إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [46 - 49]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل في هذه الآيات الكريمة أنه على المسلم عند مجادلة أهل الكتاب أن يعلن إيمانه بكل ما أنزل الله من كتب وما أرسل من رسل، وأن إلهنا جميعاً هو إله واحد لا شريك له نحن له مستسلمون وخاضعون، ثم بين الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولو كان كذلك لظن هؤلاء وغيرهم وشكوا في أنه جاء بهذا القرآن من عند نفسه، ولكن ذلك ليس صحيحاً؛ بل هو آيات بينات في صدور أهل العلم محفوظة، وليس له وظيفة سوى إنذار الناس بالعذاب وتبشيرهم بالجنة لمن اتقى ربه سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (... وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    لما ذكر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه لا ينبغي لهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم قال: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] فأدب المسلمين بأدب من آداب هذا القرآن العظيم وهو ترك الجدل، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن ينشغل بالجدل إلا إذا احتاج إلى ذلك، كما إذا جادله إنسان من الكفار من أهل الكتاب أو من غيرهم في دين الله سبحانه فليرد عليه بعلم.

    إذاً: ينبغي على المسلم أن يتعلم دينه حتى لا يجادله إنسان فلا يعرف كيف يرد على هذا الذي يجادل فيه، فيتعلم ويدفع بالتي هي أحسن ويرد بالحسنى، قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] فلا يكون هم الإنسان الجدل، ولذلك جاء في الحديث: (لا يفلح قوم أوتوا الجدل) وفي الحديث أيضاً: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) فالإنسان بعدما كان على هدى ابتدأ في الجدل، فصار علمه كله عبارة عن أسئلة ومجادلات وأشياء عقلية، وابتعد عن القرآن الكريم وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتحكيم العقل بالجدل.

    لكن إن احتاج المسلم إلى ذلك فيدفع بالتي هي أحسن.

    قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا [العنكبوت:46] لهم ولغيرهم: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [العنكبوت:46] أي قولوا لليهود للنصارى أهل الكتاب: آمنا بالكتب المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا نفرق بين أحد من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، بل آمنا بالجميع.

    قال تعالى: وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [العنكبوت:46] أي: الإله الذي نعبده هو إله واحد لا شريك له، لا صاحبة ولا ولد ولا والد، بل هو إله واحد وحده الذي يستحق العبادة.

    وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] أي: مذعنون مستسلمون له سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب... )

    ثم قال تعالى صلى الله عليه وسلم: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:47] يعني: كما أنزلنا الكتب السابقة من السماء على هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كذلك أنزل إليك هذا القرآن العظيم من ربك الإله المعبود الرب الخالق سبحانه.

    قال سبحانه: فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت:47] أي: من جاءهم هذا الكتاب من المسلمين الذين عرفوا أنه الحق آمنوا به وصدقوه.

    قال سبحانه: وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ [العنكبوت:47] أي:من اليهود والنصارى من عرف الحق واتبعه أيضاً، أما الجاحدون لكلام رب العالمين فهم الكافرون الذين كذبوا وأعرضوا عنه، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، فقال الله عز وجل لهؤلاء المكذبين: انظروا لهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي جاء بهذا الكتاب العظيم المعجز، والذي فيه نبأ من كان قبلكم، وخبر من يأتي بعدكم، أخبار يوم القيامة، وذكر الأنبياء السابقين، هل حكمتم عقولكم حتى تعرفوا أن هذا نبي حق أم أنكم رددتم ما جاء به بغير نظر وفهم وتعقل؟

    لكن لا يؤمن بآياتنا إلا الإنسان المؤمن الذي يعلم ويعقل ويفهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب... )

    قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48] أي: هلا نظروا إلى ذلك ففهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي أمي، والأمي: هو الذي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أبداً ما قرأ ولا كتب قبل ذلك، وجاء بهذا القرآن العظيم المعجز الذي يتحدى به الجميع.

    وهلا فهموا وعقلوا كيف يكون رجل لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب قبل ذلك، ولا سافر إليهم في طلب علم منهم، ولا جالسهم في مكة ولا في غيرها، يخبر عن ربه سبحانه بهذا القرآن العظيم ويخبر عن الأنبياء السابقين، وما أتوا به من الآيات وما فعلوه مع أقوامهم وما صنع معهم؛ حتى إن أهل الكتاب ليتعجبون من دقة ما يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يأت به من عنده ولكن من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

    ولو فكروا من أين تكلم عن آدم عليه السلام وعما حدث بين ابني آدم، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] فقتل أحدهما الآخر، لعلموا أنه لم يعرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من السماء، وإن كان عرفه أهل الكتاب من كتبهم، فهو لم يقرأ كتبهم، وكتب أهل الكتاب كانت بلغتهم وبلسانهم، فالتوراة مكتوبة باللغة السريانية أو يترجمونها عنها إلى العبرانية لكن ليس إلى العربية.

