إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [219-221]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن الإثم في الخمر والميسر كبير، وقد كانت هناك مراحل عدة لتحريم الخمر، فلم يحرمه الله مرة واحدة، وذلك لأن الناس في الجاهلية كانوا قد أدمنوا عليه بصورة كبيرة، فمن رحمة الله بهم أن تدرج في تحريمه عليهم. ثم ذكر الله تعالى مرشداً لعباده أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم وما فضل على ذلك، فلا يكلفوا أنفسهم ما لا يطيقون. ثم ذكر اليتامى وأنه يصلح لهم في جميع أحوالهم من الناحية المالية والتربوية وغيرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير...)

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فما زلنا وإياكم نتفيأ كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قوله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة:219]، وحررنا لغوياً معنى الخمر ومعنى الميسر، وحال أهل الجاهلية مع هذين الإثمين الكبيرين.

    مراحل تحريم الخمر

    والآن ننتقل إلى الارتباط بين الخمر والميسر، لقد كانت الأجواء في الجاهلية كما بيّنا في اللقاء الماضي يغلب عليها الفراغ في الوقت والفراغ الروحي من باب أولى، فكان التغامر بينهم والمغامرة والشرب يذهب الكثير من أوقاتهم، وينجم عنه نوع من التسلية، ويجازفون بأهليهم وأموالهم عياذاً بالله؛ لهذا جاء القرآن بتحريم الخمر تدريجياً، وهذه الآية التي بين أيدينا هل هي الأولى أم الثانية؟ على قولين للعلماء: فمن جعل من العلماء تحريم الخمر مر بثلاث مراحل يجعل هذه الآية هي الآية الأولى، والثانية هي: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، والثالثة وهي الخاتمة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] والتي صدرها: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90].

    وفريق يقول: الأصل أنها أربع مراحل بدأت من القرآن المكي؛ لأن القرآن المكي فيه سورة النحل، والله قال في سورة النحل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [النحل:67] ولم ينعته، ولم يصفه بأنه حسن، ثم قال: وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، فأثنى على الرزق وقيده ووصفه ونعته بالحسن ولم يصف ولم يقيد السكر، فكأن هذا إرهاصاً أن ثمة أمر سيأتي في مسألة السكر.

    وعلى هذا فنحن نعتد بهذا القول ونرى أن هذه الآية هي الثانية في مراحل التحريم. هذا من حيث تحريم الخمر.

    حد شرب الخمر

    لقد أوجب الله جل وعلا في الخمر الحد، والأصل في حد الخمر أنه أربعون جلدة، ويجوز للإمام تعزيراً رفعها إلى ثمانين، فمن الحدود الشرعية المعروفة حد الخمر، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد القذف، وحد البغي، والقتل ليس حداً وإنما يسمى قصاصاً، فالحد حق لله، والقصاص حق لأولياء الدم، والتعزير حق لولي الأمر.

    الحدود لا تدخلها الشفاعة

    والحدود لا تدخلها الشفاعة أبداً؛ ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن قريشاً أهمها شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يجترئ -بمعنى من له القدرة- على أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة مؤدبين، فقالوا: وهل يجرئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنو مخزوم لشرفهم في قريش جعلوا من أسامة شفيعاً لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة !)، ثم خطب الناس فقال: (أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).

    الحالات التي يجوز فيها تأخير إقامة الحد

    وهذا معناه: أن الشفاعة لا تدخل في الحدود، لكن يجوز تأخير الحدود لا إلغاؤها، فإلغاءها لا يجوز البتة، لكن يجوز تأخيرها لمصلحة عارضة، وهذه المصلحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    مصلحة للإسلام، كتأخير إقامة حد أثناء لقاء العدو، وهذا ظاهر السبب؛ حتى لا يشمت الأعداء بالمسلمين، فمثلاً كتيبة مسلمة أرادت أن تلاقي كتيبة كافرة ساعة حرب ومعركة، فقدِّر أن أحد هؤلاء المجاهدين -وهذا ربما يقع لأن المجاهدين بشر- زنى وهو بكر، أو سرق، فهذا عليه الحد، لكن الإمام لا يريد أن يقيم الحد الآن، فليس له أن يسقطه لكن يؤخر إقامته حتى تنتهي المعركة؛ حتى لا يُعطل ذلك من قوة المسلمين، ولا يشمت بهم أعدائهم، فهنا يجوز تأخيره لمصلحة الإسلام.

