إسلام ويب

تفسير سورة غافر [69 - 77]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العجب كل العجب من أولئك الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويجادلون أنبياء الله تعالى ورسله بالباطل، ومن جاء بعدهم يجادلون أهل الحق، ويزعمون أنهم على حق كذباً وزوراً وبهتاناً، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم على باطل، وإنما دفعهم إلى ذلك التكبر على الحق وعلى الخلق، لكنهم سيعملون غداً من الكذاب الأشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله ... فسوف يعلمون)

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة غافر: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:69-72].

    يعجب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ممن يجادل في آيات الله عز وجل بغير حق وبغير علم، قال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] أي: يوحي الشياطين إلى أوليائهم من المشركين والمنافقين والكاذبين والجاحدين بأن يجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالباطل ليصرفوهم عن الحق.

    يقول تعالى: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله وقد سمعوا كتاب الله وما فيه من الآيات المحكمة العظيمة، والمعجزات الباهرة أنى يصرف هؤلاء عن التفكر في آيات الكتاب، وفي المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آيات الله في الكون التي تدل على أنه إله واحد يستحق العبادة؟! فكيف صرف هؤلاء عن التفكر؟! أين ذهبت عقولهم وقلوبهم؟! لم لا يتفكرون؟! ما هذه الغفلة التي هم فيها؟! ألا تعجب من هؤلاء الذين لا يفهمون ولا يتعظون بما تقول؟! كيف صرفوا عن الحق ودلائله وعن التوحيد؟! وكيف فتنوا وانصرفوا عن التفكر في آيات الله؟!

    هؤلاء المجادلون بالباطل الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا [غافر:70]، أي: الذين كذبوا بما نزل من القرآن من عند رب العالمين، وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا، فهؤلاء جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه، وقد جاءهم بقصص الأنبياء السابقين مع قومهم، فهذا نوح أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وقال: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وهود أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وصالح أرسل إلى قومهم فأمرهم بالتوحيد، ولوط أرسل إلى قومه فأمرهم بالتوحيد، وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمروا قومهم بالتوحيد فانصرفوا عنه إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، فكأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن الجميع جاءوا بهذه الدعوة دعوة التوحيد: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

    إذاً: هؤلاء المشركون كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا دعوة التوحيد، وكذبوا بالكتاب وهو القرآن الذي نزل من عند رب العالمين، وكذبوا رسلنا الذين أرسلنا من قبل ذلك، وهو دين الإسلام دين التوحيد.

    وقوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [غافر:70] فيه التهديد والوعيد من رب العالمين سبحانه، أي: انتظروا فسوف ترون ما يسوءكم، سوف ترون العذاب الشديد، وذلك بأن نجعل الأغلال في أعناقكم والسلاسل تسحبون بها إلى النار والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ...)

    قال تعالى: إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71].

    قوله: (إذ) ظرفية فيها توقع حدوث الشيء، فسوف يعلمون في زمن كذا وفي وقت كذا إذ يحدث لهم كذا.

    قوله تعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [غافر:71] الأغلال: جمع غل، والغل: هو القيد الذي تربط به اليدان إلى رقبة الإنسان، فتغل يد الأسير وتربط بسلسلة إلى رقبته، فكذلك يصنع بهؤلاء، بحيث تربط أيديهم فتغل في أعناقهم فلا يقدرون على الفكاك ولا الهرب.

    وقوله: (والسلاسل يسحبون) أي: السلاسل يسحبون بها، قال تعالى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32]، فهي سلاسل يسحبون بها وسلاسل يسلكون فيها والعياذ بالله، كما تسلك حبات السبحة في الخيط، فتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم، كالشيء المشوي على سيخ والعياذ بالله!

    قال تعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71] أي: يسحبون بهذه السلاسل، إلى أين؟ قال: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] والعياذ بالله! يؤخذون بأغلالهم وسلاسلهم فيسحبون على وجوههم إلى الحميم، والحميم: هو السائل الذي بلغ الغاية النهائية القصوى من درجات الحرارة، وفي الدنيا يبلغ الماء أقصى درجة الحرارة مائة درجة مئوية، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فالسائل يبلغ أكثر من ذلك؛ فالذي يوقد عليه هو نار جهنم والعياذ بالله، ولو تخيلنا أن هذه الشمس قريبة منا بمقدار ثمان دقائق، وهذه الشمس درجة حرارتها الخارجية تصل إلى ستة آلاف درجة مئوية، أما في نواة الشمس وداخلها فتصل درجة الحرارة إلى ستة ملايين درجة مئوية، فحرارة هذه الشمس ليست كنار جهنم، فكيف تكون نار جهنم؟! وكم تكون درجة الحرارة التي تبلغ فيها وهي سوداء مظلمة تصل إلى أقصى ما يكون من درجات الحرارة والعياذ بالله؟! وفي هذه النار سائل ينضج عليها النار، وهو من صديد أهل النار والعياذ بالله، مما يسيل من جلودهم، فهؤلاء يسحبون على ذلك الحميم السائل الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، ثم يؤخذون فتوقد بهم نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] أي: يصيرون وقوداً للنار والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون ... كذلك يضل الله الكافرين)

    قال الله تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:73-74]، هذه النار لا يطيقها أحد أبداً، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة، اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل جنتك، هذه النار التي في الآخرة يجعل الله عز وجل فيها هؤلاء، فهم لا يحيون حياة كريمة، ولا يموتون فيستريحون، ثم قيل لهم لما عاينوا ورأوا العذاب وأدخلوا فيه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر:73-74]؟ أين ذهبت الأنداد والأصنام التي كنتم تتخذونها آلهة من دون الله؟ فأجابوا (قالوا ضلوا عنا) أي: غابوا عنا وتاهوا، وذهبوا في مكان آخر، فلما تفكروا قالوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [غافر:74] أي: استدركوا على أنفسهم فقالوا: لقد كنا في الدنيا في تيه وفي ضلال، بل لم نكن ندعو شيئاً ننتفع به، ولا شيئاً يملك لنفسه نفعاً فضلاً عن غيره، وإنما كنا ندعو أشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع.

    إذاً: كانوا في الدنيا يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ويدعونها من دون الله سبحانه، لكن دفعهم الكبر والأشر والبطر لذلك، فالكبر جعلهم يتعالون على دين الله وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجادلون بالباطل فيما يعرفون أن الحق معه صلى الله عليه وسلم، فيقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].

    أي: كل هذه الآلهة والأصنام التي نعبدها يريد أن يوحدها بواحد فقط، هذا شيء عجيب! وما هو وجه العجب في ذلك؟ فهم يقولون ذلك قولاً فقط، وهم يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فهم يرون أحدهم يصنع الصنم والآخر يكسره، ويرون الذي يصنع الصنم ثم هو الذي يأكله بعد ذلك، فهذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله قد عبدوها وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأحدهم: (كم تعبد من إله؟ فقال: أعبد سبعة، واحداً في السماء وستة في الأرض، فقال له: من الذي ترجوه لنفعك؟ فقال: الذي في السماء...).

    إذاً: الآلهة التي في الأرض لا تنفع ولا تضر، وهذا باعترافهم، فنقول لهم: لماذا تعبدونها؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله، فالشيطان يوحي إليهم ألا تعبدوا الله مباشرة، ولكن اعبدوا هذه الآلهة فإنها تقربكم إلى الله زلفى، ومع أنهم غير مقتنعين بذلك، ولكن منعهم الكبر على الحق، والكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون نبياً من بني هاشم؟!

    إذاً: الكبر يمنعهم من اتباع الحق، ويدفعهم لعبادة ما لا ينفع ولا يضر، فلما جاءوا يوم القيامة ما استطاعوا أن يكذبوا كما كانوا يكذبون في الدنيا، ولكن قالوا: لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [غافر:74] أي: اعترفوا بالحقيقة، وندموا حين لا ينفع الندم، وطلبوا الاستدراك في وقت لا ينفع فيه الاستدراك، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85].

    قال تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ [غافر:74] أي: كذلك الضلال الذي ضل فيه هؤلاء حتى وصلوا إلى النار يضل الله عز وجل مثله كل كافر يجادل بالباطل، فكل من يجادل بالباطل لم يضر إلا نفسه، فمن يتبع الباطل ويترك الحق ويظن أنه أتى بشيء فالله عز وجل يختم على قلبه، ويتركه في غفلته هكذا، ويذكر ربنا سبحانه المؤمنين كأنه يقول لهم: أيها المؤمنون! انظروا إلى الضلال الذي كان في هؤلاء حتى وصلوا إلى النار، فإنا سوف نضل هذا الإنسان المجادل بالباطل، حتى يظل في تيه وفي غفلة، عابداً غير الله حتى يصل إلى مثواه في نار جهنم كما فعل الله بالسابقين كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ [غافر:74].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق...)

    قال الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [غافر:75] أي: هذا الذي تذوقونه من العذاب بما كنتم تفرحون، فربنا سبحانه وتعالى ذكر لـقارون نصيحة قومه له حين قالوا: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] أي: لا تفرح أنه أعطاك، فكون الإنسان يصيبه شيء من الهناء ومن السرور لا مانع أن يفرح بنعمة الله، وأن يفرح بنصر الله، ويفرح بالإيمان والهدى، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:4]، لكن كون الإنسان يفرح بالمعاصي، أو يفرح بكثرة الأتباع، ويأشر ويبطر ويبتعد عن الحق، وينظر لغيره باحتقار لأنه أعلى منهم؛ ولأنه أفضل منهم، فهذا المرح والفرح فيه إسراف وفيه تعد وغرور وهو الذي نهى عنه الله سبحانه فقال مبكتاً لهم: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر:75].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها... فإلينا يرجعون)

    قال تعالى: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر:76] أبواب جهنم سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فيقول لهؤلاء: ادخلوا هذه الأبواب والعياذ بالله، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: بئس مقر ومأوى ومنزل ينزل فيه هؤلاء، فهذا هو مثوى للمتكبرين عن الحق، وللمستكبرين على الخلق.

    ثم قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77] أي: اصبر على ما سيحصل من هؤلاء؛ فإن الدنيا قليلة وحقيرة، وسرعان ما تزول، فاصبر لأمر الله، واصبر على قضاء الله وقدره، واصبر على الأذى، واصبر على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، اصبر فإن الوعد من الله، ووعد الله حق، فهو الذي يعدك بالجنة، وهو الذي يعدك بالنصر سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [غافر:77] أي: نريك بعض الذي نعد هؤلاء ونتوعدهم به من العذاب في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها، قال: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77]سواء مكناك فنلت النصرة وغنمت من هؤلاء، أو أخذناك وقبضناك، فالكل إلينا راجع، وسنحاسب الجميع.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756235774