إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. سلسلة فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
  6. شرح كتاب فتح المجيد - ما جاء في الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره وما جاء في النذر لغير الله

شرح كتاب فتح المجيد - ما جاء في الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره وما جاء في النذر لغير اللهللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما كان خطر الشرك عظيماً على الإنسان حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أشد التحذير، ومنع الوسائل والأسباب المؤدية إليه حتى لا يقع فيه المرء وهو لا يشعر. كما بين أن النذر لا يكون إلا لله وحده دون أحد من الخلق، وأن من نذر لغير الله لا يلزمه هذا النذر بشيء.

    1.   

    لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    يقول الله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] .

    عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا في ما لا يملك ابن آدم)، رواه أبو داود وإسناده على شرطهما.

    هذا الباب الحادي عشر من كتاب التوحيد، والمقصود منه المحافظة على مقام التوحيد، وأن الإنسان المسلم لا يتشبه بالمشركين في شيء كانوا يفعلونه لئلا يؤدي به الأمر بعد ذلك إلى الوقوع فيما كانوا يفعلونه على ما كانوا ينوونه في أفعالهم، فكان المشركون لهم أعياد في الجاهلية، يعني: أماكن يجتمعون فيها ويعود عليهم الحول فيجتمعون فيها مرة ثانية وثالثة، وهذا أصل العيد، وهو الاجتماع سواء في المكان أو في الزمان.

    يقول هنا: باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، والذبح عبادة وهو نسك، وسمي نسكاً من النسك وهو التعبد، يقول الله: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]. والصلاة هي العبادة البدنية والنسك هو العبادة المالية، والصلاة والنسك لا يكونان إلا لله وكذلك كل العبادات لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.

    يقول المصنف: [وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين].

    يعني: في هذا الأمر، والإنسان لو أنه أشرك بالله سبحانه وتعالى في شيء من العبادة أو في الذبح بأن جعله لغير الله فيكون في البداية متوجهاً لله عز وجل فيتشبه بالمشركين في شيء فعلوه، ثم بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى يتوجه لغير الله عز وجل بهذه العبادة كما يفعل الكثيرون من المشركين في عباداتهم لغير الله سبحانه.

    وكان الحديث الذي قبل ذلك في الرجل الذي قرب ذبابة والرجل الذي لم يقرب الذبابة، فقد كان هناك صنم للكفار وقالوا لرجل: قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فكان من أهل النار.

    وقالوا لرجل آخر: قرب ولو ذباباً. قال: ما كنت لأقرب شيئاً لغير الله سبحانه.

    قدر التوحيد في قلب المؤمن

    إن قدر التوحيد في قلب المؤمن يجعله يمتنع عن التشبه بالمشركين في شيء حتى ولو كان مكرهاً وله مندوحة في فعل هذا الشيء ولا شيء عليه؛ لأنه مكره، ولكن حبه للتوحيد وقدر التوحيد في قلبه يجعله يصبر ولو على القتل وإن كان القرآن جعل الإنسان المكره معذوراً : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] . فقدر التوحيد في قلب الإنسان المؤمن قدر عظيم جداً. فهو يفتدي توحيد الله سبحانه وتعالى وعبادة الله سبحانه والصبر عليها بنفسه وبماله وبكل شيء ليكون من أهل الجنة موحداً لله عز وجل.

    فالتوحيد عظيم القدر في قلب الإنسان المؤمن، فهو يحافظ على توحيده، ويحافظ على دينه وعبادته فقد يقلد الكفار في شيء وهو لا يقصد ولا يدري، ثم لعله بعد ذلك يقلد وهو يقصد فيقع في الشرك بالله سبحانه.

    وأول شرك حدث على وجه الأرض كان في عهد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أناساً صالحين، ثم مات هؤلاء الصالحون فأراد أقوامهم أن يخلدوا ذكراهم، فألقى الشيطان في قلوبهم أن اصنعوا لهم صوراً حتى تذكروهم فصنعوا الصور ومثلوا لهم التماثيل وفي النهاية عبدوهم من دون الله سبحانه. ثم مات القوم الذين يعرفون أن هذا باطل وأن هذه أصنام لا تنفع ولا تضر وإنما صوروها للذكرى، فجاء أولادهم فقالوا: كان آباؤنا يتبركون بهؤلاء، ثم ماتوا وجاء من بعدهم أولادهم فقالوا: كان آباؤنا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله. والإنسان في بداية الانحراف يكون انحرافه بسيطاً والزاوية المستقيمة لما تبدأ تنحرف تبدأ بشيء بسيط وكلما طال الخط كلما كبر الانحراف، حتى يصير هذا في وادٍ وهذا في واد آخر. لذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك من أولها فلا تقع في الشرك ولا تقع في ذريعة تؤدي بك إلى الشرك. وهذا المقصود من الترجمة (لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تبارك وتعالى).

    1.   

    شرح حديث: (أن رجلاً نذر أن ينحر...)

    الحديث الذي يتعلق بهذه الترجمة حديث ثابت بن الضحاك وهو حديث صحيح وفيه: أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة. يعني: في مكان اسمه بوانة والرجل نذر أن ينحر في هذا المكان، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية؟) لأن عهدهم قريب بالجاهلية، يعني: مكث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشرة أعوام ثم توفي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم في هذا الحين فإنه يكون قريب عهد بجاهلية وقريب عهد بشرك، فلذلك كان يخاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من التشبه بالمشركين والرجوع إلى عوائد المشركين.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل الناس عن المكان الذي يريد الرجل أن يذبح فيه الإبل لله عز وجل ليوفي بنذره فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ فقالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) أي: هل كان في هذا المكان الذي اسمه (بوانة) عيد من أعيادهم يجتمعون فيه، وأعياد الجاهلية كانت كثيرة وكان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيها في المدينة، والكفار بمكة كان لهم مثل ذلك فعبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فيها عيد من أعيادهم) والعيد من العود وهي أماكن يجتمعون فيها يعود الزمان كل سنة بمثلها، أو أنها اجتماع الناس في مكان ووقت معين أو أن الاجتماع نفسه يسمى عيداً.

    تعريف العيد

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العيد اسم لما يعود من اجتماع عام على وجه معتاد عائد، فهو اجتماع للناس كلهم على وجه يعتادونه في كل سنة مرة، أو في كل شهر مرة، وهكذا.

    يقول: إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر، والمراد به في هذا الحديث الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أموراً منها أنه عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع الناس فيه، ومنها أنه تعمل فيه أعمال من العبادات والعادات.

    وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، أي: قد يوجد مكان يسمى العيد أو أنه يطلق على اجتماع الناس.

    يقول: وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً ويدلل عليها بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    منها: ما رواه ابن ماجة بإسناد حسن: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في يوم الجمعة: إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً) ويوم الجمعة عيد بمعنى أنه يعود كل أسبوع فيجتمع المسلمون للصلاة فيه فجعله الله عز وجل عيداً للمسلمين.

    كذلك في اجتماع الأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: والحديث في الصحيحين وفيه أنه شهد العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم. يعني: شهد أعمال العيد في هذا اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فالعيد نفسه لا يشهد، وإنما أعمال العيد هي التي تشاهد.

    كذلك يطلق على المكان كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً). واتخاذ القبر عيد هو بأن يجتمع عليه الناس لعبادة معينة تنافي توحيد الله سبحانه وتعالى، كأن يجتمعوا فيدعون النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يدعوا الله سبحانه وتعالى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً) والحديث صحيح رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .

    أيضاً: يكون العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً) . وهذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته فوجد عائشة رضي الله عنها ومعها جواري يغنين معها في يوم عيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم ولاهن ظهره ونام وابتعد عن ذلك، ودخل أبو بكر فنهرهن وفرقهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً). أي اتركهن فإن هذا عيد، فيطلق العيد على اليوم وعلى الاجتماع فيه وعلى ما يكون في هذا اليوم من أفعال.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) أي: هذا المكان هل كان المشركون يجتمعون فيه على شيء من العبادات الباطلة سواء في زمن معين أو حتى مجرد اجتماع لعبادة غير الله سبحانه؟ فلما قالوا: (لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك). لأن الإنسان قبل أن ينذر لا يلزمه شيء، والذبح لا يجب عليه إلا إذا كان في حج وكان متمتعاً أو قارناً، أو أتى بشيء مما يلزمه فيه الفدية من محظورات في الإحرام ونحو ذلك، أما غير ذلك فلا يجب الذبح على الإنسان إلا للنذر فإذا نذر وجب عليه أن يوفي بنذره. فهذا ألزم نفسه بهذا النذر أن ينحر إبلاً في مكان يقال له بوانة.

    وفي حديث آخر رواه أبو داود ولعله في نفس الحادثة عن سارة بنت مقسم الثقفية أنها قالت: سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت مع أبي في حجة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يعني: جاء في حجة الوداع.

    قالت: فجعلت أبده بصري، يعني: جعلت أنظر إليه كأنها من مكان بعيد كانت تنظر إليه، فدنا إليه أبي وهو على ناقة ومعه درة كدرة الكتاب. قالت: فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية، يعني: المشي على المهل، فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت: فوقف له عليه الصلاة والسلام واستمع منه، فقال: (يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم). في هذا الحديث ذكر أنه سينحر مجموعة من الأغنام، والحديث الأول ذكر أنه نذر أن ينحر إبلاً فلعله نفس الرجل أو غيره.

    فالغرض أنه بين سبب النذر فقد كان ينجب إناثاً فنذر لو أن الله وهبه ولداً أن ينحر إبلاً في هذا المكان أو يذبح غنماً فيه. الرواية هنا أنه كان سيذبح خمسين رأساً من الغنم في هذا المكان. قالت: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا. قال: فأوف بما نذرت لله) . أي: طالما أن المكان لم يذبح فيه لغير الله عز وجل ولا كان فيه عيد من أعياد الجاهلية -حتى لا يتشبه بهؤلاء- فاذبح لله عز وجل في هذا المكان.

    وفيه: أن المسلم يحرص على عدم التشبه بالمشركين في شيء مما كانوا يصنعونه في جاهليتهم وكفرهم.

    وفيه أيضاً: طالما أنه نذر شيئاً مباحاً يجوز له أن ينذر فيه فيجب عليه الوفاء بهذا النذر الذي نذره.

    وأيضاً قالوا في هذا الحديث: إن المفتي إذا سمع شيئاً فلا يتعجل بالإجابة حتى يستفصل فلعله يكون وراء ذلك شر، فالرجل قال: أنا نذرت لو أني ولد لي ولد أن أذبح خمسين شاة في هذا المكان أو أنحر إبلاً في هذا المكان، والأصل الوفاء بالنذر، والله عز وجل مدح الذين يوفون بالنذر بقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، ولكن لما كانت أحوال الناس تختلف ومن الممكن أن يكون هذا المكان بالذات له في نفوس الناس شيء كشبهة من الشرك لذلك استفصل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هذا المكان كان فيه من أوثان الجاهلية؟ وهل كانوا يعبدون فيه غير الله سبحانه؟ وهل كان فيه عيد من أعياد الجاهلية؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اذبح في هذا المكان بدون استفصال، فسيقول الناس: النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك، وقد كان آباؤنا على الصواب فإنهم كانوا يذبحون في هذا المكان لبركة المكان، فيتذكرون ما كان فيه من تماثيل وأصنام فيرجعون لعبادة الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وأخبر أنه سيرجع مرة ثانية وقال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة وكان صنماً لدوس تعبده في الجاهلية بتبالة) ونساء دوس، أي: نساء قبيلة دوس فسيرجعن مرة أخرى يطفن بالأصنام في هذا المكان الذي هدم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وسيعود الناس إلى الشرك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وحذر من الذرائع التي توقع الناس في الشرك بالله سبحانه وتعالى.

    وفي الحديث أيضاً: المنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله وهذا مأخوذ من باقي الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله) فلو كان هذا المكان فيه عيد من أعياد الجاهلية لمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء بالنذر فيه.

    إذاً: أنت نذرت أن تذبح في هذا المكان وكان فيه شرك بالله فلا يجوز لك أن توفي به في هذا المكان، لكن أصل النذر موجود إلا أن يكون النذر بذاته لغير الله فلا يجوز الوفاء به ويكفر عن هذا النذر.

    قال: (ولا فيما لا يملك ابن آدم). والإنسان لو نذر شيئاً لا يملكه لم يلزمه الوفاء به، ولا يجوز له أن ينذر بذلك كأن يقول: لله علي إن أعطاني كذا أن أعتق عبد فلان؛ لأن العبد الذي يملكه فلان أنت لا تملكه وقد لا تقدر على شرائه من سيده فيكون هذا النذر لا يجب عليك الوفاء به وعليك كفارة يمين في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين). وكذلك فيما لا يطيق ابن آدم. فالإنسان إذا نذر شيئاً لا يطيقه أو نذر نذر معصية فيلزمه أن يكفر كفارة يمين. وجاء عن أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني بشواهده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً ...)

    قال: [ وقول الله عز وجل: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] ].

    (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) والآية تتعلق بمسجد بناه أهل النفاق، قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا [التوبة:107] وهذا المسجد الذي بنوه سمي بمسجد الضرار، والذين اتخذوا المسجد إنما اتخذوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل هم المنافقون، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كان يصلي فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع المؤمنين، وهؤلاء المنافقون أرادوا مكاناً يجتمعون فيه لوحدهم بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يعملون فيه ما يريدون فبنوا مسجداً، وأرادوا -تمويهاً على الناس- أن يأتوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي في المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً لغزوة تبوك لذلك لم يذهب ووعدهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا رجع سيصلي في هذا المكان، وقد بني هذا المسجد سنة تسع من الهجرة في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بنى هذا المسجد المنافقون ضراراً أي: مضارة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولكي يكيدوا لهم، ويتجسسوا على أخبارهم وإذا جاء أحد من جواسيس الروم وغيرهم أخفوه في هذا المكان وأطلعوه على أسرار المسلمين بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين.

    وأيضاً حتى يحزبوا الناس فحزب يصلي هنا وحزب يصلي هناك، وأيضاً ليبعدوا الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مواعظه وعن العلم الذي يؤخذ منه عليه الصلاة والسلام. فيكون ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فيكون الغريب من جواسيس الكفار والمشركين ينزل في هذا المكان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو ورجع عليه الصلاة والسلام وأمر بهدم هذا المسجد. وقيل: إنه أحرقه عليه الصلاة والسلام والله أعلم، لكن الغرض أن الله عز وجل أنزل القرآن يفضح هؤلاء، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا [التوبة:107] الآية، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108] والأصل المفترض أن المسجد موقوف لله عز وجل ولكن هذا المسجد لم يكن بنية سليمة، فإنه بني للضرار، وللأذى، ولتفريق المسلمين فلذلك نهاه الله عز وجل عن أن يصلي في هذا المسجد وإن كانت الرواية التي جاءت في تحريق المسجد إسنادها ضعيف لكنها مشهورة عند أهل السير فذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم فيه وأرسل إليه فهدمه والله أعلم بذلك.

    قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108] وانظر إلى كلمة أبداً فلم يأمره أن يجعله لأمر آخر. ولم يأمره أن يرسل إليه إماماً يأتم بالناس فيه لأنه بني للمضارة، فعاقب هؤلاء على ما صنعوا ليكون سبة عليهم ولعنة عليهم فيما صنعوا لتفريق المؤمنين.

    وحماية لجناب التوحيد وعبادة الله عز وجل نهى أن يصلي في هذا المكان أحد، حتى يعلم أن هذا مكان المنافقين الذي بنوه مضارة وأذى للمسلمين ومحادة لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.

    المسجد الذي أسس على التقوى

    ثم عظم الله شأن مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

    فالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، قالوا: هو مسجد قباء. وقالوا: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل غير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في المدينة على الأنصار خط في المكان الذي نزل فيه مسجداً عليه الصلاة والسلام، فأي مسجد خطه النبي صلى الله عليه وسلم وبناه فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقد جاء في حديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم. فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا). وقباء كان قبل المسجد النبوي ولكن أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجده أنه أسس على التقوى من أول يوم وذلك لا ينافي أن قباء أيضاً كذلك وإنما فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه ركعتين صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (صلاة في مسجد قباء كعمرة).

    وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً) . فذهب بعض أهل العلم إلى أنه هو المسجد الذي أسس على التقوى ومنهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم، والحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري يبين أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره. وإذا قيل: هو مسجد أسس التقوى فلا شك في أنه أسس على التقوى وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء كذلك أسس على التقوى من أول يوم وكان قبل بناء مسجده عليه الصلاة والسلام. فالغرض أن كلا المسجدين قد أسس على التقوى وقد مدح الله عز وجل قباء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الثاني وهو المسجد النبوي.

    قال تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

    وقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة عن عوين بن ساعدة الأنصاري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم). وهذا بيان أن مسجد قباء أسس على التقوى؛ لأنه هنا متعلق بالآية: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] فالحديث هنا يبين أنه مسجد قباء أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟) والطهور بمعنى: التطهر، والطهور بمعنى: الآلة المستخدمة في التطهر. فيكون الطهور الوضوء أو الغسل أو التنظف بالاستنجاء ونحوه.

    والطهور: الماء الذي يستخدم في ذلك. فهنا أثنى عليهم الله عز وجل بالطهور، فقال هنا: (ما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو ذاك فعليكموه). والحديث له أسانيد حسنة وذكر الألباني في الإرواء أنه صحيح.

    والحديث فيه أن الله عز وجل قال: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] وذكر في الحديث هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأهل مسجد قباء فدل على أن مسجد قباء مقصود بهذه الآية، ومسجد قباء الصلاة فيه ركعتين كعمرة لكنه لا يعدل فضيلة مسجده عليه الصلاة والسلام، فإذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجده من باب أولى فلذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا المسجد هو المسجد النبوي. فدل الحديثان على أن مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده عليه الصلاة والسلام أيضاً أسس على التقوى.

    والمدح لأهل قباء وهم من الأنصار والأنصار كانوا معاشرين لليهود في المدينة، وكانت عادة القرشي أنه إذا أتى الغائط أو أتى البول استجمر بعده لقلة المياه عندهم، وقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم استخدام ثلاثة أحجار في التنزه وما كانوا يعتادون استخدام الماء في مكة لأنه إن وجد فيكون قليلاً ونادراً، لكن في المدينة كان أحدهم إذا أتى الغائط يستجمر بالحجر ثم يستنجي بالماء، وكأنه بالحجر يخفف وبالماء يزيل ما تبقى، فمدحهم الله عز وجل على حبهم للتطهر ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا: كنا نتبع الحجارة الماء، ليكون أنقى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو ذاك فعليكموه).

    ولما ذكر الله عز وجل مسجد الضرار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى [التوبة:107] والمنافقون كذابون، فكانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل سيكذبون على الله يوم القيامة. فقال الله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107] أي: يحلفون لك كذباً أنهم أسسوا هذا المسجد للتقوى وللعبادة والله يشهد إنهم لكاذبون، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108].

    1.   

    لا بأس بتخصيص البقعة بالنذر إذا خلت من الموانع

    من المسائل التي ذكرها الشيخ في هذا الباب: (تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع).

    والمعنى: إذا نذرت لله سبحانه وتعالى فكأنك قيدت نفسك بعبادة من العبادات لله سبحانه وتعالى، والنذر منه النذير والنذارة فكأنك أخفت نفسك من عدم الوفاء بهذا الذي قطعته على نفسك به، وإذا قطعت على نفسك نذراً فإنه يلزمك أن توفي به.

