إسلام ويب

تفسير سورة القصص [36-43]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أيد الله رسوله موسى عليه السلام بالمعجزات الواضحات التي تدل على أنه رسول الله حقاً، فلما جاء فرعون وقومه يدعوهم إلى الله اتهموه بالسحر والافتراء واستكبروا عليه تيهاً وضلالاً، فأخذهم الله بالعذاب ولم يبال بهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ...)

    قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [القصص:36].

    أي: جاء موسى إلى مصر بعد غيبة عشر سنوات، خرج فاراً بحياته وفاراً من فتنة فرعون وملئه، ترك أمه وأخاه هارون، وترك أخته التي قصت أثره عندما أرسلتها أمها لتتبع أثره عندما قذفته في النيل.

    جاء إلى أمه على قدر، وهي تنتظر تنفيذ وتحقيق وعد الله عندما وعدها عند الولادة: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] عندما أمرها الله جل جلاله وأوحى إليها بأن تُرضعه فإن خافت عليه فلتقذفه في اليم ولا تخف عليه غرقاً ولا موتاً؛ لأن الله سيرده، بل وسيجعله من المرسلين.

    فقد تحقق الوعد الأول فرده الله إليها مع عز وكرامة وأمن، والآن سيعود إليها نبياً رسولاً كريماً، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] .

    قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [القصص:36].

    أي: ولما رجع موسى إلى مصر دخل على أمه وأقر عينها بعودته وأقر عينها برسالته، وبلغ هارون رسالة ربه وأمره بالذهاب معه، وذهبا إلى فرعون.

    فوجئ فرعون بأن موسى قد حضر ولم يكن خائفاً ولا راجياً، ولم يحضر على أنه ابنه الذي تبناه وعاش في بيته، ولكنه جاءه مسفهاً لدينه ومكذّباً بألوهيته، وداعياً له إلى ربه ومنذراً له إذا لم يؤمن، وإذا لم يسلِّم له بني إسرائيل ويترك الاستعباد والاضطهاد والآلام والتذبيح للذكور والاستحياء للنساء منهم، فلا يلومن إلا نفسه بغضب من الله في الدنيا وغرق، وبغضب وعذاب يوم القيامة أشد وأنكى.

    فلما جاءه موسى وقابله دعاه إلى الله الواحد القهار، وبين له أنه رسول من الله يدعوه إلى رب العالمين؛ فأخذ فرعون يقول: وما رب العالمين؟ فهو يتساءل في ذلك هازئاً جاهلاً.

    وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات) أي: جاءهم بالعلامات والبراهين البيّنة الواضحة المشرقة، إذ عندما قال لـفرعون : أنا رسول ربك إليك، قال فرعون للملأ معه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، جاء بما لم تعرفوه ولم تدركوه.

    فقال موسى: عندي ما يصدقني، قال: أبن ذلك وأظهره إن كنت من الصادقين! وإذا به يلقي العصا ويقذفها بينه وبين فرعون ، وإذا بـفرعون يُرعب ويرجع إلى الخلف، ويرجوه أن يُعيدها كما كانت، فيأخذ موسى الحية فتعود عصا.

    ثم يدخل موسى يده ويخرجها وهي شعلة من نار، لم ير فرعون في ذلك إلا ناراً ولم ير نوراً، فزاد رعبه وزاد هلعه وزاد فزعه، فأدخلها موسى في جيبه وخرجت كما كانت، لما رأى فرعون وملؤه وجماعته وكبراء دولته وأتباعه من الفجرة الفسقة هذه الآيات البينات ماذا كان جوابهم؟

    (قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) أي: ليس هذا إلا سحراً كاذباً مخترعاً ولا رسالة ولا نبوة؛ لأن السحر كان إذ ذاك في مصر وعند فرعون هو العلامة الكاشفة للأمة المصرية للأقباط والفراعنة، فعندما جاءهم بشيء يشبه ما هم عليه من السحر وتغيير الأجناس وتغيير الطبائع قالوا: هذا شيء، نعرفه وبلدنا فيها الكثير من هذا ليس هذا إلا سحراً مفترى.

    قوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) أي: لم نسمع عن آبائنا ولا أجدادنا أن هناك رباً غير فرعون أو إلهاً خالقاً غير فرعون .

    وهؤلاء البقر يرون فرعون يشيب ويمرض ويعجز ثم يموت، فكيف لرب أن يموت؟ وكيف لإله يعجز؟ ولكنها هكذا العقول إذا ابتُليت بالشرك وبالكفر ذهب نورها وفهمها، وذهب وعيها فكانت كالأنعام، بل الأنعام أشرف وأكمل منهم، بل هم أضل من الأنعام كما وصف الله جل جلاله.

    فقولهم: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ) كذب وافتراء، بل قد سمعوا بأخبار الأنبياء قبل، فهذا يوسف كانت نبوته في مصر، وكان ملكاً عليها، وكان يوسف يتصرف في مصر وسمعوا به، وسمعوا بأبيه يعقوب، وسمعوا بجده إسحاق، وسمعوا بجد الكل إبراهيم، وسمعوا بنوح، وبالتالي سمعوا بجد البشرية وأبيها الأول آدم عليه وعليهم جميعاً سلام الله، ولكن الفراعنة حكام مصر لا يعلمون إلا أنهم آلهة وأرباب، يقول فرعون وهو يضحك على قومه ويستخف عقولهم: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] من يملك هذا الجزء الصغير الحقير من الدنيا كيف يكون رباً وإلهاً؟! هذا أحد خلفاء بني العباس يتذكر قصة فرعون فقال: أنا أملك الدنيا وأتمدد على ظهري وأقول للسحب: صبي هنا أو هنا فخراجكِ سيصل إليّ، ومع ذلك أبيت أبكي ساجداً ممرغاً جبيني ووجهي على التراب أطلب رحمة ربي ومغفرته، ومصر ليست إلا جزءاً صغيراً من مملكتي وأرضي، فيدّعي هذا المجنون الألوهية لذلك، والله لن أولي على مصر إلا عبداً وخادماً من خدمي، فولى كافور الأخشيدي وكان مسلسل الشعر، مشقوق القدمين..، إلى آخر الصفات، ومع ذلك فقد كان ملك كافور وحكمه وولايته من أحسن ما يكون عدلاً وإدارة وإتقاناً، فأين فرعون وما تركه من شرك؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ...)

    قال الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [القصص:37].

    قال موسى بعد أن جاء بالبينات: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى) أي: فكيف تدعون الألوهية وأنتم أعجز ما يكون عن خدمة أنفسكم، وعن جلب الخير لكم ودفع الضر عنكم، هل أنتم الذين جئتم بالخير أم الله سبحانه؟!

    فقوله: وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ [القصص:37]، أي: جاء بما يهدي الخلق ويهدي الفراعنة الأقباط، جاء بالهداية من الله وجاء بالتوراة وبالحكم وبالصلاح، وبالنور بعد الظلام.

    وقوله: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ [القصص:37] أي: لمن ستكون عاقبة دارنا الآن، والعاقبة يوم القيامة، وسترون بعد ذلك إن أنتم كذبتم هل ستكون العاقبة لي أو لكم؟ وهل سأنتصر أنا أو أنتم؟ وهل سينتصر الله جل جلاله القاهر فوق عباده، أم أنتم معاشر الكفرة الفجرة الذين أنتم أعجز من حيوان صغير فضلاً عن أن تدعوا الألوهية والربوبية؟!

    وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [القصص:37].

    الظالمون الكافرون المشركون لا فلاح ولا نجاح لهم، ولا سعادة لهم في الدنيا ولا في الآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ..)

    قال الله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] .

    قال قولته الفاجرة التي تهتز لها الأرض استنكاراً واستقباحاً واستهجاناً، وقال في آية أخرى: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ليس إلهاً فقط بل الإله الأعلى، وهو عندما يستدل على ألوهيته يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] ليس العالم كله، وإنما له شيء من الماء اسمه النيل، فأين هو من البحر الأبيض ومن البحر المحيط؟! إذا قيس النيل بالبحار فما هو إلا قليل، أما إذا قيس بالمحيط فلا قياس.

    وقال فرعون لملئه ولقادة دولته ولضباطه ووزرائه وهم بمحضر موسى وهارون: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] و(من) إذا دخلت على النكرة عمت، أي: ليس هناك إله ألبتة إلا هو، وكما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54].

    استخفهم وأضاع عقولهم وأذهب وعيهم، فأطاعوه على أنه رب وإله، قال: لا أعلم لكم من إله غيري، ثم التفت إلى وزيره هامان فقال له: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38].

    أي: يا هامان اصنع لي آجراً بالنار واجعل آجرة على آجرة، ثم بعد ذلك اجعل لي صرحاً أي: قصراً ومنارة عالية لأصعدها، وأطلع إلى إله موسى أين هو؟!

    ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38].

    ومن أول مرة قال: سأصعد وسوف لا أجده، مع أن الله معه:

    وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

    من الذي أحياني وأحياكم؟

    من الذي أمدني بالحركة وبالقوة وأمدكم؟

    من الذي جعل الليل سكناً والنهار مبصراً؟

    من الذي خلق السماوات؟ من ومن ..؟ سنبقى نقول: من إلى يوم القيامة ولم تنته من!

    فالله تراه في كل شيء، فالكل خلقه، والكل أمره، والكل أثر من آثاره، وكان الله ولا شيء معه، وهذا الكون لم يكن موجوداً، ولم يكن هناك أحد، فخلق أبانا الأول من تراب، وأمنا من ضلع آدم، ثم خلقنا من ماء دافق، من صلب الأب ومن رحم الأم، واختص عيسى بأن خلقه من الأم بلا أب.

    من الغريب أن يخطر ببال إنسان في الأرض أن يدعي الألوهية، نعم، قد يدعي المرء الملك أو الجاه فهذا ممكن، أو يدعي العلم أمام الجهال فيظنونه عالماً، أو يدعي المال والغنى فقد يسرق ويخطف ويأخذ أموال الناس، أما أن يدعي الألوهية وأنه يحيي ويميت فلا!! وقد سبقه نمرود عندما ذهب إليه إبراهيم يدعوه لعبادة الله وقال عن ربه: إنه يحيي ويميت، فقال نمرود : أنا أحيي وأميت، كيف ذلك؟! يأتي بالإنسان فيقتله فيقول: أنا أمته، ويأتي بآخر يريد قتله فيتركه من القتل فيقول: أحييته، فقال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] أي: أن الله يخرج الشمس من المشرق فائت أنت بها من المغرب، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] صار كالأبله والمجنون.

    إذاً: أرسل الله الرسل إلى البشر؛ ليعلموهم عبادة ربهم وتوحيده، وأنه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق ...)

    قال الله تعالى: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ [القصص:39].

    كان فرعون جباراً مفسداً كما وصفه الله من قبل، واستكبر وتعالى على ربه وظن أنه يستطيع أن يفعل شيئاً.

    فقوله: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [القصص:39] هل لـفرعون حق في هذا الاستكبار؟ هل خلق كخلق الله؟ هل أحيا كإحياء الله؟! هل أمات كإماتة الله؟! كل ذلك لم يكن.

    وقوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ [القصص:39]، أي: خطر ببالهم وظنوا أنهم لا يموتون ولا يعودون إلينا، ولا يحاسبون على شركهم ولا على كفرهم، ولا على تألههم، ولا على ظلمهم، ولا على ما يصدر منهم، فكانت النتيجة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من يتأله على الله يكذب).

    وتكذيبه في إذلاله وتحقيره ليراه من عبده بغير حق، وأنه بئس العابد والمعبود من كل بشر، ومن كل كاذب ومدع مفتر على الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ...)

    قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:40].

    كانت العاقبة الوخيمة لـفرعون المتأله الكاذب أن أخذناه هو وجنوده من ملئه وكبرائه وأتباعه وأشياعه ومناصريه، فقذفناهم في البحر كما يقذف الشيء الذي لا قيمة له ولا شأن له، قذفهم الله في اليم فغرقوا وضاعوا وكأن لم يكن، وأبقى جثة فرعون على حالها؛ لتكون لمن خلفه آية؛ لأنهم زعموا أن الرب انتقل إلى مكان آخر، وأن فرعون لا يموت ولا يقتل، فعندما غرق في النيل أخرج الله جثته من النيل ليصبح جيفة تحتقرها النفوس، وإذا بها بقيت على حالها تعرض على الملأ يراها من يرى فرعون ويعرفه ويعلمه، بحيث تحققوا أن هذا الإله كاذب ليس إلا إنساناً كالناس أحياه الله فأماته، وهذه الجثة لا تزال إلى اليوم في متاحف مصر في الموميات، ولكن لا تعرف بعينها، ويقولون لك: هذه الجثث العشر أو العشرين هي لفراعنة مصر، هذا فلان، وهذا فلان، وهذا فلان، ولكن بالتأكيد القاطع: أن هذا فرعون موسى يحتاج ذلك إلى دليل، وأين الدليل؟ وأين البرهان؟ ولكن لاشك أنه واحد منهم، لأن الله أخبر بأنه سيجعله آية لمن يأتي بعده ولمن يأتي خلفه، وهو آية لا تزال إلى يومنا.

    ذهب فرعون كما يذهب البشر وهلك وذهبت دعواه، وذهب قومه، وأورث الله الأرض موسى ومن معه، وأذل أولئك وسحقهم، وكانت العاقبة للمؤمنين، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] .

    وقوله: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:40]، أي: انظر يا محمد وانظر يا من آمن بمحمد، ومن جاء بعده وإلى يوم القيامة كيف كانت عاقبة المشركين الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس، والكاذبين على الله المدعين ما ليس لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ...)

    قال الله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41].

    هم أئمة نعم، هم حكام وملوك وسادة وزعماء، ولكن زعماء إلى النار، وأئمة الكفر لا يكتفون بالكفر في أنفسهم، بل يأبون إلا أن يكفروا ويدعوا غيرهم للكفر، وأن يشركوا ويدعوا غيرهم للشرك، وأن يظلموا ويدعوا للظلم.

    وقوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41].

    أي: لم ينصروا في الدنيا، وكذلك يوم القيامة في الآخرة لا ينصرون؛ لا ينصر الله كافراً ولا يرحمه؛ لأنه ليس للكافر إلا الذل والهوان والغضب، والخلود في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    قال الله تعالى: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:42].

    معنى ذلك أنه يشرع لمن ذكر هذا الكاذب المتأله وأمثاله أن يتبع ذكره باللعنة، فيقول: قال فرعون لعنه الله، وقال الأقباط لعنهم الله، فهم متبوعون باللعنة وبالخزي وبسوء الذكر وبالاحتقار؛ نتيجة دعواهم ما ليس لهم به حق، فهؤلاء تتبعهم اللعنة في الدنيا، وهم يوم القيامة من المقبوحين الخزايا الملعونين الخالدين في النار، الذين لا يكاد يذكرهم أحد إلا بالخزي والبراءة من أعمالهم.

    وليس فرعون إلا مثالاً لمن فعل فعله، وليس هو شخصاً بعينه، بل كان مثالاً لكل من جاء بعده إلى يوم القيامة، فكل من ادعى دعوى فرعون وقال: لا إله أو أنه الإله، أو ظلم وسفك وأكل المال الحرام، وجعل من نفسه رباً دون الله، فإن له اللعنة والخزي في الدنيا، وله القبح والتقبيح والخزي يوم القيامة، والخلود في النار أبد الآبدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ...)

    قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:43].

    بعد ذلك أنزل الله على موسى التوراة فيها الهدى والنور، وفيها التوحيد، وفيها ما في الكتب السماوية السابقة، فهذه هي صفة التوراة عندما نزلت، ولكنّ العبرانيين أتباع موسى بعد ذلك غيروا وبدلوا وحرفوا، فالتوراة التي بين أيدينا والتي كانت منذ عصر الوحي المحمدي قام علماؤهم وكبراؤهم فبدلوا فيها وغيروا وحرفوا وزادوا ونقصوا، وأدخلوا فيها الشرك بعد ذلك، فلقد قال تعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18].

    فزعموا أنهم أبناء الله، فلم يشركوا بالله واحداً بل أشركوا كل البشر؛ لأن ابن الإله إله إن صح أنه ابن ولا ابن لله، ولا يليق بالله سبحانه أن يكون له ابن، قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3].

    ولكن لشركهم قالوا ذلك، والتوراة بين أيدينا فيها الطعن في جلال الله، وفيها اتهام الأنبياء بالكبائر: بالسكر وبالزنا وبالفساد، وبإتيان المحارم، وفيها ما لم يكد يخطر على بال.

    ومن هنا كان اليهودي في دمه وفي عرقه وفي نشأته وفي بيئته عنصراً للفساد، فهم يدينون بشتم الله، ويدينون بقذف الأنبياء، ويدينون بسفك الدماء، ويدينون بنشر الفاحشة ونشر السوء بين البشر، ولذلك هؤلاء الذين يسعون من الحكام إلى فتح الحدود معهم، إنما يزيدون شعوبهم فساداً وفاحشة وكفراً وبلاءً، فإن هذا لبلاء مبين، فأرجو الله تعالى أن يزيله وألا يتمه، وأن يخيب آراءهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم جميعاً هم وأنصارهم ومن يريد أن يفعل ذلك منهم.

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43].

    أرسل الله موسى بالتوراة من بعد قرون سابقة عنه هلكت وبادت وانتهت، والقرون هم قوم نوح، وقوم هود وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وقد قص الله علينا قصصهم.

    والقرن هو المائة من السنين، والقرن هو الجيل بعد الجيل.

    وموسى جاء متأخراً بعد ذلك، وقد سبقه هؤلاء كلهم، فـشعيب أرسل إلى مدين، وإبراهيم إلى نمرود ، ولوط إلى أهل سدوم في فلسطين، وهود وصالح إلى عاد وثمود، ونوح إلى البشرية، وكانت لا تزال قريبة العهد بآدم، ليس بينها وبين آدم إلا ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فقص الله علينا ما قص مما مضى جميعه بعد هذه القرون الطويلة، وهذه الأجيال المتتابعة التي أهلكها الله وذهبت في أمس الغابر.

    وأرسل الله بعد ذلك موسى، وسبقه من بني إسرائيل يوسف وأيوب ويعقوب وإسحاق، بل يعقوب هو إسرائيل وهو كبير أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم وإن كان أباً لهم فهو كذلك أبو العرب الأول، وهو الذي مكن للعرب هنا، وأتى بولده إسماعيل وأسكنه هنا في هذه الأرض المقدسة، فكان إسماعيل نبي الله ورسول الله الجد الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام، والجد العالي لجميع عرب اليوم، أما الذين كانوا قبله فيسمون بلغة الأنساب والأحساب: العرب العاربة، وهؤلاء انتهوا ولم يبق منهم أحد، ولذلك الله عندما ذكر إبراهيم قال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] والخطاب للعرب، فهو أبو العرب، وهم نسله، ولذلك دعا إبراهيم ربه لإسماعيل أن يجعل رسولاً من سلالته، ولذلك كان يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وأنا بشرى أخي عيسى، هو الذي بشر الناس باسمي، وقال لهم في الإنجيل: يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد) ومحمد وأحمد اسمان كريمان للكريم خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755824663