إسلام ويب

عبودية الكائنات [2]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جميع الخلائق حيها وجمادها، علويها وسفليها، شاهدها وغيبيها، عابدة لله عز وجل، وطائعة ومنقادة له سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها؛ وهو الذي جعل لها إدراكاً وتمييزاً؛ لتعبده وتسبحه وتطيعه، فيجب على الإنسان الإيمان بذلك، ويجب عليه أيضاً أن يكون أولى الخلق بعبادة الله عز وجل.

    1.   

    عبودية المخلوقات السفلية

    عبودية النباتات

    من أنواع العبودية: عبودية بعض الجمادات، مع عبودية الحيوانات والدواب والطيور، وهناك عبودية بعض النباتات:

    وقد ذكرنا من قبل الدليل العام وهو قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، وكذلك أيضاً ذكرنا شهادة الشجر والحجر وكل من يسمع المؤذن يوم القيامة.

    وكذلك أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) وذكرنا أيضاً حديث مستريح ومستراح منه.

    وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة فقال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي حسبي)، يعني: هذه الآية، رواه ابن ماجة .

    وفي صحيح مسلم : (أنه صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجته، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى شجرة أخرى فأتى بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، فجمعهما وقال: التئما علي بإذن الله، فالتأمتا)، أي: كي يستتر بهما.

    وفي صحيح البخاري : (أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة مستنداً إلى جذع، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، ووضع يده عليها فسكنت).

    وكذلك أيضاً جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي) .

    وجاء أيضاً عن معن بن عبد الرحمن قال: (سمعت أبي قال: سألت مسروقاً : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة سماع القرآن -أي: من الذي أخبره أن الجن حضروا واستمعوا القرآن؟- فقال: حدثني أبوك -يعني: عبد الله بن مسعود أنه آذنته بهم شجرة)، أي: أن الذي أخبر الرسول أن الجن حضرت تستمع إلى القرآن شجرة، وهذا الحديث في صحيح البخاري .

    وأيضاً مما يناسب هذا المقام موقف الشجر في آخر الزمان، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).

    عبودية أعضاء جسم الإنسان وشهادتها عليه يوم القيامة

    وهكذا أيضاً عبودية أعضاء جسم الإنسان:

    فهذه الأعضاء نفسها لها هذا النوع من العبودية، ألا ترى إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي: أنها تتهمه بكفر نعمة الله- تقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوجت اعوججنا).

    ويقول تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:19-21]، أي: نطقاً حقيقياً، الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21].

    وكذلك قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

    وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مما أضحك؟! قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، فيقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يعني: كأنه يطعن في شهادة الملائكة، ويقول: أنا لا أقبل شاهداً على نفسي إلا من نفسي، وأما هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبون فإنهم ظلموني، وكتبوا عليّ أشياء ما فعلتها، فلذلك يقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول أول ما يتكلم: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل)، أي: أنا كنت أخاف عليكن أنتن من العذاب، وأنتن تنطقن حتى تتعذبن، وهذا رواه مسلم ، وفي رواية: (فيقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق)، وفي الحديث أيضاً: (إن أول ما يتكلم من الآدمي فخذه).

    ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)، رواه الترمذي .

    وكذلك قصة المرأة اليهودية التي أهدت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ذراع شاة مسمومة، فالذراع أخبره أنه مسموم، كما هو معروف في الحديث الصحيح.

    عبودية البحر

    ومن ذلك أيضاًً البحر، فالبحر يشفق من يوم الجمعة، كما جاء في الحديث، أن البحر يشفق من يوم الجمعة يخشى أن تقوم القيامة.

    وكذلك أيضاً: حديث الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه من بعد موته، فأحرقوه، وألقوا جزءاً من رماده في البحر وجزءاً ذروه في الريح، فتوجه الأمر إلى البحر، إذ أمر الله البحر فامتثل الأمر وجمع ما تفرق فيه من فتات هذا الرجل.

    وقال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] إن المسجور هو الممنوع المكفوف عن الأرض حتى لا يغمرها فيغرق أهلها، والحقيقة أن مساحة اليابس بالنسبة لمساحة الأرض تساوي (23%)، وربما نقول: (30%) تقريباً؛ فلو لم يمسك الله هذا البحر الذي هو أكثر من ضعف مساحة اليابسة لأغرقها، فمثلاً: نحن الآن على ساحل الإسكندرية، من الذي يمسك هذا الماء عن أن يغرقنا؟ هل هي شركات التأمين؟! ومن الذي يؤمن علينا من الغرق والهلكة؟ إن هذا أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، يعني: أن الله بقدرته وبأمره يكفه عن الخلق، ويأمره الله أن يمسك عن إغراق الناس وإهلاكهم وغمر هذه الأرض.

    عبودية الجبال والحجر والحصى

    ومن ذلك أيضاً: عبودية الجبال والحجر والحصى، يقول تبارك وتعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].

    ويقول سبحانه وتعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، يقول القرطبي رحمه الله: (ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم).

    وقال بعض المتكلمين في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ): إنه البرد الهابط من السحاب يهبط من خشية الله، فقال بعضهم رداً على هذا القول: هذا القول أبرد من الثلج! أي: أنه قول لا يقبل.

    ونقل القرطبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجبال تحدث بعضها بعضاً، قال: (إن الجبل ليقول للجبل: يا فلان! هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قال ابن مسعود : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [مريم:88-91]، قال: أفتراهن يسمعن الزور، ولا يسمعن الخير؟!) يعني: هل الجبال تسمع الزور فقط ولا تسمع الخير، تسمع قول الكفار: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً)، وتتأذى به، وتكاد تندك، ولا تسمع من يذكر الله؟

    ويقول تبارك وتعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143].

    ويقول عليه الصلاة والسلام في الحجر الأسود: (ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)، أي: أن الحجر الأسود ينطق يوم القيامة على كل من استلمه بحق.

    وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69]، وذلك أن هؤلاء المغضوب عليهم (اليهود) سبوا نبيهم موسى عليه السلام، واتهموه بأنه آدر، يعني: أن فيه عيباً في العورة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينزه موسى ويثبت لهم براءته من هذا العيب؛ لأن الأنبياء كاملون في صفاتهم الخلقية والنفسية والجسدية، وفي كل شيء، فالنبي لا يكون فيه عاهة أو نقص أو عيب في خلقته.

    وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة أمام بعضهم البعض، فاغتسل عليه السلام في مكان خالٍ لا يراه أحد، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه -أي: هرب الحجر وأخذ ثوب موسى وفر به- فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يعني: هات ثوبي يا حجر! إلى أن مر موسى عليه السلام على ملأ من بني إسرائيل على هذه الهيئة وهو عارٍ، فرأوه وقالوا: ما بموسى من بأس، حينئذ توقف الحجر، فأخذ موسى ثيابه، وأخذ يضرب بالحجر؛ حتى إن الحجر ليزبل من ضرب موسى، أي: أثر ضرب موسى في الحجر من شدة الضرب؛ لأنه تغيظ منه أنه فعل ذلك، فهذا الحجر هل فعل ذلك بإرادته، أم أن الله أمره؟

    الجواب: أمره الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله تعالى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69].

    عبودية الرياح والرعد والسحاب

    أما الرعد فهو أيضاً يسبح الله، يقول تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]، ويقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وكان بعض السلف إذا كان يقرأ في درس العلم وسمع صوت الرعد، يقول: سبحان من سبحتَ له!

    وكذلك الريح:

    فالريح من الكائنات التي نص على أنها تشفق من يوم الجمعة خشية أن يكون هذا هو الذي تقوم فيه القيامة، وأيضاً الريح لها عبودية، يقول تعالى في حق سليمان عليه السلام: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36]، أي تجري بأمر سليمان عليه السلام.

    وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت هذه الريح لموت منافق، فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات).

    والسحاب كذلك له عبودية لله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : (بينما رجل بفلاة من الأرض، إذ سمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان! فمر الرجل مع السحابة، حتى أتت على الحديقة، فلما توسطتها -أي: كانت بحذائها- أفرغت فيها ماءها، فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها، فقال: ما اسمك يا عبد الله؟! قال: فلان، بالاسم الذي سمعه في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه).