    وإذا نذرت في بقعة معينة كأن تقول: لله علي نذر أن أطعم أهل مسجد كذا من الفقراء كذا أو أن أذبح في المكان الفلاني لأهله الفقراء. فإنه يلزمك الوفاء بما قيدت نفسك به إلا أن يكون هذا المكان فيه مظهر من مظاهر الشرك فلا يجوز لك أن تنحر فيه وانحر في أي مكان آخر.

    ولو أن إنساناً قال: لله علي أن أنحر إبلاً في المكان الفلاني وكان هذا المكان فيه عبادة لغير الله سبحانه كمولد من الموالد، أو بدعة من البدع، أو شرك بالله سبحانه وتعالى فلا يجوز له أن يوفي بالنذر في هذا المكان ويلزمه أن يوفي في مكان آخر.

    1.   

    الطاعة والمعصية تؤثران في مكانة المكان الذي وقعت فيه

    من المسائل التي ذكرها الشيخ هنا: (أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة).

    ومقصده: أن عبادة الله عز وجل في أي مكان ترفع من قيمة هذا المكان، وإذا كان هذا المكان فيه شرك بالله عز وجل فإنه لا يكون له نفس المكانة التي كانت له قبل وقوع الشرك فيه، فأثرت المعصية على هذه البقعة من الأرض بأن يجتنب الإنسان الموضع لأنه كان يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى، وإن كانت المعصية أثرها على أصحابها والأرض لا تحمل من أوزار الناس شيئاً.

    قال: (وكذلك الطاعة). يعني: المكان الذي أسس على تقوى الله كانت النتيجة أن صلوا في هذا المكان وقوموا فيه، والمكان الذي أسس على مضارة المؤمنين ومحادة الله ورسوله كانت النتيجة (لا تقم فيه أبداً). هذا مقصد كلامه.

    وفيه أيضاً: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، يعني: إذا سأل إنسان عن شيء موهم مشكل يمكن أن يكون له جواب متعارض فاصبر حتى تفهم المسألة ويزال عنك الإشكال لتجيب بالصواب.

    وفيه أيضاً: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله وإبعاده إلا ما ذكرناه قبل ذلك.

    فيه المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله، يعني: لا ينذر نذراً في مكان كان فيه شرك بالله، أو كان فيه عيد من أعياد الجاهلية، أو كان فيه وثن من أوثانهم، ولا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه معصية، وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصدهم. وكذلك الحذر من مشابهتهم في أفعالهم، وكما ذكرنا قبل ذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا بنى أحدهم بيتاً ذبح في مكان من البيت يتقرب للجن بذلك حتى لا يضروه، ومن فعل مثل هذا الآن بمثل هذه النية فإنه يتشبه بهم، وعلى الإنسان ألا يفعل أفعال هؤلاء كما قدمنا قبل ذلك، والذي يبني عمارة ويذبح فيها بقرة أو يذبح فيها شيئاً قد يعرف وقد لا يعرف أصل هذا العمل، فإن كان يعرف فقد شابه هؤلاء وقصد قصدهم، وإذا كان لا يعرف ينبه على ذلك وأنه لا ينبغي أن يذبح ويقلد المشركين في ما كانوا يصنعون.

    ومن المسائل أيضاً: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، وقد دل الحديث على أن الشيء الذي لا تملكه لا يجب عليك الوفاء به إذا نذرت فيه ولا يتم نذرك بذلك، والأفضل في ذلك أن تكفر عنه كفارة يمين، مثل أن يقول: لله علي إذا حدث كذا أن أذبح بقرة جاري، فهنا هو لا يدري أن جاره سيسمح له بذلك أو لا؟ وهل سيبيع له البقرة أو لا؟ إذاً: هو نذر شيئاً لا يقدر عليه، وفي هذه الحالة يكفر كفارة يمين.

    1.   

    باب من الشرك النذر لغير الله

    أنواع النذر وحكم كل نوع

    وقول الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] فيها المدح للمؤمنين الذين يوفون بالنذر.

    والنذر منه ما هو جائز، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم. فالنذر الجائز نذر التبرر كأن يقول: لله علي أن أقوم هذه الليلة، أما النذر المكروه فهو نذر المعاوضة ونذر اللجاج، كأن يقول: يا رب! لو شفيت مريضي سأصوم لك ثلاثة أيام، كأنه يتعامل مع الله بهات وخذ، ستعطيني كذا سأعمل لك كذا، فهذه المعاملة لا ينبغي أن تكون مع الله عز وجل، فهو بذلك ينسى نعم الله عز وجل عليه وينظر إلى هذا الأمر فقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك وأخبر: (أن النذر لا يأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل)، (النذر لا يأتي) يعني: لن تنال ما تريده بنذرك إلا أن يكون الله قدره لك، إذاً: سواء نذرت أو لم تنذر فسيحصل لك طالما أن الله قدره لك، وإذا لم يقدره لك فلن تحصل عليه سواء نذرت أو لم تنذر، (وإنما يستخرج به من البخيل) والإنسان ببخله يتعود على ذلك، وينسى أن الله أعطاه كل النعم العظيمة التي يعيش فيها ويتقلب فيها ليل نهار.

    وكره النبي صلى الله عليه وسلم هذا النذر الذي هو نذر المعاوضة، وإنما النذر الجائز المباح نذر التبرر، مثل إنسان يريد أن يلزم نفسه بقيام الليل فيقول: لله علي أن أقوم الليل هذه الليلة، فيقصد إلزام نفسه بهذه العبادة التي كانت مباحة ومستحبة وجائزة وليست واجبة فصارت بنذره واجبة عليه، فإذا وفى بنذره فإنه مأجور على ذلك.

    والنذر الممنوع منه نذر الشرك، ونذر المعصية، والنذر فيما لا يطيق ولا يقدر ابن آدم عليه كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم وفيها تفصيل.

    ومن الشرك النذر لغير الله، كأن يقول: سأذبح للبدوي كذا لو حصل كذا، وسأذبح لـأبي العباس كذا لو حصل كذا، فنذر أن يذبح لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له ذلك فالعبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121].

    وقال الله سبحانه يمدح المؤمنين: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] يخافون يوم القيامة الذي شره عريض واسع عظيم -نسأل الله العفو والعافية- فيوفون بالنذر.

    قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] أي: يعلمه فيجازيكم عليه على إحسانكم بالإحسان، يقول ابن كثير : يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات ومن النفقات والمنذورات ويتضمن ذلك المجازاة على ذلك.

    يقول: وإذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم كل ذلك شرك في العبادة.

    يعني: أن يأتي إلى قبر من القبور ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، أو يكتب ورقة ويعلقها بالقبر، أو يضع رأسه على حديد القبر ويتكلم في السر كأنه يكلم صاحب القبر، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [الروم:52]. وإن كان أسمع أهل القليب في يوم بدر وهذا كان خاصاً، لكن في غير ذلك الميت لا يسمع من الأحياء شيئاً إلا ما يبلغه الله عز وجل لهؤلاء الأموات عن طريق أرواح الأموات التي تأتي إليهم. فإن الأموات في قبورهم تأتي إليهم روح الإنسان المتوفى حديثاً فيسألونه: ما فعل فلان وفلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية. فهم أموات لا يدرون شيئاً عما في الدنيا. فيقول لهم: تزوج فلان من فلانة وترك فلان فلانة وفعل فلان.

    فالغرض: أن الإنسان مهما دعا الأموات، ومهما كانوا من الصالحين أو من غيرهم فإنهم لا يسمعون الدعاء إنما الذي يسمع الدعاء ويستجيب هو الله عز وجل.

    قال الله عز وجل: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136].

    كان أهل الجاهلية إذا زرعوا وحصدوا قالوا: هذا نصيب ربنا سبحانه وتعالى من الزرع، ويفعلون مثلها في الأنعام ويقولون: هذا نصيب الصنم الفلاني والصنم الفلاني، فإذا اختلط هذا مع هذا جعلوه كله للأصنام، فما كان لله جعلوه لأصنامهم وما كان لأصنامهم لا يجعلونه لله عز وجل ويقولون: الله غني عن هذا وكأن الصنم فقير، ويعبدون هذا الفقير الذي يعرفون أنه لا يملك شيئاً، فإذا اختلطت الأنعام التي جعلوها لله بالأنعام التي جعلوها لأصنامهم جعلوها كلها للأصنام وقالوا: الله غني عن ذلك، وإذا كان الله سبحانه غني فلماذا تتركون عبادته لتعبدوا هذا الفقير بزعمكم؟ ساء ما يحكمون، قال الله سبحانه: فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136].

    حكم النذر لغير الله

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو في منزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والذي يحلف بغير الله معظماً غير الله سبحانه فإنه يشرك بالله سبحانه، فإذا حلف الإنسان وهو يقصد تعظيم هذا الشيء، كأن يحلف بالشمس والقمر أو بالأصنام فقد كفر الكفر الأكبر، وإذا كان هذا مما يجري على اللسان ولا يدري بذلك فيقال له: قل لا إله إلا الله لأنه وقع في الشرك الأصغر بذلك. ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: الحلف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، كذلك الناذر للمخلوقات فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله). لقد كانوا قريب عهد بشرك فكان على لسانهم: واللات والعزى وكان يحلف الرجل بأبيه أو بأمه فنهاهم الله عز وجل عن ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت).

    ثم قال: من نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به وقال: إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين.

    فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، يعني: لا يجوز الوفاء بذلك، كأن يذهب إنسان إلى مكان فيه بدع وأناس يدعون غير الله كقولهم: المدد يا فلان، ويطلبون منه أن يمدهم، ومعنى أمدنا، أي: أعطنا، فتجده يقول: مدد يا بدوي ، مدد يا أبو العباس، مدد يا آل البيت، وهؤلاء قد ماتوا وإن كانوا من الصالحين ومن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كـالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيرهم من آل بيته ولكنهم ماتوا وأمرهم إلى الله عز وجل فأنت تنتفع بعلمهم وبما تركوه من تفسير وغيره.

    أما أن يعطيك مدداً فإنه لا يملك لنفسه فضلاً أن يملك لك، فالذي يطلب المدد من الأموات يطلب ما لا يعطيه إلا الله سبحانه وتعالى فهو مشرك بالله عز وجل. وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يجعل واسطة بينك وبينه سبحانه، وقد قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقال: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] .

    يقول: والمجاورون لهذه القبور فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه الصلاة والسلام: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، الذي يجاور القبر ويكون خادماً له ويدعو الناس إلى النذر للميت، وكأن هذا الميت سينفعهم والذي ينفع ويضر هو الله والميت لا يملك لنفسه شيئاً ولا لغيره.

    قال الرافعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على القبور أو على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من الأولياء أو اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين؛ فإن قصد الناذر بذلك -وهو الغالب أو الواقع من قصور العامة- تعظيم البقعة والمشهد أو الزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد.

    والرافعي من أئمة الشافعية فيذكر أن الذي ينذر نذراً لقبر من القبور أو لمكان حله ولي من الأولياء أو مكان حله إنسان من الصالحين ويقصد بهذا النذر أن يتقرب به إلى هذا الصالح قال: وهو قصدهم الغالب قال: فهذا باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم - يعني: الناذرين- أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء. فتجده يقول: أنا عندما ذهبت إلى المكان الفلاني قضيتي نجحت، ولما ذهبت إلى سيدي فلان أو الشيخ فلان كسبت قضيتي، فيعتقدون أنه يطوف بغير الكعبة ويظن مع ذلك أنه بتقربه لهذا المكان سينجح في عمله. فهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى.

    قال: ويعتقدون أنه يستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح.

    قال: وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ويقولون: إنها تقبل النذر كما يقوله البعض، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض أو قدوم غائب، قال: فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756021406