إسلام ويب

حاجة الصحوة إلى العلم الشرعيللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الدين الإسلامي دين حضارة وعلم، وقد امتدح الله العلم والعلماء، ورفع شأنهم في كتابه الكريم ؛ وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما أحوج الأمة في هذا الزمان وهي تعيش زمن الصحوة المباركة الإسلامية إلى العلم الشرعي، ما أحوجها أن ترجع إلى سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء الكبار لتعرف أهمية العلم وفضله، وأسباب زيادته، وبركته، وفوائده، ومسائله العويصة، لكي تبلغه للناس وتقيم به الأسر والمجتمعات.

    1.   

    فضل العلم والعلماء في القرآن

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ياأهل الصحوة، وسلام الله عليكم يا أهل الإقبال على الله، وسلام الله عليكم يا من في أرضهم نبتت بذرة تجديد التوحيد.

    يا رياض الخير قد جئت وفي      جعبتي أبها بلقياك تسامى

    حلفت لا تشرب الماء ولا      تأكل الزاد ولا تلقى مناما

    أو ترى الأحباب في نجد فإن      لم تجدهم صار ممساها حراماً

    فسلام الله أهديه لكم      يا رجال الفضل في نجد الخزامى

    أنا قد أحببتكم في الله ما      كان قلبي في سواه مستهاما

    موضوع الدرس وعناصره

    أما موضوع هذه المحاضرة وهو: (الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي) وحاجتنا نحن إلى سماع الموضوع، وحاجتنا إلى القبول من الله عز وجل، فإنه الذي يقبل، والأجر منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو يثيب وما سوى إثابته سبحانه من عروض أو ثناء أو تسهيلات فإنما هي عرض زائل قد توفر للبر والفاجر.

    هذا الموضوع: (الصحوة الإسلامية وحاجتها إلى العلم الشرعي) يدور على أربعة عناصر:-

    العنصر الأول: كيف أثنى الله على العلم وعلى أهله في كتابه العظيم، أو كيف تحدث القرآن عن العلم، وما هي المساحة التي أخذها العلم في القرآن.

    العنصر الثاني: كيف تحدث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن العلم، وكيف بين فضله، وكيف تعامل السلف معه، خشية لله وطلباً فيما عنده، وخوفاً من عذابه، ورجاء في ثوابه، كيف أصبحوا نسخاً من القرآن الكريم تمشي على الأرض، وتدرج في الوهاد، وتسير على الجبال.

    العنصر الثالث: ما هو موقفنا نحن أهل الصحوة إن كنا صادقين.

    العنصر الرابع: أن أهل صحوة هم أهل هذا الميراث الذي ورثه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فما هو نصيبنا من هذا الميراث، وما هو موقفنا من هذا العلم المسلسل المروي عن الثقات حتى يوصلونه إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ومن رسول الهدى إلى جبريل، ومن جبريل إلى رب العالمين.

    استشهاد أهل العلم على الوحدانية

    فأما القرآن فاسمعوا إليه وهو يتحدث عن أهل العلم، وما أعظم قيمة أهل العلم في القرآن، وما أجلها وما أنبلها، يريد الله أن يستشهد على وحدانيته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى ألوهيته، فبمن يستشهد؟ يقول جل ذكره: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] فانظر كيف استشهدهم على أعظم شهادة، وترك غيرهم فلم يستشهدهم مع من شهد له بالوحدانية، فهل هناك أعظم من أن يستشهد الله نفسه على وحدانيته، ويشهد الملائكة أن لا إله إلا هو، ويشهد العلماء أن لا إله إلا هو، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شهدت له الكائنات بالوحدانية، السماء تشهد أن لا إله إلا الله، والأرض تشهد أن لا إله إلا الله، اللمعة من الضوء، القطعة من السناء، اللفحة من الهواء، ورقة الشجر، خرير الماء، هديل الحمام، كل شيء يشهد أن لا إله إلا الله.

    وفي كل شيء له آية      تدل على أنه واحد

    فياعجباً كيف يعصى الإله      أم كيف يجحده الجاحد

    إلا هذا الإنسان يوم يتكبر ويتنبر على كرسي الطغيان، فإنه يجحد الله ظاهراً لا باطناً، فرعون ملك نفراً من الناس، وقطعة من الأرض، ذرة من ذرة، وبقعة من بقعة، فقال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وقال: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه؛ عندها علم من هو الذي يجري الأنهار، ويملك الديار، ومن هو الواحد الجبار، ومن له عقبى الدار، ومن بيده نواصي كل المخلوقين حتى يرث الأرض ومن عليها قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] يقول له موسى، أستاذ التوحيد وشيخ العقيدة: يا فاجر يا خبيث: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] قرارتك ونفسك وخلدك يقول لا إله إلا الله، ولكن لسانك يكذب.

    تفضيل أهل العلم على غيرهم والأمر بالتزود منه

    اسمعوا إلى أهل العلم يوم يريد الله عز وجل أن يفاضل بينهم وبين غيرهم، فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] ثم ترك الجواب عند أهل البيان للعلم به، فإنه ليس هناك مفاضلة بين أهل العلم وبين غيرهم من الناس، ولذلك لا تفاضل بين العظيم الشريف النبيل وبين الحقير الخسيس.

    ألم تر أن السيف ينقص قدره      إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

    فلم يقل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أهل العلم أفضل، وإنما سكت للعلم به: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] ويوم يرفع الله أهل العلم درجات، أخبر بتلك الدرجات، وكل درجة الله أعلم بها، وإنها لدرجة عظيمة: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    الذين آمنوا وأوتوا العلم، ولم يقل أوتوا العلم واكتفى؛ لأن العلم قد يكون إلحاداً، وقد يكون زندقة، وقد يكون فسوقاً وفجوراً.

    أما أتت العلمانية اليوم تقول: لا إله إلا العلمانية؟

    أما أتى أتاتورك فدوخ الدنيا وتركيا أولاً ليقول لها لا إله والعلمانية هي الدين؟

    فالله يقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] ويقول الله لرسوله وهو يأمره أن يتزود من الزاد، فأي زاد يتزود منه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ هل يتزود من الذهب والفضة؟ أو من القصور، أو من الدور؟ وهو عاش في بيت واحد لا يساوي طوله ثلاثة أمتار؟! لأنه يربي الأرواح، والذي يربي القلوب مشغول عن بناء الدور، وعن توسيع الجيوب، والذي يربي القلوب لا يشغله توسيع الجيوب أو ملئ الجيوب.

    كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ      بيت من الطين أو كهف من العلم

    تبني الفضائل أبراجاً مشيدة      نصب الخيام التي من أروع الخيم

    يقول الله له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] يا محمد -عليك أفضل الصلاة والسلام- تابع هذا الدعاء صباح مساء مع كل صلاة: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] فإن الطرق تتفتح أمامك، والشهوات تنجلي أمام عينيك، والشبهات تكون أنت على بصيرة منها، والظلمات تتجلى لك: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

    الأنبياء يتحدثون عن أنفسهم بالعلم

    ويتحدث الأنبياء عن أنفسهم عليهم الصلاة والسلام، فاسمعوا إلى إبراهيم يقول لأبيه الشيخ الضال العفريت الملحد: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] يقول: استحي على وجهك أيها الشيخ الضال، يا من يريد أن يؤسس الإلحاد والزندقة في الدنيا، خف من الله، فإنه قد أتاني من العلم مالم يأتك، عندي سند ليس لقوة جسمي، ولا لمنصبي، ولا لأسرتي، ولا لجاهي، ولكن يا أبت إني قد جاءني من العلم الشرعي الذي أتى من فوق سبع سماوات إلى الدنيا.

    ويقول سليمان هو يتحدث إلى الجيوش والجماهير في عرض عسكري باهر، يوم جمع له إلانس والجن والطيور والزواحف والحشرات قال للجماهير: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16] قال بعض المفسرين: لو حق للإنسان أن يفتخر بشيء يفتخر به لكفى بالعلم، يا أيها الناس حمداً لله علمنا منطق الطير، حتى الهدهد وهو طائر صغير يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: "عجباً للهدهد يفتخر بالعلم بين يدي الرسول الكريم سليمان عليه السلام - وسليمان هو الذي أتي بالتوحيد وشق طريق الدعوة وبنى مدرسة العقيدة في الدنيا في فترته - أتى الهدهد من اليمن يوم تخلف فأراد أن يعاقبه سيده على تخلفه، قال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ [النمل:22] ثم أخذ يتحدث له عن التوحيد، وعن الشرك في أرض اليمن، وما ينبغي للمرأة أن تقوم به من دور في الحياة، وقد أفاض في الحديث حتى قال بعض العصريين: لقد ألقى الهدهد محاضرة على سليمان، يقول: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:23] عجيب المرأة تملكهم في دين من؟ إلا في دين الأوروبيين الذين لا يعرفون إلا ظاهر الحياة الدنيا، أما في علم الناس ومفهوم العقلاء، فلا يصح للمرأة أن تملك الرجال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] مما يقبل التملك: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

    كأنه يقول له: إياك أعني واسمعي يا جاره، عرشك ينبغي أن يثبت، فلا تثبت هذه الملحدة هنا، والواجب أن يكون عرشك أعظم من عرشها لتبقى راية التوحيد أعظم من راية الشرك: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

    لكن الداهية الدهياء، والفاحشة الفحشاء، والمصيبة الشنعاء أنهم يعبدون الشمس: يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24] عجباً لك أيها الهدهد يوم تفتخر بالعلم، صح عن علي بن أبي طالب أنه قال: [[قيمة كل إنسان ما يحسنه]] وهذه الكلمة لو كتبت بماء الذهب ما أنصفاها ماء الذهب، حتى يقول ابن عبد البر: "ما عرف بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أحسن من هذه الكلمة، قيمة كل إنسان ما يحسن " وورد عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[كفى بالعلم فخراً أن يدعيه من ليس من أهله]] تجد الجاهل الرعديد البليد يقول: عندي من العلم ما يكفيني، فكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله.

    العلم قرين الإيمان والفهم والتعقل

    والله عز وجل ذكر أهل العلم في القرآن، فقرنهم بالإيمان، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ [الروم:56] فقرن الله الإيمان بالعلم، وأتى الله عز وجل بالعلم في مقام الشهوات لما ذكر قارون عندما خرج على قومه في زينته، قال أهل الدنيا، أهل الجهل، أهل المادة: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] فماذا قال أهل العلم، قال: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ [القصص:80] خافوا من الله، استحيوا من عذاب الله، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] فانظر كيف وقفوا هناك في موقف الشبهات، ووقفوا هنا في موقف الشهوات.

    والله عز وجل ذكر أهل العلم في القرآن بالفهم والتعقل والتثبت والتؤدة فقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] ما يفهم العبر ولا يفهم النصائح إلا أهل العلم، وذكرهم الله بالحفظ في كتابه فمدحهم فقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].

    في صدروهم كأنها مسطَّرة ومكتوبة، لأنهم وعوها، فانظر إلى هذا الشرف العظيم، والله عز وجل دائماً يذكر العلم في معرض إرسال الرسل، حتى لما ذكر الله الكلاب، ميز الكلب المعلم عن الكلب الجاهل، قال: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4] فجعل الكلب المعلم إذا صاد فصيده حلال بشروط، وأما الكلب الجاهل فصيده لا يجوز، لأنه ما درس، وما تخرج في مدرسة، وما عنده شهادة.

    وميز الله حتى في البهائم ما منـ     ها يعلم عن باغ ومغتشم

    ولذلك احتاج الإنسان إلى أن يورد هذه النصوص بما تردد في الساحة وسوف نأتي إليه في العنصر الرابع من تقليل شأن العلم، ومن تهوين شأن العلماء في بعض الأوساط، ومن الدعوة إلى الانطلاق، وترك البيوت والمكتبات والحلق، وأن الأمة غارقة في حمأة آسنة، وأن الإنقاذ لا يتأتى لها من الركود وإنما يتأتى لها من الانطلاق، فكان لزاماً علينا أن نورد هذه الآيات، والله يقول لرسول الدعوة عليه الصلاة والسلام: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].

    قال الإمام البخاري في الصحيح في كتاب العلم: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، حياك الله أيها الإمام البخاري، ولا فض فوك، وما أحسن ما دبجت ووشحت ونسقت!

    وصدق حين بدأ بالعلم قبل القول والعمل، فرسالة بلا علم جهل، وتعليم للناس بلا فهم ضلال، ودعوة بلا قال الله قال رسوله عليه الصلاة والسلام خسارة وتباب، فوجب على الدعاة، وأهل الصحوة، والمقبلين على الله أن يتعلموا، ثم ينطلقوا، وأن ينطلقوا يتعلموا حتى يلقوا الله عز وجل، واسمع إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام الذي فجر الكلمة الصادقة في الأمة، والذي جاء إلى أمة الصحراء، الأمة المسكينة، التي ما تعرف حتى بناء البيوت، ولا تسقيف المنازل، ولا الخياطة والنساجة، الأمة الجاهلة، الأمة الأمية التي أحياها الله برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    إن البرية يوم مبعث أحمد      نظر الله لها فبدل حالها

    بل كرم الإنسان حين اختار من     خير البرية نجمها وهلالها

    لبس المرقع وهو قائد أمة      جبت الكنوز فكسرت أغلالها

    لما رآها الله تمشي نحوه     لا تبتغي إلا رضاه سعى لها

    وأمدها مدداً وأعلى شانها      وأزال شانئها وأصلح بالها

    والله يمتن على الأمة الأمية الجاهلة التي ما سجدت في عمرها لله، وما عرفت الوضوء بالماء، وما عرفت أن تقول لا إله إلا الله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]

    إي والله، ضلال لا يعلمه إلا الله، ضلال الخرافات، ضلال الشركيات، ضلال الجهل والتخلف، ضلال التبعية والتقليد، ضلال الذلة والصغار لأمم الأرض، فلما أتى صلى الله عليه وسلم ماذا فعل: هل قال للناس إنكم بحاجة إلى مصانع أو صوامع للغلال أو الحبوب، أومنتجات، أو مشروبات، أو مأكولات؟

    نعم. كلهم بحاجة إلى هذه الأمور، لكنها ذرة في مسألة، وفي رسالته التي جاء من أجلها صلى الله عليه وسلم، أعرض عن هذه تماماً وتركهم في بيوت الطين، يركبون الحمير والجمال، ويأخذون الماء على ظهورهم في القرب، ويأكلون خبز الشعير، لكنه عقد الندوات والحلقات، وأرسل العلم في الدنيا، ليحرر الإنسان من جهل الخرافة، لأنه إذا تعلم فسوف يفجر الدنيا، وسوف يوجه البشرية إلى بر الأمان والسلام.

    1.   

