لكن ما ظنكم فيمن يوضع في القبر وتحتويه الظلمات من كل جانب ولا يعلم من أين يأتيه النور؟ لأن نور القبور إنما يكتسب من سلوك العبد في هذه الدنيا، فمن كان في هذه الدنيا على النور مكنه الله عز وجل من العيش في القبر على النور، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].. وقال عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ [الحديد:12] لأنهم مؤمنون وأهل عقيدة، ودين، والتزام، وانتماء، وهداية، وانتظام في سلك المؤمنين، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12] فما هو النور الذي يسعى معهم؟ إنه نور العمل الصالح، والإيمان والهداية يسعى أمامهم وعن أيمانهم فتقول لهم الملائكة: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ [الحديد:12-13] أي: أهل الظلمة الذين عاشوا في الدنيا في ظلمة الكفر، والنفاق، والأهواء، والشهوات، والفتن، عاشوا بعيداً عن الهدى وبعيداً عن الرسالات، فعاشوا مع الشيطان في ظلماته؛ لأن الله عز وجل يقول: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] فوحد النور وجمع الظلمات وفي أول سورة الأنعام يقول ربنا عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] فالظلمات متعددة والنور واحد، وهو نور الله، ونور الإيمان واحد يعيش عليه المؤمن.
أما إذا حرم نفسه من النور؛ فلن يعيش في ظلمة واحدة، بل تتوارد عليه الظلمات وتحتويه من كل جانب: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] كما مثل الله عز وجل بذلك المثل في سورة النور فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ [النور:39-40] أي: أعمالهم إما أن تكون كالسراب وهو العمل السيئ الذي كانوا يتصورون أنه صالح في أذهانهم لكن لما لم يكن خالصاً لله عز وجل قدموا على الله فلم يجدوا شيئاً: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39] وهناك أعمال سيئة أخرى من الكفر قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ [النور:40] أي: هذا العمل إما كسراب أو كظلماتٍ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] والبحر اللجي: هو البحر العميق، والمحيطات الكبيرة التي تزيد أعماقها على ثلاثة آلاف متر.
هذه الحقيقة العلمية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن لم تثبت للناس إلا في هذا الزمن بعد صنع الغواصات الذرية التي تستطيع أن تغوص في أعماق المحيطات، فاكتشف بواسطة الأجهزة التي رصدت حركة الموج أن في تلك المحيطات العميقة أمواجاً، وليس موجاً واحداً.
فقد كان الناس يتصورون أنه لا يوجد في البحر إلا الموج الذي على سطح البحر والذي يتكون نتيجة تأثر البحر وسطحه بالعوامل الجوية.
لكن اكتشف أن في أعماق المحيطات أمواجاً ما كانت تعلم قبل هذا الزمان، والذي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه عز وجل بالرغم من أنه لم يركب البحر، ولم يعرف البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه يتحدث عن أخص القوانين وأدق النظم التي تجري في البحار العظيمة وكأنه قد عايشها صلوات الله وسلامه عليه: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] يعني: عميق يَغْشَاهُ مَوْجٌ [النور:40] أي: هذا البحر يغشاه موج مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ [النور:40]وهذه الأمواج تكون موانع لاختراق الأضواء: مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40] يحول بين الشمس وبين البحر: مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
فمن أراد النور في هذه الدنيا والآخرة فعليه بالإيمان والعمل الصالح، ومن عاش في نور مادي، وظلمة معنوية وروحية كافرة والعياذ بالله؛ فإنه وإن تمتع بهذا النور المادي فسوف يشقى -والعياذ بالله- بظلمة القلب والوجه في الدنيا، ثم ظلمة القبر، ثم ظلمة الصراط، ثم في دار الظلمات أجارنا الله وإياكم منها وجميع إخواننا المؤمنين إنه على كل شيءٍ قدير.
هذا ما تحدث عنه أهل العلم في كتبهم فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الرابع والعشرين من فتاواه وفي المجلد الخامس من الفتاوى يقول: لم يزل الناس يتحدثون عن سماعهم أو رؤيتهم للمعذبين في قبورهم. يعني في حالة اليقظة يتحدثون عن سماعهم وعن رؤيتهم للذين يعذبون في قبورهم أو ينعمون في قبورهم، ومن هؤلاء ثقاة أعلام لا مطعن في دينهم ولا شك في أمانتهم، ثم يقول: قد يكشف لكثيرٍ من أبناء زماننا هذا العذاب أو هذا النعيم في اليقظة وفي المنام ويعلمون ذلك ويتحققون منه وعندنا من ذلك أمور كثيرة. يقول رحمه الله: عنده من الأخبار والمشاهدات التي نقلت عن الثقاة الذين لا يشك في دينهم وأمانتهم عنده من ذلك أخبارٌ كثيرة، وهذا حق فإنه في كل زمانٍ وفي كل مكان يكشف الله تبارك وتعالى لأفرادٍ من الأمة شيئاً مما يحدث لأصحاب القبور من نعيم أو عذاب للزيادة في إقامة الحجة ولهداية، من شاء الله هدايته: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] وقد سبق أن ذكرت في مناسبة في غير هذا المسجد قصتين مما كشف لأصحاب هذه الدنيا من عذاب القبر ومن نعيمه، وهاتان القصتان سمعتهما بأذني ممن حضرهما وهو ثبتٌ صادق لا أشك في دينه وأمانته، وأعرفه باسمه وعمله ودراسته وقد حضر القصة وعاصرها:
فالأول هو الشيخ صالح الراجحي وكان يعمل مع شركة ابن لادن، وكان الرجل صاحب القصة -وهو عم الشاب- يعمل عنده سائق جرافه، وكان طالب علم مستفيد، وكان يحضر معنا كل الندوات.
والقصة لشابٍ أكرمه الله عز وجل بالجنة ورضي عنه وأدخله في رحمته، وحدثت في القصيم والذي يحدثني بها هو الذي حضر القصة وشم الرائحة بأنفه، وكان مقيماً في أثناء الحادث وملخص القصة: أن أحد الشباب الذين هداهم الله ونشئوا في طاعة الله، فلا يعرف إلا الله والقرآن والمسجد والصلاة، حتى ذكر عنه أنه لم يُر مرةً واحدة يلعب مع صبيٍ في الشارع، وإنما كان طريقه من المسجد إلى البيت، وشاء الله عز وجل أن يبلغ مبلغ الرجال وأن يكون قد حفظ أكثر كتب أهل العلم بعد حفظه لكتاب الله عز وجل، وبعد ذلك مرض، وأشرف عمه -لأن والده متوفى- على تمريضه، ومكث مريضاً أسبوعاً ثم بعد ذلك توفي وقدم إلى رحمة الله، وكانت وفاته قبل صلاة الظهر، وأراد عمه أن يدعو الناس للمشاركة في دفنه ولكن الجو كان حاراً والناس غير مجتمعين في مكان معين، فرأى أن من الأنسب أن يؤجل الدفن حتى يجتمع الناس لصلاة الظهر ثم يخبرهم، فغطى الولد بغطاء، ونام عند رأسه من أجل أن يستريح؛ لأنه كان قد تعب خلال تمريضه في ساعات المرض، ويحدث عن نفسه فيقول: بينما هو في المنام إذ أقبل عليه مجموعة من النساء علم من رؤيتهن ومن جمالهن وشكلهن أنهن لسن من نساء الدنيا، وإذا بهن يسلمن عليه قائلات: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فرد عليهن السلام، فقلن له: نسألك بالله يا شيخ! إلا عجلت علينا بهذا الشاب، فقال: من أنتن؟ قلن: نحن زوجاته من الحور العين في الجنة، ونحن في انتظاره على أحر من الجمر وأنت تنام! ففزع الرجل من نومه وقام فرحاً؛ لأنه اعتقد أن من هؤلاء الحور في انتظاره فما مات، بل هو يزف ولكن لا يزف إلى زوجةٍ من نساء الدنيا وإنما يزف إلى زوجاتٍ من الحور العين اللائي قال الله فيهن: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] نسأل الله وإياكم من فضله. فقام الرجل ودعا الناس وسارع في تشييع الجنازة ودفنها، وكل من دخل الغرفة من الناس يقول: يا شيخ! عندك رائحة غريبة، رائحة كأطيب ريح وجد على وجه الأرض، ريح العود لكن ليس ريح الدنيا، فكان يسكت ولا يحدث إلى أن مرت عليه قرابة الشهرين فحدث بالخبر فانقطعت الرائحة من ذلك المكان.
فهذه قصة لأهل الإيمان اللهم اجعلنا منهم وثبتنا على الإيمان حتى نلقاك.
أما القصة الأخرى فهي لشابٍ مات على الكفر والضلال والعياذ بالله بشهادة أهله ووالده، وينقلها لنا أحد الإخوة الذين أعرفهم وزاملتهم في شركة كهرباء الجنوب، واسمه المهندس علي غرم الشهري .
يقول: كنا في خروج للدعوة في مدينة الزرقاء في الأردن ، وصلينا الجمعة في أحد مساجدها، وبعد صلاة الجمعة كان معنا مجموعة من طلبة العلم منهم عالم من الكويت ، وبينما نحن في المسجد وقد انصرف الناس إذا بالناس يدخلون من أبواب المسجد بشكلٍ غير طبيعي وهم يصيحون أين الشيخ؟ أين الشيخ؟ ثم جاءوا إلى الشيخ الكويتي فقالوا له: يا شيخ! يوجد شاب توفي صباح هذا اليوم عن طريق حادث مروري دهسته سيارة من سيارات الشحن، ولما حضرنا قبره وجئنا ووضعناه في القبر فوجئنا بوجود ثعبان عظيم في القبر، فنحن الآن لم نضع الشاب ولا ندري كيف نتصرف، يقول الأخ علي : فقام الشيخ وقمنا كلنا معه، وذهبنا إلى المقبرة ووجدنا هذا الثعبان في وسط القبر، فقلت له: كم حجمه، قال: كان حجمه في غلظ الماسورة بوصتان وهو متلوٍ ورأسه من الداخل، وذنبه من الخارج، رافعاً رأسه وفاتحاً فمه مخرجاً لسانه وعينه بارزة وينظر في الناس، يقول: فقال الشيخ: دعوه واحفروا في مكان آخر، يقول: فذهبنا إلى مكانٍ آخر على بعد مائتين متر فحفرنا قبراً، وبينما نحن في نهايته إذا بالثعبان يخرج من القبر الثاني، فقال الشيخ: انظروا المكان الأول، فذهبنا للأول فلم نجده هناك فقد اخترق الأرض وطلع من القبر الثاني، فقال الشيخ: لو حفرنا ثالثاً ورابعاً فسيخرج منه فلا حيلة إلا أن نخرجه -فحاولوا إخراجه- يقول: فجئنا بعصي وأسياخ وحملناه وأخرجناه من القبر، فجلس على شفير القبر، يقول: والناس كلهم ينظرون، وأصيب أكثر الناس بإغماء وحملتهم سيارات الإسعاف، وحضر رجال الأمن ومنعوا الاقتراب من القبر إلا العلماء وذوي الميت، يقول: وبينما جيء بالجنازة وأدخلت في القبر ووضعت من قبل أهل الميت ونحن واقفون إذا بذلك الثعبان يتحرك حركةً عظيمة، ثار على إثرها الغبار وملأ أرجاء المكان، يقول: ثم دخل من أسفل القبر ولما تحرك فرَّ كل من حول القبر، والذين بداخل القبر صعدوا وفروا من الخوف، يقول: فالتوى عليه بدءاً من أرجله حتى وصل إلى رأسه، ثم اشتد عليه فحطمه يقول: والله إننا كنا نسمع تحطيم عظامه كما تحطم حزمة الكراث، يقول: ثم لما هدأت الغبرة وسكن الأمر جئنا ننظر، وإذا به على هذا الوضع متلو عليه، يقول: فما استطعنا أن نفعل شيئاً قال الشيخ: ادفنوه، قال: فوضعنا اللبنات ودفناه وذهبنا عنه وعدنا إلى المسجد ثم ذهبنا إلى بيت العزاء لنعزي ونسأل عن حاله؟ فسألنا والد الشاب، قلنا: كيف كان ولدك، وماذا عمل؟! قال: كان طيباً وطائعاً وولداً جيداً، لكنه كان لا يصلي، مطلقاً.
فهذا والعياذ بالله مصيره المحتوم؛ لأنه كما تعرفون أن ترك الصلاة كفرٌ والعياذ بالله.
فهذه الآيات حدثت في زماننا هذا وأدركناها وفي كل بيئة وفي كل بقعة تقع آيات ودلالات لتدعيم قضية الإيمان بعذاب القبر؛ حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
وقد ذكر الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في كتابه الدلائل الواضحات في تحريم المسكرات والمفترات كثيراً من القصص الثابتة عنده بسندها القوي، حتى أنه شوهد وحتى أصبح كالمتواتر أن كثيراً ممن يموت وهو مدمن للدخان تلف رقبته ويُلْفَتُ وجهه عن القبلة إلى الخلف، وبينما هم يردونه ترى رأسه يُلْفَتُ عن القبلة ثانية، وذكر قصصاً كثيرة جداً من هذا الجانب ممن يعرف، وأذكر أنه حدثنا أحد الإخوة وهو الشيخ أحمد بن سامر رحمة الله تعالى عليه، وهو من الدعاة إلى الله وقد توفي في حادث مروري في خميس مشيط غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، يحدثنا هو بنفسه يقول: حضرت جنازة رجل في تهامة يقول: فلما وضعناه في القبر وكان من المصلين، لكنه كان مبتلى بالدخان وبالشمة، يقول: فمنذ أن وضعناه في القبر كشفنا عن وجهه وإذا برأسه يلتف مستدبراً القبلة، يقول: فأرجعته فلما أطلقته عاد كما كان، ثم أرجعته فالتف، يقول: فما استطعت أن أفعل شيئاً، فتركناه والعياذ بالله على هذا الوضع.
وذكر الشيخ التويجري قصة ثبتت عنده، وحصلت في نجد يقول: إن مجموعة ممن كانوا مستعملين على أمر الزكاة، أي: استعملهم ولي الأمر للذهاب والتطواف على البادية من أجل أن يأخذوا زكاة المواشي، يقول: وفي طريقهم حصل لواحد منهم مرض وتوفي وكان هذا المسكين المتوفى مبتلى بالدخان ولكنه لم يكن يشرب مع الجماعة؛ لأنهم كانوا ينكرونه، وقد كان في الماضي أكبر منكر في نجد فلا أحد كان يستطيع أن يشرب الدخان، فهذا الرجل كان يستخفي به ولكن بعضهم كان يعلم أنه يدخن، رغم أنه لم يكن يعلن بالدخان أمامهم، فلما توفي أرادوا أن يدفنوه، ولكن لم يكن معهم ما يحفرون به إلا عصيهم فجاءوا إلى رجلٍ من البادية وقالوا: توفي أخونا وليس عندنا شيء نحفر به، فنريد منك أن تعطينا معولاً أو فأساً نحفر به ونرجعه، قال لهم: أنا ما عندي إلا فأسي وهذا الفأس غالٍ جداً فأنا أقطع به حطبي وأعلف به لإبلي، وأنا أخاف أن أعطيكم إياه فتضيعونه عليَّ وأنا لست في المدينة لأذهب وأشتري بدله، قالوا: لن نضيعه أبداً، قال: أريد أن تعطوني رهناً، فرهنوا عنده بندقية، قال: إن بندقيتكم هذه لن تقطع لي حطبي ولن تنفعني، فقط أريدها رهناً لكي تعيدوا لي الفأس، قالوا: أبشر، فذهبوا وحفروا القبر تحت حجر ولما جاءوا إلى اللحد أرادوا أن يلحدوا فما استطاعوا أن يلحدوا والفأس في العصا، فنزعوا العصا من الفأس وبدءوا يحفرون بالفأس بدون عصا حتى انتهوا من القبر، فلما انتهوا -والإنسان بطبعه إذا انتهت حاجته إلى شيء نسيه، مثلك الآن إذا حصل لسيارتك مشكلة؛ تأخذ المفك لتصلحها فإذا زالت نسيت المفك؛ لأنك كنت تهتم بالمفك حين كنت محتاجاً إليه، لكن لما انتهت حاجتك نسيته، فهؤلاء لما انتهت حاجتهم نسوا الفأس في القبر ودفنوا صاحبهم- ولما وقفوا وإذا بالعصا ما فيها فأس، فقالوا لبعضهم: ماذا نصنع؟ قال بعضهم: نفتح القبر ونخرجه فالبدوي لا يريد إلا فأسه، قال بعضهم: الفأس قيمته عشرة ريالات فلماذا نفتح على أخينا في قبره وهو مستور فيه الآن ولا ندري ماذا يجري عليه.
فأخذوا أنفسهم وراحوا إلى البدوي وحين نظر إلى العصا وليس فيها فأس -وتعرفون أن الأعراب جفاة ومن بدا جفا- تصور أنهم يمكرون به، وأنهم يخدعونه فما تردد في أن يقوم ويأخذ البندقية وينتصب لهم قائلاً: أعلام تريدون أن تخدعوني، فوالله لا يكون ذلك، فإما فأس وإلا رءوسكم، قالوا: لا حاجة لك برءوسنا وفأسك موجود ولكن نحن نسيناه في وسط القبر، فدفن مع الميت، قال: ليس لي شأن. يقول: فذهبوا من عنده وجاءوا واضطروا إلى فتح القبر وفتحوا القبر وهالهم ما رأوا إذ وجدوا أن صاحبهم هذا قد غُلّت يداه ورجلاه وعنقه في حلقة الفأس ورأس الفأس من عند فمه، وقد وسعت الحلقة حتى انتظمت رجليه ويديه ورقبته فلما رأوه راعهم ذلك وجاءوا بالبدوي، وقالوا: تعال انظر فأسك، ولما رأى فأسه قال: آمنت بالله! هيا اذهبوا، فأعطاهم بندقيتهم ودفنوا القبر وذهبوا.
فهذه القصة ذكرها الشيخ حمود التويجري في كتابه الدلائل الواضحات في تحريم المسكرات والمفترات ، وغير ذلك كثير، يقول: لكن لا يلزم أن يكون هذا الأمر بحق كل ميت، كما لا يلزم أن يكون القعود والحركة والاستيقاظ في حق بدن كل نائم، بل هو بحسب قوة الأمر ودواعيه.
تكلم أهل العلم في هذا كثيراً جداً يقول: ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلمٍ يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) فهذا نصٌ واضحٌ في أنه يعرف من يعرفه في الدنيا ويرد عليه السلام.
وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعددة أنه أمر بقتلى بدر بعد انتهاء المعركة فألقوا في قليب -أي: في حفرة- ثم جاء حتى وقف على رءوسهم وناداهم بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! -والصحابة واقفون- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) قال له عمر : (يا رسول الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟ -أي: صاروا جيفاً قد انتفخت- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم) يقول هم يسمعون أكثر منكم: (والذي بعثني بالحق ما أنتم أسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا) فهذا نصٌ صريحٌ صحيح في أنهم يسمعون في قبورهم ما يدور في هذه الحياة الدنيا.
وثبت أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا انصرفوا عنه، وقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررنا على القبور أن نسلم على أهلها سلام من نخاطب فيقول: (قولوا: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) وهذا خطابٌ لمن يسمع ويعقل، إذ لو كانوا لا يسمعون؛ لما كنا نستطيع أن نقول: السلام عليكم وهم لا يسمعون، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة مخاطبة المعدوم أو مخاطبة الجماد، وهذا محال والسلف كلهم مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به.
يقول ابن القيم رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسين قال حدثني رجل من آل عاصم الجحدري - عاصم الجحدري تابعي من الصالحين- قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت له: أليس قد مت؟! قال: بلى، قال: فأين أنت؟! قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى أبي بكر المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟! قال: نعم. نعلم بها عشية الجمعة كله، ويوم السبت في الليل إلى طلوع الشمس قال: قلت: فكيف ذلك من بين سائر الأيام؟! قال: بفضل يوم الجمعة وعظمته عند الله عز وجل.
وحدثنا محمد بن الحسين أيضاً عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع ، ومحمد بن واسع رحمة الله تعالى عليه من أعلام التابعين، عالم ربانيٌ حدث عن أنس أي: أدرك أنساً وحدث عنه، وهو ثقة وعابد وصالح، لم يُر ولم يعلم أخشع لله منه، وكان الناس إذا وجدوا في قلوبهم قسوةً جاءوا إليه فنظروا إلى وجهه فتلين قلوبهم لذكر الله، فالرجل تذكر رؤيته بالله من خشوعه وخضوعه وخوفه من الله عز وجل، أوصى رجلاً فقال: [ كن ملكاً في الدنيا وملكاً في الآخرة، قال: كيف ذلك؟! قال: ازهد في الدنيا، تكن ملكاً من ملوك الدنيا وأيضاً من ملوك الآخرة ]، وكان من كثرة عبادته متواضعاً ومزرياً بنفسه يقول لأصحابه: [ والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس إلي أحد ]، فمع كثرة عبادته كان يحتقر نفسه، يقول: والله لو أن للذنوب ريحاً ما جلس بجواري أحد؛ لكن نحن اليوم لا إله إلا الله!! الإنسان منا مركب من رأسه إلى قدميه ذنوباً ويقول: أنا أحسن من غيري! فيزكي نفسه، وهذا هو الموت والبلاء.
فهذا من أعبد الناس ويحتقر نفسه ويقول: لو أن هذه الذنوب لها رائحة ما كان يستطيع أحد أن يجلس إليه.
وكان يقول: [ إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه ] وكان يقول: [ يكفي من الدعاء مع الخوف والورع العمل اليسير ]، يعني: عملك لو كان يسيراً، ولكن عندك ورع وخوف وزهد وأيضاً عندك دعاء ولجوء، فيكفي هذا ليكون سبباً من أسباب النجاة.
وكان شجاعاً واشترك في معركة مع قتيبة بن مسلم في قتال الروم ولما سأل عنه قتيبة قال: ما صنع محمد بن واسع ؟ قيل: هو ذاك رافع إصبعه إلى السماء يدعو الله، الناس يقاتلون بقوتهم وهو يقاتل بقوتين، فيقاتل بقوته المادية، وبقوة الله العظيمة، فقال قتيبة بن مسلم : والذي نفسي بيده لتلك الإصبع أعظم عندي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير، يعني: أن هذه الإصبع سبب للنصر بإذن الله أكثر من يد مائة ألف شاب طرير ومائة ألف سيف شهير، وهذا من تمام اعتمادهم رضي الله عنهم على قوة الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون حقيقةً أن النصر إنما يكون من الله عز وجل.
قيل لـمحمد بن واسع يوماً: كيف أصبحت؟ قال: [ أصبحت قريباً أجلي، بعيداً أملي، سيئاً عملي ].
يقول: قريباً أجلي أي: سأموت قريباً، بعيداً أملي، أي أن آمالي طويلة عريضة.
