[ باب ما ينقض الوضوء وما لا ينقض الوضوء من المذي.
أخبرنا هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن قال: قال علي : (كنت رجلاً مذاء، وكانت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحتي فاستحييت أن أسأله، فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله، فسأله، فقال: فيه الوضوء) ].
هذه الترجمة عقدها المصنف رحمه الله لبيان ما ينقض الوضوء من المذي، والمذي: ماء لزج يخرج على طرف الذكر عند إحداث الشهوة، بخلاف المني، فإنه ماء أبيض يخرج دفقاً بلذة، وهو أصل الإنسان، وبخلاف الودي، فإنه ماء نجس يخرج بعد البول، والمذي دل هذا الحديث على أنه يجب الوضوء من المذي، وهو نجس، ولكن نجاسته مخففة كما سيأتي، حيث يكفي فيه النضح، كما في الحديث الآخر: (انضح فرجك) ويُغسل منه الذكر والأنثيان، وكأن الحكمة -والله أعلم- تقلص الخارج، ولا سيما إذا كان الماء بارداً، بخلاف البول، فإنه يغسل طرف الذكر فقط، ولا يغسل الخصيتين أما المذي فإنه يغسل الذكر كاملاً والخصيتين، ويغسل ما أصابه، يكفي فيه النضح من دون فرك.
وقوله: [ كنت رجلاً مذاءً ] أي: كثير المذي، وهي صفة مبالغة.
أما قول المصنف في الترجمة: [ باب ما ينقض الوضوء وما لا ينقض الوضوء من المذي ] فظاهره أن هناك من المذي ما لا ينقض الوضوء، والصحيح أن المذي كله ينقض الوضوء، إلا إذا أراد أنه إذا لم يخرج شيء عند الملاعبة، فإن لم يخرج شيء عند الملاعبة فليس عليه وضوء.
قوله: (يغسل مذاكيره ويتوضأ) أي: يغسل ذكره، وقد يقال: إن مذاكيره هي الذكر والخصيتان، كما في الحديث الآخر: (اغسل ذكرك وأنثييك).
ويتعلق بخروج المذي مسألة مهمة وهي: حكم الصوم حال نزوله، وقد اختلف العلماء في ذلك، فالحنابلة وجماعة يقولون: يبطل الصوم.
والقول الثاني أنه لا يبطل الصوم إلا خروج المني.
فالحنابلة قالوا: من أكل أو شرب أو استعطى أو استمنى فأمنى أو أمذى فسد صومه.
فالمسألة فيها خلاف، فإذا قضى احتياطاً فذلك أولى إذا كان متعمداً، وأما إذا كان خروج المذي من دون اختياره كأن فكر ثم أمذى فصومه صحيح، لكن إذا استمذى -أي: استدعى خروج المذي- بأن عالج نفسه بأن تذكر الجماع، أو باشر زوجته متعمداً، أو لاعبها فأمذى، فهذا فيه خلاف.
هذا الحديث فيه أن المذي يوجب الوضوء ولا يوجب الغسل، بخلاف المني فإنه يوجب الغسل.
كما أن المذي نجس ونجاسته مخففة، حيث يكفي فيها النضخ مثل بول الصبي الذي لم يأكل الطعام.
أخبرنا عتبة بن عبد الله المروزي عن مالك -وهو ابن أنس - عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود : (أن
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني سليمان قال: سمعت منذراً عن محمد بن علي عن علي قال: (استحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي من أجل
وفي بعض روايات هذا الحديث أن علياً أمر المقداد أن يسأل، وفي بعضها أنه أمر عمار بن ياسر ، قال السندي : لا منافاة بين الروايتين؛ لجواز أمره كلاً من عمار والمقداد .
أي: أنه يحتمل أنه أمر هذا وأمر هذا، خشية أن ينسى أحدهما.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: أنبأنا خالد قال: حدثنا شعبة عن عاصم أنه سمع زر بن حبيش يحدث قال: (أتيت رجلاً يدعى
هذا الحديث فيه أن زر بن حبيش حرص على طلب العلم، وكان من التابعين، فجلس على باب صفوان بن عسال الصحابي الجليل، فلما خرج قال: ما جاء بك؟ قال: جئت أطلب العلم، فقال صفوان : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب. وهذا له حكم الرفع؛ لأن هذا لا يمكن أن يقوله صفوان رضي الله عنه من عند نفسه.
والقاعدة أن الصحابي إذا قال قولاً لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع، وإذا كان لا يأخذ عن بني إسرائيل، وصفوان ليس معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل، فيحمل على أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يطلب)، وأبلغ من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) رواه مسلم في صحيحه.
وهذا فيه فضل العلم، فـزر بن حبيش جلس عند باب صفوان حتى يخرج ليسأله، ويعتبر هذا من العلم، لأن العلم يؤخذ من أفواه العلماء عن طريق السؤال كذلك، فإذا سألت أحد العلماء ثم أفتاك فهذا علم، أو قرأت في كتاب من الكتب المعتبرة واستفدت فهذا من العلم، أو حضرت الدرس وسمعت فهذا من العلم.
قوله: [ فقال: عن أي شيء تسأل؟ قلت: عن الخفين. قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أمرنا ألا ننزعه ثلاثاً إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم ].
هذا فيه وجوب الوضوء من الغائط والبول والنوم، وفيه مشروعية المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وأنه يمسح على الخفين من البول والغائط والنوم، وأنه يجب خلع الخفين للجنابة، فهذه الأحكام الثلاثة كلها مأخوذة من الحديث.
فالحديث فيه ما ترجم له المؤلف من الوضوء من الغائط والبول، وكذا النوم يوجب الوضوء، وفيه أن البول والغائط والنوم كل ذلك لا يوجب الغسل، وفيه مشروعية المسح على الخفين، وأن المسافر يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، وأما المقيم فيمسح يوماً وليلة، كما في حديث علي : (للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة).
وفيه أن الخفين يجب خلعهما من الجنابة ولا يجوز المسح عليهما؛ لأن الجنابة يجب فيها تعميم البدن بالغسل.
أخبرنا عمرو بن علي وإسماعيل بن مسعود قالا: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا شعبة عن عاصم عن زر قال: قال صفوان بن عسال : (كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أمرنا ألا ننزعه ثلاثاً إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) ].
هذه الترجمة ذكرها المؤلف رحمه الله لمزيد الفائدة، وإلا فالحكم مأخوذ من الحديث الأول والترجمة الأولى.
وما دل عليه الحديث قد دل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].
والمعنى: إذا وجدتم الماء فتوضئوا بالماء، فدل على أن الغائط يجب منه الوضوء، ودل على ذلك أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وفي الحديث الآخر: (لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور).
أخبرنا قتيبة عن سفيان عن الزهري . ح: وأخبرني محمد بن منصور عن سفيان قال: حدثنا الزهري قال: أخبرنا سعيد -يعني ابن المسيب - وعباد بن تميم عن عمه -وهو عبد الله بن زيد - قال: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً) ].
هذا الحديث أخذ منه أهل العلم قاعدة شرعية تبنى عليها الأحكام وهي: أن اليقين لا يزول بالشك، وأنه يجب البقاء على اليقين وعلى الأصل حتى يأتي يقين آخر يدفع هذا اليقين، فاليقين لا يزول بالشك، وهذه قاعدة من قواعد الفقه العظيمة.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما شكي إليه الرجل يجد في بطنه شيئاً -وفي اللفظ الآخر: يجد في بطنه قرقرة- قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، والصوت: الضراط، والريح: الفساء، كما فسره أبو هريرة رضي الله عنه لما روى حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فقال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال: فساء أو ضراط.
فالريح يوجب الوضوء، فإن كان له صوت فهو الضراط، وإن لم يكن له صوت فهو فساء.
وفيه دليل على ما ترجم له المؤلف رحمه الله وهو أنه يجب الوضوء من الريح، وإذا وجب الوضوء من الريح وجب الوضوء من البول والغائط من باب أولى؛ لأنه إذا وجب الوضوء من الأخف وجب الوضوء من الأشد.
وفيه أن اليقين لا يزول بالشك، ولهذا قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً) وهذا هو اليقين، وأما الشك فلا يعمل به.
أخبرنا إسماعيل بن مسعود وحميد بن مسعدة قالا: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) ].
هذا الحديث فيه مشروعية غسل اليدين ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء إذا استيقظ من نوم الليل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه لا يدري أين باتت يده)، والبيوتة إنما تكون في نوم الليل.
وهذا النهي عند الجمهور محمول على كراهة التنزيه، وقال فريق من أهل العلم: إن هذا النهي للتحريم، وهو قول قوي؛ لأن الأصل في الأوامر أنها للوجوب، والأصل في النواهي أنها للتحريم.
وهذا الحديث ليس بواضح في الوضوء من النوم، وإنما يدل عليه حديث: (ولكن من غائط وبول ونوم).
ثم إن النوم الذي يجب منه الوضوء لابد فيه من أن يكون نوماً يزول معه الشعور، وأما خفقان الرأس والنعاس الذي يشعر معه المرء بمن حوله فهذا لا يوجب الوضوء على الصحيح، والمسألة فيها خلاف يصل إلى ثمانية أو عشرة أقوال لأهل العلم، لكن ما ذكرته هو الصواب؛ لأنه ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا ينتظرون صلاة العشاء وتخفق رءوسهم فيصلون ولا يتوضئون، وفي رواية: (كانوا ينامون) أي: ينعسون.
أخبرنا بشر بن هلال قال: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس الرجل وهو في الصلاة فلينصرف؛ لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري) ].
هذا في صلاة الليل، فإذا نعس الإنسان وهو في الصلاة فلينصرف وإن كان قد سلم فعليه أن يذهب لينام.
وفي لفظ: (فلينم)، فيقضي نهمته من النوم حتى يأتي الصلاة بنشاط، فإنه إذا صلى مع النعاس ربما دعا على نفسه بسبب النعاس.
وأما الفرائض فلا، وعليه أن يعالج نفسه وينظر في الأسباب التي تسبب النعاس، فينام مبكراً قبل صلاة الفجر، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها.
أخبرنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا معن قال: حدثنا مالك . ح: والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم قالا: حدثنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: (دخلت على
أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة قال: حدثنا عثمان بن سعيد عن شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مس الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده، فأنكرت ذلك، وقلت: لا وضوء على من مسه. فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما يتوضأ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويتوضأ من مس الذكر.
قال عروة : فلم أزل أماري مروان حتى دعا رجلاً من حرسه فأرسله إلى بسرة.
هذا الحديث هو حديث بسرة بنت صفوان ، وقد احتج به جمع من أهل العلم على وجوب الوضوء من مس الذكر إذا أفضى إليه بيده ليس بينهما حائل، وأما إذا كان هناك حائل فلا، كأن يمسه من وراء قفاز أو من وراء الثوب، فلا حرج.
وقيل: إن جملة (أفضى إليه) دليل على أنه لابد من أن يمس اللحم لحم، ويكون هذا ببطن الكف أو ظهرها بشرط أن يفضي إليه، أي: يمسه بدون حائل، فإذا كان المس من وراء قفاز أو من وراء ثوب فلا بأس، ولهذا قال: (إذا أفضى إليه)، وكذلك إذا مسه برجله أو بذراعه فلا بأس.
فمن مس ذكره فليتوضأ، وفي اللفظ الآخر: (ويتوضأ من مس الذكر)، وهذا يشمل ذكره وذكر غيره.
فالأم إذا غسلت طفلها ومست ذكره فإنها تتوضأ؛ لعموم هذا الحديث: (ويتوضأ من مس الذكر)؛ فهو عام في ذكر المرء وذكر غيره، لكن لابد من قيد آخر وهو: أن يفضي إليه، فإذا أفضى إلى الذكر ومسه فإنه يتوضأ، وأما إذا كان بينهما حائل من قفاز أو ثوب فلا، ولابد من أن يكون المس بظهر الكف أو بطنه، فإذا كان المس بالذراع أو بالرجل فلا.
أخبرنا هناد عن ملازم بن عمرو قال: حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: (خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؟ قال: وهل هو إلا مضغة منك، أو بضعة منك!) ].
هذا حديث طلق بن علي استدل به بعض العلماء على أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر، وذلك أن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؟ قال: (وهل هو إلا مضغة منك أو بضعة منك!) يعني: قطعة منك. يعني: هو كما لو مسست فخذك أو رجلك أو قطعة منك.
وقد اختلف العلماء في الجمع بينه وبين حديث بسرة بنت صفوان السابق، فذهب قوم إلى أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر؛ أخذاً بحديث طلق بن علي ، ولأن حديث بسرة بنت صفوان يوجب الشك، ولا يتوضأ من أجل الشك، وحديث طلق بن علي مبق على الأصل، فلا يتوضأ بالشك، وعمل النسائي رحمه الله يفيد هذا؛ لأنه أتى بحديث طلق بعد حديث بسرة .
ومن العلماء من جمع بينهما، ومن العلماء من ذهب إلى النسخ، وقال: إن حديث طلق بن علي منسوخ بحديث بسرة بنت صفوان : ولابد من معرفة التاريخ؛ إذ النسخ لابد له من معرفة التاريخ، والتاريخ هنا معروف، فإن حديث طلق بن علي كان قديماً، حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده في الصلاة الأولى، وأما حديث بسرة بنت صفوان فهو متأخر، فيكون ناسخاً لحديث طلق بن علي .
وذهب آخرون إلى الترجيح، فقالوا: حديث بسرة أرجح وأصح؛ لأنه أصح سنداً من حديث طلق بن علي ، ولهذا قال البخاري رحمه الله: إن حديث بسرة أصح شيء في هذا الباب. قالوا: ويؤيد هذا أن حديث بسرة ناقل عن الأصل، وحديث طلق مبق على الأصل، والشريعة ناقلة وليست مبقية على الأصل، فدل على أن حديث بسرة هو المعول عليه، وهذا هو الصواب.
فالصواب العمل بحديث بسرة ، سواء أقلنا: إن حديث طلق منسوخ، أم قلنا: إن حديث بسرة أرجح، فهو أصح سنداً، وإذا قيل بالنسخ فإن حديث طلق بن علي معروف أنه متقدم؛ لأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده، وحديث بسرة متأخر، والمتأخر لا يصح نسخه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الوضوء من مس الذكر مستحب وليس بواجب، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختاره الشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله عليه، ولكن الصواب العمل بحديث بسرة ؛ فهو أصح سنداً، وإذا قيل بالنسخ فالعمدة على حديث بسرة على الصواب لأنه متأخر، فيجب الوضوء من مس الذكر مطلقاً، سواء مس ذكره؛ لما ورد في اللفظ الأول: (من مس ذكره فليتوضأ)، أو مس ذكر غيره؛ للفظ الآخر: (من مس الذكر فليتوضأ)، لكن بشرط أن يفضي إليه بدون حائل، وبشرط أن يكون المس بظاهر الكف أو باطنه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب عن الليث قال: أخبرنا ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله) ].
قولها: (مسني برجله) احتج به المؤلف على أن مس الرجل امرأته من غير شهوة لا ينقض الوضوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وأراد أن يوتر مسها برجله، فدل على أن مس الرجل امرأته من غير شهوة لا ينقض الوضوء.
وفيه دليل على أنه لا بأس أن يصلي الإنسان إلى نائم وهو معترض بين يديه، سواء أكان رجلاً أم امرأة، ولا يعتبر هذا مروراً، وإنما الممنوع المرور: أن تمر المرأة من هذا الجانب إلى هذا الجانب، وأما كونها معترضة فلا يضر، ولا يعتبر مروراً.
هذا الحديث يدل على أن الحجرة كانت صغيرة وليس فيها نور، وقد جاء في اللفظ الآخر عن عائشة : (والبيوت يؤمئذ ليس فيها مصابيح) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قراءة طويلة في الليل، فقد يقرأ جزءاً أو جزأين أو ثلاثة وهو واقف، ثم يركع ركوعاً طويلاً، فإذا أراد أن يسجد يكون قد مضى عليه ساعة أو ساعتين، فإذا سجد غمز رجلها فكفت رجلها، فإذا قام مدت رجلها.
أي: لم يكن في البيوت نور، والحجرة صغيرة، ولو كانت كبيرة لنامت في مكان بعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا فيه أن يدها وقعت على قدميه، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسها، بل هي التي مسته، وفيه أنه وقعت يدها على رجليه وهما منصوبتان، وقد أشكل هذا على بعض الناس، فقال: هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفرج بين رجليه في السجود، بل يلصقهما. وهذا ليس بلازم؛ لجواز أن تكون مرت بيدها على رجل ثم مرت بها على رجل أخرى وإن كان بينهما فرجة، ولا يلزم أن تكون رجلاه ملتصقتين.
وهذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله بوب فيها بترك الوضوء من مس المرأة بغير شهوة، واحتج بهذه الأحاديث، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم غمزها وهو يصلي، والمصلي يبعد أن يكون عنده شهوة, ولهذا ذهب الحنابلة وغيرهم إلى أن مس المرأة بدون شهوة لا ينقض الوضوء فإن كان بشهوة فإنه ينقض الوضوء.
وذهب بعض العلماء إلى أن مس المرأة ينقض الوضوء، سواء وقع بشهوة أو بغير شهوة وهذا مذهب الشافعية، وفيه حرج ومشقة، حتى قال بعض الشافعية المتأخرين: إن الإنسان إذا توضأ وأراد أن يطوف بالمسجد الحرام فإن عليه أن يحرص على ألا يمس امرأة.
وكيف يحرص وهو لا يستطيع، لا سيما في الزحام في الموسم، والنساء عند الأبواب وفي المطاف، فإذا مس يد امرأة رجع ليتوضأ، فإذا توضأ لابد من أن تمس يده امرأة عند الباب أو في الطريق، أو في المطاف، فيرجع، وهكذا، وهذا حرج لا تأمر بها الشريعة.
وذهب آخرون -وهو قول ثابت لفريق من أهل العلم- إلى أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بشهوة أو بغير شهوة، إلا إذا خرج منه شيء، كما إذا خرج منه مذي، فإذا وقع ذلك انتقض الوضوء لخروج المذي، وأما إذا لم يخرج منه مذي فإنه لا ينتقض وضوؤه، وهذا هو الصواب، فالصواب أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير الشهوة، إلا إذا خرج منه المذي، وأما قول الله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] فالمراد بالملامسة الجماع؛ لأن الله تعالى ذكر في آية الوضوء الحدث الأكبر والحدث الأصغر، فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، ثم ذكر التيمم من الحدث الأصغر والتيمم من الحدث الأكبر، فقال: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] ، فذكر الحدثين الأصغر والأكبر، فقوله تعالى: (أو لامستم) هذا في الحدث الأكبر، وقوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) هذا في الحدث الأصغر.
ويدل على أن مس المرأة لا ينقض ولو بشهوة حديث الباب الذي بعد هذا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ولا يتوضأ، ومعلوم أن القبلة تكون فيها الشهوة، فما قبل إلا من شهوة.
أخبرنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد عن سفيان قال: أخبرني أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ).
قال أبو عبد الرحمن : ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلاً، وقد روى هذا الحديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة.
قال يحيى القطان : حديث حبيب عن عروة عن عائشة هذا، وحديث حبيب عن عروة عن عائشة : تصلي وإن قطر الدم على الحصير لا شيء ]
هذا الحديث دليل على أن القبلة لا تنقض الوضوء وإن كانت بشهوة، وهذا يؤيد المذهب الصحيح، وهو أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً بشهوة وبغير شهوة إلا إذا خرج منه شيء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ولا يتوضأ، وكذلك كان يقبل وهو صائم عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة : (وكان أملككم لإربه)، والحديث -وإن كان مرسلاً كما قال المؤلف؛ لأنه من لفظ إبراهيم التيمي عن عائشة ، وهو لم يسمع من عائشة - فقد روي موصولاً عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، رواه الدارقطني وغيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه، وهو حجة في أن القبلة لا تنقض الوضوء للمتوضئ، كما أنها لا تبطل الصوم أيضاً إلا إذا خرج منه شيء.
قوله: [ قال يحيى القطان رحمه الله: حديث حبيب عن عروة عن عائشة هذا، وحديث حبيب عن عروة عن عائشة : تصلي وإن قطر الدم على الحصير لا شيء ].
يعني: ليس بثابت.
وقال للسندي بيان لقول النسائي : [ وإن كان مرسلاً ] : قوله: وإن كان مرسلاً، أي: لأن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة كما قاله أبو داود ، قلت: والمرسل حجة عندنا وعند الجمهور، وقد جاء موصولاً عن إبراهيم عن أبيه عن عائشة ، ذكره الدارقطني ، وبالجملة فقد رواه البزار بإسناد حسَّنه ].
هذا كلام السندي ، والمعروف أن المرسل ضعيف ليس بحجة إذا كان وحده، إلا إذا جاء مرسل آخر يعضده، وذهب جماعة إلى الاحتجاج بالمرسل، والجمهور على أنه ضعيف؛ لأنه منقطع، إلا إذا جاء موصولاً، أو جاء مرسل آخر يعضده، بحيث يقوي أحدهما الآخر.
وأما قوله: [ وبالجملة فقد رواه البزار بإسناد حسنه ] فإنه يدل على أن الحديث متصل.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا إسماعيل وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار).
حدثنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا محمد -يعني ابن حرب - قال: حدثني الزبيدي عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عبد الله بن قارظ أخبره أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار).
أخبرنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا إسحاق بن بكر -وهو ابن مضر - قال: حدثني أبي عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن محمد بن مسلم عن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ قال: (رأيت
أخبرنا إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي عن حسين المعلم قال: حدثني يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أنه سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب يقول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً لأن النار مسته؟! فجمع
أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن عبد الله بن عمرو عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار).
أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا: أنبأنا ابن أبي عدي عن شعبة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن عبد الله بن عمرو قال محمد القاري عن أبي أيوب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما غيرت النار).
أخبرنا عبيد الله بن سعيد وهارون بن عبد الله قالا: حدثنا حرمي -وهو ابن عمارة بن أبي حفصة - قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت يحيى بن جعدة يحدث عن عبد الله بن عمرو القاري عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما غيرت النار).
أخبرنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا حرمي بن عمارة قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص عن ابن شهاب عن ابن أبي طلحة عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما أنضجت النار).
أخبرنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا محمد قال: حدثنا الزبيدي قال: أخبرني الزهري أن عبد الملك بن أبي بكر أخبره أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار).
أخبرنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا ابن حرب قال: حدثنا الزبيدي عن الزهري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس بن شريق أنه أخبره أنه دخل على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته، فسقته سويقاً، ثم قالت له: توضأ يا ابن أختي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار).
أخبرنا الربيع بن سليمان بن داود قال: حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر قال: حدثني بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سفيان بن سعيد بن الأخنس أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت له وشرب سويقاً: يا ابن أختي! توضأ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) ].
هذه الأحاديث فيها دليل على الوضوء مما مست النار، والمؤلف رحمه الله كان عنده نشاط، حيث أتى بهذه الطرق المتعددة على طريقة الإمام مسلم رحمه الله، كما أنه يعدد التراجم على طريقة البخاري ، فاستفاد من طريقة البخاري واستفاد من طريقة مسلم ، حيث يعدد الطرق على طريقة مسلم ، ويكثر من التراجم على طريقة البخاري رحمهم الله تعالى.
وهذه الأحاديث فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، وهذا كان في أول الإسلام، حيث كانوا مأمورين بالوضوء مما مست النار، ثم بعد ذلك نسخ هذا الأمر، فإما أنه نسخ بالمرة، وإما أنه نسخ الوجوب وبقي الاستحباب.
وسيذكر المؤلف الأحاديث الناسخة أو الأحاديث التي رفعت الوجوب في الباب الذي بعده، ومن ذلك حديث جابر : (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، ومن ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف الشاة ثم دعي إلى الصلاة فقام ولم يتوضأ).
وكانوا في أول الإسلام يتوضئون مما مست النار، ولذلك أكل أبو هريرة الأثوار من الأقط؛ لأنه يجعل في النار فيكون قطعاً، ثم توضأ منه.
وكذلك أم حبيبة أمرت من أكل سويقاً أن يتوضأ، والسويق هو حب الحنطة الملتوت، فكل ما مست النار يتوضأ منه، وكان هذا واجباً في أول الإسلام، ثم نسخ الوجوب، وبقي الاستحباب عند جمع من أهل العلم.
وقال آخرون: لا يستحب الوضوء من ذلك.
والصحيح أن الاستحباب باقٍ، فيستحب للإنسان أن يتوضأ، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت. ولما سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فقوله: (إن شئت) يدل على أنه لا بأس بالوضوء، لكنه ليس بالواجب إلا من لحم الإبل، فلحم الإبل يجب الوضوء منه، سواء أكل نيئاً أو مطبوخاً؛ للأحاديث الصريحة في هذا، كحديث جابر وحديث سمرة : (توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم).
ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم)، فلحم الإبل يجب الوضوء من أكله سواء أكان نيئاً أم مطبوخاً، أما ما عداه فإنه لا يجب الوضوء منه ولكن يستحب، فإذا أكل شيئاً مطبوخاً استحب له أن يتوضأ، وإذا توضأ فلا حرج.
وقال قوم: إن الوضوء قد نسخ، ولا يستحب بعد ذلك.
وليعلم أنه لا يجب الوضوء إلا من لحم الإبل، وأما المرق واللبن فلا يجب الوضوء منه، فإذا شرب المرء مرقاً من لحم الإبل أو شرب لبناً من لبن الإبل فإنه لا يجب عليه الوضوء.
هذه الترجمة يذكر فيها المؤلف رحمه الله الأحاديث الناسخة، وهذه الترجمة أدق من ترجمته في السنن الكبرى، ففي السنن الكبرى بوب فقال: [ باب نسخ ذلك ].
وأما هذه الترجمة فواسعة تشمل النسخ، وتشمل نسخ الوجوب مع بقاء الاستحباب.
وهذا الحديث يدل على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة مطبوخ مسته النار ولم يتوضأ، وفي لفظ آخر: (أنه كان يحتز من كتف شاة، فدعي للصلاة فترك السكين وقام ولم يتوضأ )، فدل على أنه لا يجب الوضوء، لكن إن توضأ فهو أفضل.
وهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا أصبح جنباً فإن صومه صحيح، وذلك كأن يكون عليه جنابة ثم يستفيق في آخر الليل ولا يتسع الوقت للغسل والسحور، فيبدأ بالسحور فيأكل ويشرب، ثم يغتسل ولو بعد طلوع الفجر ولو بعد الأذان، لكن عليه أن يبادر حتى يدرك الصلاة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من غير احتلام ثم يصوم.
وكذلك المرأة الحائض أو النفساء إذا طهرت في آخر الليل تبدأ بالسحور وتأكل وتشرب، ثم تغتسل ولو بعد الأذان، وصومها صحيح.
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أكل جنباً مشوياً في نار، ومع ذلك قام إلى الصلاة ولم يتوضأ، وهو عليه السلام مشرَّع، فدل على أن الأمر بالوضوء مما مسته النار منسوخ.
يعني: واللحم مسته النار، فدل على نسخ الأمر بالوضوء مما مسته النار.
وهذا نص صريح فيه أن أول الأمرين هو الوضوء ما مست النار، وآخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.
أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له، عن ابن القاسم قال: حدثني مالك عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار مولى بني حارثة أن سويد بن النعمان رضي الله عنه أخبره: (أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فتمضمض وتمضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ) ].
السويق هو: حب الحنطة المحموص.
وقوله: (ثري) يعني: بلّ بالماء، فأكلوا ولم يتوضئوا وإنما تمضمضوا، والمضمضمة مباحه لإزالة ما علق بالفم في الأسنان.
وجاء في حديث آخر أنه قال: (إن له دسماً) فتمضمض من السويق لإزالة ما علق بالفم والأسنان، ولم يتوضأ عليه الصلاة والسلام مع أن السويق مسته النار، فدل هذا على نسخ الأمر بالوضوء مما مسته النار.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً ثم دعا بماء فتمضمض، ثم قال: إن له دسماً) ].
هذه المضمضمة مباحة لإزالة الدسم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر