يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب إثبات السمع والرؤية لله جل وعلا:
قال الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، وقال عز وجل في قصة المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1]، وقال عز وجل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80]، وقال سبحانه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: قد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على
وأيضاً من الدلالات على إثبات السمع لله جل وعلا أن الله عاب على الكافرين الذين يعبدون الأصنام وهي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، فقال الله تعالى موبخاً ومقرعاً أهل الكفر: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء:72] يعني: هذه الأصنام هل لها آذان تسمع؟ فالأصنام لا تسمع منكم، ولا تجيبكم، ولا تنفعكم، ولا تضركم، فأنكر عليهم ذلك، ففيها دلالة على أن الله يسمع، فكأنه قال: هل يسمعونكم كما أسمع أنا؟
وأيضاً قول الله تعالى حاكياً لنا ومقراً لإبراهيم الذي أنكر على أبيه آزر أو على عمه على بعض أقوال أهل العلم، أنه قال: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42] أي: لابد أن نعبد الذي يسمع ويبصر وهو الله سبحانه، وهذا يدل على أن مقام النصح مقام المقارنة، إذاً: فصفة السمع وصفة البصر ثبتتا لله جل وعلا في الكتاب.
وأيضاً في السنن: لما سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟)، ويوم أحد معلوم، وقد كان فيه نكاية شديدة على المسلمين، فقد قتل حمزة أسد الله وأسد رسوله، وقتل ما يقارب السبعين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو سفيان للمسلمين يومئذ: يوم بيوم بدر والحرب سجال، ثم قال: اعلُ هبل، فلما قال ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما أحد منكم يرد عليه ويقول: (الله أعلى وأجل)، فقال: يوم بيوم بدر، فقال عمر بن الخطاب : قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فيوم أحد كان فيه مرارة شديدة على المسلمين.
ووجه الشاهد هنا: أن الله جل وعلا يبين صفة السماع، فهو سمع ما حدث وما دار، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً من الأحاديث التي تثبت صفة السمع ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا، فلما كنا على مشارف المدينة كبرنا تكبيراً عالياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً).
فهنا صفات سلبية وصفات ثبوتية، فقوله: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) نفي لصفة الصمم، وقوله: (إنما تدعون سميعاً بصيراً) فيه إثبات السماع والرؤية لله جل وعلا.
وأيضاً: أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذه الصفات ثابتة لله جل وعلا ثبوتاً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى وعظمته وبهائه، وإذا أثبتنا ذلك فحري بكل مسلم أن يعلم أن سمع الله جل وعلا أحاط بكل شيء، فلا تختلف عليه اللغات، ولا يشكل عليه صوت من جهر ولا من سر، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، ويسمع كل شيء، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، فأحاط الله جل وعلا بكل شيء سمعاً.
فإذا كان المؤمن يعتقد هذا الاعتقاد الجازم بأن الله يسمع سره، ويسمع ما يخفض به من الكلام، ويسمع ما يجهر به، فحري بكل مسلم ألا يسمع الله جل وعلا إلا ما يحبه ويرضاه، وألا يسمع الله إلا ما يقربه منه، ولا يسمع الله إلا الثناء عليه سبحانه، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو مجالس الذكر والعلم، أو قراءة القرآن، فلا يهذي بكلمات تبعده عن رب البرية جل وعلا، وإذا اعتقد أن الله يسمع ما يقول فحري به أن يتدبر ما يقول، ويعي الدرس جيداً كما وعاه قبله الصحابة الكرام عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) فالرجل إذا وعى الدرس جيداً، وعلم أن ربه يسمع ما يقول، فإنه لا بد أن يكون رقيباً على كلامه، ولا يتكلم إلا بما يحب الله جل وعلا ويرضاه.
فهو يسمع الكافرين ويسمع المؤمنين، وهذا السمع يستلزم التهديد الأكيد والوعيد الشديد، فقد هدد الله الكافرين بهذه الصفة العظيمة الجليلة، لكن لا يعي ذلك إلا من نور الله بصيرته، فإن أهل الكفر والإلحاد إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد ما افتروا على الله جل وعلا وعلى محارمه، وانظروا كيف سبوا الله جل وعلا وأمهلهم، لكنه هددهم بهذه الصفة العظيمة، قال الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] فهذه الآية فيها تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل الكفر الذين يسبون الله جل وعلا، ولا يغرنكم صبر الله جل وعلا عليهم أبداً، فإن الله جل وعلا هددهم وتوعدهم بهذه الصفة.
قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] فهذا تهديد يبين أن الله جل وعلا يسمع ما يقولون من سب له جل وعلا، وانتقاص من قدره، وأن ذلك لا يضيع، بل هو مكتوب، وقد سمعه الله جل وعلا وسيجازيهم عليه.
وأما التهديد لأهل النفاق الذين هم أشد من أهل الكفر، فقد هددهم الله بقوله سبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] وقال: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108] فهم يحسبون أن الله جل وعلا لا يسمع ما يبيتون، والله يكتب ما يبيتون ويسمع ما يبيتون، والله جل وعلا إذ يسمع مكر الماكرين ونفاق المنافقين فإنه يجازيهم على ذلك، فهذا هو الاعتقاد الصحيح أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله لا يخفى على سمعه شيء.
السمع الثاني: سمع خاص، وهو خاص بالمؤمنين المتقين الصالحين، وقد يدخل الكافرون معهم لأمر ما، وهذا السمع يستلزم سماع الدعاء والإجابة، كما قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] أي: يستلزم سماع الله جل وعلا لدعاء المرء أنه يسارع في إجابته، ويسارع فيما ينفعه، فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75] أي: سمع الله نداءه، فما من مؤمن يدعو الله تعالى بصوت خافت أو يستغيث به إلا وسمعه الله جل وعلا سمع إجابة وسارع له في تفريج الكربات، فهذا السمع الذي هو خاص بالمؤمنين هو سماع إجابه لتفريج الكربات، ورفعة الدرجات، وغفران للزلات.
وهذا يونس عليه السلام لما كان في الظلمات ونادى كما قال تعالى: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] أي: نادى بصوت إما عالٍ وإما منخفض، ففي الحالتين لا يخفى الصوت على الله جل وعلا، فلما نادى سمعه الله جل وعلا، فاستجاب له وأنقذه من هذه المهالك وهذه الظلمات.
وهذا السمع سمع تفريج للكربات، وأيضاً إجابة للدعوات، فقد سمع الله جل وعلا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، اللهم أنجز وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت) فاستجاب الله له بعدما سمعه وهو يدعو ويستغيث به جل وعلا.
ومن السمع الخاص: استجابة فوق هذه الاستجابة، وهي استجابة مدح وثناء، وهذه الاستجابة هي استجابة المناجاة، فهذه والله أعلم يدخل فيها الصالحون المتقون المخلصون، وهذه المناجاة يرفع الله بها العبد فيثني عليه في الملأ الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع الله لمن حمده)، فالذي يحمد الله يجازيه الله بجنس العمل، فهو يسمع الله خيراً فيثني الله جل وعلا عليه خيراً في الملأ الأعلى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، وهذا الملأ هو ملأ الملائكة، فهذا هو سمع المناجاة الذي يستلزم الثناء والمدح من الله جل وعلا.
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن قيامه بالليل فقال: (لم تخفض صوتك؟ قال: إني أسمع من أناجي) فإن كان لا يسمع أحداً فإن الذي يناجيه يسمع، وهو الذي يضع الناس في مكاناتهم لسماعه جل وعلا.
ومن سمع الله الخاص: سماع التسديد والنصرة والتوفيق، وهذا السماع أيضاً يفهم من قول الله تعالى لموسى: قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15] يعني: ما يدبر لكم فرعون وملؤه وما يقولون، فنحن معكم ننجيكم من عذاب فرعون.
وأيضاً قال الله تعالى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقد أشبعنا القول في هذا الباب في باب الرؤية.
إذاً: فالسماع الخاص هو سماع تسديد وتوفيق ونصرة، وهو سماع استجابة للدعوات وتفريج للكربات، وسماع يستلزم الثناء والمدح في الملأ الأعلى.
فالله الخالق سميع والإنسان سميع، إذاً: فسمع الله يشبه سمع المخلوق، فنقول: لا، فسمع الله لا يشبه سمع المخلوق، ونرد عليهم بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فالله أثبت لنفسه السمع والبصر، وخلق الإنسان سميعاً بصيراً، وهذا هو الاعتقاد الصحيح الذي نتكلم به، فنعتقد أن الله سميع، والسمع معلوم في اللغة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلا يستلزم التساوي في السمع، والتوافق في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى، فلله سمع وللمخلوق سمع، ولكن سمع الله جل وعلا لا يستلزم أن يكون كسمع المخلوق بالتساوي في الاسم، فالإنسان له سمع والحمار له سمع، وللقرد سمع، فهل سمع الإنسان يشبه سمع الحمار؟! وهل سمع الحمار يشبه سمع القرد؟! وهل سمع القرد يشبه سمع الطفل؟! الجواب: لا، فإن قلنا: إنه لا تشابه فمن باب أولى أن نقول: إن سمع الله جل وعلا لا يشبه سمع المخلوق، فسمع الله جل وعلا أزلي أبدي، وليس له فناء، وسمع الإنسان ناقص له فناء وهو إلى زوال، وسمع الله جل وعلا غير محدود، ووسع كل المخلوقات وكل الأشياء، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيئاً)، فالله جل وعلا لا تختلف عليه اللغات، فهذا الجني وهذا الإنسي وهذا الحيوان، كل منهم يتكلم بصوت مسموع يعلمه الله جل وعلا، ولا يشغله سبحانه صوت عن صوت.
وأما سمع الإنسان فهو محدود، ويصل سمعه إلى مسافة محدودة، بل يشغله صوت عن صوت، ويشوش عليه صوت الصوت الآخر، فسمع الله جل وعلا يليق بجلاله وكماله وعظمته، وسمع الإنسان يليق بنفسه ويليق بضعفه ويليق بزواله، فسمع الله جل وعلا لا يشبه سمع المخلوقين.
وهذا فيه رد على المعطلة الذين نفوا صفة السمع عن لله جل وعلا، وهؤلاء هم الذين جرءوا علينا أهل الكفر والإلحاد، فإن أهل الكفر والإلحاد عاب الله عليهم أنهم يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر، ويعبدون صنماً، والجهمية بقولهم هذا يعبدون صنماً، فهم يقولون: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، وينفون عن الله صفة السمع وصفة البصر، فهم يعبدون صنماً، فجرءوا علينا أهل الكفر والإلحاد.
ونحن نرد عليهم بأنهم خالفوا ظاهر الكتاب وظاهر السنة وخالفوا إجماع أهل السنة والجماعة، ولا دليل لهم يخرجهم عن إثبات الصفة لربنا جل وعلا، فقد أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فلله سمع ليس كسمع البشر، ولله بصر ليس كبصر البشر، وصفاته سبحانه تليق بجلاله وكماله.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر