إسلام ويب

الاختلاف في القواعد الأصولية - المطلق والمقيدللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مسائل الأصول المهمة: مسألة المطلق والمقيد، فالمطلق والمقيد قد يتحدان في السبب والحكم أو يختلفان فيهما أو في أحدهما، وقد اختلف العلماء في حمل المطلق على المقيد في بعض الحالات المذكورة، ونشأ عن ذلك خلاف كثير في المسائل الفقهية.

    1.   

    المطلق والمقيد

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فالمطلق: هو ما دل على شائع في جنسه، وشائع يعني: أنه غير مقيد بوصف معين؛ كقول الله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3] لم يقيدها بوصف، ولم يقل: مؤمنة ولا كافرة، بل جعلها مطلقة، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو بالغة أو غير بالغة، أو مسلمة أو كافرة.

    أما المقيد: فهو ما لا يدل على شائع في جنسه، أي: ليس بشائع بل هو مقيد بوصف، مضبوط بضابط، فلا يجزئ إلا هو، فقول الله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فهذا قيد الرقبة بالمؤمنة، فلا تجوز الكافرة، ولا الكتابية من أهل الكتاب، فهذا لا يدل على شائع في جنسه، بل هو مقيد بقيود لا يجزئ غيرها.

    1.   

    أحوال المطلق والمقيد والأدلة على كل حال

    للمطلق والمقيد أربعة أحوال:

    اتفقا في الحكم والسبب.

    اختلفا في الحكم والسبب.

    اتفقا في الحكم دون السبب.

    اتفقا في السبب دون الحكم.

    الاتفاق في الحكم والسبب

    أولاً: أن يتفقا في الحكم والسبب:

    مثل قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ [المائدة:3]، وفي الآية الأخرى قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145].

    فالدم في الآية الأولى مطلق (الدم) وفي الآية الثانية مقيد (دماً مسفوحاً).

    والدم المسفوح: هو المهراق عن موضعه، يعني: لو خرج الدم من العرق وانتقل إلى الأرض، فهذا يسمى دماً مسفوحاً، فنحمل المطلق على المقيد ونقول: الدم المحرم هو الدم المسفوح فقط، وهذا باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على حمل المطلق على المقيد إذا اتفقا في السبب واتفقا في الحكم.

    والحكم هو التحريم، والسبب: الميتة حرام للضرر الناجم منها؛ لأن فيها النجاسة.

    ومن الأدلة التي توضح ذلك: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال).

    الاختلاف في الحكم والسبب

    ثانياً: أن يختلفا في السبب وفي الحكم:

    كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].

    وقول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38].

    فقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] مقيد.

    وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] مطلق.

    فاليد تشمل العضد والرسغ والمرفق، إذاً: السارق والسارقة تقطع اليد إلى العضد مثلاً أو تقطع إلى المرفق أو تقطع إلى الرسغ، فالعلماء قالوا: إن الآية التي ذكرت قطع اليد جاءت مطلقة.

    أما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فقد قيد اليد إلى المرفق؛ فهل نقول بحمل المطلق على المقيد، فتقطع يد السارق من المرفق حملاً للمطلق على المقيد أم لا؟

    فلابد أن ننظر في سبب الحكم.

    فالحكم في الآية التي ذكرت قطع اليد هو القطع، والسبب هو السرقة.

    والحكم في الآية التي ذكرت الوضوء هو الغسل، والسبب هو إرادة الصلاة.

    فاختلفا في السبب والحكم، فلا يحمل المطلق على المقيد بالاتفاق، ولا نقول بأن اليد تقطع إلى المرافق، وقد جاءتنا أدلة أخرى تثبت القطع من الكف، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من الكف، ونصاب القطع ربع دينار.

    الاتفاق في السبب والاختلاف في الحكم

    ثالثاً: أن يتفقا في السبب ويختلفا في الحكم:

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].

    وقال الله جل في علاه: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6].

    ففي الآية الأولى: السبب: إرادة الصلاة، والحكم: الغسل.

    وفي الآية الثانية: السبب: إرادة الصلاة، والحكم: التيمم.

    فهل نحمل المطلق على المقيد، ونقول: إذا أراد أن يتيمم يمسح اليد إلى المرفق؟

    حدث الخلاف بين العلماء في حمل المطلق على المقيد في ذلك، والصحيح الراجح: أننا لا نحمل المطلق على المقيد، لكن بعض العلماء حمله عليه، وأثبتوا ذلك برواية عن ابن عمر أنه قال في التيمم: (يكفي الضرب هكذا، وضرب بيده فمسح بوجهه ومسح بيده إلى المرفق).

    وهذا مرجوح ليس بالراجح؛ لكن الغرض المقصود أنه حمل المطلق على المقيد.

    الاتفاق في الحكم والاختلاف في السبب

    رابعاً: أن يتفقا في الحكم ويختلفا في السبب:

    قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3] فالرقبة مطلقة.

    وقال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] وهذا مقيد بالإيمان، أي: تحرير رقبة مؤمنة.

    فالحكم في الآية الأولى تحرير رقبة، والسبب: الظهار. والحكم في الآية الثانية: تحرير رقبة، والسبب: القتل الخطأ، فهل يحمل المطلق على المقيد أم لا؟

    الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون حمل المطلق على المقيد.

    والأحناف يرون عدم الحمل، وحجتهم في ذلك أن هذا توسيع من الشرع لا بد أن نأخذ به ولا نضيق الحكم، أي: يكون المطلق بمجاله والمقيد بمجاله.

    أما الجمهور فيرون أن القرآن كله ككلمة واحدة، وطالما اتفقا في الحكم، فلا بد أن يحمل الأول على الثاني؛ لأن الثاني قد بين لنا مراد الآية الأولى، فلا بد من حمله عليه؛ لأن ظاهر الآية يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3] أنه سكت عن التقييد.

    وفي الآية الأخرى قيد لنا الرقبة بوصف الإيمان، بل ومقاصد الشريعة تعضد كلام الفقهاء في ذلك، بل تؤكده؛ لأن الله عظم حرمة المسلم، أما الكفر فهو رق، وكان ذلك للكافر جزاء وفاقاً؛ لأنه هرب من رق الرحمن، ونزل في رق الشيطان فيذل ويهان؛ لأنه لا يحب لنفسه الإيمان بالله جل في علاه.

    فالصحيح الراجح أن المطلق هنا يحمل على المقيد، ويكون تحرير الرقبة المؤمنة شرطاً في الإجزاء، فمن ظاهر فقال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فلا بد أن يعتق رقبة مؤمنة وإلا فلن ينجو.

    وأيضاً: قتل النفس خطأ فيه تحرير رقبة مؤمنة.

    1.   

    تطبيقات فقهية على مسائل المقيد والمطلق

    عدد الرضعات المحرمات

    من هذه المسائل التي فيها النزاع على حمل المطلق على المقيد مسألة تقييد الرضاع المحرم، فقد اختلف العلماء في مسألة الرضاع المحرم على أقوال ثلاثة:

    القول الأول: وهو قول الأحناف الذين لا يقولون بحمل المطلق على المقيد إذا اتفق الحكم واختلف السبب، قالوا: نصف رضعة أو رضعة واحدة تحرم؛ للإطلاق.

    ودليلهم: قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ [النساء:23] فأطلق الرضاعة، فأقل شيء يطلق عليه اسم الرضاع يحرم، وأقل شيء هو رضعة واحدة حتى وإن لم تكن مشبعة.

    فهنا الأحناف الذين لا يقولون بحمل المطلق على المقيد قالوا بأن الرضاع المحرم رضعة واحدة؛ لإطلاق قول الله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] .

    أيضاً: ولحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الصحيح: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فالرضاع هنا مطلق، ويحرم من الرضاعة أقل شيء يسمى رضاعاً، ونحن نجعل المطلق على إطلاقه، فلو امرأة أرضعت طفلاً رضعةً واحدة أصبح ابناً لها من الرضاعة، وكل بناتها أخوات له، فلا يجوز أن يتزوج منهن.

    القول الثاني: قول الذين يحملون المطلق على المقيد، فقد قال ابن المنذر ، وأبو ثور ، وداود الظاهري : الذي يحرم من الرضاع ثلاث رضعات، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) مطلق، ويكون تقييده بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، وفي رواية قال: (لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان) .

    وأيضاً: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال: (أرضعت هذه امرأتي رضعة) فلم يحرمها عليهم.

    ووجه الدلالة من حديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان) أن مفهوم المخالفة أن ما فوق الثانية تحرم، وهذا قول الظاهرية، وقول أبي ثور من الشافعية.

    القوال الثالث: قال جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة: نحن نقول بحمل المطلق على المقيد، ولا نقول بأن أقل الرضاع يحرم، بل لا بد من خمس رضعات مشبعات.

    والمقيد الذي قيد إطلاق القرآن هو حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات مشبعات يحرمن، ثم نسخن إلى خمس رضعات مشبعات، فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) يعني: بقيت على خمس رضعات حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم فهذه الآية منسوخة تلاوة لا حكماً.

    والآية: (عشر رضعات مشبعات) نسخت حكماً وتلاوة.

    والغرض المقصود هنا: أن قول عائشة : (وكان فيما يقرأ من القرآن بعد ممات النبي صلى الله عليه وسلم خمس رضعات مشبعات) يعني: أن الحكم باقٍ في كتاب الله، فقد أمرنا الله باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    وابن مسعود رضي الله عنه لعن النامصة والمتنمصة وقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله، وهو في كتاب الله؟ فقالت له امرأة: لم أجده في كتاب الله، فقال لها: إن كنت قرأته فقد وجدته، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة).

    ونفس الأمر: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس رضعات مشبعات يحرمن) .

    فهذه دلالة واضحة جداً على أن الخمس الرضعات تحرم وغير الخمس الرضعات لا تحرم، كما هو في حديث عائشة .

    الحديث الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة حين جاءته لتسأله في حال سالم ودخوله عليها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه خمس رضعات) وهذا تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم.

    والراجح والصحيح في ذلك: أن خمس رضعات مشبعات هي التي تحرم فقط، وأقل من ذلك لا تحرم.

    أما بالنسبة للأحناف فنقول لهم: هذا مطلق وهذا مقيد، وقد اتفقا في الحكم والسبب، فالحكم هو التحريم، والسبب هو الرضاع. وأما هم فقالوا: إن الأولى بينت الإطلاق، وأما الآية الثانية المنسوخة فبينت التقييد، ولنعمل بالاثنين: بالمطلق وبالمقيد، فكما قلتم: إن تحرير رقبة مؤمنة فيه مشقة على الناس، فأنتم كذلك قد ضيقتم على الناس، فلو أن طفلاً رضع رضعة واحدة حرمتم عليه كل بنات هذه المرأة فوقعتم فيما احتججتم به، فلا بد من ضابط وميزان عادل نأخذ به، وهو اتفاق الحكم والسبب، ولا بد أن نحمل المطلق على المقيد، وهنا الحكم التحريم، والسبب الرضاع، والرضاع مقيد بالخمس رضعات، فلا بد من حمل مطلق الرضاع على التقييد بالعدد.

    أما الذين يقولون: إنه يحرم من الرضاع ثلاث رضعات فالرد عليهم كالتالي:

    أنهم احتجوا بمفهوم المخالفة، واحتج الجمهور بالمنطوق، وعند التعارض يقدم المنطوق على المفهوم؛ لأن المنطوق أقوى في الدلالة، والمفهوم يحتمل احتمالات.

    فالمفهوم أصلاً أن الإملاجة والإملاجتان لا تحرم، إذاً: فالثلاث أو الأربع أو الخمس تحتمل نفس هذا الاحتمال، فموافقة لحديث عائشة ، ولا بد ألا يحرم إلا الخمس، والدليل على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـسهلة : (أرضعيه خمس رضعات) ولو كان أقل لبين؛ لأمرين اثنين:

    الأمر الأول: أن هذا وقت تبيين، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

    والأمر الثاني: إن هذا أيسر على المرأة، لا سيما وهي كبيرة في السن، يعني: أن ثديها ممكن ألا يأتي بالرضعة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة.

