إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الإسراء [73-81]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • محمد صلى الله عليه وسلم خليل الله تعالى، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم على الإطلاق، ولذلك قرن الله طاعته بطاعته، ومحبته باتباعه، ولذلك كان جديراً أن ينال عطية ربه ومنحته المتمثلة في المقام المحمود الذي أعطاه الله إياه في الآخرة، ولذلك أرشد الله نبيه إلى وسائل الثبات في الدنيا، ونصره ورفع رايته، وجعل جنده هم الغالبون، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تابع الحديث على آيات العتاب

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فقد تحدثنا عن بعض آيات العتاب، التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، والآن نواصل الحديث كذلك عما يسمى بآيات العتاب، قال الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:73-75].

    نقول بداية: مر معنا أنه لا بد لنا من استصحاب السيرة حتى يفهم القرآن جيداً, فلا افتكاك بين الكتاب والسنة, والقرآن إنما كان يصور صراعاً قائماً بين الحق والباطل.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل في قلبه شفقة ورحمة على أمته وخصومه من القرشيين، وهؤلاء بدورهم كانوا يحملون في قلوبهم أنفة ومحاولة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما هو عليه من الحق, وهذه أصل المسألة.

    الذي ينبغي أن يفهم ويعض عليه بالنواجذ ولا ينطلق إلى غيره ولا يقبل سواه: أن الآيات إنما تتحدث عن تأييد الله وحفظه ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث أبداً أن هناك ميلاً منه صلى الله عليه وسلم ولو مثقال ذرة أو أقل إلى قومه وما كانوا يعبدون, هذا أمر يجب حسمه قبل أن نشرع في إثبات هذه القضية, وحتى لو عجزت أن تجد الدليل أو البرهان أو الآلة التي تفهم بها الآية, فإنك لن تعجز أن يستقر في قلبك أن هذه الآيات إنما هي بيان لتأييد الله ونصرته وتوفيقه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث إطلاقاً عن شيء منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يميل إلى قومه، هذا أمر لا نزاع فيه ولا خلاف، ولا يمكن دفعه بأي شبهة.

    قال الله: وَإِنْ كَادُوا [الإسراء:73] أي: قاربوا، لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء:73] أي: يصرفونك، عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:73] أي: القرآن، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء:73]، وهذا القرآن ذم آلهتهم وعاب أصنامهم, وهم يريدون قرآناً ليس فيه ذماً وليس فيه قدحاً في عبادتهم وآلهتهم وأصنامهم، وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء:73] أي: أنه لو وقع هذا ولن يقع، فلن يجدوا خليلاً مثلك، فأنت رجل كامل الصفات البشرية، فإذا ظفروا بك فقد ظفروا بشيء عظيم، ولهذا لن يفرطوا فيك، قال: وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء:73].

    وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ [الإسراء:74] ولولا: حرف امتناع لوجود، والموجود هنا: التثبيت؛ ولذلك امتنع الميل والركون لوجود التثبيت، قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74].

    إِذًا [الإسراء:75] والتنوين في (إذاً) عوض عن جملة, أي: لو وقع منك هذا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] أي: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفاً؛ لأن مقامك ليس كمقام غيرك.

    ولذا خاطب الله نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء، وأن الأمر يضاعف عليهن لقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم واندراجهن في بيته, فكيف به هو صلوات الله وسلامه عليه؟! إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:75]، وهذا يبين عظيم سلطان الله جل وعلا وقهره لعباده.

    هذا من حيث الإجمال، أما من حيث المفردات: فيقول تعالى: لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء:73] بمعنى: يصرفوك.

    عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:73] أي: القرآن.

    لِتَفْتَرِيَ [الإسراء:73] أي: لتختلق وتبتدع قولاً من عندك.

    وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء:73]، والخليل مرتبة عالية في الصداقة والقربى والزلفى.

    وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ [الإسراء:74] بما قذفناه في قلبك من الهدى والنور والسكينة, والإيمان الحق بالله وآياته.

    لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء:74] أي: تميل.

    إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:74-75]، نضرب بمثال على هذه الآية بعيداً عن المنحى اللغوي لها: الآن لو أن إنساناً في شاطئ البحر أوشك على الغرق, ثم أخذ يناديك ويستغيث بك، فملأ قلبك رحمة لأن تنقذه، فأعطيته حبلاً أو رميت له ما يعينه على أن ينجو من الغرق، ثم إنك من شدة عاطفتك وحرصك على أن ينجو كدت تغرق معه، وأنت لا تريد أن تهلك نفسك، لكنك تريد أن تنقذه، فلما رآك الرائي من غيرك وعاتبك وخشي عليك وخاف، قال لك: كدت أن تقتل نفسك، وأنت لم ترد قتل نفسك، بل حملتك شفقتك وعاطفتك على ما صنعت.

    وبعض الفضلاء يقول: إن هذا المعنى في هذا المثال هو نفسه هذه القضية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمل قط مثقال ذرة ولا حبة خردل إلى ما هم فيه, لكنه يقع منه ما ظاهره الميل إليهم، بسبب الشفقة والرحمة بهم، وحرصه على هداهم, وإلا فليس في قلبه صلى الله عليه وسلم إلا التوحيد الخالص، والنبذ التام لما كان عليه القرشيون وقومه من عبادة الأوثان، والعكوف على الأصنام.

    وقول هذا مقبول من حيث الجملة, لكننا قلنا: إن الآلة الأولى إلى فهم القرآن هي اللغة، وقد بينا معنى لولا، وقلنا: إنها حرف امتناع لوجود، وأثبتنا وجود التثبيت, وعلى هذا انتفى وامتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ركن إلى قومه.

    1.   

    سنة الله تبارك وتعالى في نصرة رسله

    ثم قال الله: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:76]، والأرض هنا تحتمل معنيين:

    المعنى الأول وهو الظاهر: أرض مكة.

    والمعنى الثاني: أرض المدينة والجزيرة بصفة عامة.

    فإذا قلنا: إن الأرض أرض مكة, فالذين يحاولون استفزازه صلى الله عليه وسلم هم كفار قريش.

    قال: لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء:76]، ولم يحدد إلى أين, لكن المقصود: إلى أي مكان, وهذا القول هو الراجح لسببين:

    السبب الأول: التمسك بالأصل؛ لأن سورة الإسراء مكية، ولأن ما قبلها من الآيات يتحدث عن أهل مكة، فهاتان قرينتان ظاهرتان على أن المراد بالأرض هنا أرض مكة, وعلى أن الذين هموا بإخراج النبي هم كفار قريش.

    القول الآخر: يقول إن هذه الآية مدنية في سورة مكية, فيصبح القائل هم اليهود, فهم يريدون أن يخرجوه إلى أرض الشام, بمعنى أنهم يقولون له: لو كنت نبياً حقاً فليس هذا مقامك, وإنما اخرج إلى أرض الشام حتى نتبعك؛ لأنها أرض أنبياء حتى نتبعك, فهناك الأرض التي هي معقل الأنبياء، لكن هذا القول بعيد، وإن كانت القرائن الآن ترجح هذا وتضعف الأول, مع أن القرينتين في الأول ترجح أنها أرض مكة.

    ثم قال الله بعدها: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء:77] فما هي سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا؟ هي قول الله بعدها: وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:76] فالله يقول: إن سنتنا الماضية التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير فيمن أخرج نبيه أنني أذهبه؛ لأن الله قال: وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:76].

    أجاب عن هذا القائلون بأن الأرض أرض مكة -كما حرره ابن كثير - فقالوا: إن القرشيين منذ أن وقعت الهجرة وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم ما لبث الله بعدها بعامين أو أقل أو أكثر بأشهر إلا واستحصدوا في بدر, فمضى قول الله وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:76].

    والقائلون: بأن الأرض هي أرض المدينة، وأن الاستفزاز إلى أرض الشام قالوا: لم يقع هذا من اليهود، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أرض الشام, فلهذا لم يقع استئصال، والقول الأول هو المراجع، والله أعلم.

    1.   

    إرشاد الله نبيه إلى الأسباب التي تعينه على الثبات

    وبعد أن بين الله جل وعلا لنبيه وسائل الثبات وما يكاد حوله، دعاه جل وعلا إلى الأخذ بالأسباب التي تعينه على الثبات في ظل هذا الصراع الذي يراه من قومه فقال له: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، واللام في قوله تعالى: (لدلوك) تحتمل معنيين أيها المبارك!

    فإما أن تكون اللام هنا: للتأقيت, فيصبح معنى اللام هنا: بعد أو عند, يعني: أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء:78] عند دلوك الشمس, أو بعد دلوك الشمس, هذا إذا قلنا: إن اللام للتأقيت.

    وإما أن يكون معناها: التعليل، فيصبح المعنى: أن وقت دخولها موجب لها, أي: وقت دخولها موجب لفرضية الصلاة.

    قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، اختلف العلماء من السلف في معنى الدلوك, والأكثرون وهو قول ابن تيمية رحمه الله: أن الدلوك زوال الشمس, وقال الشنقيطي : وهذا الذي عليه أهل التحقيق, ولا ينبغي القول بغيره وإن وجد.

    قال تعالى: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، أي: ظلمته، ابتداؤه واشتداده.

    ثم أفرد الله الفجر بقوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] أي: وصلاة الفجر, إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، يتحرر من هذا ما يلي:

    أولاً: أن الصلاة لا تجب قبل دخول وقتها.

    ثانياً: أن هذه الآية أصل في جواز الجمع، ومنها انطلق الفقهاء سواء من قال بالجمع أم لا؛ لأن الله جعل دلوك الشمس كالوقت الواحد للظهر والعصر، وجعل غسق الليل كالوقت الواحد للمغرب والعشاء، لكن السنة فصلت لنا وقت جواز الجمع من عدمه، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً ليس هذا وقت تحرير بيانه.

    وفي قوله سبحانه: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، دلالة على أنها لا تجمع مع غيرها؛ لأن لفظ الفجر جاء مفرداً، وعلى أن القراءة فيها ركن؛ لأنه استقام شرعاً أنه لا يجوز تسمية الشيء ببعضه إلا إذا كان هذا البعض ركناً فيه, مثل قوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، فعبر عن الصلاة بالسجود، والسجود ركن من أركان الصلاة, وقال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، فعبر بالركوع والركوع -أيها المبارك- ركن من أركان الصلاة, فقراءة القرآن من حيث الأصل في صلاة الفجر ركن عرف من خلال الآية، أما ركنية القراءة في المغرب والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقد عرفناها من تفاصيل السنة.

    قال تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] أي: صلاة الفجر كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

    وقد مر معنا تاريخياً: أن صلاة الفجر آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعود من حجته في مكة, وصلاة الفجر أيضاً هي آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل يوم بدر, وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم.

    لكن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم على أنها فرض: صلاة الظهر, فقد نزل جبريل ظهر اليوم الذي كانت في مسائه أو في ليلته حادثة الإسراء والمعراج, فبدأ جبريل يعلم النبي عليه السلام صلاة الظهر.

    1.   

    عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً

    ثم قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقد ذكر التهجد هنا مع أنه أسبق من صلاة الفجر؛ لبيان فرضية صلاة الفجر ووجوبها، لكن هل التهجد واجب عليه صلى الله عليه وسلم؟

    قال تعالى: نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79], ونافلة بمعنى: كرامة، فبعض العلماء ذهب إلى عدم وجوبها في حقه صلى الله عليه وسلم مستدلاً بهذه الآية، وبعض العلماء ذهب إلى الوجوب استصحاباً للأصل، وبقاء على الظاهر.

    قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ [الإسراء:79] ومن: هنا بعضيه, تقول عائشة : لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها, وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء:79]، أي: بالقرآن, فالصاحب الحق للمؤمن هو القرآن، ثم انظر هنا عظمة البلاغة القرآنية، يقول تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقد سبق معنا أن الله تعالى سمى البعث: خلقاً جديداً، إلا أنه هنا لا يتحدث عن البعث الذي هو الخروج من القبور، بل يتكلم عن البعث الذي بعده المقام المحمود.

    ولقد عبر الله عز وجل هنا السر عظيم، وكأن هذا المقام لا يناله بشر أبداً، ولو كان أعيد, الله لا يتكلم هنا عن خروج الناس من قبورهم, يتكلم عن إتيان الله لنبيه المقام المحمود, ما قال حتى: أن خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عطية وهبة ربانية له صلى الله عليه وسلم، يعطيك ربك مقاماً محموداً, قال: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] وقلنا: إن ........... وكأن الله يخلقه من جديد ليهيئه لهذا المقام المحمود، وليعطيه هذه الكرامة، ولهذا عبر بالفعل عَسَى [الإسراء:79] لأمرين:

    الأول: أن عَسَى [الإسراء:79] من الله واجبة, ثم إن فعل الرجاء يبعث في النبي صلى الله عليه وسلم الأمل والطمع في أن ينال هذا المقام, والمقام المحمود هو: الشفاعة العظمى التي يؤتاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, وهذه منزلة لا تعدلها منزلة، ولذلك يغبطه عليها الأولون والآخرون صلوات الله وسلامه عليه, ورزقنا الله وإياكم شفاعته.

    1.   

    إن الباطل كان زهوقاً

    ثم قال الله بعدها: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء:80]، جملة الآية تدل على التوفيق, لكن إذا خصصناها بالهجرة أصبح معنى: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء:80]: إتيان المدينة, ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء:80]، يعني: الخروج من مكة, قال: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء:80]، وفيها: حاجة الإنسان إلى النصير من الله جل وعلا والسلطان والبرهان.

    أما قوله سبحانه: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار، فإنك إن خرجت اليوم طريداً, فسيأتي يوم يزهق فيه الباطل ويقوم فيه الحق؛ لأن الباطل وإن راج حيناً إلا أنه زهوق، قال تعالى: إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وهذا هو المعنى العام لهذه الآية.

    أما المعنى التفصيلي فنقول: إن الآية تدل على أن الله يأمر نبيه أن يلتمس من ربه التوفيق في أموره الظاهرة والباطنة, وأن يسأله النصرة فلا غنى لأحد عن الله, وقد قلت مراراً: إن الأمور ثلاثة:

    ما لا يكون بالله لا يكون.

    وما يكون لغير الله لا يبقى ولا يدوم.

    وما يكون لله هو الذي يبقى ويدوم, وإن ذهبت عينه بقي في الآخرة أثره.

    نعرج هنا -أيها المباركون- إلى مفارقات في الهجرة خفيت على الناس؛ لأن الآية تتحدث من حيث الإجمال عن الهجرة.

    مقارنة بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة:

    الهجرة إلى الحبشة كانت هجرة إلى دار أمان وأمن, وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان, فمجتمع الحبشة لم يكن مجتمعاً مؤمناً بخلاف مجتمع المدينة, ولهذا قال الله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، فعبر الله عن الأنصار بأنهم تبوءوا الدار والإيمان, فالهجرة إلى الحبشة هجرة إلى دار أمن وأمان, أما المدينة فهجرة إلى دار إيمان, وأعظم العطايا أن يسكن الإنسان في دار أمن وإيمان.

    والمسلمون الذين يعيشون في الغرب الآن يتكفل لهم النظام السياسي هناك بالأمان في ظل الديمقراطية التي يعيشونها, لكنه لا يكفل لهم دار الإيمان، فلا يسمع المسلم صوت المؤذن ولا يغدو ويروح في أسواق المؤمنين, ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام, فقد أعطي الأمان وحرم حياة مجتمع الإيمان، وإلا فالإيمان في قلبه موجود لا يعد كافراً, لكنه حرم مجتمع الإيمان, كحال المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة, ومن يعيش في بلادنا مثلاً -حرسها الله- فهو يعيش في دار أمن ودار إيمان أشبه بالمجتمع المدني الذي هاجر إليه الصحابة, هذا الأول.

    الأمر الثاني: من أخطاء بعض الفضلاء من أجلاء العلماء أنهم إذا ذكروا الهجرة النبوية ذكروا الهجرة من الذنوب, وعندي هذا لا يستقيم, يقول صلى الله عليه وسلم: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، لكن مثل هذا لا يقال إذا ذكرنا الهجرة؛ والسبب في ذلك يلي:

    أنت عندما تهجر ذنباً أو تترك رفقة سيئة فأنت تهجرهم وأنت مبغض لهم, وهذا سبب هجرانك لهم، فأنت تبغض الذنب ثم تهجره وتتركه، وتبغض الرفقة والمكان السيئ لتذهب إلى المساجد, فأنت تستبدل شيئاً سيئاً بشيء أحسن منه, أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق هذه القاعدة العامة عليه, فهو لم يهاجر من مكة رغبة عنها, وإنما هاجر لأن قومه أخرجوه, وقد قال صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن الهجرة ولدت في يوم البعثة, وذلك لما ذهبت به زوجته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وأخبره بأن قومه سيخرجوه, قال صلى الله عليه وسلم في أول أيام البعثة: (أومخرجي هم؟!) فالإخراج كان من القرشيين, وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة ليست هجرة مبغض حاشاه صلوات الله وسلامه عليه, بل قال: (ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت)، لكن أراد الله لأهل المدينة خيراً, وهذا أمر يجب استصحابه.

    قال الله: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار أعطاه الله لنبيه وهو خارج من مكة, وبقي يحمل تلك البشارة حتى مرت ثمانية أعوام فدخل بتلك البشارة عينها مكة، وقال صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى الأصنام، ويقول وهو يتلو الآية: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، ويشير إلى تلك الأصنام فتهوي وتتساقط على وجوهها, وهذا يدل على جمال الشيء إذا وقع في وقته, فهو عليه الصلاة والسلام لم يستعجل سقوط الأصنام منذ سنوات, وإنما بقيت الأصنام معلقة على أطهر بيت وأكمله إحدى وعشرين سنة, والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم هذا, فلما أزالها من عقولهم، وأزال محبتها من قلوبهم أشار إليها فتساقطت، ولم يبق منها شيء.

    والأمر الآخر: أنه يجب إزالة الأوثان والمعابد والأضرحة وما يعبد من دون الله إذا كنا نتمكن من إزالتها, بل إن ذلك من أعظم الواجبات, والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر نزول عيسى بن مريم وأراد أن يعدد صفاته قال في أولها: (ليكسرن الصليب)، فشعارات أهل الكفر لا يجب أن تبقى أبداً, وأعظم الكفر: ما يعبد مع الله تبارك وتعالى كالمشاهد والقبور والأضرحة, فهذا من الشرك الذي ليس بعده مفسدة، كما أن التوحيد مصلحة ليس بعدها مصلحة, قال تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].

    هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله تبارك وتعالى على قوله حول هذه الآيات المباركات التي تكلمنا فيها عن عتاب النبي صلى الله عليه وسلم إن صح إدراجه في العتاب, ثم ذكرنا قضية إرشاد الله لنبيه إلى إقامة الصلاة في وقتها, وإلى تفضيله بقيام الليل, وإلى المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755817545