إسلام ويب

الجود والشح والكرمللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الجود والكرم من الصفات الحسنة التي حث عليها الإسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكانت هذه الصفة التي فيه سبباً في إسلام كثير من الناس وفي حسن إسلامهم، وكذلك كان صحابته ومن سار على نهجهم؛ لعلمهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الشح وجعله من الموبقات.

    1.   

    الفرق بين الجود والكرم

    الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

    أما بعد:

    أحبتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، اللهم فرج هم المهمومين، واكشف كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين، ودل الحيارى واهد الضالين، واغفر للأحياء وللميتين .

    إن ديننا يحث على التكافل والترابط والتآخي والتماسك، يحثنا على مكارم الأخلاق، وعلى نبذ كل ما لا يرضي الله عنا، فمن صفات المؤمنين الصادقين: البذل والجود والكرم والتضحية والعطاء والإيثار.. إلى غير ذلك من الصفات.

    ومن صفات المنافقين: الشح والبخل والحقد والحسد والبغضاء، فميزنا الله عن أولئك المنافقين بالبذل والتضحية والعطاء.

    وإن من أسماء الله جل في علاه: الغني، الكريم، الجواد، المعطي.. وكل هذه الأسماء آثارها لا بد أن تظهر في حياتنا، فديننا يحثنا على مثل هذا ..

    سأجمع في موضوعنا الكلام عن الجود والشح والكرم.

    فإن قلنا: الجود والكرم، فالجود هو بذل المعروف لمن تعرف ولمن لا تعرف، وأما الكرم فلا يكون إلا في إقراء الضيوف، لذلك كان الجود أعظم من الكرم، وإن كان للكرم دور عظيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فنكرمه نحن على كل حال من الأحوال، لكن من الذي سيعطي المحتاج الذي نعرفه والذي لا نعرفه؟ من سيسد حاجة اليتيم والأرملة والفقير؟ وعلى أكتاف من ستقوم أعمال البر والخير؟ وعلى أكتاف من ستبنى المساجد والمدارس ودور الرعاية؟

    هذه كلها لا تقوم إلا على أكتاف المنفقين الباذلين المتقين، الذين صدقوا تقواهم بحسن ظنهم بربهم.

    وحين أمرنا الله بالمسارعة إلى الجنة بين لنا الطريق، فقال سبحانه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] فمن أول صفات المتقين قال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في كل الأحوال يعطي، فإن كانت الصدقة من الغني جميلة، فإنها من الفقير أجمل، ومن صفاتهم قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، فهذه الصفات كلها يعود نفعها على الآخرين؛ لذلك فالأعمال التي نعملها إما أعمال قاصرة أو أعمال متعدية.

    فالأعمال القاصرة هي التي يقصر نفعها على الشخص، كقراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والصلوات فرضاً أو نافلة فالمردود له، فهذه أعمال قاصرة.

    والأعمال المتعدية أعظم أجراً عند الله، يقول ابن عمر : لأن أسير في حاجة أخي أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد.

    وبين الله عظم أجر الذين يسعون في الخير فقال سبحانه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]؛ فإن هذه الأعمال كلها يعود نفعها على الآخرين، فقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أي: أعطاها، وقوله: أَوْ مَعْرُوفٍ أي: أحسن إلى الآخرين، أو أصلح ذات البين، فهذه أعظم الأعمال عند الله جل في علاه.

    ثم قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: من يتصدق ويصلح ويبذل المعروف ابتغاء وجه الله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

    1.   

    صفة الجود ومعناها لغة واصطلاحاً

    فإذا قلنا: الجود، فالجود أعظم وأعم من الكرم، وضده: الشح والبخل أعاذنا الله وإياكم منهما.

    والجود لغة: من جاد يجود، وكلمة جود تدل على التسامح بالشيء وكثرة العطاء، فهو يعطيه ونفسه راضية ومطمئنة، ثم لا يعطي اليوم ويمسك أياماً، بل هو دائماً كلما تيسر له البذل والعطاء أعطى، ولا يؤجل ولا يسوف أبداً، بل كل ما حانت الفرصة بحث عن الفقير والمحتاج.

    والجود اصطلاحاً كما قال الزبيدي : الجواد هو الذي يعطى بلا مسألة؛ صيانة للآخذ من ذل السؤال .

    فمن الصعب أن تسأل الناس، حتى ولو كان هذا الذي تسأله أخاك فإن في السؤال مذلة لا يعلمها إلا الله، لكن الحاجة هي التي تدفع الناس إلى السؤال، يقول ابن عمر : أحب الناس إلي من بات وعليه هم ولم يجد أحداً يرمي بهمه عليه إلا أنا.

    أي: أحب الناس إلي ذاك الذي بات مهموماً، إما بدين أو بهم أو بغم، أو بأي حاجة من الحوائج، ثم لم يجد من يرمي بهمه عليه إلا أنا، قال: هذا أحب الناس إلي، ما جاءني إلا ثقة ومحبة في.

    فالجود اصطلاحاً: قال الزبيدي : الجواد هو الذي يعطي بلا مسألة؛ صيانة للآخذ من ذل السؤال، قال الشاعر:

    وما الجود من يعطي إذا ما سألته ولكن الجود من يعطي بغير سؤال

    وورد حديث عند البخاري ومسلم عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس وأشجع الناس، قال: فزع أهل المدينة ليلة سمعوا هيعة في ناحية من نواحي المدينة، فأسرع الناس إلى ذلك المكان قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً على فرس لـأبي طلحة عري، فقال: لن تراعوا) أي: ليس عليكم بأس، فما نام وتركهم يخافون، بل كان دائماً في قضاء حوائجهم.

    تقول عائشة رضي الله عنها: (في آخر حياته كان يصلي جالساً من كثرة ما حطمه الناس)، فهو في حوائج الناس يمنة وغفوة وصباحاً ومساءً، تقول عائشة : (حتى كانت الصبية الصغيرة تأخذه من يده حتى يقضي حاجتها) فهو الذي علمنا فقال: (أنفع الناس أنفعهم للناس) فإذا تماسك الناس فيما بينهم أصبح المجتمع مترابطاً متماسكاً يخاف على بعضه البعض، فكيف أنتم بجار ينام وجاره ليس عنده ما يملأ بطنه؟ أي جار هذا! بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من لي بمشيك المدلل تسير بالهون وتأتي في الأول.

    يقول عنه جابر : (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا)، لولا التشهد لكانت لاؤه نعم، وقد لبس مرة رداءً جاءوا به هدية له صلى الله عليه وسلم، فرآه أعرابي فقال: يا محمد! أعطني هذا، فخلعه في الحال، ولم يكن عنده غيره.

    قال الحسن البصري : الجود بذل المجهود في بذل الموجود، أي: الجود بالموجود الذي عندك بدون تكلف، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فهذا عنده مائة ألف فأخرج ألفاً، وهذا عنده مائة ريال وأخرج عشرة ريالات، فهي تعني الشيء الكثير.

    جود الصحابة وإيثارهم على أنفسهم

    واسمع خبراً من الأخبار حتى تعلم أن أثر الجود والكرم يبلغ السماوات السبع، وأريدك وأنت تسمع أن تقول بعدها: سبحان الله! كيف وصلوا إلى هذه الدرجة من البذل والعطاء؟ ولا عجب في ذلك، فالقرآن زكى أولئك الرجال والنساء.

    جاء عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود -يعني: أصابني جوع وعطش وحاجة لا يعلم بها إلا الله- وأنا ضيف عليك، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه فقال: عندكم طعام؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا ماء، فبعث إلى البيت الثاني: أعندكم شيء؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا ماء، فطافوا على بيوته التسعة وليس فيها غير الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يضيف ضيف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فأخذه حتى إذا جاء إلى بيته وهو صاحب عيال وأطفال قال لزوجه: ماذا عندك من الطعام؟ قالت: والله ما عندنا إلا قوت العيال، قال: ألهيهم بأي شيء، فإذا ناموا جلسنا أنا وأنت مع الضيف -وكان ذلك قبل نزول آيات الحجاب فإن الضيف كان يجلس مع الرجل وأهل بيته- فقومي فأطفئي السراج، ثم تظاهري بالأكل حتى يشبع الضيف، فجلسوا مع الضيف ثم قامت فأطفأت السراج، ثم تظاهرا بالأكل حتى شبع الضيف ونام الضيف وارتاح، ونام الصغار وأهل البيت على جوعهم؛ إيثاراً للضيف، وليس عندهم شيء إلا ما قدموه، فلما أصبح الصباح وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله قد عجب من صنيعكما مع ضيفكما الليلة) فهم لم يقدموا إلا الموجود، وآثروا الضيف على أنفسهم وعلى صغارهم وعلى فلذات أكبادهم، وهذا هو منتهى البذل والعطاء؛ فقال الله فيهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    الله أكبر!

    أنفق ولا تخش إقلالاً فقد قسمت على العباد من الرحمان أرزاق

    لا ينفع البخل مع دنيا مضللة ولا يضر مع الإقبال إنفاق

    1.   

    عشر خصال تبلغ بالعبد منزلة الأخيار

    إن أشرف خصال تبلغ بالعبد منزلة الأخيار عشر خصال، إن طبقناها بلغنا بها منزلة الأخيار.

    أولها: كثرة الصدقات، ثانيها: كثرة تلاوة القرآن؛ ليس من رمضان إلى رمضان، فقرآننا يشكو هجراً إلا ممن رحم الله، قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

    ثالثها: كثرة الجلوس مع من يذكرك بالآخرة ويزهدك بالدنيا، وإن مجالسنا اليوم طابعها قيل وقال.

    اشترط عمر بن عبد العزيز على جلسائه شروطاً ثلاثة، أولها: لا تتكلموا في الدنيا، ثانيها: لا تغتابوا أحداً في مجلسي، ثالثها: لا تمزحوا في مجلسي أبداً.

    فكان حديثهم عن الآخرة: الموت، والحشر، ويوم القيامة، فقُلوبٌ هذا مدار حديثها ستكون قلوباً حية.

    فوالله ما قست القلوب وابتعدت إلا بالغيبة وكثرة كلامها عن الدنيا وما فيها.

    فالصحابة تعودوا على كثرة الصدقة وكثرة تلاوة القرآن، ومجالسة الذين يذكرون الآخرة ويزهدون في الدنيا، وصلة الأرحام، وعيادة المريض، وقلة مخالطة الأغنياء الذين انشغلوا بالدنيا وما فيها.

    قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].

    رابعها: كثرة التفكر فيما أنت صائر إليه غداً الجنة أو النار.

    جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم ، قال: يا إبراهيم مسألة شغلتني بالليل والنهار، قال إبراهيم : اتركني لا تشغلني فإن عندي من المسائل ما الله به عليم، قال: يا إبراهيم ما الذي شغلك؟ قال إبراهيم : ثلاث مسائل شغلتني، الأولى: الله يقول: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فأنا لا أدري إلى أي الفريقين أكون، ممن تبيض وجوههم أو ممن تسود وجوههم.

    الثانية، قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ هود:105] وأنا لا أدري من الأشقياء أكون أم من السعداء، فهل فكرت أنت في العاقبة والمآل والمصير؟

    الثالثة: الله يقول: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

    فهؤلاء الصالحون شغلتهم مثل هذه الأمور بالليل والنهار، فالكل يغدو ويروح، ويسعى لفكاك نفسه من عذاب النار والفوز بجنات النعيم.

    أصبح النبي يوماً سائلاً أصحابه قبل أن ينتصف النهار، فقال: (من أصبح صائماً اليوم، قال الصديق - ولو لم يسأل ما أجاب- أنا، قال: من تصدق بصدقة؟ قال: أنا، قال: من سار في جنازة؟ قال: أنا، قال: من عاد مريضاً؟ قال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعت مثل هذه الأعمال في رجل إلا دخل الجنة).

    وهذه الأعمال سهلة، لكن الموفق من وفقه الله لفعل الطاعات، وصرف عنه الفواحش والمنكرات، فتفكر إلى أين المصير، وأين دارك غداً؟

    رابعها: قصر الأمل وكثرة ذكر الموت، فما ألهى الناس وصدهم عن الصدق مع الله إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ [الحجر:3].

    وقال الشاعر:

    يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل

    الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

    كان أحد الصالحين إذا أراد الخروج من المسجد بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: أخاف ألا أرجع إليه مرة ثانية.

    وآخر يقول: والله ما نمت نومة إلا ظننت أني لا أستيقظ بعدها، وأما نحن فعندنا مخططات لشهور بل لسنوات، سنفعل كذا وكذا، فالأحرى بنا أن نبني على يومنا الحاضر، أما غداً فلا ندري ماذا سيكون فيه؟

    خامسها: لزوم الصمت وقلة الكلام.

    وما أودى بالناس وكبهم على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم.

    فاللسان سلاح ذو حدين، إما أن يرفعك في الجنة درجات، وإما أن يحطك في النار على وجهك دركات.

    وفي الحديث أن معاذاً (قال: يا رسول الله! أمآخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ، هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم).

    فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستهن بالكلمة، قالت عائشة كلمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا عائشة إنك قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لتغير طعمه)، وذلك أنها قالت: صفية قصيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

    وقال آخر: والله ما ندمت على السكوت أبداً، ولكني ندمت على الكلام مرات كثيرة.

    فالمسلم لا يندم على السكوت أبداً، إلا إذا سكت عن أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، فهذا شيطان أخرس.

    سادسها: التواضع ولبس الدون، وحب الفقراء ومخالطتهم وحب اليتامى والمساكين والمسح على رءوسهم.

    الجود دليل على كمال الإيمان، وعلى حسن ظن العبد بربه في تعويضه عما أعطى وزيادة حسناته

    سابعها: والجود دليل على كمال الإيمان وحكم الإسلام، قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177]، إلى أن قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فالمتقون من اتصفوا بهذه الصفات.

    والجود والبذل والعطاء دليل على حسن الظن بالله، فالله يقول في الحديث القدسي: (أَنفق يا ابن آدم أُنفق عليك) ويقول سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] .

    فهذا أبو مسلم صحابي جليل أصابته فاقة، والعبد إذا بلغ مرتبة الولاية فليس بمستبعد أن الله يجري على يديه الكرامات، ففي بلاد اليمن أخذوا أبا مسلم ورموه في النار، فلما خمدت النار وجدوا أبا مسلم في النار قائم يصلي، فلما بلغ عمر الخبر، قال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد كإبراهيم عليه السلام، أما قال الله تعالى للنار حين ألقي فيها إبراهيم: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69].

    خرج أبو مسلم يوماً ثم رجع آتياً إلى أهله يطلب طعاماً، فقالت له امرأته: ما عندنا شيء، فبحثا داخل الدار فما وجدوا إلا ديناراً، فقالت له امرأته: اشترِ لنا بها طحيناً نخبز به خبيزاً، وأعطته وعاء، فخرج بالوعاء ذاهباً إلى السوق ليشتري طحيناً، فإذا بسائل فقير يسأل، وليس عنده إلا هذا الدينار، ولكنه أحسن الظن بالله وأعطاه الدينار لعل الله أن يعوضه خيراً ورجع إلى داره، فمر على مكان نجارة فملأ الوعاء بنشارة النجارة، ثم جاء إلى امرأته وأعطاها الوعاء، وذهب إلى مصلاه يصلي، وبعد فترات قصيرة جاءته امرأته بالخبز حاراً، فقال لها: من أين لنا الطحين؟ قالت: من الذي أتيت به، فجعل يأكل وهو يبكي. فلما أحسن الظن بالله لم يضيعه الله.

    فهذه أخبار ثابتة عنهم، ولما سخروا أنفسهم لله سخر الله لهم كل شيء، فالله لا يعجزه شيء، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    والمطلوب: أننا نحسن الظن بالله، ونعلم أننا إذا أعطينا سيعوضنا سبحانه، فأنت عندما تحسن إلى فلان وفلان من الناس، فإنهم سيردون معروفك، فكيف وأنت تتعامل مع رب العالمين؟ يقول تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]فمن يعطي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف غير رب العالمين؟

    ومن كرمه على المذنبين والعصاة أن يبدل سيئاتهم إلى حسنات، فأي كرم وجود أعظم من هذا؟

    يقول في الحديث القدسي: (أتقرب إليهم بالنعم، ويبتعدون عني بالمعاصي، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، ومع هذا أطعمهم وأسقيهم)؛ لأنه غفور حليم كري، فإذا أعطيت فثق تمام الثقة أن الله لن يضيعك.

    1.   

    الجود سبب لمحبة الله والناس

    وقال: الجود سبب لحب الناس وقربهم من هذا الجواد الكريم، فمن الذي يحب البخيل الذي لا يعطي، وينفر ولا يبشر؟

    قال أنس رضي الله عنه: (ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، جاءه رجل فأعطاه غنماً ما بين الجبلين، فرجع الرجل إلى قومه فقال: أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

    قال الشاعر:

    وكيف تخاف الفقر والله رازقٌ فقد رزق الطير والحوت في البحرِ

    عليك بتقوى الله إن كنت جاهلاً يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري

    والجود سبب لرفعة مكانة الجواد في الآخرة وحب الله له.

    فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (من تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهذا من شدة إخلاصه.

    والجود سبب لقلة الأعداء والحساد، وسبب لحسن ثناء الناس، وما أكثر ما يقولون: جزى الله فلاناً خيراً بسبب جوده وفضله وعطائه، وإذا زكى الناس إنساناً فهو على خير عظيم.

    (مرت جنازة أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ فأثنوا عليه ثناءً حسناً، قال: وجبت. ثم مر آخر، فقال: ماذا تقولون في هذا؟ فذكروه بشر، قال: وجبت. قالوا: يا رسول الله! قلت: وجبت لهذا ووجبت لذاك؟ قال: ذكرتم هذا بخير فقلت: وجبت له الجنة، وذكرتم ذاك بشر فقلت: وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض والملائكة شهداء الله في السماء).

    وليس لنا من الناس إلا الظاهر، ومن الجهل أن يقال: المنفقون سادة الدنيا والأتقياء سادة الآخرة، فإنهم لن يكونوا متقين حتى ينفقوا كما قال الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فقد كان من صفات الأبرار الجود والإنفاق، يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فانظر كيف كان كل واحد يغار على جاره ويهتم بأمر جاره، يقول عمر : أهدي إلى رجل من أصحاب محمد رأس شاة، فقال: جاري أحوج مني فأهداها إليه، فلا زالوا يتناقلونها من بيت إلى بيت حتى رجعت إلى الأول.

    فأي قوم هؤلاء؟! وأي جار هذا الذي ينام قرير العين وجاره لا يجد ما يلبس أو لا يجد ما يأكل ويشرب؟! قال الله عنهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، كانت هذه أخلاقهم وتلك صفاتهم فلا عجب أن يقول الله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ المائدة:119]، فتأمل الفرق بيننا وبينهم.

    كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بمال له أنفقه قربة إلى الله، مستحضراً قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وكثير من الناس اليوم إذا بليت ثيابه وتقطعت نعاله يعطيها الفقراء والمحتاجين تخلصاً منها، لا بذلاً ولا عطاء، فهذا هو الفرق بيننا وبينهم، فهم يعطون أجود أموالهم وأحسن ثيابهم، ونحن نعطي أدنى ما نملك تخلصاً منها.

    فحتى تكون جواداً منفقاً استشعر الأثر والأجر العظيم.

    1.   

    عشر خصال في الصدقة

    قال الفقيه أبو الليث السمرقندي : عليك بالصدقة والجود بما قل أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال، خمس في الدنيا وخمس في الآخرة، أما الخمس التي في الدنيا.

    فأولها: تطهير مال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب فشوبوه بالصدقة) يعني: طهروه بالصدقة.

    ثانيها: تطهير البدن والنفس من الذنوب كما قال الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].

    ثالثها: دفع البلاء ودفع المرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)، فهو أعظم علاج لكل الأمراض، الصدقة يتبعها بالدعاء، فقلما يرد الدعاء بعد الصدقة، ومن منا لا يحزن، ومن منا لا يعرف مهموماً ولا مغموماً ولا مبتلى في بدنه.

    وقبل أن تذهب إلى الطبيب، تقرب إلى طبيب الأرض والسماء بالصدقة، فإن الصدقة مرضاة لرب العالمين.

    رابعها: إدخال السرور ومواساة المحتاج من غير أن يسألك، فكم من السرور تدخله عليه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم).

    خامسها: فيها بركة في المال وسعة الرزق، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

    وذُكر أن رجلاً وصل سن التقاعد، فخرج يوماً ليعطى حقوقه من الشركة، وكانت حقوقه نصفها ربا، فأعطي مليوناً؛ لأن حقوقه على مدى ثلاثين أو أربعين سنة خدمة، ثم في المقابل أعطوه مليوناً آخر؛ لأنه استثمر أمواله في الربا، فقيل له: هذه أموال ربوية.

    قال: بل هي أموالنا تعبنا فيها وليست ربا، إنكم أنتم الذين تضيقون على الناس، فخرج متقاعداً وأخذ المليونين، ثم بعد أشهر من تقاعده أصيب ابن له بمرض خطير، فلا زال ينقله من بلد إلى آخر حتى فنيت أمواله كلها، وعاد صفر اليدين، قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

    القضية قضية ثقة برب الأرض والسماوات، فلما سُئلَ هذا المتقاعد عن أمره قال: أما في الماضي فكنا لا نعرف، أما الآن فوالله لا آخذ درهماً حراماً، فترك ملايين لله فعوضه الله خيراً مما ترك.

    أما الخمس التي في الآخرة، ونحن والله أحوج ما نكون إليها، وهي: الأولى: أن الصدقة تكون ظلاً لصاحبها في الحر الشديد، ودرجة الحرارة ليست أربعين درجة ولا خمسين ولا ستين، بل تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل، فيغرق الناس في عرقهم، فلا ماء يشربون، ولا أكل يأكلون، ولا ظل يستظلون، فترى الذين تصدقوا تحت غمامات صدقاتهم تظللهم في ذلك اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله يربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم فلوه).

    فالصدقة تظلله في ذلك اليوم العظيم، ومنهم من يستظل في ظل عرش الرحمن الرحيم؛ بسبب تلك الصدقات وتلك الأعمال التي قربتهم إلى رب الأرض والسموات.

    ثم قال: تسهيل الحساب، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:7-9]، فقد كانت أخبارهم كما قال تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19]، فسهل عليهم الحساب في ذلك اليوم.

    وجاء في الخبر الصحيح: أن غنياً وفقيراً التقيا عند باب الجنة، فدخل الفقير في الحال، وبقي الغني يحاسب على ماله خمسمائة سنة حتى خاف الفقير عليه، فدخل الغني الجنة بعد خمسمائة سنة من دخول الفقير، فقال له الفقير: خفت عليك فما الذي أخرك؟ قال: أخرني مالي.

    وهذا المال حلال، لا ربا فيه ولا غش، ولا أكل أموال الناس بالباطل، لكن كل هذا الحساب هو السؤال فقط: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وهذا الغني طهر المال في الدنيا، وطهر نفسه بالصدقات، لكن لا بد من السؤال والحساب.

    فقال الغني: حبسني مالي، حبست محبساً سال مني فيه العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات ثم وردت عليه لارتوت.

    هذا الحساب على مال حلال ليس فيه ربا ولا سرقات، ولا أكل مالاً بالظلم والعدوان، ولا أكل أموال اليتامى بالباطل، لا افترى على الناس، بل هو حلال أخره خمسمائة سنة، فكيف بالذي أكل مال هذا وسب هذا وشتم هذا وأخذ زوراً وبهتاناً أموال الناس؟

    ثم من آثار الصدقة يوم القيامة: أنها تثقل الميزان، قال يحيى بن معاذ : ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا حبة الصدقة.

    جاءت فقيرة إلى عائشة رضي الله عنها فما وجدت إلا حبة عنب فأعطتها إياها، فاستحقرتها جاريتها، فقالت عائشة التي تعرف عظم الأجر والثواب: إن الله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] وكم من الذرات في حبة العنب.

    قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فالله لا يظلم أحداً، إنما يوفى الناس حسابهم بالعدل والتمام بلا ظلم ولا نقصان .

    ثم من آثار الصدقة في ذلك اليوم: الجواز على الصراط، قيل لأحد الصادقين المنفقين: ماذا صنع بك الله؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.

    فلا يعبر الصراط بالطائرات أو بالقطارات أو بالسيارات، بل يعبر الصراط بالأعمال الصالحة، فمنهم من يمر كالريح، ومنهم كالخيل، ومنهم كالبرق، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يهرول هرولة، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، فناج مخدوش، ومكردس على وجهه في النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، أي: إلا سيمر على هذا الصراط كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].

    ثم من الذي ينجو؟ قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] ومن صفاتهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:134-136].

    والطريق سهل على من سهله الله.

    ثم من آثار الصدقة: زيادة الدرجات، فمن صلى وصام ليس كمن رقد ونام، ومن قام وصلى وجد واجتهد ليس كمن تكاسل عن العمل، شتان بينهما، قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].

    ألا يكفيني ويكفيك أن الصدقة تطفئ غضب الرب، فالأنبياء وأولو العزم يقولون يوم القيامة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ثم الكل ينادي: نفسي نفسي، نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل، خير من صلى وصام وقرأ القرآن وقام، كل يقول: نفسي نفسي نفسي، كيف سيكون مثل حالي وحالكم؟ فلا بد أن نتفكر في المصير والمآل.

    الصدقة تنجي من عذاب الله سبحانه

    قال ابن القيم رحمه الله: فإن الصدقة تفدي من عذاب الله تعالى، فإن ذنوب العبد وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد: (يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) ، وفي رواية أخرى قال: (رأيت النار، ورأيت أكثرها النساء)، قال: (يكثرن اللعن ويكفرن العشير).

    إذا رأت من الرجل شيئاً تقول: ما رأيت منك خيراً قط، وتنسى بحر الحسنات في سيئة من السيئات، فاتقي الله يا أمة الله، واتصفي واقتدي بـعائشة وأمهات المؤمنين، أهدى معاوية لـعائشة ثمانين ألفاً، تقول جاريتها: فما جاء المساء حتى أنفقتها كلها وكانت صائمة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت لها جاريتها: هلا أبقيت لنا درهماً نشتري به طعاماً، قالت: لو ذكرتني، فهم إذا وجدوا أبواب الخير والمعروف انفتحت لا يتوانون ولا يتأخرون، بل يسابقون ويسارعون؛ لأن الله هو الذي دعاهم، فينسون أنفسهم عند فعل الخير، فعجب أمرهم.

    قال يحيى بن معاذ وكأنه يتكلم عن أهل دنيانا: عجبت من ثلاث: رجل يرائي بعمله مخلوقاً مثله ويترك أن يعمله من أجل الله، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه إياه، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم، ولا يرغب في صحبة الله ومودته.

    تباً لهؤلاء ولأمثالهم!

    قصة أبي الدحداح وزوجه

    جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله، ملك الملوك يستقرضنا، الغني يستقرض الفقراء، القوي يستقرض الضعفاء، قال: كيف ذلك يا أبا الدحداح ؟ قال: الله يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] ، قال: (نعم هو يستقرضكم حتى يرفع من درجاتك) فقال: يا رسول الله ! أشهدك أن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، وإني أقرضتها الله ورسوله.

    يقول علي رضي الله عنه: كان الرجل منا يعمل من مغيب الشمس حتى طلوعها بأجرة تمرة أو تمرتين، فخرج إلى بستانه فإذا بـأم الدحداح ، فجعل يخاطبها شعراً، يقول لها:

    بيني، أي: أخرجي من الحائط واتركيه.

    بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي

    أقرضته الله على اعتماد بالطوع لا مَنٌ ولا ارتداد

    إلا رجاء الضِّعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد

    والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد

    فأخذت أم الدحداح تخاطبه شعراً وتقول:

    بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح

    قد نفع الله صغاري ومنح

    بالعجوة السوداء والتمر الملح

    والمرء يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

    وقذفت التمرات وأخذت الصبية الصغار من أيديهم، وخرجت خالية اليدين.

    استقرضهم فأقرضوه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا الدحداح كم لـأبي الدحداح من جذع نخل في الجنة رداح)، فلا بد أن نعلم ونتيقن أن المال لن ينفعنا إلا إذا أنفقناه، أما تكديس الأموال وتجميعها فإن الله يقول فيها: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35].

    جود عائشة رضي الله عنها

    روي عن الصديقة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن آل أبي بكر أجمعين (أنهم ذبحوا شاة فوزعتها وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي من الشاة؟ قالت: ذهب كلها، ولم يبق إلا الكتف، قال: لا يا عائشة! بقيت كلها ولم يذهب إلا الكتف) ، ما أنفقت مدخر لها عند الله؛ لذلك قيل: إذا كان عندك تمر فلا تدفنه في الأرض، لكن ادفنه في السماء؛ لأن القلب معلق، فإذا دفن في السماء تذكر قول الله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].

    قال الحسن : بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك.

    وقال أبو ذر رضي الله عنه: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد تمام العمل، والصدقة شيء عجيب، ثم كرره وأعاد قال: الصدقة شيء عجيب.

    من عجائبها: قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسقي أرض فلان! فاتجهت تلك السحابة فأفرغت ماءها في حرة، فإذا تلك الحجارة مسيل ماء قد استوعبت ذلك الماء كله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فتتبع الرجل الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، قال: إني سمعت صوتاً في السحاب يقول: اسقي حديقة فلان، فماذا تصنع بها حتى يساق إليك هذا، فقال: أما وقد سألت، فإني أنظر إلى ما يخرج من هذه الحديقة، فثلث أنفقه في سبيل الله، وثلث أنفقه على عيالي، وثلث أدخره في الأرض).

    فهذا قسم الأموال إلى ثلاثة أقسام فكانت المكافأة من الله ذلك.

    قال ابن القيم رحمه الله: وللصدقة تأثير عجيب في دفع البلاء، ولو كنت فاجراً أو ظالماً، بل ربما لو كنت كافراً، حتى الكفار يعلمون أثر الصدقات، فالله يكافئ الكافر في دنياه، قال تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] فلا تقل: إن الكافر لا يكافأ على إحسانه، بل الله كريم، حتى إذا وقفوا أمامه يوم القيامة كافأهم على أتعابهم الحسنة في الدنيا، لا تقل: إن الكافر لا يعمل أعمالاً حسنة، بل يعمل لكنه يكافأ عليها في دنياه، أما في الآخرة فليس لهم في الآخرة نصيب.

    قال: هذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون بأنهم جربوا ذلك، يقول الشافعي :

    يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلين من أهل المروءات

    إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

    1.   

    ذم الشح وجعله من السبع الموبقات

    وإن عكس الكرم والجود البخل والشح، قال الله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] .

    وفي حديث جابر قال صلى الله عليه وسلم : (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).

    بلْ عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الشح من السبع الموبقات، وفي حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات وعد منها بعد الشرك بالله الشح)، نسأل الله العفو والعافية .

    والشح كقطع الأرحام، ويحل الظلم والعدوان، ويجترئ الناس به على المعاصي وفعل السيئات؛ لأن أنفسهم مريضة، ثم إن الشح ينافي الإيمان ويغضب الرحمن، وليس البر أن نشح بما آتانا الله.

    ثم الصدقة تطفئ غضب الرب، والشح يغضب الرب، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحديد:10].

    والكرم والجود لا يكون بالمال فقط، بل بالنفس، وهذا من أعظم الكرم والبذل والجود، ثم الجود بالعلم، ثم الجود بالنفع والجاه، ثم الجود بالعرض.

    من أخبار البخلاء

    نزل رجل على شيخ من أهل مرو وصبي له صغير، وأهل مرو معروف عنهم أنهم أبخل الناس، وفي دمهم البخل يرثونه وراثة، قال: فقلت للصغير: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده مر، اسقني من مائكم، قال: لا تريده مالح، قلت: هات كذا، قال: لا تريده هو كذا، فكلما ذكرت له صنفاً رد علي، فضحك الأب، قال: هذا العلم يجري في عروقهم .

    ووقف على أبي الأسود الدؤلي أعرابي وهو يتغدى، والأعرابي يعاني من جوع لا يعلمه إلا الله، فسلم عليه فرد عليه، ثم أقبل على أكله ولم يعزم عليه، فقال الأعرابي لـأبي الأسود : لقد مررت بأهلك، قال: نعم كانوا في طريقك، قال: أخبروني أن امرأتك حامل، قال: كذلك تركتها، قال: يقولون: لقد ولدت، قال: لا بد لها أن تلد بعد الحمل، قال: يقولون: ولدت غلامين، قال: كذلك كانت أمها، قال: مات واحد منهم، قال: ما كانت تقوى على إرضاع اثنين، قال: مات الآخر، قال: مات حزناً على أخيه، قال: وماتت الأم، قال: حزناً على ولديها، قال: ما أطيب طعامك! قال: لذلك لن آكله إلا وحدي.

    وجلس أحد البخلاء مع زوجته على قدر من الطعام فقال: ما أطيب الطعام لولا كثرة الزحام، فقالت امرأته: وأي زحام وما ثم إلا أنا وأنت، قال: كنت أحب أن أكون مع القدر لوحدي.

    ومر رجل على رجل من أهل مرو، فبدأ يعرف بنفسه أنا كذا أنا كذا ، يعرفه لأنه كان صديقه، قال له: اسمع يا شيخ، والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك.

    قال أحد البخلاء الأغنياء لخادمه: هات الطعام وأغلق الباب، قال الخادم: لا، أغلق الباب ثم هات الطعام، قال: لماذا؟ قال: تغلق الباب حتى لا يدخل أحد، ثم تأتي بالطعام، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله؛ لعلمك بعزائم الأمور.

    ومر رجل على رجل له إليه حاجة، فلا زال يكلمه في حاجته ويأتيه يمنة ويسرة، ولكن ليس هناك جدوى، ثم قال له: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً.

    اللهم أعط نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، إنك أنت وليها ومولاها، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع هداك يا رب العالمين، اللهم قيض لولاة أمورنا البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه وتذكرهم به إذا نسوه، واجمع شملنا، ووحد صفنا، وانصر مجاهدينا في كل مكان، وثبت أقدامهم واربط على قلوبهم واجعل الكافرين غنيمة لهم يا رب العالمين.

    اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأعل شأننا، وردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.

    اللهم من أنفق في سبيلك فضاعف له الحسنات، ومن أمسك اللهم فصحح نواياه، اللهم من بنوا هذا المسجد فبارك لهم في أموالهم وذرياتهم وأزواجهم، واخلفهم في مسجدهم هذا خيراً، وارحم موتانا وموتاهم يا رب العالمين، اللهم من أنفق في سبيلك فأنت الكريم، عاملهم بمنك وكرمك واخلفهم في أموالهم خيراً يا حي يا قيوم.

    هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755976396