إسلام ويب

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة باب ذكر إثبات صفة وجه الله تعالىللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن لله عز وجل من صفات الجلال والكمال ما يزيد المؤمن إيماناً، ومن صفات الله وجهه الكريم، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، فعلى المؤمن أن يبذل في الدنيا نفسه وماله وحياته لله؛ شوقاً إلى لقائه، وطمعاً في النظر إلى وجهه.

    1.   

    أدلة إثبات صفة الوجه لله عز وجل

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    ما زلنا مع شرح هذا الكتاب العظيم الجليل كتاب التوحيد، وإثبات صفات ربي عز وجل، وهذا الكتاب هو لإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة .

    لقد تكلمنا عن إثبات صفة الوجه، وبينا الرد على كلام المبتدعة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، نفوا هذه الصفة، وكذلك الذين أولوها بالذات، وهنا نستكمل الكلام على هذه الصفة، ثم نشرع في الفوائد المستنبطة من الروايات التي ذكرها المصنف، فالوجه لله جل وعلا هو صفة كمال، وجلال، وبهاء، وعظمة، وهذه الصفة قد ثبتت لله جل وعلا بالكتاب، وبالسنة، وبإجماع الصحابة الكرام.

    الأدلة من القرآن

    أما إثباتها بالكتاب فقد قال الله تعالى مبيناً الاعتقاد الصحيح فيه جل وعلا، وأن له صفة الوجه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

    وهذه الآية فيها إثبات للوجه، وصفة الوجه لله تعالى الصفات الخبرية، ووجه الدلالة في الآية: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، هو أن الله أضاف الوجه له جل وعلا، ونحن نقول: إن الصفة إذا ذكرت مطلقة، فإننا لا نستطيع أن نثبتها لله جل وعلا إلا أن يضيفها إلى نفسه عز وجل، وإن كانت هناك صفة جرى الكلام عليها، وقلنا: إنها خرجت عن هذه القاعدة في الصفات فصفة الوجه نثبتها لله جل وعلا؛ لأنه قد أضافها إلى نفسه، وهناك في الكلام عن صفة الساق لم يضفها إلى نفسه وأثبتناها له، وقلنا: إنها خرجت عن القاعدة، وذلك في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42].

    فهنا لو لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيكشف عن ساقه يوم القيامة فيخرون سجداً له لما قلنا: إن لله ساقاً؛ لأن الآية بمفردها لا نستطيع أن نستدل بها على أن لله ساقاً، حيث لم يضفها إلى نفسه، وأما هنا في صفة الوجه فإنها مضافة إلى الرب عز وجل.

    وكذلك قال الله تعالى: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]، وهنا صفة الوجه أيضاً مضافة إلى الله جل وعلا.

    أيضاً قول الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وهذا تصريح بإضافتها إلى الله، فإن (ذو) هنا صفة للوجه، فالوجه ذو جلال وإكرام.

    وأيضاً قال الله تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21]، يعني: ابتغاء وجه الله جل وعلا، فأضاف الوجه لنفسه تعالى.

    والآيات في هذا كثيرة.

    الأدلة من السنة

    أيضاً وردت من السنة أحاديث كثيرة أثبتت الوجه الله جل وعلا، منها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك).

    وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : (وما بين القوم، وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن).

    وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا بقوله: (وأسألك بنور وجه الله جل وعلا الذي أشرقت له السموات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة..).

    فالأحاديث في هذا كثيرة، وكلها أثبتت هذه الصفة العظيمة، وهي صفة الجمال والكمال والجلال لله جل وعلا أي: صفة الوجه الله.

    إجماع الصحابة

    أجمع الصحابة الكرام على أن الله جل وعلا يتصف بهذه الصفة الخبرية، وهي صفة الوجه، فإذا سألك سائل وقال: أتعتقد أن لربك وجهاً؟ فأجب: نعم. فلو قال: كيف هو؟ فقل له: نقف عند ما جاءت به الآيات: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، فوجه الله ذو جلال وإكرام، وأما السؤال عن الكيف فلا يصح، فإن الصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة ، يعني: السؤال عن الكيفية بدعة، فلوجه الله كيفية لكننا لا نعلمها، ولكن الله يعلمها، ولا بد أن نؤمن بها، ولا بد أن نعلم أن الوجه في اللغة معلوم.

    الأدلة من العقل

    إن العقل يثبت أن لله وجهاً، وإذا قيل في الصفات الخبرية: إنها تثبت بالعقل فليس معنى ذلك: أن للعقل مدخلاً فيها، بل المراد أن العقل لا يرفضها، فصفات الله جل وعلا كلها صفات كمال وجلال.

    1.   

    مستلزمات الإيمان بصفة الوجه لله تعالى

    إذا علم أحد أن لربه وجهاً كله بهاء وأنوار، وجلال، وعظمة، واعتقد هذا الاعتقاد الصحيح، فواجب عليه أن يسعى سعياً حثيثاً لإكرام وإجلال وإعظام هذا الوجه، ويتشوق إلى رؤية هذا الوجه الكريم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة شوقه إلى رؤية وجه الله يقول: (وأسألك الشوق إلى لقائك، وأسألك لذة النظر إلى وجهك).

    فلا بد على المؤمن التقي أن يتهيأ بالأعمال لرؤية هذا الوجه الكريم، وحتى يصل إلى درجة أن ينظر إلى وجه الله جل وعلا في جنات عدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه عندما قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، فعند أداء الفرائض -وهي أحب ما تكون لله جل وعلا- ثم إتباع الفرائض بالنوافل حتى يتهيأ فيقف أمام ربه ويسأله النظر لوجهه الكريم، كما تشوق موسى عليه السلام وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، وذلك عندما استمع إلى صوت الله جل وعلا فاشتاق إلى رؤية وجه الله الكريم، ولكن وجه الله، أنوار وبهاء وعظمة، فعندما تجلى للجبل جعله دكاً، بل كل الجبال ستكون دكاً إذا تجلى لها الله جل وعلا بأنواره وسبحات وجهه، وهذا هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتشوق إلى رؤية وجه الله الكريم.

    كذلك لا بد خصوصاً على من آمن بهذه الصفة أن يسارع في الخيرات ويبدأ بالقلب أولاً، ويجتهد في تطهيره من كل دنس، وتطهيره من الحسد والحقد والغل وغير ذلك من الأمراض والأدواء التي هي من أمراض القلوب. ثم بعد ذلك يطهر أعماله الظاهرة، ولسان حاله يقول: وعجلت إليك ربي لترضى، فيسعى ليهيأ نفسه حتى ينظر إلى وجه الله الكريم، أو يكون ممن يستحق أن يرى وجهه الكريم، فإن كثيراً من الناس خسروا رؤية الله جل وعلا كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، نعوذ بالله من ذلك، فيكون قد هيأ نفسه أولاً، ثم ينصح كل الأمة أن تتخلى عن المعاصي، وعن النظر إلى الحرام؛ لأن هذا مدعاة لعدم رؤية الله جل وعلا، أو حرمان المتعة الكاملة برؤية الله، فالمتعة برؤية الله مرتبطة بالطاعة، ومن يرى الله في الفردوس الأعلى لا يكون كمن يراه في أقل درجة من درجات الجنة، فإن المتعة تتفاوت، كما أن الدرجات تتفاوت في الخير وفي الفضل.

    فمن المسارعة في الخيرات أن يبتعد عن المعاصي والمساوئ والسيئات، وكذلك لابد للإنسان حتى ينظر إلى وجه ربه الكريم أن يخلص العمل لله جل وعلا، ولوجهه سبحانه.

    فإنه اعتقد أن لربه هذه الصفة العظيمة الجليلة، فيلزمه أن يخلص العمل لربه الجليل كما قال الله تعالى مادحاً أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه خير هذه الأمة بعد نبينا: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21]، وهذا مدح وبشارة لـأبي بكر ، فهو الذي اعتقد اعتقاداً جازماً صحيحاً سليماً بأن لربه وجهاً كريماً، فإذا به يريد أن يرى هذا الوجه، فعمل مخلصاً لوجه الله، قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تقبل عند الله قال: (لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً، وابتغي به وجهه).

    فإن شرط القبول للأعمال هو ابتغاء وجه الله جل وعلا فيها، فإذا اعتقدت بأن لله وجهاً فلا بد أن تسعى وترتقي بأنوار الإيمان؛ لترى ربك جل وعلا.

    1.   

    جلال وعظمة صفة الوجه لله تعالى

    وجه الله تعالى كريم ذو جلال

    إن لوجه الله صفات وسمات بينها لنا الله في كتابه، وبينها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وصف الله وجهه بأنه ذو جلال وإكرام، فقال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    فوجه الله ذو الجلال والعظمة، والبهاء، والإكرام، وجه الله جل وعلا لا بد أن يكرم ويجلَّ، فالله له الكمال المطلق، والعظمة المطلقة، فيكرم وجه الله جل وعلا، ويتذلل العبد لوجه الله جل وعلا بالسجود بخضوع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام في مصلاه يصلي فإن الله قبل وجه هذا المصلي)، فإن الله مع علوه قريب قبل هذا العبد الذي يصلي، فيكرمه المصلى بتذللـه وإخلاصه لله.

    وليست الصفة نفسها هي التي تكرم، بل الذي يكرم هو الله جل وعلا، فإذا أكرمت وجهه فإنه يكرمك، وإذا تذللت وسجدت خاضعاً لربك جل وعلا، فإنك تأتي يوم القيامة فيكرمك الله؛ لأنك أكرمت وجهه ذو الجلال والإكرام.

    عظمة سبحات وجهه تعالى

    وجه الله جل وعلا له سبحات، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)، ثم قال في آخر الحديث: (حجابه النور)، وفي رواية: (حجابه النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني: أحرقت أنوار وجه الله جل وعلا كل ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبصر الله ينتهي إلى كل شيء، أي: يصل إليه، فلو كشف الله الحجاب لأحرق الدنيا وما عليها، والسموات ومن فيها.

    رداء الكبرياء على وجهه تعالى

    وصف الرسول وجه الله تعالى بأن عليه رداء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الكلام عن الجنان: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جل وعلا).

    فهناك رداء على وجه الله، وهو رداء الكبرياء، ولذلك فإن كل متكبر لا يدخل الجنة؛ لأنه ينازع الله جل وعلا في صفة من صفاته، وهي صفة الكبرياء.

    وأيضاً جاء في الأحاديث الصحيحة أن هناك حجاباً آخر لله تعالى وهو النور، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (حجابه النور)، وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً قال: (حجابه النار)، فرداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى، وحجابه النور وحجابه النار، وقد ورد في بعض الآثار بأسانيد صحيحة عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (فإن لله سبعين حجاباً).

    وفسر العلماء ذلك أن كل هذه تعتبر حفاظاً على البشر؛ لأن الله جل وعلا لو أشرقت أنوار وجهه على الدنيا لأحرقت كل هذه الدنيا.

    1.   

    فوائد من الأحاديث التي ذكرها المصنف

    فضل المجاهد المخلص

    نذكر هنا بعض الفوائد المستنبطة من بعض الأحاديث التي ذكرها المصنف. من هذه الفوائد المستنبطة من الرواية الأولى أن الجهاد هو أرفع الطاعات، فلا يمكن أن يقبل الجهاد عند الله جل وعلا إلا عند ابتغاء وجهه به، وهذه الفائدة مستنبطة من الحديث: (مثل المجاهد في سبيل الله ابتغاء وجه الله، مثل القائم المصلي حتى يرجع المجاهد).

    وهناك حديث آخر ذكر فضلاً أعظم من هذا، وهو في السنن بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيام ساعة في الصف في سبيل الله ابتغاء وجه الله جل وعلا خير من قيام ستين سنة) يعني: من قيام ليالي هذه المدة حتى تتورم قدم القائم، ولكن قيام الساعة في الصف ابتغاء وجه الله أو في سبيل الله خير من ذلك كله.

    حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ روى سليمان وهو الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: قال عبد الله : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فاحمر وجهه، وغضب حتى وددت أني لم أخبره، قال شعبة : أحسبه قال: يرحمنا الله وموسى -شك شعبة في (يرحمنا وموسى)- قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ].

    في هذا الحديث يشعر الإنسان بالأسى والحزن عندما يرى التجرؤ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في عصر الصحابة من قبل هذا الأعرابي، أما الصحابة فقد كانوا إذا سمعوا هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم تقوم لهم الثائرة، ويكون أحدهم كالأسد الثائر لا يهنأ بعيش حتى يقتص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب أروع الأمثلة على ذلك رجل أعمى في امرأته التي هي من العاطفة ومن الود والمحبة منه بمكان، ولكنها كانت تتغنى بسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر في الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين أنها كانت ترعى زوجها هذا، وهو رجل أعمى لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يذهب ليقضي حاجته إلا مع من يساعده على ذلك، وكانت امرأته هي التي تفعل ذلك به، فلما سمعها تتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فبقر بطنها وقتلها، ولما ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها.

    فما بالنا نرى ونسمع الآن ما يحترق له القلب، وما يعتصر له القلب ألماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسبة وشتم واستهانة واستهزاء به، ولا نجد من يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالألسنة فقط، ففي عصورنا كثر المتجرءون بدعوى حرية الرأي، وحرية النشر، فـسلمان رشدي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسب الصحابة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

    وآخر أخذ جائزة نوبل، وهو الذي سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمور كلها تحصل تحت ستار حرية الرأي، فهل من حرية الرأي أن يستهزئ المرء برسول الله صلى الله عليه وسلم أو يطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن الصحابة عندما سمعوا مثل هذا الكلام كفروا من قاله، وقد قلنا في القاعدة التي قعدناها: إن القول قد يكون كفراً، أو الفعل كفراً، ولكن القائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة، ولكن في هذه المسألة يختلف الأمر، ولا يحتاج فيها إلى إقامة حجة؛ لأن الاستهزاء أو السب معلوم بمجرد الوصف، فمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، وارتد عن دين الله.

    ويدل على ذلك هذا الحديث العظيم، عندما قام هذا الخارجي غائر العينين يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ابتغاء وجه الله جل وعلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مندهشاً (ويحك، أو ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل).

    فلما قال هذه الكلمة كفر في وقتها، ويدل على ذلك فعل الصحابة، وذلك أنه قام خالد، وفي رواية أخرى قام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق.

    ونستفيد من هذه الكلمة أمرين:

    الأمر الأول: أنه وصفة بالنفاق، والنفاق كان اعتقادياً لا عملياً، فهو يخرج من الملة، ويدل على ذلك قولهم بضرب العنق، فإن النفاق العملي هو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ..)، هل حكم من يكذب في حديثه القتل؟ الجواب: لا، فهذا النفاق الذي يستحق صاحبه القتل هو النفاق الاعتقادي، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر على خالد هذا، ولا قال له: لا تقل له: منافق، لكنه نحاه عن القتل، وأقره على فهمه، وهو يستحق القتل، وسأدلل على هذا بأنه جاء في حديث آخر الإشارة إلى أنه يستحق القتل، لكن عدم قتله كان لأمر آخر وعلة أخرى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، ثم إن آخر الرواية تدل على أنه منافق يستحق القتل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، ثم قال: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم).

    فهذه دلالة على كفره بهذا وخروجه من هذه الملة، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وليس فيه عذر بالجهل، وليس فيه إقامة حجة، ولا إزالة شبهة؛ لأنه معلوم ضرورة.

    وقد وقع اتفاق أهل العلم أن حد هذا الكافر المرتد القتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه)، واختلف العلماء هل يستتاب أو لا يستتاب؟

    والصحيح الراجح أنه يستتاب حتى لا يقتل ردة، والدليل فعل عمر ، وإذا كانت الاستتابة يعامل بها الكافر، فمن باب أولى الرجل الذي كان مسلماً فكفر ويرجى له أن يرجع إلى الإسلام سريعاً، فالشريعة تفتح أبوابها على مصراعيها للكافر ليدخل في الإسلام، فالمسلم من باب أولى عليه أن يرد إلى الإسلام فيستتاب فإن كان الحد حقاً لله كاستهزاء بالله أو سب له جل وعلا، فإنه يستتاب ولا يقتل، بل يسقط عنه حكم القتل.

    أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم في عصرنا فلا يسقط عنه حد القتل على الراجح من أقوال أهل العلم، نعم يستتاب ليقتل حداً لا ردة، يعني: فلا يعاقب يوم القيامة على سبه للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما تاب وقتل حداً، فإذا سب الله إذا تاب لا يقتل، وإذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاب فلا بد أن يقتل، والفارق بينهما أن الله جل وعلا بين لنا أن رحمته سبقت غضبه، وأن الله جل وعلا في حقه يسامح ويغفر.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك كان في حياته كما عمل مع عبد الله بن أبي السرح لما سب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب للنبي الوحي، ففر إلى مكة وقال: كنت أكتب الوحي للرسول، فيقول لي: اكتب كذا فأكتب غيره، يريد أن يشكك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، ولما ذهب إلى عثمان ، وجاء به عثمان إلى الرسول، ومد يده ثلاث مرات ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يغض الطرف عنه، ويريد أحداً يقوم يقتله، وفي الثالثة بايعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أما قام أحدكم عندما رآني لا أريد أن أبايعه يقتله، فقالوا: كيف نعرف يا رسول الله؟ لو أشرت إلينا بعينك)، ولكن أدبه النبوي جعله يقول: (ما كان للنبي أن يكون له خائنة الأعين).

    يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يسقط هذا الحد، وكما أسقط في هذه الحالة، ولم يرد قتل هذا الخارجي الذي قال: هذه قسمة لا يراد بها وجه الله جل وعلا، وذلك لمصلحة أعظم.

    وأيضاً أسقط القتل عن ابن أبي السرح ؛ لأنه حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تنازل عنه فله ذلك، لكن أين النبي صلى الله عليه وسلم في عصرنا ليتنازل عن حقه؟ فنقول: الأصل في زماننا إقامة الحد عليه وهو القتل، إلا أن يتنازل الرسول، وهذا ليس موجوداً في عصورنا هذه، فلا بد أن يقام عليه الحد، حيث لا ناقل لنا عن الأصل، فيستتاب فإن تاب ورجع فإنه يقتل حداً لا ردة، بل يقتل على الإسلام، وإن لم يتب يقتل ردة، ولا يكون مسلماً.

    درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

    استنبط العلماء من هذه الرواية العظيمة قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وذلك أنه عندما قام خالد فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فتلك مصلحة؛ ليزجر كل متجرئ عن هذا المنكر العظيم. لكن كان هناك مفسدة أعظم منه، وهي: أن المنافقين والمشركين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر يفرحون بها أيما فرح، فينشرون بين الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فيخشى الناس من الدخول إلى الإسلام، وهذه مفسدة أعظم من تلك المصلحة، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة ودرأها، ولم يجلب تلك المصلحة إذ المفسدة أعظم.

    ومما يدخل تحت هذه القاعدة مسألة سب الأصنام فإنها مصلحة لا مفسدة، فتسفيه أحلام الذين يعبدونها من دون الله جل وعلا مصلحة، لكن هناك مفسدة أعظم إذا سب المؤمن الصنم، وهي أن يقوم كافرهم وجاهلهم وخبيثهم فيسب الله جل وعلا، وهذه مفسدة أعظم بكثير من مصلحة سب هذه الأصنام، ولذلك منعنا الله من سب الأصنام درءاً للمفسدة فقال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

    وكذلك تغيير بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فهي الآن ليست كما بناها إبراهيم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما هاله أن رأى قريشاً جعلوا باب الكعبة عالٍ حتى لا يدخل إلا الأماجد الأكارم وكبراء الناس عندهم، وأيضاً رأى أن قواعدها ليست على قواعد إبراهيم، فقال: (لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس)، يعني: كل الناس الفقير منهم والغن، والوضيع والرفيع، (وباب منه يخرجون).

    فهذا الحديث أصل في أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

    فالمصلحة أن تكون الكعبة على قواعد إبراهيم، فذلك هو مكانها الصحيح؛ وأن يكون باب الكعبة متاحاً؛ ليدخل منه الرفيع والوضيع، ولكن هذا الفعل سينتج عنه مفسدة أعظم، وذلك أنه لو هدم الكعبة وهم دخلوا الإسلام قريباً، فسيقولون: إنه لا يقدس الكعبة، وآباؤنا كانوا يقدسون الكعبة، فيفتنون عن دينهم، فلذلك راعى النبي صلى الله عليه وسلم المفسدة والمصلحة.

    التذلل لله تعالى

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن أبي الدرداء عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه، وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباح: لبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير في يديك، ومنك إليك ...) الحديث بتمامه.

    وفي هذا الحديث: (اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) ].

    هذا الحديث يبين أن سيد الخلق أجمعين كان يسارع في مرضاة ربه جل وعلا، فهو يقول: لبيك وسعديك، لبيك اللهم لبيك أي: أجيبك إجابة بعد إجابة، وكان الصحابة يتمثلون ذلك فيقولون: لبيك تعبداً ورقاً، لبيك إخلاصاً وورعاً، كما ورد عن بعض الصحابة، وكأن لسان حاله: (وعجلت إليك ربي لترضى) والخير في يديك، ومنك وإليك، وفي هذا دلالة على أن الإنسان إذا كان في خير فإن هذا ليس منه، ولا من ذكائه وفعله، بل كل خير فيه هو من الله جل وعلا، قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، وقال جل وعلا: وَهُوَ الَّذِيْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، فلا يقول الإنسان: أنا الذي فهمت هذا الفهم، بل يقول: الله فهمني هذا.

    كان ابن تيمية يمرغ وجهه في التراب ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني، قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53].

    قوله: (فالخير منك وإليك)، يعني: من الله جل وعلا، يرد الفضل إلى الله جل وعلا، فمن اعتقد هذا الاعتقاد الصحيح فلن يتذلل ولن يلين قلبه إلا لله جل وعلا، ولن يرى مستحيلاً في هذه الدنيا؛ لأنه يرى كل شيء تحت قدرة الله تعالى، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه أصبح خير هذه الأمة بعد رسول الله بمنة الله جل وعلا وفضله.

    إن هذا الحديث يدعونا إلى الطمع الكبير في فضل الله، وإن كان الطمع مذموماً في أمور الدنيا، لكنه ممدوح في الدين، فيطمع المرء طمعاً كبيراً في فضل الله جل وعلا، فإن أردت أن تكون شهيداً فاطمع في إعطاء ربك، أو أن تكون عالماً فاطمع في فضل ربك، أو أن ترافق النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى فاطمع في فضل ربك، واعلم أن الخير كله بيد الله جل وعلا.

    المخرج من الفتن الاعتصام بأمر الله

    قول النبي صلى الله عليه وسلم (وشوقاً إلى لقائك في غير الضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) يجرنا هذا الحديث إلى الكلام عن مسألة الفتن التي تأتي وتجعل الحليم حيراناً، فما أخوف حال المرء في الفتنة!

    وللإنسان في ذلك أحوال:

    الأول: حال المنفرد في العزلة، وذلك بأن يعض على أصل شجرة إلى أن يرى الخير فيذهب إليه، فإن لم ير ذلك فالعزلة، والعزلة أفضل، وأعني: العزلة القلبية لا العزلة الجسدية، وذلك بأن تكون مع الناس بجسدك لا بروحك، روحك في السماء تحلق، وقلبك معلق بالعرش، وجسدك مع البشر تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتصبر على أذاهم، فهذه هي الحالة الأولى ولا بد لكل إنسان أن يتمرس عليها من الآن.

    الحالة الثانية: أن تتمنى الموت، وذلك إن لم تر الخير، أو لم تر أنك تقدم لدين الله جل وعلا شيئاً، أو أنك لن تقدر على النجاة من هذه الفتن التي تطرأ على هذه الأمة، فحينها تتمنى الموت في غير فتنة، وهذا استثناء من الأصل العام الذي أصله الشرع، وهو النهي عن تمني الموت إلا في هذه، وهي عندما تخشى على نفسك أو على دينك من الفتنة، فلك أن تتمنى الموت، والدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى عن مريم: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسِيَّاً مَنْسِيَّا [مريم:23]، وهي إنما قالت ذلك خشية على نفسها من فتنة الدين أو أن يتهموها بالزنى، وقد قالوا لها: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، فالإنسان يمكنه أن يتمنى الموت في حال الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(في غير فتنة مضلة).

    وهذا آخر ما يستنبط من فوائد هذين الحديثين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756348838