إسلام ويب

تفسير سورة النور [14-20]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وبخ الله المؤمنين الذين خاضوا في حديث الإفك، وحذرهم من العودة إلى ذلك، وزجر المنافقين وحذر منهم، وتوعد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ونهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة...)

    قال الله جل جلاله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14].

    لا نزال مع فرحة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أكرمها الله بعد أسابيع قاسية شديدة من الاتهام والكلام الباطل من المغفلين والمنافقين، إلى أن برأها الله جل جلاله من فوق سبع سموات، وفرض على المنافقين وعلى المغفلين بأن يحدوا الحد اللازم؛ لأنهم قالوا ما لم تر أعينهم، ولم يحضره شهودهم، فاستحقوا بذلك ثمانين جلدة: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26].

    مع فضيحتهم بذلك أمام المؤمنين، وبذلك يكون ما قالت عائشة : لقد كانت نفسي أقل علي وأحقر من أن أبرأ بوحي ينزل من السماء، وآيات تتلى في سبيلي إلى يوم البعث والنشور، وكل ما كنت أنتظر أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله فيها، ويظهر حقي وعفتي وشرفي.

    فنحن لا نزال في سياق الآيات النازلة في تبرئة عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمنا أم المؤمنين عائشة ، وقدسية النبوءة والرسالة، وما أوجب الله في ذلك من حد وعقوبة وفضيحة.

    قال تعالى بعد ذلك: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14].

    أي: لولا فضل الله أنه اكتفى بأن يعاقب المؤمن المغفل منكم ثمانين جلدة، وأن يعلن ذلك بمحضر طائفة من المؤمنين؛ لولا ذلك لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14].

    قوله: (أفضتم فيه): أي: تجمعتم من أجله، وروى بعضكم عن بعض باطلاً، فروى ما لم ير، ونقل ما سمع من غير تثبت، ومن غير حقيقة، ومن غير واقع، فلولا فضل الله واكتفاؤه بالجلدات الثمانين لمسكم في هذا الحديث وهذا البهتان عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالجلد ثمانين جلدة، وقد كان ذلك، وفي الآخرة بألا تغفر ذنوبهم، وبأن يعاقبوا بالنار والنكال، ولعذاب الله أشد وأنكى.

    هذا بالنسبة للمؤمنين، فإن الله رحمهم، وتفضل عليهم، وأما بالنسبة للمنافقين فلا فضل ولا رحمة ما لم يؤمنوا بالله، ويعلنوا توحيد الله، ويزيلوا النفاق من نفوسهم، فحُدَّ من حُدَّ من المؤمنين الذين استغفلوا، ثم تاب الله عليهم، وحد عبد الله بن أبي ابن سلول فكان عذاباً في الدنيا وفضيحة، ولعذاب الله أشد وأنكى يوم القيامة، إذ لا توبة لكافر يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم...)

    قال تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].

    أي: تأتون إلى هذا الشيء العظيم من البهتان والكذب والافتراء، فتلقونه بألسنتكم، يلقي بعضكم لبعض قولاً، ويقول سمعت عن عائشة كذا، وسمعت عن صفوان كذا، وقال الناس كذا، وتحدثوا بكذا، فهذا التلقي بالألسنة دون رؤية بعين، ودون تثبت، وفي شيء عظيم.

    إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15].

    والأفواه جمع فاه، وهذا الجمع لا مفرد له من لفظه، فالمفرد هو فم، والأفواه جمع (فو)، تقول: نطق فوك، ورأيت فاك يتحدث، ونظرت إلى فيك وهو يتكلم ويتحدث، وهو من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء.

    وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15].

    الألسنة تنطق بشيء لا علم لها بحقيقته، وهل توجد مصيبة أعظم من أن يأتي الإنسان ويسمر ويلهو بأعراض المؤمنين، فكيف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأعراض أمهات المؤمنين!

    هؤلاء الذين قالوا ما قالوا لم يزعم أحد منهم أن عينه رأت، ولم يزعم أحد منهم أنه اشتبه فيما يشك فيه، ولكن أحدهم تلقى قولاً من الآخر فتبادلوا القول والسماع، يقول: سمعت فلاناً يقول فقلت، وقال فلان فقلت؛ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15].

    نطقت الأفواه بشيء لا علم لكم به ولا يقين ولا ظن، إن هي إلا أوهام أشاعها المنافقون أعداء الإسلام، وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبتم تعيدونه وتذكرونه من غير تثبت: كيف يحل هذا؟ وكيف يجوز؟

    إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور:15].

    تظنون أن القول سائغ، وأن القول لا يكاد يمس شيئاً، ولكنه عظيم جداً، فهو طعن في رسول كريم هو سيد الأنبياء وخاتمهم، وطعن في أم من أمهات المؤمنين وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنطق بمثل هذا ليس هيناً في نفسه، بل هو عظيم عظيم، وهو كذلك عظيم عند الله.

    كيف يبعث الله رسولاً لا عرض له؟ وكيف يزوجه بنساء غير عفيفات ولا طاهرات؟ وكيف تقبلتم هذا وتحدثتم فيه؟ وكيف استسهلتم تبادل القول فيه؟!

    وهذه سياط إلهية يعظ الله بها المؤمنين الأول، كما يعظ المؤمنين الذين يأتون بعدهم بألا يتكلموا على الأعراض لمجرد السماع، أي: لكل من الناس أم وزوجة، ولكل من الناس بنت، فمن الذي يهون عليه أن يسمع الفاحشة تذكر عن أمه، فإن ذكرت فمعنى ذلك أنه لقيط لا أب له، فهذا الذي لا تريده لنفسك، فكيف يقبله المغفلون في حق السيدة البرة الطاهرة، العالمة الصالحة، الغافلة عما أريد بها؟

    فهذه قوارع إلهية، وهذا توبيخ إلهي لمن قال هذا القول من هؤلاء.

    وأما النصارى والمنافقون فيقال: الشيء من معدنه لا يستغرب، فإن ما يعشون فيه من كفر وشرك هو أعظم بكثير مما زعموه، ولكن البلاء عندما يصدر مثل هذا من مثل حسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، ومن مثل ومسطح بن أثاثة ، وكل هؤلاء رجال صالحون أطهار.

    وقد كان حسان لسان رسول الله وسيفه المدافع، وكان الأخر رجلاً صالحاً من المهاجرين الأول، وحمنة هي أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش ، فكيف يا هؤلاء الثلاثة وأنتم على صحبتكم وعلى دينكم يغركم المنافقون، ويتلاعبون بكم حتى تنطقوا بما تنطقون به؟!

    قوله: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور:15] أي: شيئاً سهلاً لا يكاد يؤذي أحداً، ليتذكر كل إنسان في نفسه لو طعنت أمه في شرفها أو زوجته أو بنته كيف سيكون حاله، فكيف والشرف شرف رسول الله، والعرض عرض رسول الله، والمطعونة أم من أمهات المؤمنين، وهي أحب إلينا من أمهاتنا وجداتنا، وكل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون هكذا عند كل مؤمن.

    في مسند أحمد ، وأخرجه البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في جهنم سبعين خريفاً).

    أي: إن أحدكم يا أيها الناس! ينطق بالكلمة لا يفهم لها معنى، ولا يلقي لها بالاً، ولا يهتم بها، ولكنها في نفس الأمر كلمة عظيمة، فيكون جزاؤها أن يهوي الإنسان في قعر جهنم سبعين خريفاً، أي سبعين عاماً، إذ لكل سنة خريف واحد، فيبقى يهوي في قعر جهنم سبعين سنة، ويعذب فيها نتيجة هذه الكلمة.

    وطالما كان سلفنا الصالح يتحدثون متداعبين بكلام المزاح فيما يجوز فيه أن تكون المداعبة والمزاح، وإذا بأحدهم ينطق بكلمة يراها الحاضرون عظيمة وكبيرة، فمثلاً: كان جماعة من طلاب العلم يتجولون بين بساتين الأندلس ورياضها -أعادها الله دار إسلام بفضله وكرمه- وأخذت السماء تلقي رذاذاً ومطراً خفيفاً، فقال لهم أحدهم: إن الدباغ يرش جلوده، وهو يريد بذلك أن يتضاحك ويمزح، وإذا بالآخرين يقفون ويعبسون وجوههم، وقالوا: أتدري ما الذي قلت؟ لقد ارتددت عن الإسلام، فأصر على أنه كان يمزح، فاحتسبوا عليه، وما أتى الليل في ذلك اليوم إلا ورأسه مفصولة عن جسده.

    ومن هنا فإن الطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في غيره، ومن رحمة الله أنه اكتفى بجلد هؤلاء ثمانين جلدة، وإلا فالعقوبة أصبحت بعد ذلك القتل والردة.

    وقد أجمع العلماء على هذا بعد أن نبه الله المؤمنين بهذا المسلسل من هذه الآيات الكريمة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا...)

    قال تعالى: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    قال لهؤلاء المتكلمين القاذفين ممن جمعوا وجلدوا: أين ذهبت عقولكم؟ كان ينبغي عليكم وأنتم المؤمنون الصالحون، وفيكم المهاجرون والأنصار، وفيكم من حضر عزوة بدر، أما كان يليق بكم والأجدر بدينكم: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور:16].

    أي: لا يليق بنا ولا يجدر بنا ولا يجوز لنا أن نتكلم بهذه الفاحشة في عموم المسلمين، فكيف بأم المؤمنين!!

    فليس مما يليق بمؤمن ومسلم يجل نبيه، ويكرم أمهات المؤمنين أن يعيد كلاماً لم تره عينه، ولم تتأكد منه نفسه، فيذهب فيلقي الكلام على عواهنه، ويتلاعب بالأعراض الطاهرة والأعراض العفيفة البريئة.

    دخلت أم أيوب زوجة أبي أيوب الأنصاري على زوجها فقالت: أسمعت يا أبا أبوب ما يقول الناس في عائشة؟ فوضع يده على فيها وأسكتها، وقال: اسكتي! ولو ذكرت لكانت من القاذفات، ولجلدت.

    فسمع الكلام ولم يكرر، وقال: بمجرد ما أشارت: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    فكان من دينه ككل الصحابة الذين سمعوا هذا هو أنهم ظنوا خيراً.

    قوله: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ [النور:16].

    ينزه الله نفسه ويقدسها عن أن يكون له نبي ينتهك عرضه، هكذا فسر الآية أقوام، وقال البغوي : (سبحانك) هنا للتعجب، وهي تقال عادة في لغة العرب كذلك؛ يعجب الله كيف أن هؤلاء مع إيمانهم ودينهم وصلاحهم يتسلل إليهم مثل هذا القول، فيعيدونه ويسمرون عليه، ولا يتذكرون العاقبة من هذا القول فيقولون: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    والبهتان هو الافتراء على الله بالكذب الذي لا حقيقة له لا إشارة ولا تلويحاً ولا تصريحاً، لا من جهة عائشة ، ولا من خلقها، ولا من بيتها، ولا من أمها، ولا من أبيها.

    فكان الأجدر أن تجل عائشة عند هؤلاء وتحترم، وتذكر بالصالحات، لمقامها في نفسها، ولمقامها من أبيها، ولمقامها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء لبلاهتهم تكلموا في ذلك، ويوم يكثر هذا في الصالحين فيتكلمون بالقول ولا يلقون له بالا، ويحسبونه هيناً كما قال ربنا وهو عند الله عظيم، فإنه مفتاح شر عظيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله...)

    قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17].

    وبخ الله وقرع، وهذب وعلم، وأصدر أحكاماً بالحدود على من قال ذلك من المؤمنين والمنافقين، فحد أربعة، وهم الذين قالوا ذلك وثبت عنهم، ورددوه وسمروا فيه.

    وكان كبيرهم في ذلك من قال الله عنه: والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].

    والذي تولى الكبر هو كبير المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ، فجلد ثمانين جلدة، وجلدت زوجة طلحة بن عبيد الله حمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش ثمانين جلدة، وجلد الشاعر حسان بن ثابت ثمانين جلدة، وجلد مسطح بن أثاثة المؤمن الصالح كذلك، وهو الذي حضر غزوة بدر، وهو المجاهد والمستشهد في سبيل الله، لكنهم قالوا ذلك غفلة وسذاجة، وقالوا ذلك ضعفاً.

    ولذلك وعظ الله هؤلاء وأوجب عليهم الحد، وقد حدوا، وحد ابن أبي ، لكن ابن أبي لا رحمة له ولا مغفرة، ولا تقبل توبة من كافر حتى يؤمن بالله ويوحد الله، ويؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن الإسلام حق، وأنه لا نبي بعد محمد، ولا دين بعد الإسلام، ولا رسالة، ولا نبوءة بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    قوله: يَعِظُكُمُ اللَّهُ [النور:17] أي: يحرم عليكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور:17] أي: أن تعودوا للقذف، والخوض في أعراض أمهات المؤمنين بالدرجة الأولى، وأعراض المؤمنات الغافلات المحصنات الصالحات، ولذلك، من عاد في طعن أمهات المؤمنين -وفي الدرجة الأولى عائشة- فإنه يقتل ولا يجلد فقط، وذلك لأمور:

    أولاً : لأنه اتهم من برأها الله تعالى من فوق سبع سموات.