سيئاً عملي، فهذا شعوره وهو يقوم الليل كله، ويكثر من صيام الدهر، لكن إذا سُئلنا نحن كيف أصبحنا؟ نقول: إننا أحسن من غيرنا! طيبة أعمالنا، قريبة آمالنا، بعيدة آجالنا، أي: العكس ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال له الملك ابن المنذر : وقد ولاه القضاء، فاعتذر ثم كرر عليه يريد أن يوليه القضاء فاعتذر قال: والله لتلين الأمر -أي: القضاء- أو لأجلدنك ثلاثمائة سوط، قال: [ افعل فإن ذل الدنيا خير من ذل الآخرة ]، يقول: اضربني فأنا بالضرب أصير ذليلاً لكن ذلي في الدنيا أهون من أن أكون ذليلاً في الآخرة إذا وليت القضاء ثم لم أعدل؛ لأن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، فالغالبية في النار، أي: من كل ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، فمن هو الذي إلى الجنة؟
قاضٍ عرف الحق فحكم به، فهذا الذي إلى الجنة، وقاضٍ عرف الحق ولم يحكم به فإلى النار، وقاضٍ لم يعرف الحق فحكم بغير حق ففي النار ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فيقول ابن القيم حدثنا محمد بن الحسين عن حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت إلى المقبرة فنقف على القبور ونسلم على أهلها وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يومٍ: لو صيرت هذا اليوم -يوم الإثنين- قال: [ بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها ]، وحدثني يقول محمد بن عبد العزيز بن أبان قال حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له وكيف ذلك؟ قال: بفضل يوم الجمعة، هذا عن من؟ عن سفيان الثوري ، وسفيان الثوري هذا إمام من أئمة الدين وتابعيٌ جليل، وإمام من الحفاظ، وسيد من سادات المسلمين، طلب العلم وأكثر منه حتى طلبه على أكثر من ستمائة شيخ، ليس على واحد أو اثنين! طلب العلم وكان لا يذكر له عالِم عنده علمٌ ليس عنده إلا ضرب الأرض إليه وأخذ عنه، وأخذ عنه هو من العلماء أكثر من ألف راوٍ وكان شديد الفطنة، عظيم الذكاء، عظيم الحفظ، يقول: ما استودعت قلبي شيئاً فخانني، أي: ما استودعت في قلبي شيئاً من العلوم ثم احتجت إليه فخانني، بل بمجرد ما أطلبه يأتي به القلب؛ لأنه كالمسجل، وكان عابداً زاهداً ورعاً تقياً، يقول عنه سفيان بن عيينة : ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري رحمه الله.
وقال عنه الإمام أحمد : سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة حين يزكيان رجلاً فهو الرجل، يقول أحمد : سفيان هو الإمام الذي لا يتقدمه أحدٌ في قلبي، ويقول عنه يوسف بن أسباط : قال لي سفيان بعد صلاة العشاء: ناولني المطهرة لأتوضأ وأنام، قال: فناولته المطهرة فأخذها بيمينه ثم وضع يساره على خده، ثم نمت واستيقظت بعد طلوع الفجر -يقوله يوسف بن أسباط - يقول: وإذا بالمطهرة في يده وهو كما هو منذ أن نمت أول الليل، فقلت له: يا إمام قد طلع الفجر قال لم أزل على هذا الوضع منذ ناولتني المطهرة؛ لأنني تذكرت الآخرة. يقول: إنه تذكر الآخرة فما أتاه النوم، فجلس وكأن عقله قد سلب منه من قوة التأثر بذكر الله عز وجل، وذكر الدار الآخرة.
يقول سفيان الثوري : من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، ويقول: حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبال، يعني: إلى المقابر، فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر ثم دعا لهم وقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم وقبل من محسنكم، ولا يزيد على هذه الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي -يقول هذا الرجل- ولم آتِ المقابر فأدعو لهم كما كنت أدعو قال: فبينما أنا نائمٌ إذا بخلقٍ كثيرٍ قد جاءوني فقلت من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقبرة، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك قد عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت فإني أعود لذلك فما تركتها بعد.
فإذا بهذا الدعاء يصلهم ويفرحون به؛ لأنه هدايا تقدم إليهم.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أهله وذويه وأقاربه.
يقول عبد الله بن المبارك ، وسيرة ابن المبارك تحدث عنها العلماء حديثاً عظيماً، فتحدث عنه صاحب الإصابة والذهبي في سير أعلام النبلاء فكانوا يسمونه أمير الأتقياء وسيد العلماء؛ لأنه قضى حياته كلها في طلب العلم والغزو والتجارة والإنفاق على المحتاجين، وقالوا عنه: إنه جمع خصال الخير كلها، وكان يكثر من الجلوس في بيته ولا يختلط بالناس كثيراً، فقيل له: ألا تستوحش من كثرة الجلوس لوحدك؟ قال: كيف يستوحش من يعيش مع ربه ومع نبيه ومع أصحابه، فكان يعيش مع القرآن والسنة وهدي الصحابة، فهل تأتيه وحشة؟
وقالوا: كان ذكياً ألمعياً، عطس لديه رجل في مجلسه فلم يحمد الله، فكره ابن المبارك أن يأمره بأن يحمد الله، فسكت ثم قال له: ماذا يقول من عطس؟ قال الرجل: يقول الحمد لله، قال: يرحمك الله، ففطن الرجل لذكاء عبد الله بن المبارك وخجل وما نسيها أبداً، لكن لو أن شخصاً منا لقال له: أنت ما تحمد الله! احمد الله، لكن هذا أخذها بأسلوب غير مباشر.
قال عنه إسماعيل بن عياش : ما أعلم أن خصلةً من خصال الخير إلا وقد جعلها الله في عبد الله بن المبارك ، يقول أحد السلف : قدم الرشيد إلى الرقة - الرقة أرض في العراق - فانجفل الناس إليه، فمر ابن المبارك فانجفل الناس كلهم إلى ابن المبارك وتركوا الرشيد ، فنظرت جارية من قصرٍ من قصور الرشيد إليهم وقد تقطعت نعالهم وثار غبارهم وهم كلهم وراء ابن المبارك والرشيد ما وراءه إلا رجال الدولة والأصفياء، فقالت الجارية: من هذا الذي انجفل الناس إليه؟ قالوا: هذا عالم خراسان عبد الله بن المبارك، قالت: والله إن هذا هو الملك لا ملك الرشيد .
تقول: ذهب الناس إليه بغير أمر ولا نهي، فهذا هو الملك الحقيقي لا ملك الرشيد .
وقد أثر عنه هذه القصة وإن كان العقل لا يكاد يصدقها، ولكن ذكرها أهل السير، وذكرها صاحب سير أعلام النبلاء - فقد كان إذا حج نادى مناديه في أهل خراسان من أراد أن يحج فليرافقنا فيجتمعون فيه بيته ثم يطلب منهم أن يكتب كل واحد نفقته في ورقة ويضعها في صرة، فيأخذها ابن المبارك ويكتب على كل نفقة اسم صاحبها، ثم يضعها في صندوق عنده في البيت، ثم يأخذ كل من أراد الحج على حسابه إلى أن يدخل بهم المدينة ، وبعد أن تحصل لهم الزيارة يخرجهم إلى الأسواق ويسأل كل واحد: لحاله ماذا أوصاك أهلك من هدية؟ فيشتري لهم ما يحتاجونه، ثم يدخل بهم إلى مكة ويقضي بهم شعائر الحج كلها ثم يشتري لكل واحد منهم هديته التي أوصاه بها أهله، ثم يصحبهم إلى أن يعودوا إلى خراسان وبعد أن ينزلوا في بيوتهم ثلاثة أيام يصنع وليمة في بيته ويدعو إليها كل الحجاج، وهم يظنون أنه كان يحاسبهم من أموالهم التي قد أخذها منهم، فإذا فرغوا من الطعام؛ قام وفتح الصندوق وأخرج الصرر وأعطى كل واحد صرته التي فيها ماله ما نقصت ديناراً واحداً.
قد تقولون من أين له هذا المال؟ فقد كان رجلاً يشتغل بالتجارة، كما ورث مالاً من أبيه؛ لأن أباه كان مولى تركياً، وأمه حرة من خوارزم .
وقصة ابن المبارك غريبة جداً، فأبوه كان رجلاً تقياً يخاف الله، ولم يكن عالماً، وكان عبداً لرجلٍ ثري، وكان لهذا الرجل الثري بستان عظيم وجعل فيه المبارك ليشرف على زراعته وسقي أشجاره سنين طوال، وفي يوم من أيام الثمار جاء سيده ومعه بعض أصحابه ليزور البستان بعد العصر فجلسوا، فقال للمبارك : يا مبارك ! أعطنا رماناً، فأخذ رماناً وجاء به إلى سيده، وحين فتحوا الرمان وجدوه حامضاً مثل الليمون، فدعاه قال: يا مبارك ! ألم تجد في بستاني غير هذا الرمان الحامض؟ قال: والله يا عم! لا أعرف حلوه من حامضه؛ لأني ما أكلت منه حبة منذ أن وضعتني في هذا المكان -فمن خوفه من الله، يقول: والله لا أعرف الحامض من الحلو- قال: لا تعرف حامضه من حلوه؟! قال: والله لا أعرف. قال: ولِمَ؟ قال: ما أذنت لي بأن آكل منه فأنا لا أعرف فيه شيئاً، فقال لمن حوله من الرجال: أشهدكم أن البستان كله له، سبحان الله! (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) ترك حبة أو حبتين أو عشراً أو مائة؛ فجاءه البستان العظيم، ويقال أن هذا البستان كان كبيراً.
فأصبح البستان للمبارك فجلس فيه المبارك مالكاً بعد أن كان أجيراً، فأراد يوماً أن يتزوج ولكنه لا يعرف بمن يتزوج، فجاءه عمه الذي أعطاه البستان بعد أن أحبه حباً عظيماً وقال له: يا أخي! إني أحبك في الله، وأطمئن إلى رأيك وإن عندي بنتاً أريد أن أزوجها ولا أدري من أزوجها فأريد أن تشير عليَّ من أزوج، قال له: العرب يزوجون للحسب، أي: أن العرب الجاهليين الذين ما عرفوا الإيمان والدين في قلوبهم، والذين يزنون الناس بموازين غير موازين الله، ويقسمونهم إلى طبقات وهذا ذوب حسب، وذاك لا، فكل ذاك مناقض ومناهض للدين والعقيدة الإسلامية؛ لأن الإسلام قد أعلن وحدة الجنس البشري وبيَّن أن الناس كلهم لآدم، والله يقول في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات:13] فمن هما الذكر والأنثى؟ آدم وحواء أي كل الناس يلتقون في آدم وحواء فالذي يقول: إن له أصلاً من غير آدم وحواء، فهذا يكفر بالقرآن ويرده وهذه مصيبة عظيمة جداً.
قال المبارك : العرب الجاهليون يزوجون للحسب، واليهود أصحاب رءوس المال يزوجون للمال، والنصارى أصحاب العيون الزرقاء، والشعر الجميل يزوجون للجمال، وأهل الدين يزوجون للدين.
فيقول المبارك : إن الناس أربعة صفات إما جاهلي، أو يهودي، أو نصراني، أو مسلم، فالجاهلي يريد حسب فلان بن فلان، واليهودي يريد مال فلان، والنصراني يريد جمال وهيئة فلان، أما المسلم فيسأل عن الدين والعقيدة، قال الرجل: والله ما أرى في الأرض أصلح منك وأنا أزوجك ابنتي، قال: قبلتها فتزوجها فولدت له عبد الله بن المبارك ، وورث عبد الله هذا المال من أبيه ونماه وثمره وكان يستعين به على طاعة الله، فنعم المال الصالح في يد عبد الله بن المبارك الصالح.
ولا يفهم من هذا أنه دعوة إلى أن يمتلك الناس الأموال، لكن دعوة إليها بشرطها فمن كان في يده مال واستعان به على دين الله (فإن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير) والقوة هنا قوةٌ كاملة، قوة في المال، والبدن، والعلم، والمؤهل، أو في أي مجال من مجالات الحياة، فإذا كان مؤمناً قوياً وعنده مال، فلا شك أن الله سينصر به الدين وسينتفع به ما لا ينفع بالفقير الذي لا مال عنده.
يقول ابن المبارك : حدثني ثور بن يزيد عن إبراهيم عن أبي أيوب قال: [تعرض أعمال الأحياء على الأموات فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سيئاً قالوا: اللهم راجع اللهم راجع].
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن الحواري قال: حدثني محمد قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو والٍ على فلسطين قال: عظني، قال: بما أعظك أصلحك الله؟! بلغنا أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ومن عملك، فبكى إبراهيم حتى ابتلت لحيته.
هذا عمرو بن العاص رضي الله عنه داهية العرب ودهات العرب أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، وكل منهم انفرد بالدهاء في جانب، وكان عمرو بن العاص داهية العرب في الحزم والقوه والشدة والبأس، وكان معاوية داهية في الحلم والأناة، وكان المغيرة بن شعبة داهية في سرعة البديهة، وقد كان أميراً على البحرين في خلافة عمر بن الخطاب ، فلما قدم الحجاج من البحرين ، وكان عمر شأنه محاسبة الولاة عن طريق سؤال رعاياهم، فكان إذا حج جمع الوفود من كل بلد وسألهم: كيف أميركم؟ فإن أثنوا عليه خيراً مكنه وإن أثنوا عليه شراً حاسبه، فلما علم أهل البحرين بهذا الأمر أرادوا أن يقعوا في المغيرة فكادوا له مكيدة وجمعوا مائة ألف درهم من بعضهم وجاءوا بها إلى عمر وقالوا لما سألهم: كيف أميركم؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! جاءنا صعلوكاً -يعني: ما عنده مال- ولما أردنا أن نأتي إلى الحج وهو معنا استودع عند بعضنا مائة ألف درهم فعرفنا أنها من بيت مال المسلمين فجئنا بها إليك يا أمير المؤمنين! -يظنون أنه يقول: ما شاء الله! وكثر الله خيركم- فقام عمر رضي الله عنه؛ لأنه يقول: [لا تحكم على الخصم حتى يحضر]- فإنه وإن كان الخصم الذي جاءك يشتكي قد فقئت عينه، فربما الآخر قد فقئت عيناه فلا تتعجل بالحكم.
وقد عاتب الله داود؛ لأنه تعجل بالحكم، فقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] ومقتضى الحق أنك لا تحكم حتى تستمع الدعوى والإجابة من الطرفين، أما أن تحكم مباشرةً فمعناه أنك لست حاكماً عدلاً، وأرسل الله على داود اختباراً في هذا فجاءه اثنان من الملائكة وتسورا المحراب وقال أحدهما: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23] فما صبر داود وما سأل الخصم وإنما حكم مباشرة: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24] ثم علل وقال: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24] قال الله عز وجل وَظَنَّ دَاوُدُ [ص:24] أي: اعتقد وعلم أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص:24] يعني أننا اختبرناه بهذين الخصمين وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24].
وما يدار في كتب الإسرائيليات من أن داود عليه السلام كان له تسع وستعون زوجة، وأنه رأى امرأة في بيتها، فأرسل زوجها إلى الغزو، ثم أخذها وتزوج بها، فهذا كله كذب وافتراء وقدح في مقام النبوة، فمعاذ الله أن يفعل هذا وهو نبي مجتبىً مختار، فهذا الفعل لا يفعله إنسان عادي بأن يكون عنده تسعة وتسعين امرأة ناهيك عن أن يأخذ تلك، كما أنها امرأة لرجل آخر، والإنسان لا يطمح عادة إلا إلى البكر أما امرأة رجل آخر فلا يعقل ذلك! لكن هذه من الإسرائيليات التي تردها أدلة الشرع في عصمة الأنبياء وجلالة قدرهم ولا ينبغي القول بها كما ذكر ذلك المحققون-.
فكان عمر بن الخطاب شأنه ألا يترك الأمر معلقاً، فقال: هاتوا لي المغيرة ؛ فلما جاء المغيرة ، قال: ما هذا يا مغيرة ؟ قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟! قال: إن هؤلاء زعموا أنك جئتهم صعلوكاً وأنك أخذت من مال المسلمين بغير حق فلما قدمت إلى الحج استودعتهم مائة ألف درهم، فمن أين أتيت بها؟! قال: اصبر يا أمير المؤمنين! أولاً: أنا ما استودعتهم مائة ألف بل مئتي ألف -انظروا إلى الدهاء وسرعة البديهة- فمرهم أن يأتوا بها أولاً- فهم ما عندهم إلا مائة ألف وقد بحثوا عنها بكل وسيلة وهذه حجة عليهم- قال لهم أمير المؤمنين: هاتوا المائة الثانية، فـالمغيرة لا يكذب أبداً، فلما عرفوا أنهم وقعوا في ورطة قالوا: يا أمير المؤمنين! والله ما أعطانا لا مائة ولا مائتين -فكذبوا أنفسهم- ولكنا كرهنا الرجل قال: وما تكرهون فيه؟! قالوا: كرهناه دينه وعدله فأردنا المكر به فأوقعنا الله في مكرنا، فقال: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي في المغيرة ورده والياً على البحرين . فهذا من دهائه رضي الله عنه.
وكان عمرو بن العاص داهية العرب، ورجل العالم الذي دوخ الدنيا يضرب به المثل في الحزم والدهاء فتح مصر واستعمله عمر عليها.
وكان أهل مصر يأتون كل سنة بفتاة جميلة عذراء ويلبسونها أحسن الثياب ثم يدفعونها في النيل ، وإذا لم يفعلوا ذلك فإن النيل لا يجري، فلما جاء عمرو أنكر عليهم وكتب إلى عمر قائلاً: إن أهل مصر يدفعون إلى نيلهم كل سنة فتاةً من فتياتهم، قال عمر : امنعهم من ذلك وألق كتابي هذا في النيل ، وكان عمر قد كتب: [من أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر إن كنت تجري بأمر الله؛ فإن الله سيجريك، وإن كنت إنما تجري بأمر الشيطان فلا أجراك الله] -عمر يخاطب النيل ! انظروا إلى قوة الإيمان- فأخذ عمرو بن العاص الكتاب ورمى به في النيل ، يقول: فجرى النيل ذلك العام كما لم يجر من قبل وذلك بأمر الله عز وجل، وانقطعت تلك العادة الشيطانية التي كان الشيطان قد أوحى بها إلى الناس.
هاجر عمرو متأخراً سنة ثمانٍ للهجرة، وكان ذلك قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي ثلاث أو أربع سنوات، وهاجر معه خالد بن الوليد، وفرح بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّره عمر على بعض الجيش وجهزه للغزوات، وله أكثر من أربعين حديثاً منها ثمانية في صحيح البخاري ، وكان واضحاً لا يعرف النفاق، يقول عنه قبيصة بن جابر : [ما رأيت رجلاً أبين رأياً، ولا أكرم جليساً ولا أشبه سريرة بعلانية من عمرو بن العاص رضي الله عنه] وكان ذا رأيٍ وشجاعةٍ ودربةٍ في أمور الحرب رضي الله عنه.
فالسؤال الأول هل يعرف الأحياء ما يجري من نعيم أو عذاب في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
والثاني: هل تتزاور أرواح الأموات مع بعضها في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
أما الثالث: فهل تتزاور أرواح الأموات مع الأحياء الذين على ظهر الأرض؟
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: هذه مسألة شريفةٌ عظيمة القدر وجوابها: أن الأرواح في عالم البرزخ على قسمين: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغلٍ شاغلٍ بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، ولهذا فالمعذب لا يزور أحداً في الدنيا. فالذي يزور هو من يكون في نعيم، أما الذي يكوى ويحرق بالنار، بالليل والنهار فليس عنده وقت ليزور أحداً، وإنما هو في شغلٍ شاغلٍ بما سلط عليه من عذاب القبر والعياذ بالله.
قال: وأما الأرواح المنعمة فهي تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]وهذه المعية ثابتةٌ في الثلاث الدور، الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور نسأل الله الذي لا إله إلا هو إن يحشرنا في زمرته؟ وأن يجعلنا ممن يعيش معه ويراه صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الإمام الشعبي : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: (يا رسول الله! يا نبي الله! والله الذي لا إله إلا هو إني لأحبك أكثر من نفسي وأهلي ومالي، وإني أكون في أهلي فأذكرك فلا تهدأ نفسي حتى آتي إليك فأنظر إلى وجهك يا رسول الله! وإني ذكرت يا رسول الله! أنك ستموت وأنني سأموت فعرفت أنني لن أكون معك في الدار الآخرة، وأنك ستكون في منزلة النبيين، وأنني إن دخلتُ الجنة كنت في منزل أدنى من منزلتك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم -فانظروا إلى نظرة الرجل البعيدة، يقول: إنك ستموت وأنت مع النبيين وأنا إن دخلتُ الجنة لن أكون مع النبيين ولن أراك، فماذا أفعل؟ قال:- فلم يرد عليه النبي فنزل قول الله عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]).
هذا نصٌ في ذلك وقد أخبر الله عز وجل عن الأحياء أنهم يرزقون عند ربهم وأنهم يفرحون ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهذا دليلٌ على تلاقيهم في عالم البرزخ من وجوه ثلاثة:
الأول: أنهم عند ربهم يرزقون.
والثاني: أنهم يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم من بعدهم.
والثالث: أن لفظ الاستبشار يفيد أنه يبشر بعضهم بعضاً فهم يتباشرون بذلك بالآخرة كما كانوا يتباشرون بالبشرى في الدنيا.
و قد تواترت الروايات فيما يتعلق بتلاقي أرواح الصالحين في الآخرة مع أرواح الصالحين في الدنيا كثيراً جداً ومنها:
ما روى صخر بن راشد قال: رأيت عبد الله بن المبارك -هذا الذي ذكرنا قصته- بعد موته فقلتُ له: ألست قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلت: فما صنع الله بك؟ قال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكل ذنبٍ، قلت: فأين سفيان الثوري ؟ قال: بخٍ بخٍ ذاك: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وقال أبو عبد الله بن مندة : حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم عن مطرف عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42] قال: [بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها].
وقد دل على التقاء أرواح الأموات والأحياء أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره فيخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر.
وأبلغ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل ولم يطلع عليه أحداً غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله قال سعيد بن المسيب -وهو من أئمة التابعين-: [التقى عبد الله بن سلام -وهو صحابي من اليهود أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني في المنام -انظروا إلى يقينهم بقضية الموت- قال: إن مت قبلي فالقني في المنام وأخبرني بما لقيت عند الله، وإن أنا مت قبلك فسوف ألقاك فأخبرك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم. أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات أحدهم فلقي الآخر في المنام، فقال له: ماذا أصنع؟ قال: توكل على الله وأبشر فلم أر مثل التوكل].
قال العباس بن عبد المطلب : [كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا بعد حولٍ من موته فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لولا أني لقيت رءوفاً رحيماً]
ولما حضرت شريح العابد الوفاة دخل عليه عبيد بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال:يا أبا الحجاج إن قدرت أن تأتينا بعد الموت لتخبرنا بما لقيت من ربك فافعل -وكانت كلمة مقبولة عند أهل العلم وأهل الفقه في الدين- فمكث زماناً بعد موته لم يره ثم رآه في المنام فقال له: كيف حالك؟ قال: تجاوز ربي عن الذنوب فلم يهلك منا أحداً، قلت: إلا من؟ قال: إلا الأعيان، قلت: ومن هم؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع. يقول هؤلاء رسبوا في الامتحانات.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة فدفع إليَّ تفاحات، فأولتهن الولد فقلت: أي الأعمال وجدت يا أبتِ؟ قال: الاستغفار يا بني.
فالاستغفار من أعظم الأعمال؛ لأن الله عز وجل جعله أماناً من العذاب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يغفر لنا وإياكم ذنوبنا وأوزارنا، وسيئات أعمالنا، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: هذه الأحاديث أيها الإخوة! كما يقول العلماء: أحاديث الوعيد التي خرجت مخرج التهديد والترهيب من فعل بعض الأشياء لا تؤخذ لوحدها وإنما تؤخذ مع عموم الأدلة مثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) وهذا حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم و(البردان) يعني العصر والفجر، فلا يأتي واحد يصلي الفجر والعصر ويترك المغرب والظهر والعشاء ويقول: مادام أنه من صلّى البردين دخل الجنة فأنا أدخل الجنة، فنقول: لا (من صلى البردين دخل الجنة) ولكن لابد من الصلوات الخمس بأدلة أخرى.
فهنا دلت الأدلة الشرعية الثابتة في كتاب الله عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من مات على التوحيد لا يخلد في النار وأن مصيره إلى الجنة في آخر الأمر، إذ يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، وإنما المقصود أنه لا يدخل الجنة نمام أي: لا يدخلها ابتداءً، يعني: لابد من دخوله النار ليعذب على قدر الأقذار التي علقت به؛ لأنه إذا مات الإنسان وهو نظيف بالتوحيد، ونظيف من المعاصي والذنوب فإنه طيب في الظاهر والباطن فيدخل دار الطيبين، أما إذا مات وبه قذر أو به لطوخ من المعاصي فإنه لا يدخل الجنة الطيبة إلا بعد التعقيم في النار، والمكث في التعقيم يكون بحسب كثرة الأوساخ فالذي أوساخه قليلة يكون مكثه قليلاً، والذي أوساخه كبيرة ومتأصلة يكون مكثه طويلاً، وقد يدخل الجنة ابتداءً بدون تعقيم، وإنما تعقمه رحمة الله عز وجل كما قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فأما الشرك فلا يغفره الله؛ لأن المشرك كالخنزير كما يقول ابن القيم : الخنزير لو أدخلته من طرف البحر -تريد أن تغسله- وأخرجته من الطرف الآخر طلع عليك خنزيراً فلا ينظفه ماء البحر، لكن المسلم الذي يموت موحداً وعليه أقذار، فإنه يمحص بقدرها، وكلما كانت ذنوبه أكثر كان مكثه أكثر، فالنمام لا شك أن عمله كبير، ومن كبائر الذنوب، وهو يعذب صاحبه في القبر ويعذبه في البرزخ، ولكن إذا كان موحداً -مات على التوحيد- ولا يشرك بالله، فإنه بتوحيده ستكون نهايته إلى الجنة بإذن الله عز وجل.
الجواب: نعم. يا أخي الشاب! تقبل توبتك ويقلب الله سيئاتك التي عملتها حسنات، ولكن اثبت يا أخي المسلم! فإن التذبذب والصعود والهبوط والجد مرة والكسل مرة والمحافظة على الصلاة مرة وتركها مرة هذه ظاهرة خطيرة لحياة الشاب؛ لأنه قد يأتيه الموت وهو في النزول، فمن يرجعه؟ أو قد ينزل نزلة لا يصعد بعدها إلى يوم القيامة، بعض الشباب يقول: أنا الآن اهتديت لكن ضيقت على نفسي! فلماذا لا أفعل مثل هؤلاء العابثين وأشبع نفسي بالمعاصي والذنوب، ثم أتوب؟! فينزل فإذا نزل عاش هذه الحياة العابثة، فإما أن يموت قبل أن يتوب، أو يستمرئ هذه الأمور والعياذ بالله فيألفها ولا يستطيع أن يتوب، فيموت خاسراً والعياذ بالله لأن الله هو الذي يحبب الإيمان ويزينه في القلوب قال الله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] فنسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، فاثبت يا أخي! على دين الله ولا تتذبذب فإن هذا خطر؛ لأن القلب هو مجال هذا التذبذب، وهذا القلب جهاز عجيب يتقلب.
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب |
وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله ويقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان يسأل وهو المعلم لهذه الأمة ويقول: اللهم ثبت قلبي على دينك وعلى هداك، فاسأل الله التثبيت واثبت على دين الله عز وجل واتبع وسائل الثبات وهي: تلاوة القرآن الكريم، وفعل ما أمر الله به من أوامر وفي مقدمتها التوحيد، والصلوات الخمس، والزكاة؛ لأن الذي لا يصلي في المسجد وتوحيده فيه خلل فإن الله لا يثبته، يقول الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النساء:66] أي ما أمر الله به: لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] فأعظم شيء يثبتك على الدين فلا تزيغ ولا تهلك هو أن تتمسك بطاعة الله، وتعض عليها بنواجذك وتحرص عليها بكل قواك وتجاهد نفسك بقوة وعنف أن تكون الأول في دين الله.
لكن أن تتكاسل في الصلاة وتأتي مرة في الصف الأول، ومرة في الثاني، ومرة في الأخير، ومرة تصلي في البيت، ومرة في المسجد، ومرة تضيعها، وتريد أن تثبت على الدين، فهذه بداية انحدار والعياذ بالله والذي يعمل هذا لا ترده إلا جهنم والعياذ بالله، لكن الذي يجاهد نفسه باستمرار فما إن يسمع الأذان حتى يقوم إليها فهذا يثبته الله عز وجل، ويحبب له الإيمان، فلا يمضي عليه سوى فترة بسيطة من الزمن وإذا بهذه الأعمال والطاعات تصبح صفة لازمة وثابتة فيه، ولا يمكن أن يتركها في أيِّ حال من الأحوال؛ لأن الله ثبته قال الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم:27] يعني: هنا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
الجواب: لا، ليس بصحيح، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل محرماً بعد أن أدى الفريضة فهذا هديه، فإذا صليت فريضةً في ميقاتٍ من المواقيت فإنك تحرم بعده، أما إذا أتيت على غير فريضة، فقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الركعتين فمنهم من قال: لا أصل لها، فإذا أتيت في غير الفريضة فتحرم من الميقات ولا تصل ركعتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها وإنما صلى الفريضة، فإما أن تصلي الفريضة إن كنت جئت في وقتها، فإن لم يكن فلا تصل.
ومن أهل العلم -وهم الجمهور- من قال: يصلي ركعتين قياساً على صلاة الفرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صادف وقت فرضٍ أحرم بعده ولما لم يصادف الإنسان وقت فرضٍ فليصلِ نفلاً تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجحه الشيخ عبد العزيز بن باز والكثير من العلماء المحققين أنه يصلي بعد إحرامه. لكن أن تصلي فريضة وبعدها تصلي نافلة فهذا خطأ ولم يقل به أحد من العلماء.
الجواب: هذا تنبيه جيد جداً وهو مهم؛ لأن تسوية الصفوف أيها الإخوة! كما تعرفون من تمام الصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا: كيف تصف؟ قال: كانوا يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصفوف) فتسوية الصفوف جزءٌ من تسوية القلوب، فإذا استوت الصفوف استوت القلوب، وإذا اختلفت الصفوف اختلفت القلوب فلا بد من المراصة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بهذا الجانب وكان السلف من بعده يهتمون بأمر الصلاة، وكان عمر يضرب الناس بالدرة -بالعصا- أثناء تسوية الصفوف؛ لأن استواء الصفوف مطلوب وشيء من متطلبات الفريضة، فينبغي للمسلم أن يحرص على هذا وأن ينظر عن يمينه وعن شماله، وأن يجر إليه من بجانبه، وأن يتقدم أو يتأخر حتى يستقيم الصف ولا يبقى فيه اعوجاج، وأن يتم الصف الأول فالأول، وأن لا يبدأ صفاً من الوسط حتى ينتهي الصف الذي قبله من طرفيه؛ لأنه غالباً ما يبدأ الناس الصفوف من عند الباب وتجد بعض الصفوف ناقصة باستمرار؛ لأن الشخص إذا سلم يريد أن يختصر الطريق إلى الباب وينصرف من هناك.
الجواب: أولاً: أنت مخطئ في تحريم الدراسة؛ لأننا أمة العلم، فالجهل ما بنينا به مجداً، وأول آية نزلت علينا في كتابنا قول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فلن نبلغ شأواً ولا مجداً إلا بعلمنا وبإنتاجنا وبحضارتنا في شتى الميادين، سواء كانت هذه العلوم التي ندرسها علوماً شرعيةً أو علوماً دنيوية، لكن طبعاً العلوم الشرعية لابد منها؛ لأنها فرض عين على كل مسلم فلابد لطالب الطب أن يكون فقيهاً في الدين، ولطالب الهندسة لابد أن يكون فقيهاً في الدين، والطالب في كلية التربية لا بد أن يكون فقيهاً في الدين، فليست العلوم الشرعية مقصورة على طلاب الشريعة وطلاب العلوم الدينية.
فنريد الطالب مزوداً بالدين في كل جامعة وفي كل ميدان، ولكن طالب الشريعة يزداد تخصصاً، فيعرف في الدين ما لا يعرفه في أمور تخصصية نادرة تعتبر من فروض الكفاية.
فأنت يا أخي! قد أخطأت كثيراً حينما حرمت الدراسة على نفسك، والله قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1] وقال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] فينبغي لك أن تقف عند هذا اليمين ولا تحرم ما أحل الله، وعليك أن تواصل دراستك وأن تستعين بالله، ولتعلم أن هذه المصاعب التي تواجهك في دراستك الجامعية شيء طبيعي في حياة كل شاب جامعي، لكن مع الاستمرار لابد أن تدك هذه العقبة إن شاء الله وتبلغ إن شاء الله المرتبة الطيبة والمنزلة الرفيعة لتنصر دينك من منصبٍ أقوى ومن مكان أفضل بإذن الله.
ويلزمك كفارة يمين أن تطعم عشرة مساكين كل مسكين كيلو ونصف أو اثنين كيلو رز من أوسط ما تطعم أهلك إن شاء الله، وأسأل الله أن يتوب عليَّ وعليك.
الجواب: أقول يا إخواني! بالنسبة للآباء فإن الشاب لا يمكن أن يتعايش مع الإسلام وأن يفهم الدين فهماً عملياً بواقع التجربة إلا عن طريق التعايش مع إخوته في الله في المخيمات والمعسكرات الإسلامية؛ لأن هذا الكلام الذي نقوله في الندوات الآن شيء نظري، ويمكن أن يثبت ويمكن أن يذهب لكن إذا طبق في مجال العمل فإنه يثبت ويستقر، ولذا تجد الشاب إذا عاش يوماً أو يومين أو ثلاثة في مخيم إسلامي؛ فإنه يرجع بنفسيات مختلفة اختلافاً كبيراً أكثر من سماعه للمواعظ والمحاضرات في ثلاث سنوات؛ لأنه هنا يسمع عن القيام للصلاة، لكن هناك يسمع كلمة قم للصلاة، ويسمع الخشوع، ويسمع قيام الليل، ويسمع كل هذه الأشياء المهمة جداً.
وعليك أيها الأخ المسلم! إذا أردت أن يهتدي ولدك وأن يثبت على دين الله أن تسمح له في كل فرصة تسنح للذهاب مع إخوانه في رحلة أو في مخيم إسلامي، لكن بشرط أن تعرف من المسئول، ومن القائم على المخيم الإسلامي، وأن يعرف أنه رجل موثوق في دينه وفي عقيدته وفي حسن إشرافه ودرايته، أما غير ذلك فلا؛ لأني سمعت في يوم من الأيام أنه يوجد مخيم اسمه مخيم إسلامي وأنهم في الساعة التاسعة صباحاً يقومون في وقت الفطور ويشغلون الميكرفون والمسجل على أم كلثوم تغنيهم: يا صباح الخير يا اللي معانا، بعد الفطور قاموا يلعبون إلى الظهر ورجعوا يقولون: مخيم ديني وإسلامي، أي إسلامي؟! بل هذا مخيم شيطاني.
وأذكر مرة من المرات قبل حوالي عشر سنوات أقامت إدارة التعليم مخيماً إسلامياً بطلائع الشباب الطيبين من الثانويات في المناطق المجاورة بـأبها وجيزان ونجران وبيشه والباحة، فجاء من كل منطقة عشرون طالباً، فكان مجموعهم مائة طالب، والمخيم مدته أسبوعاً وكان في القرعا ، وكنت أنا مسئولاً عن هذا المخيم ولما جاء الطلاب إلى البيت اجتمعوا من أجل أن نبدأ المخيم، وكان أكثرهم قد أتى معه بالكاميرا والمسجل وبعضهم أحضر الورقة في جيبه والثاني أحضر معه (الضومنة) وقالوا رحلة في السودة أو في القرعا مدة عشرة أيام، فلما جاءوا وجلسوا أول جلسة تكلمنا معهم وأعطيناهم لمحة عن المخيمات الإسلامية، وذكرنا لهم برامج المخيمات، وكان برنامجنا يبدأ عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، يعني: قبل الفجر بحوالي ساعة، فيبدأ بصلاة التهجد، يقول لي واحد من طلاب نجران لما صار ملتزماً واهتدى: والله ما سمعت بصلاة التهجد إلا منكم، لما قلتم صلاة التهجد يقول: قلت: ما هي التهجد؟! إلا أن معنى التهجد النوم، فما فهمت أن صلاة التهجد يعني قيام الليل.
فكانوا يقومون الساعة الثالثة والنصف إلى الساعة الرابعة والنصف صلاة تهجد، وبعد الساعة الرابعة والنصف يقرءون القرآن ويصلون الفجر وبعد صلاة الفجر نقسمهم عشر حلقات كل عشرة طلاب مع مدرس من المدرسين الذين كانوا يشرفون على المخيم، يقرءون القرآن ويتعلمون القرآن، وكان هناك طلاب في الثانويات لا يعرفون حتى قراءة الفاتحة، يعني: كما أنزلها الله عز وجل بل يقرءون ويلحنون فيها، وبعد الإشراق نصلي ركعتين ثم يذهب الطلاب في حركات رياضية وكنت أنا الذي أدرسهم الرياضة؛ لأن عندي خلفية فيها بعد ذلك نرجع ونفطر، ثم فترة راحة من الساعة الثامنة إلى الساعة العاشرة، ومن الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية عشرة محاضرات نستضيف فيها بعض العلماء ليلقوا دروساً على الطلاب، وبعد الظهر هناك غداء وراحة إلى العصر، وبعد العصر زيارة للأماكن المحيطة بالبيئة وأيضاً بعض الحركات والألعاب الرياضية، ومن المغرب إلى العشاء حفل سمر، ومن بعد العشاء بساعة هناك عشاء ثم بعدها النوم مبكراً، فهذا هو البرنامج، فالشباب أول ما أتوا تضايقوا قليلاً منه لكن في آخر الأمر وبعد أسبوع طلبوا تمديده، فاستأذنا من المسئولين في دار التعليم ومددناه عشرة أيام؛ لأن عندنا وفر في الإمكانية والميزانيات، بعد ذلك والله كنا نودعهم في آخر يوم وهم يبكون، وأن أحد الطلاب كتب لي وهو من نجران يقول لي: أكتب لك هذه الرسالة بمداد قلمي ودمع عيني، يقول: والله رجعت إلى بيتي وأنا غريب عن أمي وأبي وأبنائي وإخواني، يقول: غريب ما عرفت هذه العيشة الزكية عيشة الدين.
فإذا وجدت يا أخي المسلم! مخيماً إسلامياً أو معسكراً أو رحلة فيها أناس طيبون يربون لك ولدك ويهدونه إلى الصراط المستقيم، خير لك يا أخي! من أن تترك ولدك لعبة أو طعمة يمكن أن يخطفه شيطان يعلمه الشر أو يعلمه المخدرات، ويعلمه الفساد ثم تندم وتعض على أصابع الندم، صحيح أنك تحرص عليه وهذا طيب من الطيبات، لكن بعض الآباء يمنع ولده حتى من الخير. فامنع ولدك من الشر وأطلقه في الخير أما أن تمنعه من الخير والشر فإنه لن يبقى هكذا، بل سيكون فريسة للشر يوماً من الأيام حين يتحرر منك.
أما الآن فسيطيعك؛ لأنه مضطر لذلك، لكن حين يكبر فلن يطيعك، وأنت قد منعته من الخير الذي يحفظه، فسيتقبل الشر وينحرف والعياذ بالله.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا وإياكم.
الجواب: تخطي الرقاب لا يجوز وينبغي التفسح؛ لأن تخطي الرقاب يؤذي المسلم إلا إذا رأى الإنسان فرجة خالية أمامه ليس فيها أحد، ولم يتقدم أحد ليقعد فيها؛ فإن من حقه أن يأتي ويقعد فيها ولا يقعد عند الباب.
الجواب: لا. من أين صارت أختك؟ أخت أخي من الرضاعة يعني: أن أخاك رضع من امرأة وأصبح أخاً لجميع البنات والأولاد الذين رضعوا من هذه الأم، والذين خرجوا من صلب زوج هذه المرأة من غيرها، هم أخوة له، أما أنت فلست أخاهم، فيقول: أخت أخي من الرضاعة هي أختي، ويريد أن يسلم عليها، فلا يجوز ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر