إسلام ويب

التخلص من الوهنللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لذلك جعلها الله عز وجل لقوم عجلت لهم طيباتهم فيها، وادخر الآخرة لعباده المؤمنين، فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، فأعز الله بهم الدين، وحقق بهم سعادة العالمين.

    1.   

    الوهن وأسبابه وكيفية التخلص منه

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    سبب ذل المسلمين وهوانهم

    ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فتسلط عليهم اليهود في فلسطين، وتسلط عليهم الصرب في البلقان، وتسلط عليهم الهندوس في الهند الوثنية الكافرة، وتسلطت عليهم الحكومات العلمانية في سائر البلاد التي تنتسب إلى الإسلام وأهله؟

    ما الذي أصاب أمة الإسلام عباد الله! فهز كيانها وأضعف قوتها، وكان سبب ذلتها وهوانها؟

    لقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي أصاب الأمة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون الوهن، بل كانوا يعرفون العزة والرفعة والكرامة، كانوا يعرفون طريق النصر وطريق الشهادة في سبيل الله عز وجل، ولكنهم سألوا عباد الله من أجل أن نستفيد نحن؛ لأنه قد أصابنا الوهن: (فقالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

    وليس المقصود بالموت في الحديث: الموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكرهون هذا الموت أيضاً، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالوا: كلنا يكره الموت. قال: ليس ذاك، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه).

    فالموت الذي كتبه الله عز وجل على بني آدم كل العباد يكرهونه؛ لأنه مصيبة، قال عز وجل: فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106].

    فلا يصاب أحد في الدنيا بمثل مصيبة الموت، ولكن الموت الذي هو الشهادة في سبيل الله عز وجل كان الصحابة يحبونه، كما قال خالد رضي الله عنه للروم: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.

    فكانوا يتطلعون إلى الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويحبون البذل والتضحية لإعلاء دين الله عز وجل، وهذا الوهن الذي أصاب الأمة عباد الله! هو حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية البذل والإنفاق، وكراهية الموت في سبيل الله عز وجل، وقد حكى الله عز وجل عن الكفار أنهم يغترون بظاهر الدنيا وزينتها، فقال عز وجل: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212].

    فالمؤمن عباد الله لا يغتر بالدنيا، ولا تذهله فيها الأضواء، ولا تفتنه فيها الشهوات؛ لأن همته أعلى من الدنيا، هو لا يرغب في الدون، ولا يبيع الأعلى بالأدنى بيع الخاسر المغبون، آماله كلها في الآخرة، وأحلامه كلها في الآخرة، فهو يرغب في الشهادة في سبيل الله عز وجل، ويرغب في درجات الشهداء: (فإن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فلما تعلق المسلمون بالدنيا، وأشرب حب الدنيا في قلوبهم، وكرهوا البذل في سبيل الله عز وجل؛ أصابهم ما أصابهم من الذل والهوان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

    ووالله ما هذا الذل الذي أصاب المسلمين إلا لأن الناس رضوا بالدنيا واطمأنوا بها، وكانت هي مبلغ علمهم، وغاية آمالهم وأحلامهم، كيف يرتفع دين الله عز وجل، وكيف تعلو راية الله عز وجل، وكيف يرفرف علم الإسلام من جديد على المعمورة دون بذل من المسلمين، ودون إعلاء لكلمة رب العالمين؟ كيف ترتفع راية الإسلام وشجرة الإسلام لا تروى بالماء، ولكنها تروى بالدماء؟!

    أصاب المسلمين الوهن وهو حب الدنيا والتعلق بها، والرغبة في شهواتها، وزهدوا في الآخرة الباقية الدائمة، والله عز وجل قد أمرنا بالزهد في الدنيا، وقد رغبنا في الآخرة، فقال عز وجل: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، وقال عز وجل: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26]، وقال: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20-21]، وقال عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، وقال عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].

    وقال عز وجل حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39]، وقال الله عز وجل: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، وقال عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، أي: من جهة الخير فالآخرة خير، ومن جهة البقاء فالآخرة أبقى، فلماذا تتعلقون بالدنيا، ولماذا تذهبون أعماركم وزهرة شبابكم ونفائس أنفاسكم في طلب الدنيا الحقيرة الفانية الزائفة الزائلة؟!

    بيان حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة

    بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقارة الدنيا وزهدنا في شهواتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

    فلو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة عند الله عز وجل ما سقى كافراً منها شربة ماء، ولكنكم ترون الكفار والفجار أكثر حظاً ونصيباً من الدنيا؛ وذلك لحقارتها عند الله عز وجل، بل قال الله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    أي: لولا أن تكون الفتنة شديدة على أهل الإيمان فيصيرون أمة واحدة -أي: على الكفر- لجعل الله عز وجل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، أي: أبراجاً وسلالم عليها يظهرون.

    قال: وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:34-35].

    ثم جمع الله عز وجل الآخرة الباقية الدائمة، فجعلها كلها للمتقين، فقال عز وجل: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35]. (مر النبي صلى الله عليه وسلم والناس كنفيه -أي: من حوله- بجدي أسك ميت -أي: مقطوع الأذن- فتناوله بأذنه وقال: أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ فقالوا: والله ما نحب أنه لنا بشيء، والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)، أي: كما زهدتم في هذا الجدي الأسك الميت، فالدنيا أهون على الله من هذا عليكم.

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً ومتعلماً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).

    1.   

    ذكر الأسباب التي جعلت الدنيا رأس كل خطيئة

    حب الدنيا رأس كل خطيئة، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بالخمر؛ لأن الذي يصيبه السكر بالخمر يفيق غالباً وهو في الحياة، أما من يسكر بحب الدنيا فلا يفيق غالباً إلا في عسكر الموتى نادماً بين الخاسرين.

    حب الدنيا حب لما أبغضه الله ورسوله وتعظيمها تعظيم لما حقره الله ورسوله

    قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا من وجوه:

    الوجه الأول: أن العبد إذا أحبها فقد أحب ما يبغضه الله عز وجل، وما يبغضه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    الوجه الثاني: أنه إذا أحبها عظمها وهي حقيرة عند الله عز وجل، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقع في تعظيم ما حقره الله عز وجل، وما حقره رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكفى بذلك فتنة.

    حب الدنيا يمنع من سعي العبد للآخرة

    الوجه الثالث: أنه إذا أحبها صيرها غايته، فيكون سعيه كله للدنيا، وأمله كله في الدنيا، فلا يسعى للآخرة سعيها، ولا يرجوها، ولا يعمل لها العمل اللائق بها، وهذا شر منكوس وقلب معكوس من كل وجه، قال الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    فعمله كله في الدنيا من أجل الدنيا، حتى الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل من طلب العلم النافع، أو الصلاة أو الصدقة أو الجهاد أو غير ذلك، فإنما يتوسلون بذلك إلى الدنيا لما في قلوبهم من حبها.

    وفي حديث مسلم خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: الذي قرأ القرآن من أجل أن يقال: قارئ، والذي أنفق من أجل أن يقال: متصدق، والذي جاهد وقاتل من أجل أن يقال: شجاع أو جريء، فانظروا إلى حب الدنيا عباد الله كيف حرم هؤلاء من الأجر في الآخرة، وكانوا أول الداخلين إلى النار؛ لأن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك.

    والذي يعبد الله عز وجل بالرياء مثله كمثل رجل دخل السوق ومعه كيس مملوء بالحصى، فكلما رآه أحد قال: ما أملأ كيسه! فإذا وقف عند البائع وأخذ ما أراد، ثم أخرج ما في كيسه ضرب به وجهه ولم ينل به شيئاً، ولم يكن له إلا قول الناس: ما أملأ كيسه! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا ليصيب به عرض الدنيا لن يجد عرف الجنة يوم القيامة) أي: لا يجد ريح الجنة يوم القيامة؛ لأنه طلب العلم للدنيا، وإنما ينشأ ذلك من حب الدنيا.

    حب الدنيا يضر بصاحبه ويمنع من الإيمان جملة

    الوجه الرابع: أن حب الدنيا يدخل على العبد الضرر ولابد، فمن الناس من يمنعه حب الدنيا عن الإيمان جملة، فلا يؤمن بالله عز وجل، فقد يكون له من الجاه ومن السلطان كالقسيسين والرهبان، والذين يتبوءون المناصب التي يصدون بها عن سبيل الله عز وجل، ويحاربون أولياء الله عز وجل، وهم يعتقدون أنهم مخطئون في ذلك، وأن الحق في دين الله عز وجل، وفي الدعوة إليه، وأن الدعاة إلى الله عز وجل على حق، ومع ذلك يحاربون أولياء الله عز وجل، والذي يمنعهم من أن يصرحوا بالحق أو يعملوا به هو حبهم للدنيا، فحب الدنيا قد يمنع العبد من الإيمان جملة، فيستمر على كفره وإعراضه وصده عن سبيل الله عز وجل.

    ومنهم من يمنعه حب الدنيا عن أداء الواجبات.

    ومنهم من يمنعه حب الدنيا عن أداء واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره، وأقل شيء عباد الله! أن حب الدنيا يحرم العبد من سعادة الدنيا والآخرة، وكمال سعادة العبد في الدنيا والآخرة: أن يكون ظاهره وباطنه لله عز وجل، وأن يكون بقلبه وقالبه مع الله عز وجل، فهذا إذا وقف في الصف عباد الله فهو يتفكر في شهواته، ويتفكر في أمواله ومقاولاته، ولا يتفكر فيما يتدبره من قرآن، أو ما يذكره من أذكار، وإنما قلبه يهيم في الدنيا، كما قال بعضهم:

    يخبرني البواب أنك نائم وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم

    أي: حتى في اللحظات التي يؤدي فيها العبادات والواجبات هو مشغول ومشغوف بالدنيا، فهو بالشام مقيم، وقلبه بمصر، يتفكر في شهواته وفي دنياه، فحب الدنيا يدخل على العبد الضرر ولابد.

    حب الدنيا يؤدي إلى جعل الدنيا أكبر هم من يحبها

    الوجه الخامس من أضرار حب الدنيا: أن العبد إذا أحبها كانت أكبر همه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت الدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم ينل منها إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

    فليس معنى: أن العبد يحب الدنيا، ويحرص على شهواتها وأعراضها أنه سوف يصير أغنى الناس، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كره كاره، بل يعذب بالفقر فيها، ويطلبها فتفلت منه.

    حب الدنيا سبب تعذيب العبد في الدنيا والآخرة

    الوجه السادس من ذلك: أن محب الدنيا يعذب بها في الدور الثلاث ولابد، كما قال الله عز وجل: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].

    فالله سبحانه يعذبهم في الدنيا بجمعها، والسعي وراءها وتحصيلها من الوجوه المباحة وغير المباحة، قال تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ أي: يعذبهم في الدنيا بجمعها والحرص عليها، ومنع حق الله عز وجل فيها، ويعذبهم عند الموت كذلك بمفارقة الأموال التي جمعوها، والدنيا التي أحبوها، وَهُمْ كَافِرُونَ بمنع حق الله عز وجل فيها.

    وإن من أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل بذل عمره كله في جمع المال، فجمع الأموال من الوجوه المباحة وغير المباحة، ولم يخرج الزكاة الواجبة، ولم ينفق في أوجه الخير، ثم ورث هذا المال أناس صالحون فتصدقوا من هذا المال، وتقربوا به إلى الله عز وجل فكان لهم حلاوته، وعليه مرارته، فهو بذل عمره يجمع لهم، ولكنه بخل على نفسه، ولم يقدم لحياته، ثم ورث المال من أنفقه في وجوه الخير، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟)، لأن ما قدمه العبد هو ماله، وما تركه لورثته فهو مال وارثه، فالعبد الذي يحب الدنيا يجمعها ويحرص عليها، ولا يتقرب بها إلى الله عز وجل.

    حب الدنيا سبب في سفه العقل وقلة الحلم

    الوجه السابع: أن محب الدنيا من أسفه الناس عقلاً، ومن أقلهم حلماً؛ لأنه قد تعلق بوهم زائل.

    يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغتراراً بظل زائل حمق

    فأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! ظل تحسب أن له حقيقة وهو في تخلص وإلى زوال، وأشبه الأشياء بالدنيا كما قال تعالى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

    وأشبه الأشياء بالدنيا عباد الله! رجل نائم رأى في منامه ما يحب وما يكره، فبينما هو كذلك استيقظ.

    وأشبه الأشياء بالدنيا عجوز شمطاء شوهاء تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبيح، فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح فقالت: لا مهر إلا فقد الآخرة، فإننا ضرتان، واجتماعنا غير مأذون به ولا مستباح، فقال: ما على من أراد وصال محبوبته من جناح، فطلق الآخرة رغبة في وصالها، فلما خلا بها وكشف قناعها وفك إزارها، إذا كل آفة وبلية، فمنهم من طلق واستراح، ومنهم من آثر المقام، فما استتمت ليلة عرسه إلا بالصراخ والعويل، تالله لقد أذن مؤذنها على رءوس الخلائق بحي على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلون لها فواصلوا غدوهم بالرواح، فلم يحمد القوم السرى عند الصباح، ووقعوا في شبكتها فأسلمتهم للذباح، وخرجوا في طلبها فما رجع منهم أحد إلا وهو مكسور الجناح.

    يشبه العلماء الدنيا والآخرة -ولله المثل الأعلى- بملك بنى مدينة في أطيب مكان وأرفعه وأعلاه، وأطيبه هواء، ثم دعا الرعية إلى هذه المدينة وقال: من سبق إلى برج فهو له، ومن سبق إلى قصر فهو له، ومن سبق إلى غرفة فهي له، وشق إلى هذه المدينة طريقاً، وجعل في بداية الطريق ميداناً، وجعل في الميدان شجرة عجيبة عليها من أنواع الثمار والطيور والأزهار، فخرج الناس يطلبون مدينة الملك فمروا بهذا الميدان على هذه الشجرة، فجلسوا تحت الشجرة، وأعجبوا بالشجرة وما عليها من ثمار، وأزهار وأطيار وقالوا: كيف ننفر في الحر ونترك هذا الظل الظليل، والنقد خير من النسيئة، وذرة منقودة ولا برة موعودة، وجلسوا تحت الشجرة عباد الله! ثم قام من كل ألف رجل رجل، وقال: لا نترك مدينة الملك إلى هذه الشجرة، فعما قليل تسقط أوراقها، وتموت أطيارها وتنتهي ثمارها، ويحرقها قيمها، وخرجوا إلى السباق، ولم يشغلهم قلة الرفاق، يطلبون مدينة الملك، ويجتهدون في الوصول إلى بروجها وإلى نعيمها الدائم، ثم عما قليل حدث ما أخبروا به، فماتت الأطيار، وانتهت الثمار، وسقطت الأوراق، ثم أحرقها قيمها، فأحاطت النار بمن تحتهم، فقالوا: أين الذين تركونا وتسابقوا إلى مدينة الملك؟ فقيل لهم: انظروا فرأوهم يتمتعون في أبراجها، ويتفكهون في ظلالها، فتندموا على ما فاتهم من الخير، وزاد من حسرتهم أنه حيل بينهم وبينما يشتهون: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:118].

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    تعريف الزهد

    الزهد هو: الإعراض عن الشيء لاستقلاله واستحقاره، والرغبة فيما هو خير منه، وإنما ينشأ الزهد في الدنيا عباد الله نتيجة لليقين بقول الله عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

    فكلما ازداد يقين العبد بقول الله عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، فإنه يزهد ولابد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فإن الدنيا مثلها كمثل قطعة الثلج رخيصة الثمن سريعة الذوبان، والآخرة كالجوهرة غالية الثمن باقية لا تذوب، فينشأ الزهد نتيجة لليقين، بقول الله عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].

    درجات الناس في الزهد

    الناس في الزهد عباد الله! على درجات: من الناس من يزهد في الدنيا هو لها هو مشته وقلبه إليها مائل، ولكنه يجاهد نفسه، فهذا لا يستحق اسم الزاهد، وإنما يسمى متزهداً.

    الصنف الثاني عباد الله! من يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ولكنه يرى أنه قد ترك شيئاً، فيكون حاله كحال من ترك خزفه وأخذ جوهره، فهو يرى أنه قد ترك شيئاً.

    الصنف الثالث عباد الله! من زهد في الدنيا فأعرض عنها وأراد الآخرة، ولا يرى أنه قد ترك شيئاً، ويكون حاله كحال من أراد الدخول على الملك، فمنعه كلب على باب الملك، فألقى إليه لقمة شغله بها، ثم أخذ في الدخول على الملك ونال عز اللقاء، وأخذ من الملك ما أراد.

    فالدنيا عباد الله! هي كلقمة، والشيطان هو كلب على باب الملك، فمن ألقى إليه الدنيا فإنه يخلو بالملك، وينال عز الدنيا والآخرة.

    دوافع الناس إلى الزهد

    من الناس من يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة؛ لأن السعي في الدنيا يتعب القلب والبدن، والزهد يريح القلب والبدن، كما قال الحسن البصري : الزهد في الدنيا يريح القلب ويريح البدن، فهو لا يشغل قلبه بالدنيا والحرص عليها، ولا جوارحه بشدة السعي فيها.

    ومن الناس من يزهد في الدنيا خشية أن تنقص من حسناته، كما قال عمر رضي الله عنه: لولا أني أخاف أن تنقص من حسناتي لخالطتكم في طيب عيشكم، ولكني سمعت الله عير قوماً فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].

    ومن الناس من يزهد في الدنيا؛ لما يرى من قلة وفائها، وكثرة جفائها وخسة شركائها، كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها وخسة شركائها؛ لأنه إما أن ينافس الكفار الذين اغتروا بالدنيا وزينتها، أو ينافس أهل الشهوات والترف والرغبة فيها، ولا ينافس أهل الرغبة في الآخرة.

    من الدوافع إلى الزهد كذلك عباد الله: أن العبد الذي يرغب في الدنيا قد يتكدر عليه عيشه مع الله عز وجل، ولا تخلص له حلاوة الإيمان، أي: لا يكون مشغولاً بقلبه وجوارحه بالله عز وجل.

    المفهوم الصحيح للزهد

    ليس الزهد عباد الله! نفض الدنيا من اليد، ولكن الزهد أن تخرج الدنيا من قلبك، فقد كان عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان والزبير بن العوام من أغنى الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك كانوا أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة.

    لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيش العسرة أتى عثمان رضي الله عنه بألف دينار -أي: عملة ذهبية- وصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما ضر ابن عفان ما فعل بعد اليوم).

    فليس الزهد في الدنيا عباد الله أن تخرجها من يدك وهي في قلبك، فقد تكون فقيراً -يعني: من الدنيا- ولكنك من أرغب الناس فيها، وقد تكون مملوء اليد من الدنيا، ولكنك من أزهد الناس فيها، كما قيل لبعضهم: ما رأينا أزهد منك، فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أتته الدنيا راغمة فزهد فيها.

    فهذا أويس القرني إمام من أئمة التابعين، بشر بوجوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب من الصحابة أن يطلبوا من هذا التابعي أن يستغفر لهم؛ لمنزلته عند الله عز وجل، اختلف الناس هل هو أزهد أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال بعضهم: عمر بن عبد العزيز ، وقال بعضهم: أويس القرني ؛ لأنه لو ملك الدنيا لزهد فيها، فقال الذي يرجح عمر بن عبد العزيز : إن عمر بن عبد العزيز قد ملك الدنيا وزهد فيها، ولا تجعل من جرب كمن لم يجرب.

    أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه بإحسان في الدنيا وزهدهم فيها

    الناظر في حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام يعلم قيمة الزهد في الدنيا ويعلم حقارتها، فقد كان من حاله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه ما يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة.

    قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) أي: لا يطبخ في بيت من بيوته الشهرين الكاملين.

    قال عروة : فما كان يعيشكم يا خالة؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، أي: أنهم كانوا يأكلون التمر والماء أكثر الأيام، إلا أنهم كانوا يشربون اللبن أحياناًً، تقول عائشة : (إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت عندهم منايح -جمع منيحة وهي: الناقة ذات اللبن- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه).

    وذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه)، والدقل: هو رديء التمر.

    وتقول عائشة رضي الله عنها: (ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم)، ليس من خبز القمح، ولكن من خبز الشعير!

    وأخرجت كساء غليظاً، وإزاراً ملبداً -أي: كثير الرقع- فقالت: (قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذين) بأبي هو وأمي وهو سيد ولد آدم، وسيد الأولين والآخرين.

    وقالت: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف). (دخل عليه عمر رضي الله عنه، فبكى لحاله صلى الله عليه وسلم، ينام على حصير مرمل قد أثر الحصير في جنبه -أي: جعل في جنبه خيوطاً- فبكى عمر رضي الله عنه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه، فقال: ذكرت كسرى وقيصر وهم ينامون على الحرير والديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).

    فلو كانت الدنيا لها قيمة عند الله عز وجل ما حرم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرج الصحابة الكرام على هذا الزهد فكانوا أزهد الناس؛ فكان عمر يخطب الناس وقد لبد بين كتفيه برقاع ثلاث في مكان واحد.

    ولما ذهب عمر رضي الله عنه إلى الشام من أجل أن يستلم مفاتيح بيت المقدس قال: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح . قالوا: يأتيك الآن، فأتى أبو عبيدة ، فقبل يد عمر واعتنقه عمر رضي الله عنه، وذهب معه إلى داره، فنظر عمر في داره -وهو أمير الجيوش وأمير الشام- فما وجد في بيته إلا سيفه وترسه ورمحه، فقال: لماذا لم تتخذ ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! هذا يبلغنا المقيل.

    عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (كان أناس يخرون من قامتهم في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفاقة -أي: من شدة الجوع والفقر، أو من الخصاصة- فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إليهم، وقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة).

    يقول محمد بن سيرين : دخلنا على أبي هريرة رضي الله عنه وعليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما، ثم قال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان! لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيء الجائي فيجلس على صدري، يحسب أن بي الجنون -أي: الصرع- وما بي إلا الجوع.

    فكان من حال الصحابة -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل- من التقلل في الدنيا، ومن الفقر والحاجة، ومن الرغبة في الآخرة؛ ما يدل على شرفهم وفضلهم وعظيم مكانتهم.

    قال عبد الله بن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.

    فهل ترون الزهد عباد الله! شيئاً عارضاً يتخلق به العبد، أو أن الزهد يكون سبباً لخيرات الدنيا والآخرة؟ فالعبد إذا زهد في الدنيا زهد في أعراضها وشهواتها وأموالها، وسعى للآخرة سعيها.

    والعبد إذا زهد في الدنيا عباد الله! بذل نفسه طلباً للآخرة، وهكذا كانت آيات الصدق عند الصحابة رضي الله عنهم لم تكن الدنيا عندهم بشيء.

    وقال أبو الدرداء : لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم.

    فالعبد إذا زهد في الدنيا كان سعيه للآخرة، وكان عمله لها، فلا يلتفت إلى الدنيا، ولا تشغل باله ولا جوارحه.

    اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك.

    اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء، والربا والزنا.

    اللهم أصلح شباب المسلمين.. اللهم أصلح شباب المسلمين.. اللهم أصلح شباب المسلمين.

    اللهم أصلح شيوخ المسلمين.. اللهم أصلح أولاد المسلمين وأطفال المسلمين يا رب العالمين!

    اللهم اهد نساء المسلمين.. اللهم اهد نساء المسلمين.. اللهم اهد نساء المسلمين، اللهم ارزقهن العفة والعفاف والحشمة والصيانة والديانة يا رب العالمين! ورد عنهن كيد الكائدين ومكر الماكرين يا رب العالمين!

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756302057