    وأما كيفية الرضاعة فيمكن يكون من قارورة، وإن قلنا بأنه كشفت الثدي ورضع منه فهذا للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، والصحيح الراجح أنها فرغت الرضعات في قارورة، ثم شربها، فلو كانت ثلاث رضعات ليسر النبي صلى الله عليه وسلم عليها حتى لا تتعب فتأتي بخمس رضعات مشبعات.

    فنقول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه خمس رضعات)، ويؤكد أن التحريم لا يكون إلا في الخمس رضعات.

    تقييد الرقبة المعتقة بالإيمان

    المسألة الثانية: اشتراط الإيمان في الرقبة؛ لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

    قال الأحناف: نأخذ بهذا الوصف المطلق، فالذي يظاهر من زوجته يعتق رقبة كافرة أو رقبة مؤمنة، فكلاهما يصح.

    والجمهور يقولون: لابد من تحرير رقبة موصوفة بالإيمان، قال الله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92].

    فالآيتان تتفقان في الحكم وإن كان السبب مختلفاً، فالأول الظهار والثاني القتل، فنحمل المطلق على المقيد، فالذي يظاهر من زوجته لا يجوز له أن يجامعها حتى يعتق رقبة مؤمنة، فإن أعتق رقبة كافرة فلا يجزئه؛ لأنه لابد من حمل المطلق على المقيد.

    وهذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أصله خلاف في مسألة حمل المطلق على المقيد.

    وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعضد قول الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه معاوية بن الحكم السلمي وقد صفع جارية له، فقال: أعتقها يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها، فجاءت فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) فهذا الحديث يعضد قول الجمهور.

    ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن القاعدة عند العلماء: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فيحتمل أن معاوية أعتقها من أجل الظهار، ويحتمل أنه أعتقها لخطأ وقع منه، ويحتمل أنه أعتقها لأنه جامعه في نهار رمضان، فلما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم وربط العتق بالإيمان فيفهم من ذلك أن الإيمان شرط للعتق، وذلك بقوله: (أعتقها فإنها مؤمنة) يعني: أن مناط الحكم أن تكون مؤمنة، فتجزئك في عتقك، وإن كانت غير مؤمنة فلا تجزئك.

    حكم رضاع الكبير

    هذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: قول الجمهور ومنهم المالكية والشافعية والحنابلة والأحناف: على أنه لا يجزئ رضاع الكبير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما أنشز العظم وأنبت اللحم).

    وقال: (إنما الرضاع من المجاعة).

    ومن الأدلة أيضاً: أنه لا يكون إلا بالحولين، قال صلى الله عليه وسلم: (الرضاع بالحولين) .

    فهذه أدلة صريحة على أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان طفلاً رضيعاً لم يبلغ الحولين.

    القول الثاني: قول الظاهرية: أن رضاع الكبير يحرم على الإطلاق.

    واستدلوا بحديث واضح جداً في الدلالة وهو حديث سالم وهذا الحديث احتج به غير الظاهرية، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول بهذا الحديث على الإطلاق، ولذلك كانت إذا أرادت أحداً أن يدخل عليها ليسألها تجعل أختاً من أخواتها ترضع الرجل فيرضع فيدخل عليها، فكانت عائشة تأخذ هذا القول بالإطلاق، وتقول: الكبير إذا رضع خمس رضعات يحرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس رضعات يحرمن) وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة : (أرضعيه يحرم عليك) .

    والقول الثالث: التفصيل في ذلك، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يرى أن واقعة سالم واقعة عين، والأصل العام أنه لا يمكن الرضاع أن يحرم إلا أن يكون من المجاعة حولين.

    فنقول: وقائع الأعيان لا تعمم، لكن يقاس على ذلك مثلها في حالتها، فإذا كان الرجل يدخل على امرأة كثيراً وكان ذلك يوقع الحرج على المرأة، وهذه المرأة تريد أن تقطع الحرج على نفسها فنقول: أرضعيه ليحرم عليك ويكون ابنك من الرضاعة، فيدخل عليك متى شاء، بل ويجوز أن يقبل رأسك.

    فالقول الراجح: رضاع الكبير واقعة عين لا تعمم، لكن يقاس عليها مثلها.

    وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756010489