    والذين في المدينة كانوا يقرءون التوراة بلسانها؛ ولذلك أكثر الذين كانوا في المدينة من اليهود كانوا لا يقرءون، لكن يذهبون إلى بيت مدراسهم فيقرأ عالمهم، فإذا أحبوا أن يفهموا شيئاَ يترجمه لهم إلى اللغة العربية ويفهمهم ويحرف ما يشاء في ذلك.

    ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذهب لبعضهم وأخذ منهم حكماً من التوراة ترجموها لـعمر فقالوا له: عندنا في التوراة كذا وكذا، فذكروا الترجمة، فأخذها وذهب بها للنبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: كيف تصدقهم؟ وما يدريك وأنت لا تفهم اللغة التي نزلت بها التوراة ثم تأخذ منهم ما يحرفونه هم، لعلك تصدق بشيء يكون مما افتروه وكذبوه، ولعلك تكذب بشيء فيكون حقاً من عند الله عز وجل؟ فليس من حقك ذلك، ثم قال لـعمر : (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

    فالغرض هنا: أن الله سبحانه ذكر في هذا القرآن العظيم أنباء السابقين، فذكر قصة نوح عليه السلام في مواضع من كتابه سبحانه، وكيف أغرق الله عز وجل الناس بالطوفان، وأنجى نوحاً والذين آمنوا معه، وهذا شيء لا يعرفه الناس إنما يعرفه أهل الكتاب، وأنه كان في زمن من الأزمان نوح عليه الصلاة والسلام فدعا قومه فلما لم يستجيبوا فدعا عليهم.

    فالتفصيل الذي في القرآن لا يعرف جميعه إلا من اطلع على التوراة وعلى كلام أهل الكتاب فيعرف بعضاً من ذلك ويأتي القرآن يفصل هذا الشيء.

    وموسى عليه الصلاة والسلام أرسل إلى قومه ودعاهم إلى الله، وكذبه فرعون وجنوده، وبنو إسرائيل تلونوا عليه، وأثبت الله عز وجل ذلك في الكتاب في مواضع كثيرة جداً، فذكر موسى بالذات عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صاحب شريعة، وكم حدث له من الأحداث مع قومه ومع بني إسرائيل، وكيف تقلبوا عليه وتلونوا معه وتغيروا وفي النهاية أسلم من أسلم وكفر من كفر.

    فالله عز وجل أثبت في كتابه أشياء لا يعرفها إلا أحبار أهل الكتاب، فيجدون ذلك عندهم ويجدونه عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفكرون من أين عرفه صلى الله عليه وسلم؟

    ليس هناك إلا أمران: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه الأشياء من اطلاعه على كتب أهل الكتاب، وإما بوحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

    ويستحيل أن يأتي العلم بطريق آخر غير هذين الطريقين، فكونه لم يقرأ كتب أهل الكتاب وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجالس أهل الكتاب قبل ذلك؛ دل على أنه وحي.

    وقد مدحه ربنا سبحانه وتعالى بذلك فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157] إذاً: اسمه صلى الله عليه وسلم مذكور عندهم في التوراة ومذكور عندهم في الإنجيل، وهم يحرفون اسمه بشيء آخر حتى لا يقولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه هو الذي جاء من عند رب العالمين.

    قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أي كتاب قبل هذا القرآن أبداً.

    وكذلك لم يكن شاعراً من الشعراء، ولا كاهناً من الكهان، إذ الكهان معروف أسلوبهم وطريقة السجع في كلامهم الذي يريدون أن يثبتوا به شيئاً أو ينفوه.

    وكذلك فالشعراء تعرف القصائد التي يقولونها، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شعراً قبل ذلك، بل إنه عندما كان يتمثل بأبيات لبعض الناس قالها فلعله يخطئ فيها صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقيم التفعيلة والوزن لبيت الشعر، ولا يهتم بذلك، فلما قال رجل من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم:

    أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

    فهذا بيت شعر له وزن وتسمع الموسيقى الشعرية حين تقرؤه، ومعناه: أتجعل الغنيمة أو ما تعطيني من شيء أنا وفرسي نصف ما يأخذه فلان وفلان وتعطيني أنا الأقل؟!

    فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟) فانكسرت التفعيلة ولم يعد شعراً، ولذلك عندما سمع الصحابة ذلك قالوا: صدق الله العظيم، لست بشاعر. وهذا مدح للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان شاعراً لقالوا: هو لفق القرآن هذا من الشعر وغير التفعيلة بشيء آخر.

    والقرآن ليس شعراً، يفهم ذلك من درس الشعر، ومن قرأه وصاغه، وقد يتمثل ببيت مما قاله من قبله، أما من عند نفسه عليه الصلاة والسلام فلا يقول شعراً.

    فإذا كان ليس شاعراً وليس كاهناً، ولم يعهد عليه قبل ذلك قط أنه يكذب على البشر، ولم يقرأ كتاباً من كتب أهل الكتاب، ولا يجيد قراءة ولا كتابة، ثم يأتي بهذا القرآن الذي يعجز الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، فلا يكون هذا إلا رسول عليه الصلاة والسلام.

    فربنا سبحانه يقول لهؤلاء: اعقلوا وافهموا، فهذا رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام.

    قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48] أي: لو كنت كذلك: لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] فظهر بذلك حكمة الله تعالى في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب.

    وكونه لا يقرأ ولا يكتب ليس معناه مدح عدم القراءة والكتابة، وليس معناه أن يقال للأمة الإسلامية: لا تتعلموا القراءة والكتابة، بل هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، ومدح له أنه لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب المعجز ثم أنتم أيها المشركون الذين تقرءون وتكتبون هاتوا قرآناً مثله، قال تعالى: فَأْتُوا بِكِتَابٍ [القصص:49] وقال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13] فلم يقدروا، وقال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] ولم يقدروا على ذلك.

    وقال: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:38] وقال: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:23] وقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] أي: ولو قوى بعضهم بعضاً واجتمع بعضهم مع بعض وبذلوا ما بذلوه من أجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كانوا بعضهم لبعض ظهيراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات... )

    قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.

    أما ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب فهذا لا يصح، ولا ينافي ذلك أنه كتب اسمه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية عندما كتب علي رضي الله عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بـسهيل بن عمرو يعترض ويقول: لو كنا نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله.

    فرفض علي رضي الله عنه أن يغير رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه القلم ومحا كلمة (رسول الله) وكتب مكانها (ابن عبد الله).

    فهذه معجزة له صلى الله عليه وسلم لكونه لا يجيد قراءةً ولا كتابة، وهذه المرة عرف مكان كلمة (رسول الله) فشطبها وكتب (ابن عبد الله)، فهذه المرة الوحيدة التي كتب فيها.

    والعلماء اختلفوا في ذلك: هل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم أو أمر غيره أن يكتب؟ ففي الحديث الذي في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً وأمره أن يمحو ذلك، فـعلي قال: والله لا أمحوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها) أي: أين مكانها من الصحيفة، إذاً: حتى هذا الحين لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، فأشار له إلى مكان كلمة (رسول الله) فمحاها بيده وكتب مكانها: ابن عبد الله.

    وأكثر أهل العلم على أنه أمر غير علي رضي الله عنه أن يكتب ذلك.

    وبعض أهل العلم ذكر أنه كتب بيده صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس هناك أحد يكتب فجأة.

    وقد خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] فذكر شيئين: النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب.

    ثم قال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فاختلف المفسرون في عود الضمير (هو) فقال بعضهم: إنه عائد على القرآن، أي: القرآن آيات بينات.

    وقال بعضهم: إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم آية من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يكون نبياً أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بهذا الإعجاز العظيم من عنده سبحانه.

    فالذين قالوا: (بل هو) عائد على القرآن، قالوا: القرآن آيات بينات جليات واضحات من رب العالمين لا غموض ولا إشكال فيها، والذين أوتوا العلم هم الذين يفهمون ذلك ويحصلونه ويحفظونه في صدورهم.

    إذاً: على هذا القول يكون القرآن هو الكتاب الوحيد الذي في الصدور، والتوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله عز وجل التي نزلت لم ييسر حفظها لأحد، إنما كان يحفظها فقط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الناس فلم يكونوا يحفظونها؛ ولذلك حرفت هذه الكتب، وسهل بذلك تبديلها وتغييرها، وشرحها بغير لغتها، فإذا بدلها بغير لغتها حرف فيها ما يشاء.

    أما القرآن فهو منضبط محفوظ في الصدور، يحفظه المسلمون من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.

    فالقرآن آيات محفوظة في الصدور ومكتوبة في الصحف، فالإنسان المؤمن يحفظ كتاب الله عز وجل كما قال سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

    وعلى القول الآخر بأن المعنى: هو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله تعالى: (آيات) معنيان: الأول: وجدان أهل الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبهم، ثم يجدونها محققة في شخصه، فيكون ذلك دافعاً لهم على الإيمان به، فقد كان البعض منهم يأتي إليه ويختبر تحقق هذه الصفات فيه، فإذا تأكد أنه فعلاً النبي عليه الصلاة والسلام دخل في دين الله عز وجل.

    ويكون المقصود بقوله تعالى: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] أن من أهل الكتاب من عرفوها من كتبهم.

    والقول الآخر: أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات، أي: صاحب معجزات من عند رب العالمين أعظمها هذا القرآن العظيم، ومنها الآيات الأخرى مثل: انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه حتى يتوضأ ويشرب جيشه الذين معه، وقد تكرر ذلك مراراً، وغير ذلك من بركات ومعجزات جعلها الله عز وجل على يده، حتى يعرف أهل العلم ذلك ويستيقنون، وأما من يجحدون بذلك فهم الظالمون، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016859