    1.   

    عبودية الأجرام العلوية

    عبودية السماوات والأرض

    وأيضاً هناك عبودية السماوات والأرض، يقول تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].

    وقال عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [هود:44].

    ويقول تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [مريم:90-91]، يقول ابن عباس : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله.

    ويقول تبارك وتعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ [الدخان:29]، قال بعض العلماء: فيه أنهما لا يبكيان على الكافرين، ومفهومه أنهما يبكيان على المؤمنين، وفراق الصالحين.

    كل شيء له بكاء خاص به، فبكاء الإنسان بالدموع، أما بكاء السماوات والأرض فبحسبهما، والله أعلم بكيفيته.

    ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة).

    أما عبودية الأرض ففي قصة يأجوج ومأجوج، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك)، وهذا متفق عليه.

    كذلك أيضاً في قصة الرجل الذي أمر بنيه بإحراقه، يقول عليه الصلاة والسلام: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت).

    وأيضاً في قصة الرجل الذي قتل مائة، قال عليه الصلاة والسلام: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي)، وهذا رواه مسلم .

    وكذلك في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5] قالوا: تشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر.

    ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أجل أحدكم بأرض -أي: إذا كان مكتوباً لك أن تموت في أرض معينة- أوثبته إليها الحاجة، فإذا بلغ أقصى أثره -أي: بلغ الخطوات المكتوبة له- قبضه الله سبحانه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا ما استودعتني).

    وأيضاً الأرض هي من المخلوقات التي تعرف الولاء والبراء كما ذكرنا، فهي توالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، كما ورد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، -يعني: ارتد- فعرفوه، وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فأعجبوا به -كما أعجبوا بـالكذاب سلمان رشدي - فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، يعني: بقي وقتاً يسيراً حتى قصم الله عنقه وهو مقيم في وسط إخوانه من الكفار، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً) رواه مسلم .

    وعن أوس بن أوس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فهي عابدة تطيع أمر الله سبحانه وتعالى فلا تأكل أجساد الأنبياء.

    عبودية الشمس والقمر

    أما عبودية الشمس والقمر، فيقول تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54]، ويقول سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم:33] ، ويقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الحج:18]، فعطفهما على العاقل، وهذا يدل على أنه سجود حقيقي.

    ويقول عليه الصلاة والسلام في الشمس: (إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها)، متفق عليه.

    وهذا سجود الله أعلم بكيفيته، لكنه سجود يناسبها، وأما كيف هو؟ فلا ندري.

    وكذلك ما جاء في قصة يوشع بن نون لما قاتل الجبابرة، وأوشكت الشمس على المغيب، وأراد أن يقضي على الكفار قبل دخول الليل، ففي الحديث: (فلقي العدو عند غروب الشمس، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست عليه).

    وكذلك أيضاً انشقاق القمر، فإن القمر انشق على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين، ثم قال: (اشهدوا) كما هو معلوم.

    عبودية النجوم

    أما النجوم فيمكن أن يستدل بعبوديتها بالأدلة العامة، وبقوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، لأن فيه خلافاً في تفسير النجم، هل المقصود به ما لا ساق له من النبات، أم النجوم التي في السماء؟

    وعلى أي حال إذا قلنا: إن النجم في آية الرحمن هو ما لا ساق له من النبات، فيدل على عبودية النجوم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ [الحج:18]، وقوله تعالى: وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54].

    1.   

    عبودية الملائكة

    أخيراً: عبودية عالم الغيب، ما ذكرناه هو عبودية عالم الشهادة، وهناك عبودية عالم الغيب، وقلنا: إن عالم الغيب هو كل ما غاب عن الحس، ولا نعلم عنه إلا ما ورد في نصوص الوحيين، فعالم الغيب فيه جمادات وفيه أحياء.

    العبودية أشرف صفات الملائكة

    أما الأحياء الغيبية فالملائكة، وأشرف صفات الملائكة هو العبودية، كما قال تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، وهم مختلفون في وظائفهم، كحملة العرش، والكرام الكاتبين، وخزنة الجنة، وخزنة النار، والموكلين بقبض الأرواح، والموكلين بالسؤال في القبر .. إلى آخر هذه الوظائف، لكنهم جميعاً مشتركون في صفات حميدة منها: الطهر الكامل، كما قال تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، والطاعة الكاملة والخضوع لله، كما قال جل وعلا: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال سبحانه: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27].

    أما إيمانهم بالله فدل عليه قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وقال عز وجل: لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء:166]، وقال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7].

    وهم يصلون أيضاً بأنفسهم، أو يصلون مع المؤمنين، ففي حديث الإسراء يقول عليه الصلاة والسلام: (فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم)، رواه البخاري ، يعني: كل يوم يدخل البيت المعمور سبعون ألف ملك مرة واحدة فقط في كل الزمان، فالذي يدخل مرة لا يدخل مرة ثانية، ومعناه: أن كل يوم يدخل سبعون ألف ملك جديد إلى البيت المعمور.

    ويقول تعالى عنهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات:165-166] (الصافون) يعني: صفوف الصلاة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف)، وهذا رواه البخاري .

    كذلك يشاركون المؤمنين في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا رواه البخاري ، كذلك روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد الملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر)، يعني: يحضرون مجالس الذكر.

    تسبيح الملائكة

    أما التسبيح فقال سبحانه: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]، وقال جل شأنه: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، وقال: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206].

    وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع ألا وملك واضع جبهته لله ساجداً).

    وسئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذكر أفضل؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكتة أو عباده: سبحان الله، والحمد لله)، رواه مسلم .

    وأما خوفهم فيقول تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50].

    ويقول عليه الصلاة والسلام عن يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء .. -إلى قوله-: إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة).

    ويقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: (مررت ليلة إسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى)، والحلس: كساء رقيق يوضع على ظهر البعير، والمقصود: أن خوف الله وهيبة الله تلبست بجبريل كأنها هذا الحلس الذي لا يفارقه.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فأخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد).

    ولاء الملائكة للمؤمنين

    أما ولاء الملائكة للمؤمنين فهم أهل طاعة، ويحبون أهل الطاعة، ويستغفرون للمؤمنين، كما قال تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وقال تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى:5].

    ويقول تعالى مبيناً أن الملائكة يخاطبون المؤمنين: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، وهم الذين يستقبلون المؤمنين وهم يدخلون الجنة، كما قال عز وجل: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وكذلك يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، ويحضرون مجالس الذكر، وفي الحديث: (وحفتهم الملائكة)، وفي الحديث الآخر: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم).

    وكذلك من هذه الموالاة: مناصرة المؤمنين في القتال، كما قال تعالى: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، وقال عز وجل: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، وقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة).

    وقال عليه الصلاة والسلام لـحسان بن ثابت رضي الله عنه: (اهجهم -يعني: المشركين- وجبريل معك، أو وروح القدس معك).

    عداوة الملائكة للكافرين

    وفي الجهة الأخرى فإن الملائكة يبغضون الكفار، ويتبرءون منهم، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161].

    وكلما ازداد كفر الإنسان اشتد بغض الملائكة له، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لما أدرك فرعون الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، يقول جبريل: فلو رأيتني يا محمد! وأنا آخذ من حمأ البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)، وهذا من شدة بغض جبريل عليه السلام لفرعون عدو الله عز وجل.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ -أي هل يأتي أمامكم ويسجد على التراب- قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى الخبيث أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، يريد أن يطأ على رقبته، فما فجئهم إلا وهو يركض على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟! فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) رواه مسلم .

    ويقول عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50]، وهذه براءة من الكفار.

    وكذلك أهل المعاصي من المسلمين بقدر ما يتلبسون من المعصية والمخالفة تبغضهم الملائكة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، رواه البخاري .

    وكذلك تاركو الهجرة بدون عذر، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97].

    1.   

    عبودية الجن

    أما عبودية صالحي الجن، فمعلوم أن الجن مكلفين بالشرائع كالإنس، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ويقول تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] أي: الجن والإنس، وقال عز وجل حاكياً عن الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً [الجن:11].

    وأيضاً فيهم الموحدون، كما قال عز وجل عنهم: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً [الجن:2-3].

    وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام للمؤذن: (فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة).

    ويقول تبارك وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]، قال عليه الصلاة والسلام: (فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلما أتيت على قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد)، رواه الترمذي .

    وكذلك الجن يعرفون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، كما قال تعالى حاكياً عنهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10]، ويقول أيضاً: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14].

    1.   

    عبودية الجنة والنار

    وهناك عبودية أيضاً للجنة وللنار، وهما من غيبيات الجمادات، قال صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم؟ فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) رواه البخاري ومسلم .

    وقال صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار لربها وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)، والشاهد: أنها اشتكت.

    ويقول تبارك وتعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، وهذا يدل على أن فيها إدراكاً، فالنار لها لسان، بل لها أذنان وعينان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، ويقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين).

    وأيضاً النار من شدة انفعالها وولائها لله سبحانه وتعالى وعدائها لأعداء الله تتغيظ من الحنق والحقد والبغض للكافرين، كما قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]، وفي قوله: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) إشارة إلى حدة بصرها.

    ويقول تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ [الملك:7-8]، أي: تتقطع من الغيظ؛ لأنها تعادي أعداء الله، وتتولى تعذيبهم والانتقام منهم.

    كذلك جاء ما يدل على أن الجنة أيضاً يخلق الله فيها إدراكاً، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: إلى علي وعمار وسلمان)، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    وكذلك هذه النار التي نراها في الدنيا أيضاً لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فخاطب الله النار فأطاعت أمره.

    والدليل على ذلك أيضاً: أن عادة الأنبياء في الأمم السابقة في الغنائم أنهم كانوا إذا جمعوها بعد الجهاد تنزل نار من السماء فتحرق هذه الغنائم، فإذا أكلت النار هذه الغنائم فهذه علامة على أن الله تقبلها، فيكون ذلك علامة على قبولها، ويكون علامة على أنه لم يقع غلول، والغلول هو: السرقة من الغنائم، وذلك بأن يأتي واحد من الجنود فيسرق شيئاً قبل أن تقسم.

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء ... إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصقت يد رجل، فقال: فيكم الغلول -أي: في هذه القبيلة التي أنت منها- فلتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، قال: فلصقت يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، فوضعوه في المال، فأقبلت النار فأكلته)، رواه مسلم ، والشاهد: أن النار عندها تمييز وإدراك، فإنه لما حصل غلول في الغنيمة رفضت أن تأكلها، ولما أعيد ما غل منها أكلتها وتقبلها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

    1.   

    عبودية القلم والعرش

    وبقي أمران فقط من عبودية الجمادات الغيبية وهما: القلم والعرش، أما القلم فجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة أي: تكلم القلم، وهذا يدل على أن عنده إدراكاً، وفي قوله: (رب) إقرار بالربوبية، يعني: يارب! والحديث رواه أبو داود .

    أما العرش فيكفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اهتز عرش الرحمن عز وجل لموت سعد بن معاذ، رضي الله تعالى عنه، وهذا الحديث متفق عليه، فإما أن العرش يوالي هذا العبد الصالح، وبسبب موالاته له اهتز سروراً واستبشاراً وفرحاً بقدوم روحه إلى الملأ الأعلى، أو اهتز من حزنه على موته، والله تعالى أعلم.

    فهذه الجملة من النصوص تعكس هذا التوافق والانسجام بين عناصر هذا الوجود كله، وهذه الكائنات ليست عدوة لنا، وليس هناك شيء اسمه صراع مع الطبيعة، بل كلها جنود لله مطيعة منقادة، ونحن مطالبون أن ننقاد لله سبحانه وتعالى مع هذه الكائنات طوعاً واختياراً، وألا ندعها تسبقنا إلى هذه القضية، وهي قضية التوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، وتسبيحه، وتقديسه، وتنزيهه.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950850