    الحالة الثانية: لمصلحة تعود لمن أقيم عليه الحد، مثاله: هذه الأيام التي نعيشها فهي أيام برد، فلو أن أحداً حكم عليه بحد القذف مثلاً ثمانين جلدة، فالجلد مع شدة البرد يؤذيه أكثر من اللازم، فتأخيره حتى يعتدل المناخ مصلحة شرعية يجوز للإمام فعلها، وهي تعود لمصلحة من أقيم عليه الحد.

    الحالة الثالثة: مصلحة تعود لمن له علاقة بمن يراد أن يقام عليه الحد، مثاله: امرأة حامل وعليها أحد، فلا ريب أنه يؤخر إقامة الحد عليها لا شفقة عليها وإنما رحمة بالجنين، فالمصلحة هنا لا تعود عليها مقصودة كأصل، وإنما تعود على الجنين.

    بماذا يثبت إقامة الحد على شارب الخمر

    مسألة أخرى: بم يثبت إقامة الحد على شارب الخمر؟ بأحد أمرين: شهادة عدلين أنه شرب الخمر. والثاني: باعترافه هو، فإذا اعترف أحد أنه شرب الخمر أقيم عليه الحد، أو شهد عدلان من المسلمين على أحد أنه شرب الخمر يقام عليه الحد، وهذا ظاهر.

    مفاسد شرب الخمر ولعب الميسر

    قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، والمنافع هنا أول ما تنصرف إلى التجارة، والإثم الكبير هو ما ينجم عنها عياذاً بالله عن شربها من تلوث للعقل، وجنوح لأعمال لا يقبلها ولا يقرها أحد، وكذلك في الميسر يحدث بينهم الضغائن، ويفقد الإنسان ماله بكل يسر وسهولة بعد أن كد فيه أعواماً وشقي فيه سنين، ويناله من لا كد عليه ولا تعب، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .

    ثم قال الله تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] قل العفو، وهذه كما نقول باللغة الدارجة: ما تيسر، وهذه دلالة على أن الشرع ليس فيه تشديد على أتباعه، فالصحابة يسألون: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، والعفو في اللغة: الزيادة والفضل، والمراد هنا ما تيسر من فضول أموالكم ولا تكلفوا أنفسكم مالا تطيقون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (...ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير...)

    وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:219-220] واليتيم قد مر معنا في اللغة، وهو في الاصطلاح: من انفرد عمن يرعاه، هذا في الاصطلاح، وقد مر معنا أن اليتيم من بني آدم هو من فقد أباه، ومن الطير: من فقد أمه وأباه، ومن البهائم: من فقد أمه دون أبيه؛ لأن البهائم لا تجد أباً يعولها، فالمعيار فيها والمناط جميعاً هي قضية الرعاية، فلما كان عالم الطيور يشترك الذكر والأنثى في الرعاية سُمي من يفقد الاثنين يتيماً.

    نعود للآية وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قال الله تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، وأنزل الله جل وعلا قبلها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] فشق ذلك على الصحابة، فعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فأنزل الله جل وعلا بعدها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220] ولغة القرآن واسعة، ومظلة عظيمة، فالإصلاح هنا يندرج فيه أمور عدة: إصلاح قلبي بمعنى أن تشفق عليه وترحمه ولو كان غنياً؛ لتجبر كسره في فقد والده؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)، رواه البخاري في (الأدب المفرد)، وجعل صلى الله عليه وسلم من أسباب لين القلوب وذهاب قسوته المسح على رأس اليتيم، وهذه كلها منافع تعود على اليتامى قلبياً ونفسياً وروحياً، ومن حيث الإصلاح الاقتصادي، وهو المقصود بالآية قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220].

    فقد أباح الله لأولياء اليتامى أن يُخالطوا أموالهم إلى أموالهم، لكنه بيّن جل وعلا أن العبرة كل العبرة في ذلك بالمقصد، ومن هنا فهم العلماء من قول الرب تبارك وتعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فمن خالط اليتيم في ماله رجاء أن يصلح مال اليتيم وينفعه فهذا يؤجر، ومن خالط اليتيم في ماله رجاء أن يأكل مال اليتيم ويستولي عليه فهذا يأثم، وإن كانت الحال الواحدة؛ لأن المخالطة تنقسم إلى قسمين: مخالطة يُراد بها الإفساد، ومخالطة يُراد بها الإصلاح، ومن هنا فهم العلماء من قول الله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220] أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة:220] أي: لشق عليكم، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220] .

    نظرة تاريخية في اليتامى وأحوالهم

    ندخل الآن تاريخياً في عالم اليتامى إن صح التعبير، فأشهر اليتامى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تعرفه بأنه يتيم أبي طالب؛ لأنه نشأ في بيت أبي طالب ، فـأبو طالب كفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب ، قال شوقي :

    ذُكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم

    فاللؤلؤ إذا له نظائر لا يُصبح له مزية، لكن انفراده يجعل له مزية، فأنت أيها النبي الكريم إنما كان تفردك لأن الله جل وعلا هو الذي آواك، قال الله تبارك وتعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6]، فأشهر يتيم هو نبينا صلى الله عليه وسلم.

    ثم وجد في العلماء والمشاهير عبر التاريخ يتامى كان لهم حض كبير، ومن أشهرهم الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، فقد نشأ يتيماً، والذي يعنينا هنا أن عصور التربية الحديثة تقول باصطلاح التربويين -وهذا كذلك لـشوقي فيه باع-: إن اليتيم ليس الذي فقد أباه، هذا في الاصطلاح الشرعي، لكن في الاصطلاح الحقيقي: هو الذي لا يرعاه أبوه وإن كان موجوداً وإن كان حياً، قال شوقي :

    ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا

    فأصاب في الدنيا الحكيمة منهما وبحسن تربية الزمان بديلا

    إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

    طرق تربية الأولاد

    هذا ولا أريد أن أخرج عن عظمة كلام الله لكنني أزدلف تربوياً، حتى وأنت تربي لا تُعلِّق من تربيه بك، فإن الإنسان لا يتعلم من شيء أكثر من شيء يكتشفه بنفسه، وإنما الصواب عندنا في التربية أن يكون المربي والراعي والقائم على الأمر موجه من علو ومن بعد، ولا يحاول أن يجعل ممن يربيه صورة منه، ثم إن العاقل في تربيته يتغافل عن أمور، ولا يحسن التنقيب عن كل شيء، فدع من دونك أو من تحت يدك، بل دع صديقك، بل دع زوجتك يُخطئ أو تُخطئ وتعود لوحدها أو يعود لوحده إلى صوابه، فذلك أبقى لماء وجهه عندك، أما إن اكتشفت أنت خطأه وثرَّبت عليه ولمته فلو عاد فإن ماء وجهه قد أُريق من قبل يوم أن أخطأ، وعلم أنك اطلعت على خطأه، فإنه يخشى أن تُعيره يوماً به، فإذا أذن لي من يراني من الآباء والأمهات فليس من الصواب في ظني -وهذا مسألة من باب الاجتهاد- أن يتفقد الإنسان أو الوالد أو الوالدة في كل آن وحين جوال ابنه، بحجة أن يخشى عليه من المهالك؛ فإنه لا بد أن نُبقي من دوننا أو من تحتنا في عالم خصوصية لهم، وأما كون المرء يطّلع على خصوصية كل أحد فهذا يتنافى مع ما دل الشرع عليه.

    ولقد شُرع الاستئذان في الدخول على أطهر بيت وهو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في بيت النبوة ما يُخفى ولا يُستحيى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة في كل أمره، لكن من باب أن الإنسان أحياناً لا يُحب أن يطّلع أحد على بعض شأنه، وحتى أنت أيها المبارك! في إقامة العلاقات مع غيرك فثمة أمور لا تحاول أن تصل إليها بالسؤال! فإن من معك: أستاذك أو شيخك أو قرينك أو من دونك إذا كان ذا عقل فإنه إذا أراد أن يُطلعك فسيُطلعك من غير أن تسأله، وما كتم الأمر عنك إلا لأنه يرغب ألا تطّلع أنت عليه، فلو قدِّر أنك اطّلعت عليه فلا تُظهر له أنك قد اطّلعت عليه.

    وقد ذكروا أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بعث أحد رسله -يعني: أحد حشمه وخدمه- إلى ابنه عبد الملك ، وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز شامة في جبين الدهر، وقد مات قبل أبيه، ولهذا قال عمر لما مات ابنه عبد الملك قال: الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك. وموضع الشاهد أنه حصل بينه وبين من بعثه أبوه نوع من الكلام، وأراد الرجل أن يُخفي هذا عن عمر ، فقال له عبد الملك : لا تُخبر أمير المؤمنين بهذا، فقال الرسول المبعوث: وإن سألني أمير المؤمنين؟ فقال عبد الملك : لا تخبره فإن أبي لن يسألك عن شيء لم تخبره به، أي: أنه أعرف الناس بأبيه، فإذا علم أبي يعلم مني أنني إذا أريد أن أُطلعه أطلعه، وهو لن يتفقد بالطريقة التي يصل بها إلى الحد الذي يخرجه عن مكنون التربية الحقة، واعتماده على نفسه.

    ونحن نلحظ من بعض الفضلاء الذين حولنا -وهم كثر- أنه من حرصه أجزل الله مثوبته على تربية ابنه أنه إذا سافر يتصل بأولاده؛ ليطمئن أنهم أقاموا صلاة عظيمة كشعيرة الجمعة، وهذا حق ومسئولية لكن يمكن أن تتأكد من أنهم صلوا الجمعة من غير أن تجرحهم، وذلك إما بعض الفضلاء يسأل ابنه ليتأكد، فيقول له: ماذا قال الخطيب؟ وأما أنت فقد جعلت ابنك أمام خيارين: إما أن يتجرأ ويقول: لم أذهب، وإما أن يكذب، وفي كلا الحالتين أقررته على خطأ، لكن مثل هذه الأمور تغفل عنها، ولا يعني ذلك أبداً ولا يقول بهذا عاقل أن تترك تربيته، لكن بطريقة أخرى تُقنعه وتبين له أهمية صلاة الجمعة من غير أن تجعل المسألة بينك وبينه بهذه الطريقة؛ لأن السؤال على قسمين: سؤال اتهام لا يقبله حر، وسؤال استفهام وهذا أمر مفتوح، فقد تقابلني ولا أعرفك فتسألين: أين الطريق إلى المكان الفلاني، فأخبرك، فهذا سؤال استفهام، أما أن يتأتي أحد إلى شخص أكبر منه أو دونه ويسأله سؤال اتهام ويريد إجابة؛ فالحر الأبي هنا لا يجيب؛ لأنه لا يقبل أن يسأل أسئلة اتهام، وليس من التربية في شيء أن تسأله أسئلة اتهام، فمن تحبه علّقه بالله، وأول طرائق أن تُعلّقه بالله أن تقطع علائق تعلقه بك؛ لأنه ما دام أنه متعلقاً بك فلن يكمل تعلقه بالله، لكن ابدأ بأن تعلقه بالله.

    وقد يقول قائل: وكيف أطمئن عليهم؟ فمن الممكن أن تقول حتى تبين له فضل صلاة الجمعة وعظيمها: أنا يا بني الآن في سفر، ووالله إني متعب لكن تعرف يا بني أن صلاة جمعة ليس هناك عاقل يتركها، فقد ذهبت إليها وحضرتها وأنا في سفر متعب جداً؛ لأنه ليس هناك مسلم يترك صلاة الجمعة فصليت ثم جئت، ثم وأنتم كيف أنتم؟ وكيف أموركم؟

    فثق تماماً أن الرسالة قد وصلت، وسيجلّك لأدبك، وسيأتي في أيامه القادمة يخشى أن تطّلع عليه على عورة أو مثلبة، فيقول في نفسه إن لم يكن صلى: الحمد لله الذي ستر عليّ ولم يسألني أبي أصليت أم لم أصلي، ويتداركها فيما سيأتي، وأما إن تجرأ اليوم وكذب فإن السيئة تقول: أختي أختي، وسيأتي بكذبات بعد، وإن تجرأ اليوم وقال: لن أصلي، فإذا انتصر عليك وبينك وبينه مفازات، فماذا ستفعل به أكثر من أن توبخه وتعنِّفه في الهاتف؟ فهي دقائق! ساعات! ثم لا يلبث أن تضع سماعتك، فيصبح الشيء الذي يخشاه قد وقع، وإذا وقع على المرء الشيء الذي يخشاه فلا يضره بعد ذلك أي شيء، فإن من يخشى منك أن تصفعه لا يزال منحياً، فإذا صفعته رفع رأسه.

    أيتها النفس أجملي الجزع إن الذي تخشين قد وقع

    هذا استطراد في قول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، والكلام عن اليتامى وتربيتهم، وقد تكلمنا فيه كثيراً، وهذا منهج قرآني ندين الله جل وعلا به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير...)

    نعود للآيات قال الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220]، ثم قال ربنا: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221] .

    كما فعلنا في اللقاء الماضي نزدلف عن النكاح عموماً ثم نفصّل في الآيات في اللقاء القادم، النكاح فطرة جعلها الله في قلوب الناس، وهو سنة عظيمة من سنن الأنبياء، وقد تزوج الأنبياء وتزوج نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أعظم المباحات، وأهل الصناعة الفقهية يقولون: إن النكاح تجري عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون واجباً في أحوال، ومكروهاً في أحوال، ومندوباً في أحوال، ومباحاً في أحوال، ومحرماً في أحوال، وهذا اجتهاد فقهي منهم، لكن من حيث الجملة هو من أعظم المباحات، قالت العرب:

    سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام

    فإن كان النكاح أحل شيء فإن نكاحها مطراً حرام

    فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعلو مفرقك الحسام

    فهذه الأبيات فيها عدة شواهد نحوية لكن الذي يعنينا هنا قوله:

    فإن كان النكاح أحل شيء فإن نكاحها مطراً حرام

    فالنكاح سنة فطر الله جل وعلا عباده عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (النكاح من سنتي)، وما تشرئّب إليه أعين الرجال من النساء شيء يطول ذكره، ولا نجد له ضابطاً والنبي صلى الله عليه وسلم حدد أربعة معايير، فقال: (تنكح المرأة لجمالها) وهذا سبب عظيم، وقال: (تنكح لحسبها)، وقال: (تنكح لمالها)، وقال: (تنكح لدينها)، ثم أوصى فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).

    قلت: هذا الكلام يطول، وهو تمهيد للقاء قادم لكن من حيث الجملة لا يمكن جمع الناس على شيء واحد، والأعين المشاهدة تختلف، فقد يزين في عين زيد ما لا يزين في عين عمرو، وأحدهم يقول:

    تعلقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب

    يعني: لا يستطيع أن يلومني أحد على هذا الحال، ولو علمت أخبار عشاق العرب قديماً لعرفت أن من تعلقوا بهن من النساء لم يكنّ أجمل أهل زمانهم، لكن زينها الله جل وعلا في عينيه؛ وهذا أمر يجب التسليم به، وقد لا يقع من المرأة تسليم هي منها لذلك الآخر وإن كان أعظم، قال المجنون:

    فيا رب إن صيرت ليلى هي المنى فزني بعينيها كما زينتها ليا

    وفي الخبر الصحيح أن مغيثاً كان يجري وراء بريرة ، فكان قد امتلأ قلبه حباً لها وفتنة وإعجاباً بها، وهي لم تكن ترغب منه في شيء، فلما كلمها فيه النبي صلى الله عليه وسلم قالت: هل أنت شفيع أم هذا أمر لا أستطيع رده؟ فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه شفيع، فقالت وهي صحابية: لا حاجة لي به، فهو كان يمشي وراءها كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأسواق ويبكي، فهذه أمور بقدر الله، لكن عموماً النكاح من أعظم المباحات، فبه يكثر سواد الأمة، ويُغض البصر، ويُحفظ الفرج، وسيأتي في اللقاء القادم التفصيل لقول الله جل وعلا: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] .

    هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756249265