهن ولا مانع ولا ذم ولا مسئولية أن يضعن ثيابهن في بيوت الأجانب، أو مع وجودهم إذا دخلوا عليهن بإذن منهن.

    وما الثياب التي توضع؟ ليس المراد أن تجلس معهم عريانة، ولا كاشفة شعرها، ولكن هذا الجلباب الخارجي الذي يجب أن تلبسه الشواب ومن لا يزال فيهن أثر من الجمال والرغبة في الرجال.

    شروط وضع الثياب للقواعد

    ثم قال تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] أي: إذا لم يكن متزينات متشببات بكحل ودهن وحمرة وحلي، ونحو ذلك، فيجوز لهن الوضع من ثيابهن، وكثير من النساء يتزين ويضعن ثيابهن؛ للتغرير بالناس، ولكن هيهات أن يصلح العطار ما أفسد الدهر، وإن فعلت -أي: التزين- فالشرع لم يمنعها، ولكن في هذه الحالة منعها أن تزيل ثيابها عند الأجانب؛ لأنها غيرت شكلها، وقد تغر من لا يعرف أنها عجوز، فقد يغتر بها بعض الناس ويظن أنها ترغب في الاتصال؛ بدليل التزين.

    ومعنى: (غير متبرجات بزينة) أي: ألا يكن قد تزين إلى أن أصبحن كالبرج ظاهرة في الزينة، وبما يعتبر فتنة إن هي كشفت ذلك وأزالت ثيابها عنها.

    الحاصل: أنه يباح للعجائز أن يخلعن الثياب الخارجية، أي: الرداء أو اللباس الأسود الذين يلبس، مع ستر الشعر والعنق، ولكن بشرط ألا يكن متبرجات متزينات لا بحمرة ولا بعطر ولا بثياب شفافة، ولا بشيء من ذلك.

    ولعل عجائز اليوم يتزين أكثر من الشواب، وفي هذه الحالة لا يجوز لهن أن يضعن ثيابهن؛ لأنهن تبرجن بزينتهن، ووضع الثياب مشروط بعدم التبرج بزينة.

    ثم قال تعالى: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] أي: إن يستعففن عن وضع الثياب -أي: الجلباب الخارجي والرداء- إذا دخل عليهن أجنبي فهو خير لهن، وأعظم في الأجر والثواب من الله.

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60] أي: سميع لهؤلاء فيما يقلن، فمن قالت خيراً فلها الخير، ومن قالت غير ذلك فلها ما قالت، والله يعلم كل ذلك ويسمعه، وهو أيضاً عليم بنياتهن وضمائرهن، فإن تبرجن رغبة في الرجال، وتشبباً فلا يجوز لهن ذلك، ويعتبرن صغيرات العقل، وقد عرضن أنفسهن لمن لا يشتهيهن ولا يخطرن بباله، ولذلك كثيراً ما قالوا: إن العجوز للشاب هي سبب مرضه ودائه وسرعة موته، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3] ولكل شيء أجل وأدب وقاعدة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج...)

    ثم قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ... [النور:61] إلى آخر الآية.

    قال بعض المفسرين: هذه الفقرات من أول الآية -أي: قوله: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)- في ألا يقاتل ويحارب، وهو معذور بمرضه أو بعرجه أو بعماه، وإن كان قد قال بهذا كثير من السلف لكن الآية لا تدل على هذا المعنى هنا، وهذا المعنى مذكور عند آيات الجهاد، والآية تدل على أدب وذوق آخر، وهو في الأكل في الأسرة والعشيرة والأقارب بإذن وبغير أذن.

    وأما على المعنى الأول فما علاقة الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية بالحرب والقتال؟! فالحرب والقتال لم يذكرا في السورة كلها منذ البداية، إذاً فما المعنى؟!

    والمعنى ما قاله بعض الصحابة والتابعين: وهو أنه يأتي المريض والأعمى والأعرج ليأكل أو يشرب في بيت أحد من أقاربه كأبيه أو أمه، أو أخيه أو أخته، أو عمته أو عمه، أو خاله أو خالته، أو صديقه، فالأعمى قد يتحرج ويقول: أنا جئت إليك يا قريبي فلان فكيف تأخذني عند العشيرة! فقال الله له: لا حرج في ذلك، أي: إذ ذهب بك إلى عشيرتك وأقاربك، فبيوت الأقارب بيوت مشتركة للكل، وبهذا المعنى تبقى الآية مفهومة مفسرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755823362