    رسول الله يتحدث عن فضل العلم

    يقول عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث عن رسالته -وهذا العنصر الثاني- كما روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث - انظر إلى اختيار الغيث ودون المطر_ أصاب أرضاً فكان منها طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب حبست الماء -وفي رواية أمسكت الماء- فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك كمثل من نفعه الله بما أرسلني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) يقول عليه الصلاة والسلام يا أهل الصحوة! يا أيتها الأمة الخالدة! يا أمة لا إله إلا الله! يا من حمل مشاعر الخير للبشرية! مثل ما بعثني الله به إليكم كمثل الغيث ولم يقل المطر.

    بالله لفظك هذا سال من عسل     أم قد صببت على أفواهنا العسلا

    فلماذا لم يقل المطر؟

    قال بعض أهل العلم: لأن المطر غالباً استخدم في القرآن في مواطن العذاب، قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء:173] قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] فعدل عن المطر وأتي بالغيث.

    ثم هناك خاصية أخرى: لأن الغيث فيه غوث للأرض، وكذلك العلم فيه غوث للقلوب.

    وهناك خاصية ثالثة ذكرها القرطبي وغيره: "أن العلم صاف من السماء ما شابته الفلسفة والمنطق، كالغيث الذي نزل رحباً من السماء ما داخله الكدر ولا الطين" وهذا معنى بديع، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: رسالتي والعلم الذي جئت به قال الله وقال رسوله، هذا العلم أتى كالغيث أصاب أرضاً.

    أقسام الناس في العلم

    توزع العلم في الناس إلى ثلاثة أقسام، ونحن نقسم كل الأمة إلى ثلاثة أقسام:-

    قسم ارتفع رأسه بهذا العلم، فجد في طلبه وظمأ له وجاع لتناوله واحتاج إليه، فحصَّل وجد واجتهد وأتعب نفسه، فتعلم وعلم الناس، فهو كالأرض الطيبة الخصبة، قبلت الماء فأنبتت من كل زهر الأرض ومن كل نبت الأرض: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].

    وقسم آخر لم يكن فيه من التقبل ما في القسم الأول لكنه حبس وأمسك الماء، فهؤلاء الذين تلقوا النصوص فحفظوها للأمة، فأتى أهل الفقه فأخذوا هذه النصوص والمتون والأدلة ففجروها للناس، ولذلك ضرب ابن القيم في الوابل الصيب أمثلة لهذين الصنفين من الصحابة والتابعين إلى قريب من عصره فيقول: من أمثلة الطائفة الأولى ابن عباس، فإنه فجر أرضه، أخرج كنوزها وأنهارها وأشجارها وأثمارها، فهو فقيه مستنبط علامة، ومثل الأرض الثانية كـأبي هريرة والحفاظ، فأين حفظ أبي هريرة من حفظ ابن عباس؟ فحفظ أبي هريرة أعظم وأجل، وأين فهم ابن عباس من فهم أبي هريرة؟ ففهم ابن عباس أجل وأعظم، ثم أتت الأمة على هذه المستويات، وكلا الطائفتين مأجورتان مشكورتان، مرفوعة رءوسهما يوم القيامة.

    أما الطائفة الثالثة فلا حياها ولا بياها، طائفة أحبت الحياة للبطون والفروج والدور والقصور، فما تعلمت ولا علمت وما استفادت من العلم، وأظنها غير المسلمين إن شاء الله، لأن أقل درجة المسلم أنه قبل ولو آية أو حديثاً.

    الحث على التعلم

    الرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين من حديث معاوية خال المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} إي والله، فمن يريد الله أن يرفع رأسه وأن ينير بصيرته وأن يعظم شأنه يفقهه في الدين.

    ومفهوم المخالفة في الحديث: أن من لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، وهل يحسد على شيء في الدنيا؟

    إن كان يحسد على شيء في الدنيا فليحسد على العلم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين برواتين مختلفتين عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار} وفي رواية أخرى {رجل آتاه الله الحكمة فهو يتعلمها ويعلمها الناس}.

    والرسول عليه الصلاة والسلام يقف للأمة ويقول:{من سلك طريقاً يتلمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} فقم يا طالب العلم، وقم يا أيها الشاب، وقم أيها المتجه في ركب الصحوة واجلس في حلق الذكر، وزاحم العلماء بالركب، فإن الملائكة تظلك بأجنحتها، وتضع لك الأجنحة رضاً بما تصنع، وطريقك ميسور مسهل إلى الجنة.

    وقل لـبلال العزم من قلب صادق      أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً

    توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً      به ترق أبواب الجنان الثمانيا

    ويقول عليه الصلاة والسلام: {بلغو عني ولو آية} رواه مسلم وغيره، يقول: (بلغوا عني) والبلاغ لا يأتي إلا بالعلم، فالله الله ولو آية، الله الله ولو حديث، ليكون لك موقف يوم القيامة، لتشرب من الحوض المورود الذي طوله شهر وعرضه شهر، وعدد آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأول ما يشرب منه من بلغ الرسالة إلى الناس.

    والرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث عن العلم فيثني عليه كثيراً فيقول: {الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم}رواه الترمذي وابن ماجة بسندين حسنين، ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، وحتى النملة في جحرها} هذا الحديث رواه الترمذي وغيره وسنده حسن.

    إلى أحاديث أخرى يستفيض فيها صلى الله عليه وسلم في ذكر العلماء وطلبة العلم، وهو يقول في حديث أبي الدرداء عند الترمذي:{من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يخلفوا درهماً ولا ديناراً، وإنما خلفوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} رواه الترمذي وغيره بأسانيد حسنة.

    ويدعو صلى الله عليه وسلم إلى التعليم، فيقول: في حديث علي رضى الله عنه المتفق عليه: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فهداية الرجل الواحد إنما هو بالعلم.

    ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أن الجود منزلة الكرم، ثم قال: وأعظم الجود الجود بالعلم، فالجود بالعلم هو أعظم من الجود بالوقت وبالجاه وبالمال، وإنما يجود من تعلم وعلم الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما بعث معلماً، وهذا الحديث في سنده نظر، ولكن رسالته تشهد بذلك عليه الصلاة والسلام، وأنه إنما بعث ليعلم الناس، وأن مهمته التعليم عليه أفضل الصلاة والسلام: {فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}ومن يرد الله به خيراً يوجهه إلى الكتاب والسنة، ومن يرد الله به خيراً يقوده إلى العلم الشرعي، ليعيش هذه الصحوة المباركة.

    1.   

    صور من حياة السلف مع العلم

    أما العنصر الثالث: كيف عاش علماء السلف العلم الشرعي، وكيف تفانوا في طلبه، وكيف أفنوا الأعمار في تحصيله، معاذ سيد العلماء الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد حسنة أنه قال: (قائد العلماء إلى الجنة معاذ بن جبل، يأتي أمام العلماء يوم القيامة برتوة) والرتوة: رمية بحجر، هذا العالم الكبير، والمجتهد المطلق أبو عبد الرحمن يقول وقد حضرته سكرات الموت، واقترب الوعد وأتاه اليقين، يقول وهو يلتفت إلى سقف منزله وهو يناجي رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: [[اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، إنما كنت أحب الحياة لثلاث]] حياك الله يا أبا عبد الرحمن فما هذه الثلاث؟ ما هذه الهمم العالية؟ ما هذه الروح المتوقدة؟

    ألا لا أحب السير إلا مصعداً       ولا البرق إلا أن يكون يمانيا

    قال: [[لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، وتعفير وجهي في التراب -ساجداً لله- وصيام الهواجر]] رفع الله منزلتك في الجنة، فما أعظم رسالتك للناس يوم تركت هذه الكلمات! يقول: يارب إنك تعلم أني لم أكن أحب الحياة، لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا رفع القصور ولا عمارة الدور.

    خذوا كل دنياكم واتركوا      فؤادي حراً طليقاً غريبا

    فإني أعظمكم ثروة      وإن خلتموني وحيداً سليبا

    وهل الثروة إلا التحصيل؟! وهل الثروة إلا العلم النافع؟! وهل الثروة إلا النور والمعرفة التي تقودك إلى الله عز وجل، لا شيء من الدنيا ولذائذها، يقول بعض أهل العلم: ذقنا اللذائذ وتمرسنا في الشهوات فما رأينا ألذ ولا أشهى من العلم، حتى يقول الألبيري الأندلسي:

    فقوت الروح أرواح المعاني      وليس بأن طعمت ولا شربتا

    جعلت المال فوق العلم جهلاً     لعمرك في القضية ما عدلتا

    وبينهما بنص الوحي بون      ستعلمه إذا طه قرأتا

    يأتي سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه وهو يتوجه لطلب العلم فيقول: [[الحمد لله، سافرت ثلاثة أيام لطلب حديث واحد من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام]] سافر ثلاثة أيام بلياليهن حتى وصل إلى ذاك الحديث، ونحن في حارتنا وفي منازلنا، تطرح علينا آلاف الأحاديث من طلبة العلم ومن العلماء، ونقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نريد أن نعيش الصحوة، ولا يمكننا أن نتعلم الحديث، بل يوجد في بيوت الكثير منا آلاف الأحاديث في المجلدات، حتى يقول الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الإرب: إن الاجتهاد تسهل في هذا العصر ما لم يتسهل في عصر سبق.

    وهذا صحيح عقلاً وحساً وحالاً وشهوداً وحضوراً، فإن الاجتهاد تسهل لوجود هذه الكتب ووجود العلماء وطلبة العلم، وتلاقح الأفكار، وتسهيل المواصلات، وطبع الكتب، واستخراجها من المخطوطات وغيرها، فكيف يتوانى الشاب في طلب العلم بعد هذا الجهد، وروى البخاري تعليقاً عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أنه سافر شهراً كاملاً في حديث واحد، رحم الله تلك العظام، شهراً كاملاً في طلب حديث واحد إلى عبد الله بن أنيس في العريش في مصر، ركب من المدينة، وجدَّ في السير، وأجاع بطنه، وأظمأ كبده، وأخذ كلال السفر ومشقة الغربة عن أهله، ووحشة الفراق، حتى وصل إلى عبد الله بن أنيس أحد الصحابة، فطرق عليه الباب في الظهيرة، فخرج الصحابي، فرأى الصحابي الكبير فعانقه وحياه، فقال: ادخل قال: ما أنا بداخل، قال: من أين أتيت؟ قال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: تريد ماذا؟ قال: أريد حديثاً سمعته من فلان حدثني أنك حدثته، قال: ادخل الآن أنت جئت من سفر، قال: ما أريد أن يكون خروجي وهجرتي إلا لله، فأعطاه الحديث ثم عاد إلى المدينة في شهر كامل.

    حتى يقول الشعبي لأحد رواته، وهو رجل من خراسان: خذ هذه الثلاث، وأخبره بثلاث خصال في حديث أبي موسى في البخاري، قال: خذ هذه الثلاث فوالله الذي لا إله إلا هو! لقد كان يرحل في أقل منها إلى نواحي الأقطار أو الأمصار.

    الإمام أحمد رحل آلالف الفراسخ، حتى قال بعض العلماء: لو حسبت المدة التي رحلها الإمام أحمد وكانت بالمساحة لطوقت الدنيا، رحل إلى اليمن إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني، الراوية الكبير الشهير من رجال البخاري ومسلم، فلما أراد أن يرحل إلى اليمن قال لـإسحاق بن راهوية، فقال إسحاق بن راهوية:نعم أنا صاحبك، فلما وصل إلى الحرم وطاف بالبيت، وأراد العمرة، وإذا هم بالعلم النجم عبد الرزاق وهو يطوف، فقال إسحاق: يا أبا عبد الله، هذا عبد الرزاق مكننا الله منه، وأراحنا من السفر إليه، قال الإمام أحمد: لا آخذ منه هاهنا حديثاً واحداً، لأنني خرجت لوجه الله، وهجرتي لله، فأريد أن آخذ منه الحديث في صنعاء اليمن، لا بد من صنعاء ولو طال السفر.

    وعاد عبد الرزاق وما تلقى منه الإمام أحمد حديثاً واحداً، فلما وصل عبد الرزاق بحفظ الله ورعايته إلى مستقره في صنعاء، خرج الإمام أحمد إمام أهل السنة، صاحب الأسمال البالية، والجسم النحيل، بالزهد والإقبال على الله، شيخ كبير لكنه يقود الدنيا لـأهل السنة، ويوجه مسار التاريخ ليكون التاريخ لله، وتكون الأرض لله، وتكون السماء والتراب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فذهب بمحبرته حتى قال له بعض المتنطعين الذين إذا تعلموا سنة أو سنتين: كفانا من العلم فقد شبعنا وروينا، يقول له: يا أبا عبد الله، أنت في الستين والمحبرة معك، فقال: نعم. من المحبرة إلى المقبرة، وما أحسنها من كلمة لو كتبت على الجباه وسطرت، وهل العلم إلا حمل المحابر والدفاتر والأقلام، وهل التحصيل إلا ليل ونهار كما فعل الإمام أحمد.

    فوصل إلى صنعاء اليمن والتقى بـعبد الرزاق، وأخذ منه علماً كثيراً طيباً، وعاد فسجله في المسند، فجزى الله الإمام أحمد خير الجزاء، وجزى الله عبد الرزاق خير الجزاء، وجزى كل من اتجه إلى الرزاق خير الجزاء.

    ولذلك أتى غلاة الصوفية -كما يقول ابن القيم - فقالوا: نحن نطلب علمنا من الرزاق لا من عبد الرزاق.

    غلاة الصوفية يقولون: نطلب علمنا من الرزاق مباشرة، نطلبها من الرزاق لا من عبد الرزاق.

    فنزل عليهم ابن القيم فأباد حججهم، حتى تركها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، يقول من ضمن كلامه: والله والذي لا إله إلا هو! لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق، من أين يعرف الله عز وجل إلا عن طريق الرسل المبلغين، وطرق الرسل عليه الصلاة والسلام، من طريق ابن المديني ويحي بن معين وعبد الرزاق وأبي حاتم وأبي زرعة والبخاري وأبي داود وأولئك الملأ العظام.

    دخل سهل بن عبد الله التستري -كما ذكر ذلك الذهبي - على أبي داود صاحب السنن، وحيا الله أبا داود، ولقد أحسن كل الإحسان بسننه حين قربها للناس، فهل من قارئ لـسنن أبي داود، وهل من متدبر لها، التي يقول عنها ابن القيم: أصبحت سنن أبي داود حكماً بين أهل الإسلام، وموطناً من الحجج في مواطن الخصام، إليها يتحاكم المتحاكمون، وبحكمه يرضى المنصفون.

    دخل سهل أحد القلوب الحية على أبي داود فقال: يا أبا داود! إني أريدك في طلب تلبيه لي، قال ماهو طلبك؟ قال: أن تخرج لي لسانك، قال لماذا؟ قال أقبلها، لأنها طالما قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو داود ولكن سامح ولبى الإصرار من سهل، فقبل لسانه لأنها ترددت بالأحاديث.

    الاعتزاز بالعلم

    ذكر الذهبي في التذكرة عن أبي زرعة، أنه لما توفي رؤي في المنام، ونحن لا نعلق بالمنامات أحكاماً ولا شعائر، ولا ننساها ونتركها، لكننا نقف منها موقف الأثر، نقول: هي مبشرات، يقول: رؤي في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قالوا بماذا؟ قال: لأنني كتبت ألف ألف مرة صلى الله عليه وسلم، مليون حديث وهو يكتب عند كل حديث "صلى الله عليه وسلم" فالعلماء والسلف الصالح دأبوا في طلب العلم.

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[والله الذي لا إله إلا هو! لقد كنت أخرج في طلب العلم في القائلة فألتمس العلم عند الأنصار فأجدهم قائلين، فأطرح نفسي عند باب أحدهم في الشمس والريح تسفي عليّ من التراب، حتى يخرج عليّ الأنصاري فأسأله الحديث، فينفعني الله عز وجل، فيقول الأنصاري: يابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم! ألا أيقظتني لآتيك، قلت: لا. إني أتيت في ساعة لايوقظ فيها الناس]] ولذلك لما جلس ابن عباس للتعليم، قال: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] يقول: لما أذللت نفسي لطلب العلم، عززت فيما بعد يوم أتى الناس يطلبون العلم مني.

    وأتى زيد بن ثابت ذلك الرجل الفرضي الكبير، الذي جعله صلى الله وعليه وسلم في تخصص الفرائض وفي قسم الفرائض ليجيد التخصص، لأن الصحابة كانوا واجهات، كل أقام نفسه في منفذ من المنافذ، أو في باب من الأبواب، فـخالد: مهمته ضرب أعناق الملاحدة والزاندقة وأعداء الله، مهمته أن يفصل الرءوس عن الأكتاف، كل من لا يؤمن بالله يقطع رأسه، وزيد بن ثابت: مهمته إذا قطعت الرءوس أن يقسم الأنصبة على الورثة، وأما ابن عباس: فمهمته أن يستنبط من الآيات، فيسكب من رحيقها ما يقدمه للأمة، أما أبو بكر فهو رجل الإدارة، ورجل موقف الساعة، وعمر رضي الله عنه: يترك حصناً حصيناً لكل ضائقة تضيق بالإسلام.

    قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها     بفضل ربك حصناً من أعاديها

    وأما عثمان فيبقى للبذل والسخاء ولإعطاء الأموال في سبيل الله، وأما علي فهو أستاذ الكلمة الحارة الصادقة التي يربي بها الأجيال، ولذلك يقول ابن كثير عنه: "باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة".

    وأما حسان: فإن شئت فسمِّه وزارة الإعلام المتنقلة، يدخل الجنة بالقافية والأدب، لأنه نصر الإسلام من هنا، فمن كان منكم كاتباً فليتق الله في كتاباته، وليدخل بها الجنة ولا يدخل بها النار، ومن كان منكم أديباً فليتق الله في أدبه، فلا يكبه الله بأدبه في نار جهنم، ومن كان منكم شاعراً فليحاول أن يدخل الجنة بشعره، فإن للجنة أبواباً ثمانية، وحسان يقود موكباً من الشعراء يوم القيامة، ومن كان خطيباً فليأخذ باب الخطابة وليتق الله ليدخل به الجنة: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً [الرعد:17].

    إذا علم ذلك فقد كان الصحابة يجهدون أنفسهم في طلب العلم، والشاهد زيد بن ثابت: أتى ليركب راحلته، فاقترب ابن عباس ليمسك بدابته، فقال زيد بن ثابت: دع هذا يابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام! فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال زيد: أعطني يدك، فأخذها فقبلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بقرابة رسولنا عليه الصلاة والسلام.

    هؤلاء الجيل أنفقوا ذخائر أنفسهم في طلب العلم، يذهب أحدهم الليالي الطويلة ليحصل العلم، فماذا كان تحصيلهم؟

    قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما دخل أبو زرعة بغداد وقف أبي معه يسائله، فترك أبي النوافل ليأخذ ما عند أبي زرعة من أحاديث، لأن الأحاديث التي عند أبي زرعة تفوت، وأما النوافل فإنها لا تفوت فلها وقت آخر.

    وتواقف ابن المبارك وعالم آخر من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يطلبون العلم ويتسائلون حتى أًذن للفجر، وقال عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه وأرضاه: [[العلم والذكر: هي كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تزكي، كيف تحج، كيف تطلق]] أو شبيهاً بهذا الكلام، هذه مجالس الذكر.

    يقول ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: "واعلم أن طلب العلم وتحصيل العلم من أفضل الذكر، بل هو الذكر" وطلب العلم هو الذكر، وهو النفع وهو الحياة، فكان علم الصحابة وعلم السلف علماً موصولاً بالله عز وجل، تعرف أنه طالب حديث وطالب علم بالسمات التي عليه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {نضَّر الله امرأً سمع مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع}.

    وفي رواية ابن حبان: {رحم الله امرأ سمع مني مقالتي} الحديث، والنضرة موجودة على وجوه طلبة العلم كلما زادوا من التحصيل، وكلما أكثروا من حفظ الأحاديث، وكلما زاولوا هذا الفن رزقهم الله بهاءً ونوراً على وجوههم، لأنهم أخذوا ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام.

    علم السلف وعلاقته بالخشية والعمل

    إذا علم ذلك فقد كانت حياة الصحابة علماً موصولاً بتقوى الله عز وجل؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فالذي لا يخشى الله ليس بعالم، ولو تعلم مهما تعلم، والله تعالى أنَّبَ كثيراً من العلماء الذين ما نفعهم علمهم في القرآن، فقال لـبلعام بن باعوراء اليهودي الإسرائيلي أخو القرد والخنزير، لما أخذ الآيات فما نفعته في الحياة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].

    وقال لبني إسرائيل وهو يصفهم بأردى الأوصاف يوم حملوا الكتب في صدورهم وحفظوها: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] وقل لي بالله ماذا يستفيد الحمار إذا حملت على ظهره فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام والمغني؟!

    هذا كبني إسرائيل وأمثالهم من هذه الأمة، نعوذ بالله أن نكون من ذاك الصنف، لأن ابن تيمية يقول في اقتضاء الصراط المستقيم لما ذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لتتبعن سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة...} الحديث، قال: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع في الأمم قبلها؛ فإنه وُجد في هذه الأمة عباد -أو كما قال- يعبدون الله بالجهل، ففيهم مثل من النصارى الذين قال الله فيهم: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] ووجد في طلبة العلم اليوم من فعل مثل ما فعل اليهود، تعلموا العلم فلم يعملوا به فقال الله فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13] قال سفيان بن عيينة: [[من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى]] ونعوذ بالله من كلا الصنفين، نعوذ بالله من عالم فاسق، ونعوذ بالله من عابد جاهل، لأن العابد الجاهل سريع الدخول في البدع والخرافات، والعالم الفاسق سريع الدخول في الشهوات والنزوات، فالخوف على هذا من الشهوات، والخوف على ذاك من الشبهات.

    إذا علم هذا فكان واجبنا التعلم كما فعل سلفننا الصالح، والعلم إنما هو من الله عز وجل، يقول جل ذكره: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] فالذي يعلم هو الله، والذي يفهم هو الله، وكلما اتقاه العبد كلما علمه وفهمه، انظر لـابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة وهو يمرغ وجهه بالتراب -كما في ترجمته- ويقول وهو شاب في العاشرة من عمره يا أبناء العشرين ويا أبناء الثلاثين والأربعين، يمرغ وجهه في التراب ويقول: " يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79] وإبراهيم يقول: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ [مريم:43] فيقول ابن تيمية: " يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني" فعلمه معلم إبراهيم، وفهمه مفهم سليمان، علماً وفهماً صادقين خالصين استخدمهما في نصرة لا إله إلا الله، ولذلك فجر طاقة في المعمورة، حتى نكس التاريخ وقاده وراءه حتى أصبح التاريخ لـابن تيمية، يقول أحد المستشرقين فيما اطلعت عليه: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض -يعني: دنميت- فجر بعضها ابن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر إلى الآن، حتى يقول المزي: "ما وجد قبله بخمسمائة سنة مثله" وكأنه يقال: وحتى الآن ما وجد مثله، ولا نغلو فيه فنقول: ليس بمعصوم، ولكنه رجل صالح، وعلامة جهبذ، وإنسان أراد أن يقود الأمة، وصحوة في عصره على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.

    أيوب بن أبي تميمة السختياني أحد رجال الكتب الستة، يخرج من بيته -وهو من العلماء العاملين- إلى أهل السوق، فيرون في وجهه لمعان النضرة والنور والبهاء والإقبال على وجهه، فيذكرون الله: لا إله إلا الله، ذكرَّهم المنظر بذكر الله عز وجل، وهو ممن إذا رؤوا ذكر الله عز وجل.

    أيوب هذا كانت تصيبه الرقة والبكاء من خشية الله، فإذا بكى مثَّ أنفه كأن به زكام، ومابه من زكام ولكنه البكاء، يقول عنه ابن الجوزي وهو يتحدث عنه في صيد الخاطر:

    أفدي ظباء فلاة ما عرفن به      مضغ الكلام ولا نسج الحواجيب

    يقول: تعيش أيها المصلح يومَ ماعرفت النقاق والرياء إذا بكيت من خشية الله مثت أنفك كأنك مزكوماً، وأنت لست مزكوماً، وإنما زكامك خشية، ورقة وإقبال على الله عز وجل.

    أيوب بن أبي تميمة السختياني ورد عن مالك، أنه قال: "ما كنت أظن أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على الرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف".

    لأن الإمام مالك يقول في الرواية عن أهل العراق أنزلوهم منزل أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وورد عنه أنه قال: يخرج الحديث عندنا من المدينة شبراً، ويعود من عندهم ذراعاً، لكن لما رأى هذا الصنف والطراز الممتاز رجع عن كلامه، حتى الإمام الذهبي في السير يقول للإمام مالك: "رحمك الله! بل في أهل العراق العلماء والجهابذة والصادقون" أو كما قال، كـسفيان الثوري وقتادة بن دعامة السدوسي وعلقمة وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي.

    الشاهد أن هؤلاء العلماء كانوا نوراً يسري على الأرض، فتعلموا العلم ووجهوه للناس، عبد الغني المقدسي رحمه الله كان يدرس الحديث فإذا بدأ في الحديث لا يسمع كلامه من كثرة بكائه، وكان يقول: "وهل العلم إلا الخشية من الله".

    ويذكر الخطيب البغدادي صاحب كتاب اقتضاء العلم العمل: أن أحد العلماء توفي، فرؤي في المنام فقالوا ما فعل الله بك، قال: " ذهبت تلك الشطحات وذهبت تلك العلوم - علوم عرضية ليست علوم شريعة - وبقيت لنا سورة الفاتحة كنا نعلمها العجائز في قريتنا".

    ولذلك يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن المأمون: "إن الله لا يغفل عنه، فسوف يسأله الله عز وجل عن العلم المنطقي والفلسفي الذي أدخله على المسلمين".

    هل نحن بحاجة إلى علم المنطق والكلام والفلسفة؟

    لا. بل نحن بحاجة إلى علم أتى كالغيث من السماء، أتى من فوق سبع سماوات إلى قلوبنا، نروي به الظمأ، ونحيي به القلوب، ولذلك كان من هدي السلف الصالح العمل.

    ابن المبارك رحمه الله يقول وهو يقرأ في كتاب الزهد الذي ألفه -المطبوع المحقق- وما أصبحنا ننظر إلا من رحم الله إلا إلى الغلاف، وجودة الطبع والتحقيق، ومن خرج الحاشية والفهرسة، كان يفتحه أمام الناس، فيخور كما يخور الثور من البكاء، هذا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه الذي يقول لطلبة العلم.

    لا ينفع العلم قبل الموت صاحبه     قوم به سألوا الرجعى فما رجعوا

    يقول: اليوم ينفعك العلم، ولا ينفعك غداً، متى تعمل بعلمك إذا ما عملت به اليوم.

    تلميذ أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين قدموه إلى السلطان، وكان السلطان فيه شبه في العقيدة، فقالوا هذا قام بحرب السلطان الخراساني، فأتوا بهذا التلميذ فقال له السلطان: قل لا إله إلا الله.

    قال: يا أيها السلطان أتعلمني أنت لا إله إلا الله، أما أنا فقد تعلمتها من الفطرة، وقد رضعتها من الصغر، ولا إله إلا الله أموت من أجلها الآن.

    قال: لماذا لا تتجهز بعمل صالح قبل أن أقتلك الآن.

    قال: إن سيدي - يقصد شيخه أبا إسماعيل الهروي - قال لي:" إن الدابة لا تعلف الشعير إذا أردت أن تصعد بها العقبة" تريد أن تصعد بالدابة العقبة من الصباح فتعلفها لتسمن، ومتى يمكنها أن تسمن؟ يقول: إذا لم أدخر من العمل الصالح قبل هذا الموقف فلا ينفعني، يوم يكون السيف على رأسي والموت أمامي، وقد نمت في جفن الردى، فأنا كالدابة تترك حتى إذا أراد صاحبها أن يصعد بها في العقبة أعطيت الشعير لتسمن، ولن تسمن في ساعة ونصف.

    ولذلك إذا لم نأخذ هذا العلم تطبيقاً من الآن فإننا لن نسمن به، ونخاف -نعوذ بالله- أن نعذب به عذاباً أليماً، حتى ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه كما في كتاب الزهد للإمام أحمد أنه قال: [[ويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات، وويل لمن عمل ولم يعلم مرة واحدة]] أو كما قال.

    1.   

    البركة في العلم وثماره

    فإذا عرف ذلك، فإن من تعلم العلم فإن عليه مسئولية عظيمة الله أعلم بها، وإنما شاهدنا كيف عاش السلف، يوم يأتي الإمام أحمد رحمه الله فيكفي أن يمر بالسوق ليلقي دروساً فيها من الاقتداء والخشية والانصياع لأمر الله عز وجل، ومن توجيه الناس إلى الله تعالى الشيء الكثير.

    يأتي ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة فيؤسس مدرسة التقوى ويبث العقيدة بسلوكه وتطبيقه، ويقول ويكرر: إن من عمل بعلمه أورثه الله علم مالم يعلم، وهذا بعض أهل العلم يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسبحان الله! ما أجلَّ فائدة من عمل بعلمه، وسبحان الله! ما أعظم خسارة من لم يعمل بعلمه، إذا علم ذلك فإن واجبنا نحو هذا العلم أن نعمل به، فالعلم لا يبارك فيه إلا بثلاثة أمور:-

    الأول: الإخلاص.

    الثاني: العمل.

    الثالث: التبليغ.

    فالأمر الأول: أن نخلص في طلبه وفي تحصيله، والأمر الثاني: أن نعمل به، والأمر الثالث: أن نعلمه الناس، فإذا حصل هذا فهي الأمور الثلاثة التي تمكن العلم.

    1.   

    فوائد العلم

    للعم فوائد ولو أن ابن القيم يوصلها إلى ما يقارب مائتي فائدة، لكن مجمل الخمس المسارات، أو الخطوط العريضة للعلم تكمن في خمسة أمور، ولو أنها بالتفريع والتقسيم والتجزئة تصل إلى مائتي فائدة.

    كشف الشبهات

    الفائدة الأولى: كشف الشبهات: فلا يكشف الشبه إلا العلم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19] من هو الأعمى؟ الجاهل الذي لم ينصاع لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعالم تنكشف له.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد:19] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[فقيه واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد]] وابن ماجة يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، فأول فائدة للعلم كشف الشبهات، فلا تأتيك شبهة زندقة ولا إلحاد ولا شك ولا ظلمة بسبب العلم، قال ابن دقيق العيد: "أصبت في مبدأ حياتي بالوسواس" وسواس في المعتقد والإلهيات، والأصول، والإيمان، قال: "فشكوت على العلماء حالي قالوا: عليك بطلب العلم، فطلبت العلم، فأزال الله الوسواس" فداء الوسواس والشبهات والزندقة والخرافة والتقليد والإلحاد هو العلم.

    كبت الشهوات

    الفائدة الثانية: كبت الشهوات: فلا تكبت الشهوات إلا بالعلم، يقول الله عز وجل هو يتحدث عن أهل العلم: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ [القصص:80] فانظر كيف كبتوا شهواتهم بطلب العلم.

    وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] النور هو العلم، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] قال بعض أهل العلم: البصيرة العلم.

    تجلية الظلمات

    الفائدة الثالثة: أنه تجلية للظلمات، فالفتن لا يجليها إلا العلم، فالحوادث والكوارث التي تقع بين الناس لا يجليها إلا العلم، ولذلك لما وقعت فتنة صاحب النفس الزكية في عهد الخلافة العباسية وقع فيها كثير من غوغاء الناس، ونجا منها كثير من العلماء، حتى إن سفيان الثوري توقف فيها، فقالوا لماذا تتوقف وهي مقبلة ما تدري؟ قال: [[العالم يعرف بالفتنة وقت إقبالها، وإذا أدبرت يعرفها الجاهل والعالم]] فـسفيان عرف بعلمه وذكائه الفتنة يوم أقبلت، فالظلمات والحجب لا يعلمها إلا الله عز وجل، حتى يقول أبو بكر الأندلسي حين يوصي ابنه ويمدح العلم فيقول له:-

    هو العضب المهند ليس ينبو      تصيب به مضارب من أردتا

    وكنز لا تخاف عليه لصاً      خفيف الحمل يوجد حيث كنتا

    يزيد بكثرة الإنفاق منه      وينقص إن به كفاً شددتا

    إلى أن يقول:-

    ويجلو ما بعينك من عماها      ويهديك السبيل إذا ضللتا

    فجلاء الظلمات إنما هو العلم، والفهم في الكتاب والسنة.

    إحياء الأموات

    الفائدة الرابعة: إحياء الأموات: ومن هم الأموات؟ هل من قرأ صحيح البخاري يحي الله له المقابر؟ لا. رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إحياء للأرواح، ولذلك يقول شوقي أمير الشعراء يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:-

    أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له      وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

    أي: إن كان عيسى عليه السلام أحيا الميت بإذن الله، فأنت أحييت القلوب بالعلم، فالعلم إحياء للأموات، والأمة إذا لم تكن عالمة فهي ميتة، والإنسان إذا لم يتعلم العلم الشرعي الذي يقيم به عبادته، صلاته، صيامه، حجه، زكاته، أمور دينه فهو ميت، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] فالعلم حياة للأموات.

    رحمة بالكائنات

    الفائدة الخامسة: العلم رحمة بالكائنات: فإن أرحم الناس بالناس العلماء، وسيدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم هو الذي أتى بالعلم ولذلك قال الله له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ولم يقل رحمة للمؤمنين ليخرج الكفار، وإنما قال للعالمين، فهو رحمة للكافر وللمسلم وللحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف.

    أما رحمته للكافر: فإن الكافر لم يعذب والرسول صلى الله عليه وسلم حي، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33] فكنت رحمة لهم وهم كفار.

    وأما رحمته للمؤمنين: فإن الله رحم به المؤمنين، وكان أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم.

    وأما رحمته بالحيوانات: فمما علم من أحاديث كثيرة،منها حديث الجمل الذي شكى إليه صلى الله عليه وسلم أن سيده يجيعه ويريد أن يذبحه، فأنقذه بإذن الله رسول الله من الذبح، ورحمة الطائر في حديث ابن مسعود عند أبي داود، يوم أخذ الأنصاري فراخها من العش، فجاءت ترفرف على رأسه كأنها تشكو إليه، حتى يقول بعض الشعراء:-

    جاءت إليك حمامة مشتاقة      تشكو إليك بقلب صب واجف

    من أخبر الورقاء أن مكانكم      حرمٌ وأنك ملجأ للخائف

    فلما رفرفرت على رأسه فهم صلى الله وعليه وسلم فحوى الخطاب فقال: {من فجع هذه بأفراخها؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: رد عليها أفراخها} فكان رحمة لها، ورحمة للنمل فإنه أبى صلى الله عليه وسلم أن تحرق بالنار، وقال: {لا يعذب بالنار إلا رب النار} فهو رحمة للعالمين.

    إذاً: فالعلم كشف للشبهات، وكبت للشهوات، وإحياء للأموات، وتجلية للظلمات، ورحمة للكائنات، وهذا مجمع عليه بين علماء الإسلام، إلا من شذ ممن لا يفهم.

    1.   

    واجبنا نحو العلم

    أما العنصر الرابع: من عناصر هذه الجلسة وعناصر هذه الكلمة، فهو واجبنا كشباب نعيش الصحوة، وكجيل نتجه ونقبل إلى الله، وقبل أن أتحدث في هذا العنصر أيها الأبرار الأخيار، أحب أن أفهم وأن يفهم معي من أراد أربع مسائل.

    المسألة الأولى: العلم قبل القول والعمل قال الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ومن أراد أن يعمل أو يقول قبل أن يتعلم قد أخطأ سبيل الخير فعليه أن يتعلم ويعمل.

    المسألة الثانية: الدعوة لا تنفع إلا بعلم، فمن أراد أن يتصدر للناس بالدعوة وليس عنده علم فسوف يخطئ ويضل، وسوف يغوي الناس.

    المسألة الثالثة: الحماس نبتة ضئيلة، زهرة ربيع تذبل، والعلم بالدليل شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، الحماس، الهيجان، الخطب النارية، المقالات الفكرية إذا بولغ فيها فهي نبتة ضئيلة، كزهرة الربيع تذبل في ثلاثة أشهر، أما العلم بالدليل فإنه: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25].

    المسألة الرابعة: العلم هو الدليل، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [الأنعام:148] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

    العلم والدعوة والعمل

    إذاً: فما واجبنا نحو هذه المسائل؟

    واجبنا يا شباب الإسلام أن نتعلم وندعو الناس، لا نقول نتأخر حتى نحفظ الصحيحين والمتون ثم ننزل إلى الساحة، لا. أقول: نتعلم علماً أو حداً ثم ننزل إلى الساحة، فنتلقى العلم ونحن نعلم الناس، فلا ننقطع عن الدعوة فنصبح مركونين في بيوتنا، وفي ظلمات الزوايا، ولا ننزل إلى الناس ونترك العلم، فينتهي علمنا في سبعة أيام أو في ستة أيام، ثم يلتف الناس حولنا فلا يجدون علماً، فنسقيهم بدل قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام كلاماً حماسياً، يطيش ويفيش كالهواء، فهذا ليس بعلم، الكلام كلام والعلم علم، ولذلك قال حماد بن زيد زميل الإمام مالك، العلامة الجهبذ النحرير الكبير من رجال الصحيحين، قال لـأيوب السختياني: يا أيوب كثر العلم إن شاء الله، قال:" بل والله قل العلم وكثر الكلام "، كلام القرن الثاني أكثر من كلام القرن الأول، وكلام القرن الثالث أكثر من القرن الثاني، فما بالك بالقرن الخامس عشر، إن من يستفتي الآن في مسألة يلقى عليه محاضرة كاملة، وبينما القرن الأول كان إذا استفتي في مسألة قال: نعم أو لا، أو قال الرسول أو قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان كلامهم قليل ولكن علمهم مبارك.

    فالعلم -أيها الإخوة الأبرار- ليس بكثرة الكلام، العلم هو الدليل، وهو التأصيل العلمي، وهو تحقيق المسائل، وليس معنى ذلك أن من أكثروا الكلام في نصرة دين الله عز وجل -كالمفكرين- فقد أخطأوا بل جزاهم الله خيراً فيما سدوا من ثغرة، فإنهم قابلوا السلاح بمثله، لكن لا يعني ذلك أن يظن كثير من الشباب أو بعض الشباب أن هذا الفكر علم يحصل ويؤصل وأنه هو المطلوب، الفكر شيء غير العلم، وهو يدخل في مسمى العلم، لكنه ليس العلم كل العلم، فالعلم هو الدليل وهو الكتاب والسنة وما دار حول الكتاب والسنة.

    التهوين من شأن العلم

    وجد في بعض الأوساط من هون من شأن العلم، فتردد بين شباب العلم أو طلاب العلم مما سمعنا أو سمع غيرنا أنهم إذا سمعوا بشاب حفظ متناً من المتون كـصحيح البخاري أو رياض الصالحين، أو بلوغ المرام، قالوا زاد نسخة في البلد، ومعنى ذلك أن ما هناك فائدة، وإنما زاد نسخة لـرياض الصالحين، مع رياض الصالحين وللبخاري مع البخاري، وهذا جهل بالفائدة، لا والله ما زاد نسخة في البلد، بل زاد عالم جهبذ علامة، يوجه الأجيال بإذن الله، والله امتدح الحفاظ فقال عن الملائكة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] فمدحهم بالحفظ، وقال عن الحفظ: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فإن من حفظ كتاباً، فإن هذا الكتاب إن شاء الله سوف يهديه إلى الدعوة، وليس معنى ذلك أن نقول له: زدت نسخة في البلد، لا، فنحن لا ننطلق إلا من علم، ولا ندعو إلا إلى علم، ولا نصلح الدعوة إلا بعلم.

    من كان شيخه كتابه

    ما موقعنا من كلمة: "من شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه" وهي موجودة بين طلبة العلم وهذه الكلمة تحتاج إلى تفصيل، فإن بعض الناس يقبلونها على مطلقها، فعنده فتح الباري مطبوع محقق منقح مصفح مسطر، فلا يقرأ فيه، فإذا قلت له: لماذا لا تقرأ فيه؟ قال أخاف أن أقرأه وحدي فأضل سواء السبيل، حتى يأتيني شيخ فيجلس معي بعمامته، فأتربع بين يديه، فأجعل ركبتي إلى ركبتيه وأضع يدي على فخذيه، ثم أتعلم منه، لسبب "من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه".

    وشاب آخر كفر بهذه الكلمة، يقول: هذه الكلمة لا مصداقية لها، فأخذ من بداية الطريق يأخذ الأحاديث مباشرة، ويفتي الناس بها، ويضرب رأس هذا الحديث برأس هذا الحديث، ويوجه مسار الفتيا وتوجيه التشريع والتأصيل والتحقيق، ويقول: لا حاجة لعلوم النحو، واللغة وأصول الفقه.

    والواجب أن يفصل في هذه الكلمة، وقد سمعت من بعض أهل العلم تفصيلاً لها، فلا يوسوس فيها ولا تترك: فأما من كان عنده مبادئ علمية يستطيع أن يفهم بها الكتب، أو درس في مدارس فيستطيع أن يعرف العبارة فلا يقرأ في عبارة لا يجوز أنها يجوز فيضل، لكن عنده فهم وعنده حسن تلقٍ وتدبر، فإنا نقول له: باسم الله ابدأ واقرأ فتح الباري من أوله إلى آخره ودعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وترعى الشجر.

    أما أن نقول لك: اصبر حتى يأتيك شيخ، فلا يأتيك شيخٌ وقد لا ترى شيخاً في حياتك، فهل تحرم نفسك وعندك المبادئ والأسس والأساليب من هذه الكتب المقابلة على النسخ، المحققة المطبوعة المنقحة، من الذي عنده مبادئ ولا يفهم تفسير ابن كثير أو رياض الصالحين أو بلوغ المرام أو غيرها من الكتب؟

    فنقول لمن عنده فهم وتيقظ وقدر لا بأس به أو حد أدنى من العلم: ابدأ واقرأ بنفسك.

    أما آخر ليس عنده مبادئ ويخلط الغث بالسمين، والحابل بالنابل، ويركب الصعب والذلول، فنقول: رويدك، لا بد من أساس علمي ومنهجي، ولا بد من التلقي قبل أن تبدأ، فليعلم ذلك، وأظن أن هذا التفصيل علم، "من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه".

    والذي نلاحظه في الأوساط -وهي أصبحت كالظاهرة ونسأل الله أن يعافينا منها- ظاهرة الدعوة بلا علم، وظاهرة دعوة الناس إلى الصحوة بلا علم، والتقليل من شأن الحلقات العلمية والتلقي عن العلماء والتأصيل العلمي، وتخريج الأحاديث وتحقيق المسائل، وهذه ظاهرة خطيرة، والجهل سوف يودي بهذه الصحوة إلى ما لا يحمد عقباه، لأن صحوة لا ترتسم على قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام ليست بصحوة، ولذلك قد يوجد في أهل الصحوة من ترى عليه ملامح الاستقامة ولكنه ليس فيه توقد، وليس فيه روح، وليس فيه مدد وغذاء للصحوة الذي هو العلم النافع والعمل الصالح،قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، فهذا هو الذي أرسل به صلى الله عليه وسلم.

    الإفتاء بغير علم

    ظاهرة الفتيا بلا علم ظاهرة خطيرة، فإن الدعوة شيء والفتوى شيء آخر، يحق لك أن تكون واعظاً، متحدثاً، خطيباً، داعية، لكن لا يحق لك أن تكون مفتياً إلا إذا انطبقت عليك شروط الإفتاء، فالإفتاء شيء والوعظ شيء آخر، والوعظ لا يحجره أحد عليك، وسوف ترحب بك القلوب وتدعوا لك الألسنة، ويتقبل الله منك إذا أخلصت، وأما الفتيا فكأنك أوقفت نفسك تحت ضرب السيف، أو كأن السيف مسلول على رأسك، تخاف لأنك توقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116] فمن يفتي فهو كمن يوقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فهذه الفتيا شأنها صعب وعويص، وطالب العلم في الفتيا بين خطرين، بين خطر أن يكتم شيئاً علمه الله إياه، وبين أن يتحدث بشيء لا يعرفه، والوسط هو المطلوب: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فكتمان العلم أن تفهم المسألة وتعرفها كما ترى الشمس لا تعلمها، يقول لك أحد العوام: كيف كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام؟ فيحملك الورع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو لا أدري، هذا ورع مظلم، لأن جملة طلبة العلم يعرفون الوضوء.

    يسألك أحد الناس: كم أركان الإسلام؟ فتقول: الله أعلم، الفتيا صعبة كالسيف، وهل في هذا فتيا، هذا كتمان للعلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

    ويقابله فريق آخر يقول: لوقلت لا أدري في المجلس انكسر جاهي، وقال الناس: هذا لا يعرف، وتناقلوا عني في المجالس أني لا أعرف، وسقطت قيمتي في الناس، وما يعلم أن رفع قيمته قوله لا أدري في هذا الموقف، حتى يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عن ما لا أدري فقلت: لا أدري]]. ولذلك قال الله لرسوله في مواطن: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي [الأعراف:187] قل علمها عند ربي أما أنا فلا أعلم، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه قال: {تُبَّع ما أدري هل هو رسول أو ملك} حتى قال بعض الحفاظ، حفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أدري في ثلاثة أحاديث أو أربعة في علم الله.

    فلا أدري ترفعك إذا كنت لا تدري؛ فهي نصف العلم، ونصف الجهل، فبعض الناس -ونعوذ بالله أن نكون منهم- إذا سئل في مسألة والناس مزدحمون خاف أن يقول: لا أدري حتى ولو كانت من المسائل العويصة، ومن المسائل التي تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسرت فيها النصال على النصال، وركضت فيها الخيول، وكبت فيها السيول يقول: حكمها كذا وكذا، لأن لا أدري صعبة، وبعضهم يقول: فيها أقوال لأهل العلم، لأنه يجيب بمجموعة أجوبة ويقول: نسأل الله من فضله أن يصيب بعض الأجوبة، يعني تخميناً والله ذم الظن في القرآن فقال: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس:36]

    وقال حذيفة:[[ابدءوا بالعلم، فإنه اليقين قبل أن يأتي الظانون]] إذا علم هذا فإن الفتيا صعبة، ولكن الدعوة شيء آخر غير الفتيا.

    الدعوة إلى الله وطلب العلم

    مسألة التثبيط عن الدعوة أو التثبيط عن الجلوس لطلبة العلم، أو عن التدريس موجودة في الأوساط، وهذه سطرها وأملى صحفها الشيطان، يأتي إلى طالب العلم وقد أخذ حداً لا بأس به من العلم وفهم، وفتح الله عليه، فيريد أن يجلس لإخوانه وزملائه، وطلبة العلم في حيه، ليعلمهم الكتاب والسنة، فيأتيه الشيطان ويقول له: استح من الله، كيف تجلس؟ أأنت ابن باز أو ابن عثيمين تتصدر للناس، أما تستحي، من أنت حتى تجلس وتعلم الناس؟! فيقوم طالب العلم ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم إنك تعلم أني كنت أريد أن أحدث الناس، فقد تبت إلى الله من تحديث الناس، فيبقى الناس جهلة، وهذه خطط الماسونية، لأن الشيطان ماسوني، وهو مؤسس الماسونية، بل كل مبدأ هو الذي ألف الكتب له , وعنده -كما يقول بعض الدعاة- رسالة دكتوراه في علم النفس، فإذا رآك متجهاً في جانب أرصد لك منه، إن رآك تريد العبادة وأنت مجد في طلبها، قال: حياك الله وأهلاً وسهلاً بهذا العابد، الذي ما وجد في الجزيرة أعبد منه، وقال: لا تكتفي أنت بالنوافل، وما دام أن الله نصبك للعبادة فأكثر

    يقول ابن القيم: يحمل الشيطان بعض الناس على أن يتوضأ ويغترف أربع غرف -للعضو أربع مرات- فلايكفيه ثلاث مرات لأنه من طراز وصنف آخر.

    ويأتي إلى الداعية الذي يريد الدعوة، ويريد التكلم لينفع الله به في مستواه ويقول: حياك الله، أنت المفتي الأعظم، ومن يؤخرك عن الفتيا وهي سهلة وميسورة، ومن صعب عليك أمر الإفتاء، افت وتوكل على الله، والذي عقد رأس الحبال يحله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقحمه في الفتيا.

    ويأتي إلى الخامل المنكسر في بيته الذي حمله علمه فجلس به في بيته لا يبلغه للناس، قال: ما أورعك وما أزهدك! ما أشد تواضعك ما أحسنك! عليك أن تزيد خمولاً، وأن تنتقل من هذه القرية إلى البادية، لأنها تورث لك شهرة، وإن كان في المدينة أمره أن يخرج إلى القرية؛ لأن العلماء وطلبة العلم والدعاة خناجر مسمومة في نحر إبليس، وما ضرب إبليس بسيوف أشد من ضرب العلماء له، وعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، لأن العابد يصلي الضحى، فإذا انتهى تنفل للظهر، فإذا انتهى من الصيام أتى في قيام الليل، أما العالم فإنه يحي الأرواح، ويدمر الإلحاد والوثنية في الدنيا، ويقيم منائر الحق، فأنا أدعو نفسي وإياكم أن نجلس لإخواننا جلسات، وهذا أمر ميسور، حتى يقول أحد الأساتذة: نحن المسلمون ليس عندنا أسرار، مبادؤنا تعلن من على المنبر، نعلم الناس لا إله إلا الله والمسح على الخفين والتيمم والوضوء والحيض، وهل في هذا شيء، فهذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

    وفي سنن أبي داود أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع أهل الكوفة، فلما اجتمعوا عليه قال لهم: يا أيها الناس! انظروا إليَّ، فنظروا فقام وتوضأ، فلما انتهى قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.

    أبو الحسن علي بن أبي طالب يتوضأ ويقول للناس: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فهل عز علينا -يا طلبة العلم- أن ندعو الناس في القرى والضواحي، وأن نجلس بين أيديهم، ونتوضأ كما توضأ الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقول: هكذا توضأ الرسول عليه الصلاة والسلام، أليس بعلم , والله ربما يكون وضوءك مرة واحدة أمام هجرة من الهجر، أو قرية من القرى، خير من رسائل الدكتوراه التي أخذت أعمارنا في مقابلة نسخة دار الشروق بنسخة بولاق وتحقيق الحاشية، ثم خرجت الأمة إلى أحشى الحواشي، وبعد سنوات ينقل الإنسان برسالته الماجستير والدكتوراه إلى القبر، والأمة تعيش في الظلام الدامس، وأنا أعرف وأنتم تعرفون أن من هؤلاء العلماء، ومن أهل هذه رسائل من نفع الله به الإسلام، ورفع به قيمة الدين في كثير من الأماكن.

    ولا يعني هذا التهوين من شأنها لكن لا تكون مقصداً ولا تكون هي المبدأ ولا الحل، ولكن الظاهرة التي سمعنا ورأينا من بعض الناس، وعلمنا من هو أعلم منا.. التخاذل عن التعليم وتبليغ الدعوة، وعن الدعوة إلى الله عز وجل حتى تكدست المدن بطلبة العلم أهل التخصص، في الحديث ثلة من الثلل، وفي التفسير ثلة، وفي الفقه ثلة، في كل المستويات والتخصصات، ثم لا تدريس ولا تعليم، فكيف تحيا الأمة.

    هل الأمة تحيا بفكر؟

    يأتي شاب عمره ست عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، فينظِّر للأمة والشباب تنظِّيراً فكرياً تعبيرياً ويقول: هذه الصحوة وهذا العلم، وليس هذا بالعلم ولا بالصحوة، ولذلك استغل الساحة اليوم أهل الحداثة ممن أخذوا الأقلام وسخروها في هذا المنحنى، غروا الشباب بهذا الموكب، انظر كيف يبذلون لمبادئهم ولأغراضهم ولرموزهم ما لا يبذله الواحد من طلبة العلم، أو عشر معشار مايبذله، يسهر الليل يفكر ما هي الوسيلة التي يكتب بها في أدب الحداثة ويبلغه للناس، وعنده مركب وفي صدره شيء، والله أعلم بنواياه، أما ظاهره من قبله الرحمة، يريد تثقيف الناس وتعليم الناس، وباطنه من قبله العذاب.

    المقصود أن نعرف كيف يبذل هؤلاء مهجهم وأقلامهم، ويسيلون مداد أقلامهم في خدمة مبادئهم، ونحن إن لم نفعل لذلك نقول ذلك: يا أهل الحديث، ويا أهل التفسير، ويا أهل الفقه، ألا يكون لنا مجال في الساحة؟ ألا يكون لنا قلم يكتب؟ ألا يكون لنا متحدث يتحدث والأبواب والحمد لله ميسرة، والأمور مسهلة؟ بقي أن نجلس وأن نقول لطلبة العلم: قد جلسنا فتعالوا، ما عندنا أعطيناه لكم، وما ليس عندنا فلا نتكلفه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]

    إن علمنا بشيء قلنا: نعلم هذا، وإن جهلناه قلنا: الله أعلم.

    هذا ما في هذه العجالة وهذا ما أريد أن أقوله لكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته سلاماً كثيراً مباركاً.

    اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إن نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    مفهوم الجاهلية وكتابات محمد قطب وسيد قطب

    السؤال:ما مفهوم الجاهلية؟ وهل من قال: إن بعض المجتمعات جاهلية، هل معنى ذلك أنه يكفر بعض أفراد المجتمع، وما رأيكم فضيلة الشيخ في كتب سيد قطب ومحمد قطب؟

    الجواب: الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    وبعــد:

    فالجاهلية مفهوم أطلق في القرآن ثلاث مرات، وأطلقه رسوله صلى الله عليه وسلم ويقصد به المجتمع الكافر، فلنا أن نقول مثلاً: المجتمع الإمريكي مجتمع جاهلي، المجتمع الأوروبي مجتمع جاهلي، فتطلق الجاهلية على المجتمع الكافر، وتطلق على المجتمع الذي ماتعلم العلم أو ما فهم الرسالة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، أو قل فهمه فنقول: مجتمع فيه جاهلية ولا نقول مجتمع جاهلي، ويطلق على الشخص الواحد الذي فيه شعبة من شعب الجاهلية نقول: فيك جاهلية، كما أطلقه صلى الله عليه وسلم في الصحيح على أبي ذر لما سب أحد الصحابة، فقال: {يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية}.

    فالجاهلية تطلق على هذه الأمور: على المجتمع الكافر إطلاقاً عاماً لا تقيد فيه، فكل مجتمع جاهلي بلا شك ولو بلغ في العلم المادي النجوم، قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] ويطلق على المجتمع الذي مارسخ في العلم وما تفقه كثيراً، ونقول: فيه جاهلية، وفيه جهل، ويطلق كذلك على الفرد الذي ما تنورت بصيرته بالعلم، أو فيه شعبة من شعب الجاهلية.

    وهذه المصطلحات استخدمها كثير من الكتاب الفضلاء، من ذلك الأستاذ محمد قطب في جاهلية القرن العشرين، وله فيها كلام.

    أما كتب سيد قطب، وكتب محمد قطب فنسأل الله أن يثيبهما بما كتبا، ويظهر الصدق فيهما، فإنهما أرادا الخير إن شاء الله، وأرادا ما عند الله، وقد سدا جانب الفكر، أو ثغرة من ثغور الفكر التي ما تسد إلا بهذا السلاح، لأن الله يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] لأن هناك قوة الأدب، وقوة الفكر، وقوة العلم بالدليل، فهؤلاء ردوا على أهل التربية، أهل علم النفس، أهل الفكر الغربي.

    وأما أن بعض المسائل تكلم عنها بعض طلبة العلم فينبه إليها، وليس هذا مجال تفصيلها ولا بسطها، كبعض المسائل في الظلال فالقارئ للظلال لا يأخذ منه دليل ولا تأصيل علمي وإنما يأخذ مقصد صاحبه، لأن صاحبه يقصد أن يقرب القرآن من الواقع أو ظلال أو نسمات أو خطرات خطرت له وعنّت أثناء قراءته للقرآن، فهو يتحدث عن ربط الواقع بالقرآن، وأما من أراد معاني القرآن أو تفسير القرآن، فمجالها كـتفسير ابن كثير وغيره من أهل العلم ولا يطول في هذا لأن لها مجيبون وهي مفهومة إن شاء الله.

    حكم إعطاء المرأة الزكاة لزوجها

    السؤال: هل يجوز للمرأة أن تعطي كل زكاتها لزوجها إن كان مستحقاً لذلك ومديوناً، أم تعطيه جزءاً منها؟

    الجواب: الذي أريد أن أؤكده في هذه الجلسة أني ما جلست مفتياً، ويعلم الله أن ليس في قلبي أن أفتي في المسائل، وقد أخبرت الأخ أن للفتيا رجالها وعلماءها المتخصوصون فيها؛ لأن هناك من هو أعلم وأفهم وأفقه في الدين فهم أهل فتيا، ولكن جلست أعظ وأتكلم فالوعظ شيء، والدعوة شيء، والفتيا شيء آخر، لكن هذا السؤال كأني أعرفه والله أعلم، هذا قال عنه أهل العلم: يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها إن كان محتاجاً وهذا الرأي الصحيح، ولو أن في المسألة خلافاً؛ لكن الرأي الصحيح وهو الذي عليه كثير من العلماء ومنهم الأحناف واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود الصحيح: أن زوجته زينب أرادت أن تزكي شيئاً من حليها، فقال ابن مسعود لها: أنا وولدك خير من تصدقتي عليه، فقالت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهبي فاسأليه، فذهبت بنفسها فطرقت عليه الباب وكان يحجبه بلال فقالت استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى الرسول فاستأذن، قال: زينب تسألك يا رسول الله قال: {أي الزيانب؟} -لأن الزيانب سبع أوثمان- قال: امرأة ابن مسعود، فأدخلها -وفي رواية أنه أفتى بلالاً وبلال أخبرها- فعرضت عليه السؤال: فقال: نعم صدق ابن مسعود، صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليه، وقال بعض أهل العلم أو بعض طلبة العلم: يخرج من هذا الحديث خمسين فائدة، منها أن الفتيا تنقل بالتنواب في هذه المسألة، وأن هذا يشمل الصدقة والزكاة فتدفع إلى الزوج المحتاج.

    واجب المرأة الداعية

    السؤال: ما الواجب على المرأة إذا كانت تريد أن تدعو الناس إلى الإسلام؟

    الجواب: يجب على المرأة إذا كانت تريد أن تدعو إلى الإسلام أمور.

    أولاً: أن تخلص قصدها لوجه الله.

    ثانياً: أن تتعلم العلم الشرعي.

    ثالثاً: أن تعرف مجال تخصصها الذي تدعو إليه، لا تخطب الجمعة، لا تحاضر بالمساجد، ولا تتصل بالرجال بالتلفون وتخبرهم بالدعوة وضرورة الصلاة جماعة، بل تخبر بني جنسها: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [الأعراف:160] فمشربها بني جنسها، وبنات عمها وخالها وقريباتها من الذين يفهمون كلامها، فعليها أن تجيد هذا التخصص ولا تتعداه إلى غيره، ولا تقول في ذهنها: أنا سوف أدعو الرجال، لا. إنما تدعو النساء وأحسن الله مثوبتها إذا أحسنت بدعوة النساء.

    حكم تطبيق النظريات العلمية على القرآن الكريم

    السؤال: ما حكم تطبيق النظريات العلمية على القرآن الكريم، أي بمعنى: كلما اكتشفت نظرية بحث عنها في القرآن من أجل التأكد من ذلك؟

    الجواب: مسألة البحث في القرآن عن النظريات العلمية جيد من حيث هو، وهو من ضمن ما طلب الله من التفقه في كتابه والاستنباط، لكن قضية أن يخضع القرآن لكل نظرية جدت في الساحة، هذا طريق موصل إلى تخطئة القرآن الكريم، فإنها قد تستنبط نظرية، فيقال انظروا كيف قال القرآن لقد وافق النظرية على هذه، وبعد خمسين سنة أو مائة سنة يظهر للباحثين أن هذه النظرية خطأ، فيعود باللوم إلى القرآن.

    القرآن أصل ثابت، وصدق وحق لا ريبة فيه، وقبل أن أستطرد في ذكر هذا الحديث، أريد أن أذكر لكم أصلاً وهو: أن القرآن كتاب نزل للهداية، يقول: سيد قطب: القرآن كتاب هداية.

    لأن بعض المفسرين ظن أن القرآن كتاب تاريخ، يقول أبو الأعلى المودودي: قبل أن تقرأ القرآن ينبغي عليك أن تنزع من ذهنك كل تصور سابق عن القرآن، فالقرآن ليس بكتاب تاريخ ما حدثك متى ولد فرعون ومتى توفي، ومتى وقعت المبارزة بينه وبين موسى والعصا، ومتى أغرقه الله في البحر، لأنها أمور تاريخية، والقرآن ليس كتاب جغرافيا يتحدث عن الجبال والتضاريس والمدن وأهم المنتجات والصادرات والواردات، وليس بكتاب هندسة، والعجيب أن بعض الكاتبين له تفسير في هذا -وليس كل من أراد الخير وفق له- إلى أن أخذ نظريات هندسة من القرآن، قال: ويستفاد من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أن أقرب خط بين نقطتين الخط المستقيم، ما شاء الله تبارك الله، وقال في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] فيه دليل على أن المثلث زواياه منفرجة، حتى يُظهر للناس أن القرآن حوى العلوم، وأنه أتى بالطب والهندسة والفلك، والقرآن ما أتى إلا كتاب هداية يقود الناس إلى الله رب العالمين، فإذا علم هذا فالخطورة أن يخضع القرآن دائماً لكل نظرية، وأنه إذا سمع بشيء قالوا في القرآن.

    حتى يقولون: محمد عبده الأستاذ المصري -صاحب التفسير- حين ركب في سفينة إلى باريس يريد فرنسا، فلما ركب في السفينة معه خواجة مستشرق يقرأ القرآن، قال المستشرق يا محمد عبده يقول الله في كتابكم: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] فأين ذكر هذه السفينة في كتابكم؟ واسم السفينة كوك، قال: يقول سبحانه: وَتَرَكُوكَ قَائِماً [الجمعة:11] فهذا تكليف للنص، ولا يريد محمد عبده أنه يضحك عليه، لأنه ليس المقصود من: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] أن يؤتى بالحشرات والحيوانات والبهائم في القرآن ولذلك بعض الناس إذا ما أردت أن تخبره بحكم الدخان، قال ائتني بحكم الدخان من القرآن، ما ذكر الله في القرآن الدخان أو الشيشة أو القات أو هذه الأمور، فهو يريد أن يأتي القرآن بكل اسم، بالميراندا والبيبسي والشاي والقهوة والموز والتفاح، وغير هذه الأمور، لكن القرآن قواعد كلية، كل آية قاعدة كلية تندرج تحتها ملايين القضايا، يقول الله عز وجل: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] فدخل في الطيبات مليون طيبة، ودخل في الخبائث مليون خبيثة، فهذه وجهة نظري في هذا السؤال.

    قراءة كتب المتأخرين وترك كتب السلف

    السؤال: نرى كثيراً من الشباب في هذا الزمان ينشغلون بقراءة كتب المتأخرين، ويتركون قراءة كتب السلف، فهل هم في فعلهم هذا مصيبون أم لا؟

    الجواب: قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] والأحسن الجمع بين القديم والحديث، بين السلف والخلف، هم يقولون في كتب التوحيد: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فقال: الأول من العلماء بل طريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم، وطريقة الخلف أظلم وأجهل وأغشم، أوردت هذا للفائدة، لكن السؤال يقول: إنهم يتخصصون في الكتب الفكرية.

    أقول: ليس هذا بعلم، الذي يبقى على الكتب الفكرية هي كتب واقع تتحدث عن مجريات الحياة، أو ما تلابسه في المجتمع، أو ماتراه في الشارع، الكتاب الكامل يتحدث عن المرأة، وكيف فعلت وكيف صنعت، وأنت تراها صباح مساء، وهذا ليس بعلم، والعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يدور حولها، وبعض الناس قد يأتي به الحال إلى أن يغلق على نفسه معرفة الواقع، فلا يقرأ كتاباً، ولا جريدة ولا صحيفة، ولا مجلة، ولا يدري أين يعيش الناس، وهو يعيش في القرن الثاني، وللقرن الثاني أحداث ووقائع غير الأحداث التي هنا، وأبو بكر عندما تولى الخلافة، عاش أحداثاً غير التي عاشها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن خطب يوم الجمعة ما كانت نفس الخطب التي تكلم بها صلى الله عليه وسلم، فأعلن الحرب على أهل الردة وندد بهم وشجب فعلهم، وأتى بالأمور التي أحوجتهم إلى الارتداد عن الإسلام، وحل القضية، وعمر بن الخطاب لما خطب تكلم عن الفتوح يوم الجمعة وعن القضايا التي في عصره، وعثمان وعلي كذلك، فالمسألة أن نأخذ علم السلف ونكثر منه، وأن نعرف الواقع الذي نعيش فيه.

    ونقلت لي كلمة ما رأيتها وما قرأتها لكن نقلها لي ثقة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في بعض كتبه: "أما الخير فلا بد أن تحويه، وأما الشر فيكفيك أن تعرف منه شيئاً بسيطاً"، وهذا هو الصحيح، فالله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] فيقول: نخبرك بالواقع حتى تكون على تثبت، لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام عاش في الأربعين سنة في غير الجاهلية لأتى إلى مجتمع لا يعرفه، ولا يعيشه ولا يلابسه، ولكن أحياه الله في هذا المجتمع فعرف الواقع، فأنا أدعو إلى علم السلف بكثافة، وإلى معرفة الواقع بالكتب والوسائل العلمية.

    حكم تعدد الزوجات

    السؤال: سمعت أن الأصل في الزواج هو تعدد الزوجات، إن كان هذا صحيحاً فهل لي من أجر إذا سعيت إلى تزويج زوجي، وما قدر هذا الأجر هل هو عظيم؟

    الجواب: أنا أخاف أن تدعو عليّ هذه المرأة الصالحة إذا قلت: أن الأصل التعدد، وربما يكون حيلة منها حتى تستدرجني، وأنا لست بمستدرج إن شاء الله، سمعت بعض أهل العلم يقول: الأصل التعدد، ولكن الذي يميل إليه قلبي من أجل هذا السؤال أن الأصل الواحدة، لأن الله بدأ بها، وأظن أن (80%) من الأمة المحمدية على واحدة، والتعدد يأتي لضرورات، ويأتي لنسبيات.

    فالذي يظهر لاينبغي علينا أن نقف للناس واعظين نقول: عددوا وتزوجوا وأكثروا، لأن لكل إنسان ظروف وملابسات واحتياطات، تقول لإنسان يصدقك وعنده علم بسيط، عليك بالتعدد، فيتزوج أربعاً لا ماله ولا جسمه ولا بيته يكفيه، ثم يضيع ويضيع الأربع، لكن أترك هذه المسألة كما تركها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه عدد، وما أتى يوم الجمعة فقال: يا أيها الناس عليكم بالتعداد، هذا متروك لأن ظروف الإنسان تحكمه.

    أما السائلة: فإن علمتي في زوجك الحاجة ,وأنه يريد ذلك فأسأل الله أن يأجرك بنيتك في إراحته بهذا الأمر وتسهيل السبيل، لأن بعض النساء إذا عدد زوجها عليها قامت حربها العالمية الثالثة، ولا تبقى في بيت زوجها وتدعو عليه في السجود وفي الركوع وفي التراويح، ولو قدرت لقتلته، وهذا خطأ فاحش وجهل، بل الله عز وجل ذكر ذلك، وهذا من السنة التي أوردها في الدنيا، وهي لفوائد عظيمة قد يكون من الحسن لك أن يتعدد عليك، هذا ما عندي والله أعلم.

    دليل المسح على الوجه في الدعاء في غير الصلاة

    السؤال: قد ذكرتم في أحد دروسكم أو محاضراتكم أن أحد أسباب الاستجابة للدعاء المسح على الوجه في غير الصلاة، فما دليلكم؟

    الجواب: الله يحيك وأهلا وسهلاً، هذا السؤال بارك الله فيك تكلم فيه بعض أهل العلم، ومسح الوجه في غير الصلاة أتت به أحاديث ضعيفة، خلاصة القول قبل أن أدلل أذكر كلمة لـابن تيمية فيقول: أما داخل الصلاة فلا يمسح، وأما خارج الصلاة فيسمح تارة ويترك تارة، وابن حجر يرى الحديث بمجموع طرقه حسن، ولحديث عمر رضي الله عنه في الترمذي {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما دعا إلا مسح على وجهه بيديه} هذا ضعيف من هذه الطرق، لكن اجتمعت له طرق وظهر بها أن مسح الوجه في خارج الصلاة كأن له أصلاً.

    والذي يظهر والله أعلم بعد أن رأيت طرق الحديث أن الحديث حسن، وأن للمسلم أن يمسح تارة خارج الصلاة لوجود هذا الحديث، وتارة يترك لأنه ما ثبت الحديث ثبوتاً عاماً، وإلا فالحديث له أصل وأتى من طرق، وبعض أهل العلم استنبط من مسح الوجه التفاؤل بأن الله أنزل الرحمة في كف العبد فمسح بها وجهه.

    وعند الترمذي من حديث سلمان بسند حسن: {إن الله يستحي من أحدكم إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} فالمسح خارج الصلاة إذا دعوت لا بأس به تارة وأن تتركه تارة أحسن، لأنك إذا داومت عليه لكان سنة، وإن فعلته مرة فهذا دليل الجواز لذاك الحديث.

    حكم الأشاعرة

    السؤال: هل يعد الأشاعرة من أهل السنة والجماعة مع أن من بينهم علماء مشهورين كـابن حجر والنووي رحمهم الله؟

    الجواب: هذا الحديث مستفيض ويحتاج إلى تدليل وتجزئة وبسط كثير، وهناك رسالة للشيخ سفر الحوالي جيدة من أحسن ما كتب، والذي يظهر والله أعلم أن الأشاعرة قسمان: أشاعرة علم الكلام والمنطق، وهؤلاء قدموا العقل على النقل، وأتى ابن تيمية بيوتهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم في كتاب درء تعارض العقل والنقل، فهو قنبلة ذرية حتى يقول: ابن القيم ماطرق العالم مثل هذا الكتاب، فأساس هذا الكتاب الرد على الرازي لما قال: "إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي: فإما أن نقدم النقلي، وإما أن نقدم العقلي، وإما أن نجمع بينهما، وإما أن نسقطهما" فأخذه ابن تيمية بتلابيب ثوبه، وأقره في عشرة مجلدات، فهؤلاء الأشاعرة من أهل المنطق قدموا العقل على النقل وأخطأوا خطأ بيناً، وضلوا ضلالاً معروفاً.

    وأشاعرة المحدثين أو الذين على الأثر مقصودهم التنزيه وهم أحسن حالاً، وتجد لمحات في بعض كتبهم، كـفتح الباري وكـشرح النووي على صحيح مسلم، وهؤلاء لا يخرجون من أهل السنة، لكن يكون موقف أهل السنة والجماعة من الصفات غير موقف هؤلاء، لأن فيهم بدعة.

    أما عموم أهل السنة فإنهم يدخلون في أنهم يريدون الخير، ولأن لهم أصولاً يجتمعون مع أهل السنة فيها، فالذي يظهر أنه إذا سمي منهج السنة في الصفات لا يدخل فيها الأشاعرة، وإذا سمي مطلق أهل السنة فإنهم يدخلون فيها، هذا ما توصلت إليه، وما أراه في هذه المسألة وأشده خطراً هم أهل المنطق من الأشاعرة، مثل الرازي وقريب منه صاحب الإحياء حجة الإسلام الغزالي وغيره، حتى ولو أن في بعضهم خيراً.

    لكن أخف الطوائف على الإسلام الأشاعرة، وأثقلهم الجهمية والرافضة، وكان ابن تيمية يخالف الأشاعرة تماماً، والسبب في سجن ابن تيمية في مصر والإسكندرية الأشاعرة، هم الذين سجنوه لأنه خالفهم في هذه المسائل، ولكنه أثنى عليهم في بعض المواطن في المجلد الرابع، ذكر أن بعضهم خير من ابن حزم الظاهري في المحلى صاحب الصفات، هذا الذي عندي، وأنا أحيلكم إلى هذا الكتاب، وإلى غيره مثل المجلد الرابع لـابن تيمية، وكل كتب ابن تيمية التي تتحدث عن هذه المسألة.

    إطلاق مسمى الصحوة على الوقت الحاضر

    السؤال: مارأيك في إطلاق مسمى الصحوة الآن في وقتنا الحاضر مع العلم أن مسمى الصحوة أو مفهومها بأن يكون الإسلام مطبقاً في جميع المجالات؟

    الجواب: الصحوة سميت مصطلح بين الناس، ولا مشاحة في المصطلحات فإن لكل عصر مصطلحاً، وله أن يؤخذ إذا كان فيه خير ولم يتعارض مع مصطلحات الكتاب والسنة، فمثلاً: لفظ "العقيدة" ما ورد عند السلف الصالح ولا في الكتاب ولا السنة أن العقيدة بمعنى التوحيد، وإنما ورد: بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة:89] لكن العقيدة اصطلح عليها فأخذ، مثل اطلاق الحال على حال الإنسان، والمقام على مقامه في علم القلوب، فلا مشاحة في المصطلح، فتسمية الصحوة لا بأس بها.

    أما ما يعني الأخ أن لا نسميها صحوة حتى يستيقظ الناس جميعاً ويكون الناس متجهين إلى الله مطلقاً، ولا يكون فيهم متخلف فهذا ليس بحاصل حتى في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] فالقليل دائماً هو الخير، ولذلك ذكر عن عمر أنه نزل إلى السوق فسمع أعرابياً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال ثكلتك أمك ما هذا الدعاء، قال: دعاء دعوت به، يقول الله عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] فقلت: اجعلني من عبادك القليل، قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر، فعلم أن القلة دائماً هي الموجهة، فأما أن نتحرى حتى ينطبق جميع الناس على الهداية فلا يتحصل، المنافقون وجدوا في عصره صلى الله عليه وسلم، واليهودية والنصرانية والمشركون حتى تجد سورة البقرة كلها نسف وإبادة لبني إسرائيل، إذا سمعت سورة البقرة في التراويح: يا بني إسرائيل! يا بني إسرائيل! لأنها تصفيهم لأنهم وجدوا في عصره صلى الله عليه وسلم، ثم تجد المنافقين، ثم المشركين، ثم اليهود، ثم النصارى أهل الكتاب، فلا بأس أن يطلق صحوة لأنه وجد أناس يقومون بالصحوة.

    الخوف من الناس في نشر الدعوة

    السؤال: شاب هداه الله ولكن يخاف الناس ولا يدعو إلى الله إلا في نطاق محدود، ما رأيكم؟

    الجواب: لا يطلب من الناس أن يكونوا كلهم خطباء ولا كلهم متكلمون لأنها واجهات، والإنسان يعرف تخصصه، الصحابة رضوان الله عليهم نصروا الإسلام بتخصصاتهم أبي بن كعب، أبو المنذر الذي قال له عليه الصلاة والسلام: {أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا الله الحي القيوم، فضرب في صدره صلى الله عليه وسلم وقال ليهنك العلم أبا المنذر} ما هي الواجهة التي شغلها هذا وسدها ونفع فيها؟ القراءة، ولذلك قال النبي: {أقرأكم أبي} فـأبي من هذا الجانب، ومن جانب الجهاد خالد بن الوليد، ومن جانب الأدب والشعر حسان، ومن جانب الفرائض زيد بن ثابت، ومن الفتيا معاذ بن جبل، والإدارة أبو بكر وعمر، والزهد أبو ذر وأبو الدرداء، فأنت تعرف تخصصك، قد لا يكون خلقك الله خطيباً، وإنما خلقك كاتباً، صحفياً، فاكتب في الصحافة بما ينفع الإسلام، خلقك الله سبحانه شاعراً مجيداً فأرسل القوافي الحارة على رءوس المشركين وكسر رءوسهم والأجر على الله، خلقك مفتياً فعليك أن تتعلم الفتوى وتفتي الناس، خلقك الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى زاهداً عابداً، فكن زاهداً عابداً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ [البقرة:60].

    رفض الكتب العصرية

    السؤال: ما رأيك يا شيخ في كتابات العصريين والكتب العصرية عموماً إذ البعض ينبذها تماماً ويبرر رفضه بأنها عالة على كتب السلف؟

    الجواب: الكتب العصرية فيها الثوم والبصل والقثاء، وفيها الميتة والدم ولحم الخنزير، والمتردية النطيحة، فلا يوجد حكم عام فيها، ففيها من أراد بعلمه وجه الله عز وجل فهذه تقرأ، ومن أحسن ما يقرأ من كتب هذا العصر الكتب التي نهجت المنهج السليم في العلم وأظن حصرها شاق وفيه صعوبة، لكن من أحسن ما كتب أبو الأعلى المودودي، أبو الحسن الندوي، سيد قطب، محمد قطب، مع كتب علمائنا في هذا العصر مثل الشيخ حمود التويجري، الشيخ الفوزان، الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ ابن عثيمين، لأن هؤلاء ينهجون منهج الدليل، وهؤلاء يؤصلون مسائل الفكر أو الواقع، هذا من أحسن ما كتب، أما بعض الكتب لا حياها الله ولا بياها، لا تسوى الحبر الذي كتبت به، وإنما كتبت أظن للدنيا، ولا نفع الله بها، مكتوب عليها حقوق الطبع محفوظة، فلا حفظت ولا استفيد منها، فهي مشغلة ومضيعة للوقت، ولو تركتها ما عليك منها شيء لا تزيد ولا تنقص.

    ويقضى الأمر حين تغيب تيم      ولا يستشهدون وهم شهود

    الأولى بالوقت الدعوة أو العلم

    السؤال: ما رأي فضيلتكم: هل الأولى أن يقدم الإنسان طلب العلم أو الدعوة إلى الله، وإن كان لا بد من الاثنين معاً فأيهما الأولى في إعطاء الوقت الأكثر من حياة الشاب العامة؟

    الجواب: أولاً: يبدأ بالعلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] قال البخاري فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فإذا أصبح عنده حد أدنى يستطيع أن يتفاهم مع الناس فيه، لا نقول يكون كـابن حجر في الحديث، ولا كـالسبكي في أصول الفقه ولا ابن قدامة في الفقه، لكن يكون عنده حد أدنى يتفاهم به مع الناس، ثم يتزود وليكن كثير الوقت لطلب العلم فإنه جهاد، وليكن له وقت في تبليغ هذا العلم للناس، فقضية أن يدعو الناس بلا علم فلا يصح هذا، لأنهم سيثقون به وبعد فترة سينقطع، يبحثون عنه فيجدون أنه ليس عنده علم فيتفرقون، وإن جلس للعلم وترك الدعوة فسوف يحاسبه الله على هذا الكنز الذي تحمله.

    أرجوزة أمريكا التي رأيت

    السؤال: هناك سؤال شخصي لفضيلة الشيخ: نريد من الشيخ الكريم أرجوزته التي قالها في أمريكا؟

    الجواب: ما أدري هل يناسب المسجد أم لا، إن كان يناسب المسجد ألقينا أرجوزة وهي هزلية فيها شيء من المزح! والسكوت علامة الرضا.

    هذه أرجوزة في أمريكا في مؤتمر للشباب العربي المسلم العاشر في أكلاهوما في الشمال هناك، نسأل الله أن ينفع من دعا لوجه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يثبتنا وإياكم وأن يوصل الإسلام إلى تلك البلاد.

    وهناك قصيدة: (أمريكا التي رأيت) جدية، وقضيدة هزلية اسمها: نشرة الأخبار، أما أمريكا التي رأيت، فلا بأس أن آخذ بعض الأبيات، لأنها أقصد بالدال وهي الأولى أن يُسأل عنها، لأن فيها بعض الأمور التي ينبغي للمسلم أن يتفطن إليها، وهي تخاطب الأمة الإسلامية.

    يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل

    وتوقف التاريخ في     خطواتها قبل الرحيل

    سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل

    وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل

    يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء

    رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء

    لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء

    لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء

    يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال

    وهي البريئة خدرهـا فيض عميم من جلال

    شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال

    موتاً أتاتورك الدعـي كموت تيتو أو جمال

    يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد

    كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد

    القاتلي الإنسان خابوا      ما لهم إلا الرماد

    جثث البرايا منهم      في كل رابية وواد

    ما زرت أمريكا فليست في الورى أهل المزار

    بل جئت أنظر كيف ند      خل بالكتائب والشعار

    لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار

    وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار

    ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام

    قد زادني مرأى الضلال هوىً إلى البيت الحرام

    وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام

    ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام

    وهي قصيدة فيها بعض الأبيات نسيتها، أما أرجوزة "نشرة الأخبار" فهي فيها دعابة، ولا بأس أن تذكر تمليحاً في المجلس، لأنه ذكر العراقي في منظومته، قال:

    واستحسنوا الإنشاد في الأواخر

    يعني أنه في أواخر المجلس استحسن أهل العلم أنه تنشد الأشعار، وقال ابن عباس كما ثبت عنه: حمضوا لنا، أي: أعطونا في آخر المجلس فكاهات ودعابات، أما نشرة الأخبار فهي

    يقول عائض هو القرني      أحمد ربي وهو لي ولي

    مصليا على رسول الله      مذكراً بالله كل لاهي

    قد جئت من أبها صباحاً باكر ا      مشاركاً لحفلكم وشاكراً

    وحملتنا في السما طيارة      تطفح تارة وتهوي تارة

    قائدها أظنه أمريكي      تراه في هيئته كالديك

    يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا

    وهذه أخبار هذى النشرة      مسافة السير ثلاثة عشرة

    من الرياض عفشنا ربطنا      وفي نيويورك ضحى هبطنا

    أنزلنا في سرعة وحطنا      وقد قصدنا بعدها واشنطنا

    ثم ركبنا بعدها سيارة      مستقبلين جهة السفارة

    منـزلنا في القصر أعني ريديسون     يا كم لقينا من قبيح وحسن

    ومعنا في صحبنا العجلان      أكرم به مع العلا جذلان

    وصالح المنصور من بريدة      يشبه سعداً وأبا عبيدة

    وقد صحبت شيخنا السدحانا      أصبحت في صحبته فرحانا

    وقد صحبت فالح الصغير      في الدين والأخلاق ما تغير

    ومعنا عبد العزيز الغامدي      ابن عزيز صاحب المحامد

    إلى أن أقول:

    وصالح الخزيم والوقور      وسعيه في بذله مشكور

    والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش

    فهو أبونا في مقام الترجمة      لأننا صرنا صخوراً معجمة

    في بلد أفكاره منكوسة      تثقله بصائر مطموسة

    يقدسون الكلب والخنزيرا      ويبصرون غيرهم حقيرا

    ما عرفوا الله بطرف ساعة      وما أعدوا لقيام الساعة

    فهم هناك كشويهات الغنم      جد وهزل وضياع ونغم

    فواحش قد أظلمت منها السما      والأرض منها أوشكت أن تقصما

    من دمر العمال في بولندا      ومن أتى بالرق من يوغندا

    من دمر البيوت في نزاكي      من ضرب اليونان بالأتراك

    من الذي ناصر إسرائيلا      حتى تصب عنفها الوبيلا

    استيقظوا بالجد يوم نمنا      وبلغوا الفضاء يوم قمنا

    منهم أخذنا العود والسجارة      وما عرفنا ننتج السيارة

    إلى أن أقول:

    وهل أتاك إذ حضرنا الرابطة      كم ضم من ساقطة ولاقطة

    من عالم وفاهم وشاعر      وأحمق ونابه وقاصر

    به كرام ومفكرونا      والباذلون الخير مشكورونا

    وكل من يعمل للإسلام      أخٌ ولا عبرة بالأسامي

    جيل إذا لم يعبد الله الصمد     ولم يردد قل هو الله أحد

    لا عرف النصر ولا لن يعرفه      اضحك له وغطه بالمنشفة

    الحداثة وضررها على الإسلام والمسلمين

    السؤال: كثر الكلام حول شعر الحداثة، وخاصة في الأسبوعين الماضين بخاصة في المهرجان الشعبي الذي عقد في الرياض، وكثير من الإخوة يسأل عن مفهوم الحداثة؟ وما ضررها على المسلمين وعلى الإسلام؟

    الجواب: أنا ما أدري ماهو المفهوم الذي يريد أن يصل إليه أهل الحداثة، يقولون: يريد الشعر الحديث الذي لا يتقيد بالوزن ولا بالقافية، ولا بالروي، لكن هذا ظاهر كلامهم والباطن كأنهم يريدون أن يهدموا كل ما سبق من الرسالة الخالدة والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعضهم يريد ذلك، ولذلك يقول بعض الأدباء: أهل الحداثة ثلاثة أقسام -ولكن ما أسكر كثيره فقليله حرام- منهم قسم ما درى ما الحداثة وإنما ركب الموجة، رأى الناس يسيرون هكذا فأخذ حقيبته وتوجه، وذهب به السيل أيما مذهب فهو لا يدري وهو على نيته.

    وقسم آخر يرى أنها أدب لا تتعلق بها مضرة للدين، فهو مقتنع بهذا، فهو يكتب باقتناع ويريد أن يأتي بهذا المبدأ وهو عدم التقيد بالبحر والروي والقافية فهو يكتب من هذا الجانب.

    وقسم آخر ضال له نوايا نسأل الله أن يكشف نواياه وأن يجازيه بما فعل، فإن ماركس ولينين واستالين ركبوا موجة الاقتصاد قبل فترة ليورثوا الناس الإلحاد، فلما خبت هذه النار ركبوا الحداثة، فتجد أساتذتهم وكبارهم في العالم -وهذه موجودة بوثائق، ولعلّ بعضكم رأى أو سمع هذه الوثائق وهو ليس كلاماً هراء- ركبوا هذه الموجة ليضروا الإسلام، وأهل الإسلام وأهل الدعوة وأهل العلم، فهذا قسم ثالث:

    وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ     بصاحبك الذي لا تصحبينا

    هذا ما شئت فأنزل مفهوم الحداثة على الأقسام الثلاثة، وأنت ستعرف إذا أنزلت هذا المفهوم.

    حكم الدعوة بالأناشيد والتمثيليات

    السؤال: ما حكم الدعوة بالأناشيد والتمثيليات الإسلامية، حيث نحن في هذا الموضوع تائهون ولا نعرف موقع المسلم منها من حيث جوازها أو عدم جوازها؟

    الجواب: الأمر الأول: النشيد الإسلامي أصبح وسيلة من وسائل الدعوة، لكن لا بأس به بثلاثة شروط إن شاء الله:-

    الأول: أن لا يكون الشعر المنشود به غزلاً ولا مجوناً أو فحشاً، بل يكون شعراً مستقيماً، شعر دعوة، يدعو الناس إلى طاعة الله، وإلى التقوى والزهد.

    الثاني: أن لا يصاحبه آلة لهو: لا طبل، ولا دف، ولا مزمار، ولا موسيقى، فإنه لا يجوز أن يصاحبه آلة من آلة الموسيقى فإنها محرمة.

    الثالث: أن لا يبالغ فيه حتى يصبح هو المقصود، فإن بعض الناس إذا ذهب إلى العمرة أنشد قبل أن يذهب وبعد أن يذهب، وإذا جلس وإذا وقف، وينشدون في الحافلة، وهذا ليس بمفهوم أن يأخذ أوقات الأدب والعلم والحوار العلمي.

    فلا بأس به بهذه الشروط الثلاثة، أما التمثيليات، فلا تجوز لأن فيها الكذب، وأكثر ما رؤي من التمثيليات ومن وسائلها الكذب، وهذا حرام حتى في التمثيليات، والأمر المحرم تمثيل شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم، أو تمثيل أشياء من الدين فإن هذا حرام، بعض الناس يقوم يمثل في المسرح فيصلي بغير وضوء إلى غير القبلة، ويستهزيء بركوعه وسجوده، فهذا حرام: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]

    فلا يجوز أن يستهزأ كذلك بالمقرئين، فبعضهم يأخذ المصحف وهو ليس متوضئاً ويقرأ في المسرح، ويرفع صوته، ثم يكسر القرآن، ويغلط ليضحك الناس، فهذا حرام.

    الأمر الثاني: الشعائر التعبدية يحرم، أما غيرها إذا خلى من الكذب فله ذلك، مثل أن يجتمع شباب ويقولون: تفرق الشباب، وذهبوا وضيعوا أوقاتهم وأهملوا في واجباتهم، فيمثلون هذا الذي يفيد المجتمع بدون استهزاء لا بالشعائر ولا بـالسلف الصالح، وبدون الكذب، هذا ما يحضرني فيه.

    حكم نظر المرأة إلى الرجل في التلفاز

    السؤال: ما حكم رؤية المرأة للرجل ومشاهدته في التلفاز؟

    الجواب: رؤية المرأة للرجل مباح من الأصل، لكنها تحرم لأمور: كأن يكون هناك شهوة أوشبهة، أو تهمة أو ريبة فإنه يحرم نظر المرأة إلى الرجل، أما في الأصل فهو مباح لأدلة حسية ولدليلين نقليين: -

    الدليل الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لـفاطمة بنت قيس: {اذهبي إلى ابن أم مكتوم -وهو حديث صحيح- وهو رجل أعمى تضعين عنده ثيابك لأنه لا يراك وأنت ترينه} فالمرأة في الأصل تنظر إليه، هذا دليل.

    الدليل الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك عائشة تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم، فلو كان نظرها لا يجوز لما تركها تنظر إليهم، وهي تقول في الرواية: {وأنا أنظر إليهم}.

    أما حديث: {أعمياوان أنتما} فهو حديث ضعيف كما حقق ذلك أهل العلم.

    والدليل الحسي: لو كان لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل لأمر الرجل أن يغطي وجهه ولاحتجبنا جميعاً عن النساء، فالأصل جواز نظر المرأة إلى الرجل، لكن إذا وجد تهمة فلا، قال تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] للتهمة والريبة، ولأنهم أجانب، لكن لو نظرت فلا بأس من غير ريبة وتهمة.

    أما في التلفاز فأمر آخر إن كان ليس هناك ريبة، وكان الذي ينظر إليه فاضلاً كأن يكون عالماً أو خيراً، فإن نظرها على التلفاز كنظرها في غير التلفاز، وإن كان نظر ريبة فهو أمنع، وهنا أشد منعاً وأشد تحريماً، هذا ما يحضرني في هذا.

    نصيحة لمن يذهبون إلى الخارج للدارسة

    السؤال: ما توجيهك للشباب الذين يذهبون للدراسة إلى الخارج وليس لديهم القاعدة العلمية الشرعية المواجهة للشبهات، خصوصاً وأن أعداء الإسلام حريصون على إبعادهم عن هذا الدين؟

    الجواب: الأمر الأول: حورب الإسلام بحربين، حرب المعسكر الشرقي بالشبهات، وحرب المعسكر الغربي بالشهوات، فحرب أولئك أن نرد عليهم بالعلم النافع، أولئك باليقين وهؤلاء بالصبر، وأما من يسافر للخارج فكأنه والله أعلم لا يسافر إلا لضرورة إما لعلاج ما وجده في بلاد المسلمين، فعليه أن يتعالج هناك لأنها ضرورة.

    الأمر الثاني: كأن يذهب لدراسة ضرورية ليست من التخصصات في بلاد المسلمين ويريد النفع إن شاء الله على أن يضمن دينه، فله أن يذهب.

    الأمر الثالث: للدعوة إذا رأى من نفسه قدرة وأن ينفع الله به المسلمين، أو أن أهل البلاد سوف يتأثرون به فليذهب، لكن يذهب بشروط، وهذه الشروط اصطلاحية اجتهادية ليست موجودة في كتب الفقه ولا الحديث:

    الأول: أن يكون صاحب عقيدة ومبدأ، صاحب دين يخاف الله.

    الثاني: أن يكون متزوجاً ولو بأربع من الزوجات، فمن خطورة الموقف له أن يتزوج بأربع يذهب بهن إلى هناك، فإنه سوف يقع في كارثة إن لم يعصمه الله عز وجل، لأن أول مرة سوف يغض البصر، والمرة الثانية يفتح نصف العين، واليوم الثالث يطلق النظر، واليوم الرابع يقع في حيص بيص إن لم يعصمه الله عز وجل، فلا بد أن يذهب بزواج، بعض الناس ذهب هناك فكان يغض بصره، وبعد أسبوع ما غض فالمقصود: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] فالله الله في هذه الأمور.

    حكم طلب العلم لغير الله

    السؤال: ما رأي فضيلتكم من طلب العلم لا لوجه الله، ويأمل أن يكون لوجه الله في المستقبل؟

    الجواب: هذا فيه كلام {من طلب علماً ليماري به السفهاء أو ليجاري به العلماء، لم يرح رائحة الجنة، أو لم يجد عرف الجنة} هذا حديث حسنه بعض أهل العلم وهو في السنن.

    لكن طلب العلم لغير الله لأهل العلم كلام في هذه المسألة: الذهبي ذكر عن بعض العلماء أنهم قالوا: "طلبنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله" ذكر ذلك عن الشافعي وعن الثوري، المقصود أننا لا نقول: لا تطلب العلم، مادام أنك تخاف أن يكون رياءً فكفى بك رياء أن تترك العلم، لأن ترك العمل من أجل الناس شرك وعمله من أجل الناس رياء، والسلامة أن يعافيك الله من هذين، فالمقصود اطلب العلم، وصحح النية، فإن كثيراً من الناس ما صحت نياتهم إلا بعد أن مضوا في طلب العلم، والعلم هو الذي يدلك على الإخلاص بعد فترة إن شاء الله، فأنا أقول: لا تتوقف ولا تترك العلم، ولو وجدت رياءً أو تطلبه للشهادة أو للمنصب أو للوظيفة، بل استمر واطلب فسوف يحسن الله من حالك، وسوف يهديك الله بثلاثة أمور:-

    أولاً: تجاهد نفسك بالدعاء.

    ثانياً: بصدق اللجوء إلى الله تعالى.

    ثالثاً: بالاطلاع المكثف على سير السلف الصالح فإن في سيرهم الصدق والإخلاص، والله الموفق.

    القصيدة البازية

    السؤال: الأسئلة كثيرة من الإخوة يطلبون من الشيخ أن يذكر قصيدته التي قالها في الشيخ عبد العزيز بن باز؟

    الجواب: بعض الإخوة قد سمعها ست أو سبع مرات، حتى خجلت أنا من كثرة ما أوردتها.

    الشيخ عبد العزيز بن باز عالم، نتقرب إلى الله بحبه، وبحب الصالحين، ونسأل الله أن يثبتنا وإياه، وأن يجعل عملنا وعمله خالصاً لوجهه الكريم، وهذا الرجل موهوب، ونشر الله له القبول في الأرض، ولست بأول مادح له، سبقني بعض الشعراء فمدحوا فضيلته وأثنوا عليه والثناء في أهل العلم بر ومثوبة، يقول تقي الدين الهلالي المحدث المغربي:

    خليلي عوجا بي لنغتم الأجر      على آل باز إنهم بالثناء أحرى

    وزهدك بالدنيا لو أن ابن أدهم      رآه رأى فيه المشقة والعسرى

    وهي قصيدة ماتقارب ستين بيتاً، ومحمد المجذوب صاحب همسات قلب يقول:-

    روى عنك أهل الفضل كل فضيلة      فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم

    فلما تلاقينا وجدناك فوق ما      سمعنا به في العلم والأدب الجم

    فلا غرو أن تشري المكارم كابراً      فتأسرها بالمكرمات وبالحلم

    فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا     يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي

    أما قصيدتي فهي البازية:

    قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي     فقمت أنشد أشواقي وألطافي

    لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا      فهو الغفور لزلاتي وإسرافي

    عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم     لأنها ذكرتني سير أسلافي

    يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن     أجرى الدموع كمثل الوابل السافي

    يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا     بالمغريات وأنت الثابت الوافي

    أغراهم المال والدنيا تجاذبهم      ما بين منتعل منهم ومن حافي

    مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم     أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي

    وأنت جالست أهل العلم فانتظمت     لك المعالي ولم تولع بإرجاف

    بين الصحيحين تغدو في خمائلها      كما غدا الطل في إشراقه الضافي

    تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى      من دقة الفهم دراً غير أصداف

    يكفي محياك أن القلب يعمره      من حبكم والدي أضعاف أضعاف

    أقبلت في ثوب زهد تاركاً حُللاً     منسوجة لطفيلي وملحاف

    تعيش عيشة أهل الزهد من سلـف      لا ترتضي عيش أوغاد وأجلاف

    فأنت فينا غريب الدار مرتحـل     من بعد ما جئت للدنيا بتطواف

    أراك كالضوء تجري في محاجرنا     فلا تراك عيون الأغلف الجافي

    كالشدو تملك أشواقي وتأسرها      بنغمة الوحي من طه ومن قاف

    إلى أن أقول:

    يفديك من جعل الدنيا رسالته      من كل أشكاله تفدى بآلاف

    ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة     وعذرها أنها في عصر أنصاف

    وبالمناسبة لما ذكر الأخ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أنا أتقرب إلى الله بالثناء للعلماء وأرى من واجب الأدباء الثناء على العلماء ليرى الشباب وأهل الصحوة وأهل الجيل أننا نحب العلماء، قبل عشرة أيام كان لي الشرف في زيارة فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في عنيزة، وقد زارنا أمس وقبل أمس في أبها، فألقيت بين يديه أبيات على وزن قصيدة تنسب إلى علي رضي الله عنه، على هذا البحر الذي سوف أورده، أبو الحسن أمير المؤمنين يقول:-

    دنياك تزهو ولا تدري بما فيها     إياك إياك لا تأمن عواديها

    تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم     ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها

    المال عارية ردت لصاحبها     وأكنف البيت قد عادت لبانيها

    والأينق العشر قد هضت أجنتها     وثلة الورق قد ضجت بواكيها

    فاعمل لدار غداً رضوان خازنها     الجار أحمد والرحمن بانيها

    قصورها ذهب والمسك تربتها     والزعفران حشيش نابت فيها

    قصيدته لا دار للمرء، قلت على هذه القصيدة، وفي آخرها ثناء على الشيخ ابن عثيمين:-

    دنياك تزهو ولا تدري بما فيها     إياك إياك لا تأمن عواديها

    تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم     ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها

    المال عارية ردت لصاحبها     وأكنف البيت قد عادت لبانيها

    والأينق العشر قد هضت أجنتها     وثلة الورق قد ضجت بواكيها

    يا رب نفسي كبت مما ألم بها     فزكها يا كريم أنت هاديها

    هامت إليك فلما أجهدت تعباً     رنت إليك فحنت قبل حاديها

    إذا تشكت كلال السير أسعفها     شوق القدوم فتدنو في تدانيها

    حتى إذا ما بكت خوفاً لخالقها     ترقرق الدمع حزناً من مآقيها

    لا العذر يجدي ولا التأجيل ينفعها     وكيف تبدي اعتذاراً عند واليها

    فإن عفوت فظني فيك يا أملي     وإن سطوت فقد حلت بجانيها

    إن لم تجرني برشد منك في سفري     فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها

    إلى أن قلت:

    قل للرياح إذا هبت غواديها     حي القصيم وعانق كل من فيها

    واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة     من المحبة لا تنسى لياليها

    أرض بها علم أو حاذق فطن     يروي بكأس من العلياء أهليها

    عقيدة رضعوها في فتوتهم     صحت أسانيدها والحق يرويها

    ما شابها رأي سقراط وشيعته      وما استقل ابن سينا بواديها

    ولـ ابن تيمية في أرضهم علم      من الهداية يجري في روابيها

    إذا بريدة بالأخيار قد فخـرت     يكفي عنيزة فخراً شيخ ناديها

    محمد الصالح المحمود طائره     البارع الفهم والدنيا يجافيها

    له التحية في شعري أرتلها     بمثل ما يرفع الأشواق مهديها

    الحث على مساعدة المجاهدين

    السؤال: فضيلة الشيخ: كما تعلم ويعلم الإخوة ما يعانيه المجاهدون الأفغان في الوقت الحاضر خاصة بعد اتفاق أعداء الإسلام على إغلاق القضية الأفغانية، فأرجو أن تحث الإخوة على التبرع للإخوة الأفغان؟

    الجواب: هذا كلام سليم، وهو من أحسن ما قيل، وأنا أحث نفسي وإياكم بكثرة الدعاء لهؤلاء المجاهدين، وبذل الأموال، لأنهم في حاجة ماسة، والرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم} فالذي لا يستطيع أن يجاهد بنفسه، فليجاهد بماله، ليقتل بديناره ودرهمه ملحداً وعدواً من أعداء المسلمين، فأنتم مدعوون للتبرع، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

    الحياء في الدعوة

    السؤال: أنا شاب كثير الحياء، وإذا جلست في مجلس وأردت أن أذكرهم بالله تحول شدة الحياء بيني وبين ذلك، ما الحل يا فضيلة الشيخ؟

    الجواب: الحياء فيه خير بل كله خير إذا كان في الخير، لكن إذا كان يصدك عن الخير فليس من الخير، يقول صلى الله عليه وسلم: {الحياء خير كله} يعني ما كان في الخير، لكن إذا صدك عن طلب العلم وعن الدعوة فليس فيه خير، يقول مجاهد كما في صحيح البخاري:[[لا يطلب العلم مستكبر ولا مستحي]] فأنا أرى أن تنهي عقدة الحياء من الإخوان أو من الذي يمنعك من الخير وأن تمارس حل هذه العقدة بالتدرج، فتجلس مع أخوين وثلاثة وتتحدث وتطلق لسانك، وتغشى الأندية، وتحاول أن يصلح الله من حالك لإنهاء هذا الأمر والله معك، وإذا علم الله عز وجل أن الحياء أصله الخير تستحي من المعاصي، فأنت مأجور، لكن لا يوصلك كثرة هذا الحياء إلى أن يوقفك عن كثير من الخير، أو من الدعوة إلى الله عز وجل، فهذا ليس بمحمود فأكثر الناس حياء، وأشد الناس حياء، هو كما قال عنه أبو سعيد في الصحيحين: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها} ومع ذلك كان من أشجع الناس في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ وصعود المنابر، والتحدث إلى الأمم والشعوب وتفهيم الأجيال، فلا يمنعك الحياء من الخير.

    نسأل الله أن يوفقنا وإياكم وكل مسلم إلى ما يحب ويرضى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755823515