    ثانياً: لأنه آذى رسول الله في عرضه.

    ثالثاً: لأنه افترى على الله الكذب.

    ولو رأينا منافقاً، أو مغفلاً من المسلمين أو يزعم أنه من المسلمين، ومن باب أولى إن كان منافقاً أو كافراً، فبمجرد ما يثبت عنه أنه نطق بذلك، فإنه يقتل ولا تقبل له توبة.

    فالمعنى: يحذركم الله أن تعودوا لمثله في أعراض المسلمات دون تثبت وأربعة شهود.

    إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17] أي: هذا إن كنتم مؤمنين حقاً، أما إذا لم يكونوا مؤمنين فلا يقبلون موعظة، ولا يقبلون أمراً ولا يقبلون نهياً، وما هم فيه من شرك وكفر هو أعظم بكثير مما يتلقاه ألسنتهم وتنطق به أفواههم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم)

    قال تعالى: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:18].

    يبين لكم الله حلالاً وحراماً، ويوضح ويفسر الأحكام، وينزل فيها الآيات على عبده ونبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه، فلا يدعكم على جهل، ولا يأمركم بما لا يعلمكم، فقد علمكم أن القاذف لعرض محصن أو محصنة جزاؤه ثمانون جلدة، ويحضرها طائفة من المسلمين.

    ومن طعن بعد ذلك وقذف أماً من أمهات المؤمنين، وعرضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن برأ الله عرض محمد، وشرف محمداً وأمهات المؤمنين، صلى الله على نبينا ورضوان الله عليهم، من عاد لهذا بعد ذلك فإنه يقتل ولو قال: أنا تائب.

    ولـابن تيمية رحمه الله كتاب عظيم في مثل هذا المعنى اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، طبع غير مرة، وهو يتجاوز سبعمائة صفحة، يقول على من مس رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذاه في عرضه أو في رسالته، أو في شخصه، بكل نوع من أنواع الإيذاء: يقتل ولو قال: أنا تائب.

    واستشهد على ذلك بالعديد من النصوص الواقعية في الحياة النبوية، وحياة الخلفاء الراشدين، وبالأدلة المتضافرة المتواترة المتكاثرة: في أن من نال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الإيذاء، أو قل الأدب مع مقامه الكريم، فإنه يقتل ردة ولو قال: أنا تائب.

    وقوله: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17].

    أي: فإن لم يكونوا كذلك فسيعاملون معاملة الكافر، ومعاملة الكافر أن تقام عليه الحدود في الدنيا، فإن أصر على الكفر فعذاب الله أشد وأنكى.

    قال تعالى: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:18].

    أي: يبين الحلال من الحرام، ويوضح الأوامر والنواهي، ويوضح الأحكام في ما يجب أن تقوموا به، وما يجب أن تتركوه.

    وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالصادق في دينه، الصادق في حاله، وبالكاذب المنافق المتظاهر بالإسلام وهو كاذب.

    حكيم فيما أمر به ونهى عنه، حكيم في حدوده التي أمر ألا يتجاوزها مسلم، ومن فعل فعليه من الله العقوبة قتلاً أو صلباً أو تقطيعاً أو جلداً أو نفياً من الأرض، كل حسب جرمه وذنبه، وهو أيضاً حكيم بعباده فيما يصلحهم في دنياهم وأخراهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

    كان الكلام الأول مع القذفة جهلاً عن بلادة، وهذه تخص المنافقين، وتخص من لا يهمه دينه، فأشبه المنافقين والكافرين، فهؤلاء موقفهم أعظم من القاذف بلادة وغفله؛ لأن هؤلاء يقذفون ويحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين.

    فقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19] أي: إن الأشخاص الذين يشيعون الفاحشة فيتهمون فلاناً في دينه، وفلانة في شرفها، ويتهمون فلاناً في صدق بنوته لأبيه، وفي صدق أبوته لأولاده، ثم هم يحبون أن يشيع ذلك، وأن يعلنوه على الملا، ظناً منهم أنهم بذلك يذلونه ويحقرونه، فهم يحبون هذا، ولا يفعلونه غفلة، ولا سذاجة، ولا بلادة، بل حقداً على المسلمين، ونشراً للفواحش بين المسلمين، وتشهيراً بهم وبإيمانهم وإسلامهم، ولا يفعل هذا مسلم، فإن فعله فيكون أقرب إلى الكافرين منه إلى المؤمنين، ويدخل تحت عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).

    وقوله: أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ [النور:19] الإشاعة: الإذاعة، أي: يحب إشاعة الكلمة، يقولها في المجلس، ويقولها في السمر، ويقولها في السفر، ويقولها في الحضر، كما فعل ابن أبي المنافق؛ إشاعة للفساد، وإشاعة لانتهاك الأعراض، وأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمقدسات والمكرمات والعفيفات من أمهاتنا أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وإشاعة للفواحش في المسلمات المؤمنات الغافلات المحصنات، فمن يكون هذا عمله وهذا حبه ورغبته فإن الله ينذرهم ويهددهم ويتوعدهم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:19].

    العذاب الأليم بالضرب الغير الكاسر لعظم، ولا الشاق للحم، ولكنه مع الذل والمهانة، بأن يحضر عذابهم وضربهم ومذلتهم طائفة من المؤمنين، وبأن يكون ذلك عقب صلاة الجمعة، والناس تخرج من بيت الله؛ تأديباً لهذا، ووعظاً له.

    وإن كان الأدب لا يفضي إلى الموت فذاك زجر له لكي لا يعود، وزجر للآخرين الذين قد تحدثهم أنفسهم بأن يفعلوا مثل فعله، فإن كان كافراً فهو سيقتل، فيكون زجراً لأمثاله، وعقوبة لأمثاله، ويفضي هو إلى ربه إن شاء غفر وإن شاء عذب.

    وإن كان من المعلوم في الفقه الإسلام وعند المذاهب أن الحدود كفارات، فمن أقيم عليه حد من الحدود يكون كفارة لعمله إن مات وهو غير مصر عليه، ومات وهو على التوحيد والإيمان.

    قوله: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].

    وعذاب الله في الآخرة يكون بالنسبة للمنافق وللكافر، والعذاب هو الخلود في النار على كفره ونفاقه وعدم إيمانه.

    وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19] الله يعلم الصادق منكم من الكاذب، ويعلم المؤمن من الكافر، ويعلم من قال كلمة عن غلط وعدم فهم، ومن قالها عن رغبة وحب لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ إذلالاً للمؤمنين وللإسلام الذي تمسك به هؤلاء.

    ومما يجري في عصرنا أن يشتم الصالحون شتماً للإسلام، وأن يذم العلماء ذماً للإسلام، وأن يذم العابدون والزاهدون والصالحون ذماً للإسلام وطعناً في الإسلام، ومن يفعل ذلك يوشك أن يرتد وأن يخرج عن الإسلام؛ لأنه بذلك لم يطعن في شخص بعينه، وإنما طعن فيه لأنه رمز من رموز الإسلام، ومظهر من مظاهر الإسلام، ومن فعل ذلك يوشك أن يعذب في الدنيا بإقامة الحد، وفي الآخرة بعذاب الله الخالد في النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم...)

    قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [النور:20].

    جواب الشرط مفهوم من الكلام، أي: لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون ورحمته بكم، لما اكتفى بالحد، ولما ما قبل منكم توبة، ولما غفر لكم ذنباً، ولكن بما أنكم أذنبتم، وبما أنكم أسأتم مع الصلاح في الداخل وسلامة العقيدة والتوحيد رحمكم الله، فاكتفى منكم بثمانين جلدة، وقبل منكم توبتكم.

    (والله رءوف) بعبادة، مشفق بهم، يغفر الذنب ويقيل العثرة، فهو رحيم بضعاف عباده الذين يذنبون عن جهل، أو عن عمد قد ضاع فيه عقلهم، فعادوا وتابوا وأنابوا، واستغفروا ربهم، والله تواب لمن تاب، وباب رحمته مفتوح باستمرار، فيمد الله يده بالليل لتائب الليل، وفي النار لتائب النهار: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    والله جل جلاله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب وأناب، والإسلام يجب ما قبله و: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

    فمهما عظم الذنب، فالله الكريم العظيم، الرحيم الرءوف، رءوف بعباده، وبمن تاب منهم حتى ولو بعد كفر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755934573