إسلام ويب

سلسلة معالم بيانية في آيات قرآنية [10]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التأدب في الخطاب هو ميزة عباد الله الصالحين، خصوصاً مع الله تعالى، وهو دأب الأنبياء إبراهيم وسليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الله ورسوله يأتي اللين في الخطاب مع الوالدين، وأولياء الأمور كلاً بحسبه.

    1.   

    وإذا مرضت فهو يشفين

    الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن بشأن الحديث عنها اليوم إن شاء الله تعالى هي: قول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].

    نقول: أيها المباركون! هذه الآية جاءت ضمن سياق آيات في قضية إخبار إبراهيم عن ربه تبارك وتعالى مع قومه، قال الله جل وعلا عنه أنه قال: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77].

    ثم أخذ إبراهيم يعدد صفات ربه تبارك وتعالى، ويثني عليه بما هو أهله، ويبين مقام الربوبية العظيم الذي لا يشارك الله جل وعلا فيه أحد ولا ينازعه، قال: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:77-82].

    نلحظ هنا: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في كل تلك الأمور نسبها إلى الرب جل وعلا، أما المرض فنسبه إبراهيم إلى نفسه مع يقيننا أن إبراهيم يعلم أن المرض من الله تبارك وتعالى، فربنا جل وعلا الخير كله بيديه والشر ليس إليه، لكن إبراهيم عليه السلام أراد بهذا التأدب مع رب العزة والجلال، وهذا هي الغاية العظمى من إسناده المرض إلى ذاته ونفسه، قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، وهذا الأمر -أي: الأدب مع الله جل وعلا- حلية وأي حلية تحلى بها الأنبياء والصالحون من بعدهم، وسيبقى هذا الأمر إلى يوم الدين، فالأدب مع الرب تبارك وتعالى منزلة عالية يوفق لها أهل الطاعات، ويرشد إليها أهل الفضائل، وقد كان الأنبياء عليهم السلام يتنافسون في هذه المنزلة، وهذا جلي في خطابهم مع ربهم جل وعلا.

    1.   

    أدب الخضر عليه السلام مع الله تعالى

    فهذا الخضر عليه السلام -وإن كان هناك خلاف في نبوته، إلا أنه عبد صالح قطعاً- فهذا العبد الصالح يقول في حق السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، ولما ذكر الخير نسبه إلى الرب تبارك وتعالى: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، وثمة أمور من الخير أسندها الخضر إلى الله، وما كان في ظاهره النقص أو العيب أسنده إلى نفسه تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، والله جل وعلا خالق الأشياء كلها.

    1.   

    أدب نبينا مع الله تعالى

    وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يرقى المنبر فيأتيه رجل يشكو إليه جدب الديار وقلة الأمطار، ويقول: يا نبي الله! ادع الله أن يغيثنا، فيقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فتكون سحابة، ثم يكون غيث)، بفضل من الله جل وعلا، واستجابة لدعاء نبيه صلوات الله وسلامه عليه، يمكث الناس على هذا أسبوعاً فتنجم عن تلكم الأمطار سيول عديدة نجم عنها انقطاع السبل، والمشقة في وصول الناس بعضهم لبعض، فيأتي رجل من نفس الباب فيقول: ادع الله أن يمسكها عنا، ونبينا صلى الله عليه وسلم يعلم أن الغيث رحمة، فلم يقل: اللهم أمسكها عنا، بل قال متأدباً مع ربه: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام ومنابت الشجر وبطون الأودية)، وأخذ يذكر صلى الله عليه وسلم من من الناس ينتفع بهذا الغيث لو نزل عليهم ويشير بيده، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: فما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه.

    الشاهد من هذا الخبر النبوي الصحيح: هو قضية تأدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه في خطابه، فقوله عليه السلام: (اللهم حوالينا ولا علينا)، لا يمكن أو يقارن بقوله: اللهم أمسكها عنا؛ لأن الغيث رحمة، والنبي عليه الصلاة والسلام أكمل أدباً من أن يطلب من ربه جل وعلا أن يمسك عنه رحمته.

    1.   

    أدب سليمان مع الله تعالى

    كذلك ذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم سليمان عليه الصلاة والسلام، فسليمان عبد ملك يوحى إليه، وابن نبي، ونبي كذلك، ومع ذلك يتوسل إلى ربه قائلاً: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، فانظر إلى ذلك التوسل: وهو أن يشمله الله جل وعلا برحمته، وأن يدرجه في عباده الصالحين، مع أنه نبي، وابن نبي وملك، وابن ملك، صلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    بعض الكلمات التي لا تطلق إلا في مدح الله عز وجل دون غيره

    إن فقهنا لهذه المسألة يعطينا منزلة عالية عند ربنا إن عملنا بذلك الفقه، والمسلم كيس فطن يعرف أدب الخطاب، فهناك أدب لا يليق إلا مع الله جل وعلا، فمثلاً كلمة: سبحان! لا يمكن أن تطلق إلا على الله جل وعلا، فلا يقال لأحد من الخلق كائناً من كان: سبحانك، ولهذا نقل عن بعض الصالحين أنهم كانوا يقولون:

    فسبحان من لا يقال لغيره سبحانك وكلمة (تبارك) كذلك، هذا الفعل جامد لا يتصرف -أي: لا يأتي منه مضارع أو أمر- فهذه الكلمة لا تطلق على غير الرب تبارك وتعالى.

    قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان:61] إلى غير ذلك من الآيات، فلا يقال لغير الله: (تبارك) أبداً، فهذا المقام ينصرف إلى الله جل وعلا وحده. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم له المنزلة العالية، والخطوة الرفيعة عند ربه، وثمة خطاب لا يليق إلا به صلوات الله وسلامه عليه لرفيع مقامه، وجلال مكانته، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثمة خطاب يليق بهم، فنترضى عليهم، ونذكر محاسنهم، ولا تخوض فيما جرى بينهم كل ذلك تأدباً معهم، وعلماء الأمة الذين قدموا للأمة البيان الحقيقي لشرع الله، وأفنوا أيامهم وأعمارهم في سبيل إيضاح المنهج الحق، فهؤلاء لهم خطاب يليق بهم، وكذلك ولي الأمر له خطاب يليق به لمكانته، قال صلى الله عليه وسلم: (من أهان السلطان أهانه الله).

    كذلك الوالدان في المقام الأول: وهم مقدمون على كل أحد بعد حق الله ورسوله، فثمة خطاب لا يليق إلا بهما، فحقهما معروف، والوصية بهما ثابتة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمن الحق يعرف بأي خطاب يخاطب والديه، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

    كل هذا -أيها الأخ المبارك- يبين لنا أن الخطاب المتأدب مهم جداً في تعاملنا مع الغير، دون أن يكون في ذلك انتقاص لأنفسنا أو لغيرنا.

    وفقنا الله جل وعلا وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى، ورزقنا الله وإياكم الأدب معه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع المؤمنين جميعاً.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756233682