إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت الآية [45]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر المولى جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوامر عظيمة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولأمته المقتدين بهديه: فأمره بتلاوة القرآن الكريم واتباع ما جاء فيه، ثم أمره بإقامة الصلاة؛ لتكون بينه وبين ربه جل وعلا صلة وثيقة؛ ولأن هذه الصلاة إذا أقيمت كما ينبغي أثمرت البعد عن الفواحش والمنكرات، ثم أمره بذكر الله المقترن بالصلاة وغيرها أو المطلق في كل الأحوال، ثم ختم الآية بتخويف العصاة وتفريح المؤمنين بأنه يعلم صنيع الفريقين فيجازي كلاً بعمله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب....)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

    هذه الآية العظيمة يأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فيها بثلاثة أشياء: الأول: أمره بتلاوة ما نزل من القرآن، على وجه البيان والتبليغ والتوضيح، وتعليم الأمة، وعلى وجه ذكر الله سبحانه وتعالى.

    فتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم في صلاته، وتلاه في خطبه، وتلاه على المسلمين، وتلاه على المشركين، وأرسل إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى هذا الكتاب العظيم، وأرسل إلى العالمين أنسهم وجنهم.

    وكان يتلو هذا القرآن في ورده، حتى إنه قد ينشغل عن حزبه فيعوضه في وقت آخر، ولا يفوته ذلك أبداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فقام بذلك.

    أمر الله تعالى بإقامة الصلاة

    ثم قال له: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، أي: أقمها لنفسك فصل لله عز وجل بالليل طويلاً، وصل لله عز وجل بالنهار أيضاً، ثم أقمها للمؤمنين فائمر بالنداء لها، وصل بهم، وعلمهم أن يستقيموا فيها.

    فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأوامره وأفعاله، وبإنكاره على من يسيء منهم في صلاته وترغيبهم في الثواب فيها، وترهيبهم من التقصير فيها، فقام بذلك صلوات الله وسلامه عليه.

    وبين له ربه سبحانه في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت:45] أن هذه الصلاة عظيمة جداً، تنهى الذي يحسن فيها عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنها تنهى كل إنسان عن الفحشاء والمنكر كل بحسبه، فإنسان جاء ليصلي وانشغل عن هذه الصلاة بالتفكير في أشياء خارجها، فأقل ما فيها أنه وهو في صلاته لا يفعل المنكر ولا يفعل الفحشاء، فنهاه ما هو فيه عن أن يقترف آثاماً وذنوباً.

    فإذا دخل الإنسان الذي يقع في المنكرات والمعاصي والفواحش في الصلاة فأقل ما فيها أن هذا الجزء من وقته ليس بفحشاء وليس بمنكر.

    فالصلاة منعته من ذلك في ذهابه من بيته ومجيئه إلى بيت الله عز وجل وهو متوجه إلى الصلاة على الأقل، وإذ هو متذكر لله عز وجل في ذلك الحين.

    أما الإنسان الذي يدخل في الصلاة بخشوع، وخضوع، وتواضع لله سبحانه، وحب لهذه الصلاة، وكان في كل أحواله مستشعراً الذل بين يدي الله عز وجل، وهو قائم يقرأ، وهو راكع منحن، وهو رافع، وهو ساجد لله سبحانه متواضعاً، وهو قاعد يستشعر أنه عبد ذليل بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى، وفي قراءته يتدبر معانيها، ويطبق على نفسه ما هو فيها من أن المحسنين لهم الجنة فيرجو ذلك، وأن المسيئين لهم النار فيخاف من ذلك، ويسأل الله من رحمته، يتعوذ بالله من غضبه وعقابه، فهو في مناجاة مع الله عز وجل في صلاته، وإذا ركع عظم ربه سبحانه وتعالى وذكره، وإذا سجد دعا ربه وهو مستيقن بأن الله يستجيب دعاءه.

    فإذا كانت الصلاة على هذا الوجه وخرج فيستحق أن يقال: إن هذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا يعقل أبداً أن يكون إنسان يصلي على هذه الصورة ثم يخرج من الصلاة ليزني مثلاً، أو يخرج ليسرق، أو ليقع في شهادة الزور، وقول الزور، وأكل حقوق الخلق.

    فهذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهو فيها متصل بالله عز وجل، فإذا خرج لم تنقطع صلته بربه سبحانه وتعالى.

    ولذلك يقول العلماء في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ[العنكبوت:45]، أن المراد: إدامتها والقيام بحقوقها.

    وأخبر الله سبحانه بالحكم من رواء هذه الصلاة بأنها تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ لما فيها من تلاوة القرآن واستماع الذكر الذي يشتمل على الموعظة.

    والصلاة تشغل بدن المصلي إذا دخل فيها وخشع وأخبت لله سبحانه وذكر الله، وتذكر أنه واقف بين يديه فتذكر الموقف يوم القيامة.

    الإنسان المؤمن يتفكر حال وقوفه في الصلاة أنه يقف بين يدي الله عز وجل اختياراً، أما يوم القيامة فالكل واقفون بين يدي الله رب العالمين ومجموعون ومحشورون إليه اضطراراً، قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، وقال: وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ[الصافات:24]، ولا بد للسؤال من إجابة، ولن يستطيع الهرب أبداً، ولا من الموقف بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

    فإذا وقف الإنسان في الصلاة في الدنيا تذكر الموقف يوم القيامة، وأن موقفه هذا يغني عن إطالة سؤال يوم القيامة، ويدفع عنه شر هذا اليوم الذي قال الله عنه: يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[الإنسان:10]، شديد العبوس، شديداً فيما هو فيه من سؤال وموقف وعرق، وفيما هو فيه من تبكيت وحسرة.

    فإذا خرج الإنسان من هذه الصلاة لم تزل عليه هذه الصلاة وصفتها وخشوعها إلى الصلاة التي تليها، ولا يزال هكذا حتى يستمتع بهذه الصلاة.

    ولذلك جاء عن بعض السلف رضوان الله عليهم أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر، وقال: أما تدرون بين يدي من أقف؟

    استشعر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذه منزلة عظيمة جداً ليس كل إنسان يصل إليها، ولكن على الأقل يستشعر الخوف في قلبه، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:2-3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يصلي صلاة مودع.

    فإذا دخل في الصلاة قال في نفسه: يمكن أن تكون هذه آخر صلاة أصليها.

    فإذا استشعر ذلك أحسن فيها أفضل الإحسان.

    قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى[العنكبوت:45]، أي: صاحبها المصلي، عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فإذا انتهى من صلاته وقد أحسنها فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر.

    فضل الذكر

    ثم قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، هذا هو الأمر الثالث، وإن كان على غير صيغة الأمر لكن في مواطن أخرى أمر الله عز وجل به ومن ذلك قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

    والمعنى: إذا كان الله أمر بالتلاوة، وأمر بالصلاة، وبين أن التلاوة تؤدي بك إلى أن تبلغ هذه الرسالة العظيمة، وأن فيها التذكر، والموعظة، وأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعظم من ذلك المداومة على ذكر الله سبحانه وتعالى، كأنه يقول: واذكر الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم.

    فالإنسان يذكر ربه في كل أحواله، ومن ضمن ذلك أنه يذكره في صلاته، فكأن الذكر هنا أعظم؛ لأنه سيكون في الصلاة وفي غير الصلاة.

    فلا يظن أن قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] معناه: أن ذكر الله في غير الصلاة أعظم من ذكر الله في الصلاة، فلم يقل ذلك إنما أطلق ذكر الله في كل الأحوال، فإذا قلنا: أيها أعظم أن أصلي فأذكر الله عز وجل في الصلاة، أم أكون ذاكراً لله في كل الأحوال بما فيها الصلاة؟ فلا شك أن هذه الحالة الثانية أعظم.

    فهذا المقصود أنك بذكر الله سبحانه يطمئن قلبك، سواء كنت في الصلاة، أو في غير الصلاة، فكأنه يشير إلى الذكر لله سبحانه وتعالى دائماً.

    والذكر يكون باللسان وبالقلب وبعقل الإنسان، كأن يتفكر ويتعظ بما يقول ولا ينسى.

    وقد يذكر الله عز وجل بلسانه وعقله في شغل آخر لا يفهم ماذا يقول، كمن يجلس يسبح الله بعد الصلاة ولا يكون فاهماً لما يقول؛ فإن شاء الله يكون له أجر على ذلك.

    لكن أجر من يقول: سبحان الله، وهو يفهم معناها، ويتدبرها، ويتلذذ بطعم سبحان الله وهو يقولها، فهذا أعظم بكثير من إنسان يقول بلسانه ولا يفهم بقلبه، وإن كان الذكر باللسان يؤجر عليه.

    والذي يقرأ القرآن قراءة سريعة يتدبر بعضها؛ يريد أن يراجع لكيلا ينسى فهو مأجور على ذلك، وأعظم منه من يقرأ بتأنٍ وتمهل وخشوع تدبر وتفكر واتعاظ، قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، وذكر الله يكون بقراءة القرآن، وكذلك بالأذكار التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء الله سبحانه وتعالى، وذكر الله بأن تطلب منه الجنة، وأن تتعوذ به من النار، فلا يزال ذكر الله على بال المؤمن وفي قلبه فيكون ذاكراً لله سبحانه وتعالى بلسانه وبقلبه.

    فإذا كان عقل الإنسان حاضراً وهو في ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا عظيم جداً، وتأتي مكافأة من هذا شأنه في الدنيا وفي الآخرة، فينجيه هذا الذكر من مضايق كثيرة جداً بكثرة الذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردتم أن يستجيب الله لكم وقت البلاء فأكثروا من الدعاء وقت الرخاء)، ففي وقت رخائك أكثر من الدعاء، فإذا جاء وقت البلاء استجاب الله عز وجل لك؛ لأن صوتك مسموع في السماء، والملائكة تشهد لك عند الله سبحانه، وهو أعلم.

    فلا يزال الإنسان ذاكراً لله حتى يعطيه الله عز وجل ما يتمناه في الدنيا والآخرة.

    وكلما كان الإنسان منشغلاً بالدنيا كلما كانت الأماني موجودة، فيقول: يا رب! أعطني مالاً أو أعطني قصراً أو غير ذلك فطلباته في الدنيا كثيرة.

    وكلما ترقى الإنسان ووصل لدرجة في ذكر الله سبحانه وحبه كان أمله في الآخرة يقول: يا رب! أسألك الجنة وأريد الحور العين، يا رب! أريد قصوراً في الجنة، فإذا كان يوم القيامة ووجد ما دعا به تمنى أنه لم يستجيب له دعاء في الدنيا وأنه ادخر له كل ذلك ليوم القيامة.

    فالإنسان الذاكر لله عز وجل يعطيه الله ما يتمنى في الدنيا أو في الآخرة، وقد ترى إنساناً حقيراً، وتجده يمشي حافياً، وملابسه مقطعة أو مرقعة، ولكنه قرير العين، ومستريح البال، ومطمئن القلب، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهذه الجنة هي جنة حب الله سبحانه وذكره.

    فالمؤمن يستمتع بذكر الله، ويصل أقصى درجات الاستمتاع في الجنة، فيلهم التسبيح كما يلهم النفس، أي: كما أن النفس في الدنيا لا يستغنى عنه فكذلك أهل الجنة لا يستغني أحد منهم عن ذكر الله سبحانه، وعن تسبيح الله؛ لأنه استمتع به أعظم استمتاع.

    والجنة عظيمة غالية، وأعظم ما يكون للإنسان المؤمن في الجنة والذي يتمناه أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتشرف بالقرب من الله سبحانه.

    وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالذكر في آيات كثيرة، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] وأمر الله عز وجل بقراءة هذا القرآن، وبالاستماع له فقال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِك [العنكبوت:45] وقال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].

    وذكر المؤمنين الصالحين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] كذلك أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130]، أي: الصلاة قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر، وقبل غروبها وهي صلاة العصر، فتواظب على صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم قال تعالى: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130]، فجمع الصلوات الخمس في هذه الآية من سورة طه.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور والمؤمنون مأمورون تبعاً بالصبر وإقامة الصلاة.

    ومدحهم الله سبحانه فقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، فبدأ بالذكر ثم ثنى بإقامة الصلاة.

    فهو في حال بيعه وشرائه ذاكر لله عز وجل، ففي صلاته لا بد أن يكون ذاكراً لله سبحانه؛ لأن حاله دائماً على ذلك، يتلذذ بذكر الله.

    وإذا ذكر الله ذكره الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملئه ذكرته في ملأ خير منه)، وقد جاءت في ذكر الله عز وجل أحاديث عظيمة جميلة منها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل) فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه أن يجلس من الفجر إلى أن تطلع الشمس مع قوم يذكرون الله سبحانه، ثم قال: (ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين)، فتقول: الحمد لله وتثني على الله سبحانه، وتشكر الله سبحانه، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فكأنك تطلب منه المزيد، فإذا أعطاك نعمة وحمدت الله تعالى جعل لك زيادة فوق هذه النعمة من فضله ومن كرمه.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون الموحدون قالوا: ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، يعني: سبقوا إلى الجنات سبقوا إلى النعيم، غيرهم محبوس في الحساب وهم حوسبوا بسرعة ودخلوا إلى الجنة فسبقوا غيرهم إلى الجنات.

    وجاء أيضاً في الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فاخبرني بشيء أتشبث به)، يعني: أن الشرائع والسنن والأفعال كثيرة فأنا أكثر حاجة إلى ما أواظب عليه فلا أنساه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).

    وليس معناه أن يترك الصلاة والصيام، بل كأنه نصحه بأعظم ما يكون أن يذكر الله عز وجل ليذكره فيستغل بذلك وقته.

    وروى الإمام الترمذي عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)، وكل إنسان يتمنى لو أنه يعمل شيئاً من هذه الأشياء أو ينالها، وقوله: (خير) أفعل تفضيل بمعنى: أفضل وأخير أعمالكم، وأزكاها وأطهرها، وأعلاها، وأنفسها عند الله سبحانه وتعالى، فما هو الشيء الذي هو أعظم من إنفاق الذهب والفضة، وخير من الجهاد؟ (قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى).

    فذكر الله عز وجل أعظم من هذه الأشياء، لأنه يدعو المؤمن لكل هذه الأشياء، فإذا ذكر الله تعالى دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الصوم فصلى وصام، ودعاه إلى الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا لقي عدو الله ذكر الله فلم يرهب أحداً، ولم يخف أحداً، فكان الذكر أعظم.

    لكن انظر للإنسان الذي ينفق الذهب والورق فلعله لا يذكر الله عز وجل وينساه، فيرائي بعمله، ويسمع به، وينتظر الجواب في الدنيا ولم يعمل العمل لله فحبط هذا العمل بذلك.

    فإذا أعطى إنساناً فقيراً مالاً وبعد فترة شتمه الفقير قال له: يا ليتني لم أعطك شيئاً، أنا الذي أكلتك وشربتك، مَنّ عليه فضاع الأجر، فإذا كان ذكر الله في قلب الإنسان منعه من هذا كله، فكان الذكر أعظم.

    والإنسان الذي يلقى عدو الله سبحانه فيقاتل في سبيل الله ثم يقول: خذها وأنا فلان، ويعتقد أنه بقوته صرعه وليس بقوة الله سبحانه، فيظن أن له فضلاً على غيره فيرائي بعمله، ويتعاظم على غيره من المسلمين وليس على المشركين، فضيع عمله في الجهاد بطلبه الدنيا.

    ولعل هذا الإنسان يؤذيه الجرح فيقتل نفسه فيكون من أهل النار، وذكر الله يمنع من هذا كله.

    ومثال ذلك: الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة فقاتل قتالاً عظيماً جداً، فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا مثل فلان في قتاله للكفار، فقال: (هو في النار)، فتعجبوا من أمره، فكادوا يفتنون من هذه الكلمة، فقال رجل: أنا صاحبه، فظل وراءه وهو يقاتل الكفار حتى جرح فآلمته الجراح فأخذ السيف ووضع ذبابه في صدره واتكأ عليه فقتل نفسه.

    فذهب الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! الرجل الذي قلت فيه كذا وكذا لقد رأيته وضع ذباب السيف في صدره وقتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: (أشهد أني رسول الله).

    فبين لهم عليه الصلاة والسلام أن الرجل قد يكون في نظر الناس يجاهد في سبيل الله عز وجل، ولكن تكون نهايته غير ما يتوقع له.

    وفي حديث آخر (أن رجلاً أصابه سهم فقتله فقالوا: هنيئاً له الجنة، فقال: والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه ناراً) وكان قد سرق شملة، والشمله قطعة قماش يشتمل بها الإنسان على كتفه، فلما سرقها اشتعلت عليه ناراً.

    فالجهاد بغير ذكر الله عز وجل قد لا ينفع صاحبه، فكان الذكر أعظم، فلا يصحب شيئاً إلا وكان هذا الشيء أعظم ما يكون، ولا يفارق شيئاً إلا ضاع هذا الشيء عن صاحبه، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذكر الله أعظم ما يكون كما في الحديث المذكور سابقاً.

    في هذه الآية قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: أكبر من هذا كله، ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وفي هذا من التهديد والوعيد ما فيه، والمعنى: لا يفوت من علم الله عز وجل شيء، فكل شيء من صنعك الذي صنعته قد أحصاه عليك وهو سائلك يوم القيامة، فأعد للسؤال جواباً.

    نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756191828