إسلام ويب

الهوية الإسلامية [1]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا عز للمسلمين ولا كرامة إلا بالمحافظة على الهوية الإسلامية المبنية على العقيدة الصحيحة؛ فالمؤمن عزه في عقيدته؛ فعقيدته هي كل شيء بالنسبة له، فهي وطنه وهي أهله ونسبه، سلفه في ذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

    1.   

    حقيقة الهوية

    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرف.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ؛ لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما؛ مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ فأجاب: عداوته والله! ما بقي).

    كان حيي بن أخطب وأبو ياسر كلاهما من كبار علماء وزعماء اليهود في المدينة، وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ذهبا إليه مغلسين، والغلس هو: الوقت الذي بعد الفجر مباشرة حين يختلط الضوء بظلمة الليل، فذهبا في هذا الوقت المبكر، ومكثا يراقبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينى في غاية الإرهاق، قالت صفية رضي الله عنها: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ يعني: أهو النبي المبشر به في التوراة والموصوف في التوراة بالصفات والخصائص المعروفة؟ قال: نعم، والله! يعني: إنه لهو النبي الذي بشرت به التوراة، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ أي: ماذا عن موقفك؟ قال: عداوته -والله- ما بقيت!

    وهكذا هم اليهود.

    والشاهد في هذا الحديث هو: كلمة (أهو هو؟) وإن كان علاقته بموضوعنا ليست علاقة مباشرة، لكن نحن نتخذه منطلقاً. فقوله: أهو هو؟ إشارة إلى هوية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الموصوف في التوراة. وحديثنا هو عن الهوُية، والهوُية هي: حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره؛ فهي ماهيته وما يوصف وما يعرف به، كما دل عليه هذا الحديث، فالهوية هي المفهوم الذي يكون عليه الفرد من فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي، وبهذه الهوية يتميز الفرد، ويكون له طابعه الخاص.

    وهي -بعبارة أخرى-: تعريف الإنسان نفسه بفكر وثقافة وأسلوب حياة.

    والإنسان يحمل ما نسميها ببطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية التي فيها: اسم هذا الشخص، وأنه -مثلاً- مسلم، يعمل كذا، وسنه كذا، ومولود في كذا، ويعيش في بلدة كذا، وهكذا، وإن كانت البطاقة الشخصية تحتوي فقط على بعض البيانات المحددة، أما مجال الهوية فمجالها أوسع؛ فهي تعبر عن كل قيم الإنسان، وكل ما فيه من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية.

    فمثلاً: حينما يقول الإنسان: أنا مسلم. فهذا انتماء لدائرة كبيرة جداً من دوائر الهوية ديانتها الإسلام، فإذا قال: أنا مسلم تعرف أنه مسلم، وإذا زاد وقال: أنا منهجي الإسلام الذي أحيا به فقد وضح أكثر، فإذا زاد أكثر حدد الدائرة بصورة أدق وأوضح، فإذا قال: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام تميز أكثر عمن ينتسب إليه بالاسم، وإذا زاد وأوضح فقال: أنا مسلم سلفي عرفنا بمجرد كلمة (سلفي) أنه ليس خارجياً ولا معتزلياً ولا مبتدعاً، وأنه يعتقد في القضية الفلانية كذا وفي القضية الفلانية كذا، وأن هذه الصفة عبارة عن لافتة تعنون لجملة من الصفات الثابتة التي لا تتغير فيما بين الذين ينتمون إلى هذه الهوية.

    فالفرد كما أن له هوية كذلك المجتمع والأمة لها هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كما يتشابه السمك في الماء.

    وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به، أما إذا تصادمتا فهناك تكون أزمة الهوية وأزمة الاغتراب، وإلى معناها أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) وفي بعض الروايات (قيل: من الغرباء؟ فقال: أناس قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

    1.   

    منبع الهوية وتأثيرها

    الانتماء الوجداني والانتساب إلى الهوية ينبع عن إرادة النفس، فالنفس تكون راضية بهذا الانتماء، إلى هذه الهوية، قابلة لهذا الانتماء راضية عنه، معتزة به، فهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس ويقودها، ويحدد أهداف صاحب الهوية، وهو الذي يرتب أولوياته في الحياة، فتعتز النفس به، وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، وفي نفس الوقت تبرأ من الانتساب إلى أي هوية أخرى مضادة أو مزاحمة لهذه الهوية التي يعتز بالانتماء إليها.

    إذاً: هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بطبيعة الحال اقتناء حواجز نفسية بين الشخص وبين كل من يخالفه في هذه الهوية، وفي نفس الوقت يقع الاندماج والتوحد مع الذين يوافقونه في هذه الهوية.

    والهوية لها علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، والهوية هي التي توجه لاختيار هذا الفرد عند تعدد البدائل، فأنت إذا عرفت أن هذا هويته -مثلاً- مسلم فالأصل أن هذا المسلم يجتنب لحم الخنزير، ويجتنب الخمر، ولا يفعل كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، وإذا عرضت عليه عدة اختيارات في أي قضية فطبقاً لانتمائه الاعتقادي وطبقاً لهويته فهذه الهوية هي التي سوف توجه اختياره أمام البدائل المتعددة، وبعبارة أخرى: الهوية هي التي تقوم بتهذيب سلوكه، وسلوكه يكون محدداً في إطار هذه الهوية، حيث يصبح سلوكه له غاية، كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته، وإطفاء صفة الرجولة والاستقرار والوحدة على هذه الشخصية، وبالتالي إذا تحققت له عناصر وأفكار لهذه الهوية ونتج عنها الانتماء الذي تحدثنا عنه، فلا يمكن أبداً أن يكون صاحبها ذا وجهين يقابل هؤلاء بوجه وهؤلاء وجه كما وصف الله تعالى المنافقين بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].

    فالشخص الذي حدد هويته لا يمكن أن يقع في هذا التذبذب، ولا يمكن أن تضطرب شخصيته، بل تكون ثابتة ومستقرة وشخصية واحدة، لا يمكن أن تتعدد وجوهه كما يحصل للمنافقين.

    أما بالنسبة للمجتمع ككل فإن الهوية الواحدة أو المتحدة تصبح هي الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة، وتكون هي الحصن الذي يتحصنون داخله، والنسيج أو المادة اللاصقة التي تربط بين لبناته، والتي إذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته التناقضات.

    1.   

    العقيدة الصحيحة هي الركن الأعظم للهوية الإسلامية

    الهوية لها أركان عدة، لكن أهم أركانها على الإطلاق هو العقيدة، يليها التاريخ واللغة، فإذا تحدثنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة، بحيث إن الهوية الإسلامية -بضم الهاء- تستغني تماماً عن أي لقاح أجنبي عنها، وتستعلي عن أن تحتاج إلى لقاح أجنبي يخصبها؛ فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة رصينة تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة، وتحيا لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم من عبودية الأنذال إلى عبودية الله عز وجل، وأي واحد من جنود الجيش الإسلامي الذي كان يفتح البلاد ويبشر وينشر ضياء ونور الإسلام إذا سألته سيردد جواب ذلك الصحابي الذي سئل: ما جاء بكم؟ فقال: الله جاء بنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الأديان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أو كما قال رضي الله تعالى عنه.

    فالمسلم يعرف الهدف الذي يعيش له بمنتهى الوضوح، ويعرف الهدف المحدد الذي يحيا لأجله، وهذا ثمرة من ثمرات هذه الهوية، لكننا سنلقي أكثر الضوء على الركن الأعظم من أركان الهوية الإسلامية وهو ركن العقيدة، فجنسية المسلم هي عقيدته، ووطنه هو دينه الذي هو عصمة أمره، والهوية الإسلامية في المقام الأول تعني الانتماء للعقيدة انتماءًَ يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها، والالتزام بمقتضياتها؛ فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت على الإطلاق في هوية المسلم وشخصيته، وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان ينتمي إلى بني آدم؛ لأنها انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب نزل على أشرف نبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أشرف أمة، وقد أرسل هذا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة بأشرف لغة وبسفارة أشرف الملائكة في أشرف بقاع الأرض في أشرف شهور السنة في أشرف لياليه وهي ليلة القدر، وبأشرف شريعة وأقوم هدي، ولذلك مدح الله القرآن العظيم وعظم هذه الهوية، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

    وإن كانوا يذكرون هذه الآية في فضائل المؤذن، لكن هي في عمومها تشمل كل من ينتمي إلى الهوية الإسلامية، فالمؤذن تتجاوب معه كل المخلوقات، إذ لا يبلغ مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر ولا أي مكان إلا وهو يصدقه فيما يقول، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، يقول الشجر والحجر وكل ما يسمع: صدقت. ويقره على افتخاره ودعوته إلى هذه الهوية.

    ويقول الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه لا أحسن ولا أكمل من الهوية الإسلامية: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، وقال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

    وبين تعالى أن صبغة الله هي التوحيد والإسلام والعقيدة، فإذا كان النصارى يصبغون أولادهم لينصروهم بما يسمى بالتعميد فصبغة الله هي فطرة التوحيد وعقيدة التوحيد، قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].

    كذب اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار

    قال الله عز وجل مبيناً شرف هذه الهوية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] فأمة الإسلام وأمة التوحيد بشروطها هي خير أمة على الإطلاق؛ لأنها تجتمع على العقيدة وعلى التوحيد، لا على عرق ولا جنس ولا وطن ولا أرض ولا كلأ ومرعى كما تجتمع الحيوانات، وإنما تجتمع على هذه العقيدة وهذا التوحيد؛ ولذلك قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

    وقال عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110] ... الآية؛ ولذلك في ضوء هذه الآية الكريمة كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجهون كاهانا بقوله: نحن شعب الله المختار، فإنه كان يردد مزاعم اليهود أنهم شعب الله المختار، فكان المجاهدون يردون عليه بقولهم: بل نحن المسلمين شعب الله المختار؛ لأن الله تعالى قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). فهم يقولون: نحن شعب الله المختار، بصفة عنصرية، وأن ماعدا ذلك من الأمم فهم عبارة عن بهائم خلقت ليس فيها استعمال البشر، وإنما خلقت ليسخرها اليهود لعنهم الله تعالى، ولذلك لا نجد في العقيدة اليهودية تبشير باليهودية؛ لأنهم -كما قال بعض الظرفاء يعلل ذلك في ضوء أخلاق اليهود- يخافون أن الناس يشاركونهم في الجنة، فإذا دخلوا اليهودية واعتنقوها فسيشاركونهم في الجنة على زعمهم، وهم لشدة بخلهم وشحهم يخشون أن يدخل الناس معهم الجنة، وهذا قاله على سبيل المزاح، لكن هم يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ لأنهم فئة مستقلة وعنصر معين، وهو هذا العنصر الإسرائيلي.

    أما نحن فنحن بحق شعب الله المختار، لا بصفة قومية ولا عنصرية ولا عرقية، وإنما بصفة التوحيد الذي هو صبغة الله، وبصفة الهوية الإسلامية، وكيف لا تكون الهوية الإسلامية أشرف صبغة وأحسن دين وأعظم انتماء وهي في الحقيقة انتماء إلى الله عز وجل وانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتماء إلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين من كانوا ومتى كانوا وأين كانوا؟!

    يقول تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].

    أهمية الانضمام تحت لواء الهوية الإسلامية

    قال الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. هذا هو الانتماء لأمة الإيمان وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] يقول بعض المفسرين: إن عباد الله الصالحين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعا الحواريون فقالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53] وقال الذين آمنوا من النصارى: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] يعني: أمل وغاية من أسلم منهم أنه يطمع ويسعى سعياً حثيثاً إلى الانطواء تحت لواء هذه الهوية الإسلامية، ولذا قالوا: (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ). وكل مسلم يقول في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتماءً وانتظاماً في هذا النظام وهذا العرق الذي يضم كل من ينتسب إلى حزب الله عز وجل، يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبـادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلى الله عليه وسلم، فالأمر مهم جداً، وينبغي أن نلتفت إليه؛ لأنه في غاية الأهمية، ونحن نناقش أن موضوع الانطواء تحت الهوية الإسلامية والاندماج في الهوية الإسلامية ليس أمراً اختيارياً، وهذا كلام ليس فقط للمسلمين، ولكن لجميع البشر ولكل الناس، فيجب على جميع بني آدم أن ينتموا إلى الهوية الإسلامية، فالهوية الإسلامية ليس الانتماء إليها أمراً مستحباً، ولا أمراً تكميلياً أو كمالياً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، والآيات كثيرة جداً في بيان أن دعوة الإسلام دعوة شاملة لجميع البشر، حتى يندمجوا في الهوية الإسلامية، ويشهدوا شهادتي التوحيد، وينقادوا لحكم الله سبحانه وتعالى، ويكونوا من المسلمين، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19] يعني: يا من أنتم حاضرون! وهم قريش (ومن بلغ) يعني: ومن يبلغه القرآن إلى أن تقوم الساعة أيضاً، كلكم أنا أنذره بذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي وبما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم . إذاً: هذه الأمة محملة برسالة إدخال جميع البشر في الهوية الإسلامية، وهذا هو موقعها الطبيعي والقيادي، وذلك باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وباعتبارها الأمة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من الضياع في الدنيا ومن عذاب الآخرة. فالسبيل الوحيد إلى النجاة في الآخرة لجميع الناس هو أن يذوبوا ويندمجوا في الهوية الإسلامية؛ لأن الهوية الإسلامية هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وهوايته في هذه الحياة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. وقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    أهمية الانطواء تحت لواء الهوية الإسلامية

    قال الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. هذا هو الانتماء لأمة الإيمان وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] يقول بعض المفسرين: إن عباد الله الصالحين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعا الحواريون فقالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53] وقال الذين آمنوا من النصارى: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] يعني: أمل وغاية من أسلم منهم أنه يطمع ويسعى سعياً حثيثاً إلى الانطواء تحت لواء هذه الهوية الإسلامية، ولذا قالوا: (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

    وكل مسلم يقول في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتماءً وانتظاماً في هذا النظام وهذا العرق الذي يضم كل من ينتسب إلى حزب الله عز وجل، يقول الشاعر:

    ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبـادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

    صلى الله عليه وسلم، فالأمر مهم جداً، وينبغي أن نلتفت إليه؛ لأنه في غاية الأهمية، ونحن نناقش أن موضوع الانطواء تحت الهوية الإسلامية والاندماج في الهوية الإسلامية ليس أمراً اختيارياً، وهذا كلام ليس فقط للمسلمين، ولكن لجميع البشر ولكل الناس، فيجب على جميع بني آدم أن ينتموا إلى الهوية الإسلامية، فالهوية الإسلامية ليس الانتماء إليها أمراً مستحباً، ولا أمراً تكميلياً أو كمالياً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، والآيات كثيرة جداً في بيان أن دعوة الإسلام دعوة شاملة لجميع البشر، حتى يندمجوا في الهوية الإسلامية، ويشهدوا شهادتي التوحيد، وينقادوا لحكم الله سبحانه وتعالى، ويكونوا من المسلمين، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام:19] يعني: يا من أنتم حاضرون! وهم قريش (ومن بلغ) يعني: ومن يبلغه القرآن إلى أن تقوم الساعة أيضاً، كلكم أنا أنذره بذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي وبما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم .

    إذاً: هذه الأمة محملة برسالة إدخال جميع البشر في الهوية الإسلامية، وهذا هو موقعها الطبيعي والقيادي، وذلك باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وباعتبارها الأمة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من الضياع في الدنيا ومن عذاب الآخرة.

    فالسبيل الوحيد إلى النجاة في الآخرة لجميع الناس هو أن يذوبوا ويندمجوا في الهوية الإسلامية؛ لأن الهوية الإسلامية هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وهوايته في هذه الحياة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    وقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    1.   

    الهوية الإسلامية مصدر العزة

    الهوية الإسلامية هي مصدر العزة والكرامة، قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] قال عمر رضي الله عنه: ( إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ).

    وهي هوية متميزة عما عداها؛ حيث إنها هوية في غاية الوضوح، ولا يمكن أبداً أن تختلط أو تلتبس بغيرها من الهويات، وهذا هو مبدأ البراءة من الشرك والمشركين، ويدل عليه قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) والخطاب للكافرين: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ [الكافرون:1-2] حالياً مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ [الكافرون:2-3] الآن عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا [الكافرون:3-4] في المستقبل عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ [الكافرون:5] في المستقبل عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون:5-6] الباطل الذي أنا بريء منه وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] الحق.

    1.   

    سؤال الله عز وجل الهداية من أركان الهوية

    هذا التميز بين الهوية الإسلامية وما خالفها من الهويات ثابت في كل حين، وقد فرض الله سبحانه وتعالى علينا معشر المسلمين في كل يوم وليلة أن ندعوه سبع عشرة مرة أن يهدينا الصراط المستقيم؛ حيث إن كلنا يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ثم يزيد هذا الصراط وضوحاً فيقول: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] الذي نحن ننتمي إليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وهذا من أركان الهوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا).

    وعرف اليهود ذلك، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم، حتى ضجر اليهود من ذلك، وقالوا: ما يريد هذا الرجل -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، وذلك حرصاً منه على تميز الهوية الإسلامية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). وقد صحت كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة وتحض عليها في كثير من أبواب الدين، وهناك أحاديث كثيرة جداً في الصلاة وفي النكاح وفي الصيام وفي العادات وفي الأكل والشرب واللبس وفي سائر الأعمال حض النبي صلى الله عليه وسلم فيها على التميز عن المشركين وعدم موافقتهم.

    1.   

    العلاقة بين الهوية الإسلامية والوطنية القومية

    إذا قلنا: إن وطن المسلم أو وطن المسلم هي عقيدته، وجنسيته هي دين الإسلام، فما علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية القومية؟ وهل هي علاقة تعارف؟

    نقول: إن الهوية الإسلامية ابتداءً لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم، ولا تعارض حب الخير لهذا الوطن، بل في الحقيقة إن المسلمين الصادقين هم أصدق الناس وطنيةً، وهم أنفع الناس لوطنهم؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة، وذلك بتطبيق الإسلام وتبني عقيدته؛ لإنقاذ مواطنيهم من النار، كما قال مؤمن آل فرعون:يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ [غافر:29] وأدخل نفسه في جملة القوم، قال: فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].

    أيضاً هؤلاء هم الذين يدأبون ويجتهدون في حماية أمتهم من التبعية لأعدائهم الذين يكيدون لأوطانهم، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون المذكورة في سورة (غافر)، ويتجلى ذلك في كل مواقف وجهاد رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية.

    والوطن الحقيقي في مفهوم الهوية الإسلامية هو الجنة؛ لأن هذا هو الوطن الأصلي للمؤمنين؛ حيث كان فيه أبونا آدم عليه السلام.

    ونحن في الدنيا في حالة نفي عن الوطن، وفي معسكر اعتقال عدونا الشيطان، فنحن في حالة نفي عن ذلك الوطن الحقيقي، ونحن في هذا المنفى ساعون في العودة إلى هذا الوطن، والمنهج الإسلامي والهوية الإسلامية هي الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم، وهذا المعنى عبر عنه الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله:

    فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم

    ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

    فالجنة هي دار السعادة التي لا يبغي أهلها عنها حولاً، لا كما قال من سفه نفسه:

    وطني لو سئلت بالخلد عنه نزعتني إليه في الخلد نفسي

    أما في الدنيا فأيضاً الهوية الإسلامية تتحكم حتى في قلوبنا وفي عواطفنا، فنحن نحب جميع الأنبياء، ثم هناك مكانة خاصة للرسل، وأولهم أولو العزم من الرسل، وأفضلهم أشرف المرسلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الأنبياء الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق الصحابة، وأعظم الصحابة على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، ويليه عمر .

    إن السمع والبصر والفؤاد والعواطف والحب كل ذلك ليس متروكاً لاختيارك، بل الهوية الإسلامية تحدد بقعة المحبة لكل شخص في قلبك، وأوليات هذه المحبة، وترتيب ذلك.

    وكذلك بالنسبة للأوطان، فأحب الأرض إلى المؤمن في هذه الدنيا هي أولاً مكة المكرمة، ثم المدينة النبوية، ثم بيت المقدس، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها أحب بلاد الله إلى الله، وبعض الناس الذين يتبنون المفهوم الوثني للوطنية يحاولون أن يستدلوا بالحديث على ما يدعون إليه، حيث يحاولون أن يغذوا مفهوم الوطنية الوثنية بالحديث، ويقولون هذا دليل على حب الوطن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حنَّ إلى مكة وقال: (لولا أن قومكِ أخرجوني منكِ ما خرجت).

    وهذا ليس دليلاً على حب الوطن، وإنما هو دليل على حب مكة؛ لأن مكة أحب بلاد الله إلى الله، فلذلك كل مسلم يحب مكة المكرمة قبل أي مكان آخر على وجه الأرض، وكذلك المدينة النبوية الطيبة، وكذلك بيت المقدس الذي بارك الله حوله؛ فمحبتنا لهذه البقاع التي اختارها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط رءوسنا، ومحضر الطفولة، ومرتع الشباب.

    أما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا، وهو أهلنا، وهو عشيرتنا؛ وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثمَّ وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال، يقول الشاعر:

    ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان

    وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني

    1.   

    الوطنية الوثنية منتج غربي

    الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض إذا سألنا من الذي وضع هذه الحدود الوهمية التي لا نراها إلا على الخرائط، نجد أن الاستعمار هو الذي قسم هذه الحدود، وهو الذي شطرنا بهذه الطريقة؛ في حين أننا إذا رأينا الحدود بين دولهم في أوروبا نجدها بخلاف ذلك، وأنا رأيت الحدود بين هولندا وألمانيا عبارة عن شارع في وسطه رصيف ارتفاعه حوالى نصف متر أو أقل، يعني: ممكن أن تكون أحدى رجليك في هولندا والأخرى في ألمانيا، والناس يتحركون بمنتهى الحرية، هذه هي الحدود بينهم، والآن هم ساعون في إزالة هذه الحدود، بل فعلوا ذلك بالفعل عن طريق الوحدة الأوروبية التي تحققت بالفعل، فهم بقدر ما اجتهدوا في تمزيقنا كما تمزق الجبنة الرومي هم أيضاً يندمجون ويتوحدون ويلغون الحواجز بينهم، فهذه الحدود ليست في القرآن ولا في السنة، بل هذه الحدود إنما رسمها أعداؤنا، فالوطنية بمعناها المحصور في هذه الحدود أو في عرق أو لون أو جنس خاطئة، وهذا المفهوم مفهوم دخيل، لم يعرفه السلف ولا الخلف، وأول من أدخل مفهوم الوطنية الوثنية في بلاد المسلمين أو في مصر على الأقل هو رفاعة الطهطاوي لما أرسله محمد علي إلى فرنسا ورجع ملوثاً ببعض الأفكار من فرنسا منها فكرة الوطنية، وهو أول من بدأ ينشر روح الوطنية بالمعنى الوثني، والارتباط بالتراب وبالأرض ونحو هذا الكلام الذي استورده من الأفكار التي تأثر بها في فرنسا، فطرأ علينا هذا المفهوم المحدود الضيق ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية الإسلامية التي ذوبت قوميات الأمم، والتي فتحتها في قومية واحدة هي القومية الإسلامية، والوطنية الإسلامية، ودمجتها جميعاً في أمة التوحيد.

    وهاكم شهادة شاهد من أهلها، وهو المؤرخ اليهودي برنارد لويد ، حيث يقول هذا المؤرخ اليهودي: كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً. وهذا اعتراف صريح من هذا اليهودي بأن الغرب هو الذي زرع ظلماً وعدواناً مفاهيم القومية والعلمانية ليوهن ويضعف الهوية الإسلامية.

    ويقرر هذا المؤرخ نفسه حقيقة ناصعة فيقول: فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن كتل المشاعر الجماهيرية، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة. انتهى كلام هذا اليهودي.

    1.   

    العقيدة الإسلامية هي منظار القيم والأفكار والمبادئ

    إن العقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ، ومن خلالها يحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم، والعقيدة الإسلامية هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي، وكل تراث كان لأي أمة قبل دخول الإسلام فهذا التراث يخضع لهيمنة الإسلام، إذ لابد أن يقوم الإسلام بترشيحه في ضوء عقيدة التوحيد، فتراث الأجداد والآباء والتاريخ القديم يخضع لهذا المشرح؛ فما وافق العقيدة يُقبل، وما خالفها يُتخلص منه وينبذ؛ فالعقيدة هي المرشح المهيمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي؛ ليحدد ما يُقبل منه وما يُنبذ.

    مثال: فرعون وملؤه كانوا مصريين، لكنهم كانوا كفاراً وثنيين، وموسى عليه السلام وأتباعه من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مسلمين، فواجب المؤمن في ضوء العقيدة الإسلامية ألا يفخر بفرعون ويعادي موسى وأتباعه المؤمنين، رغم عدائنا لليهود؛ فإن أكثر علماء اليهود ليسوا مسلمين، لكن نقول: الذين اتبعوا موسى هم على دين الإسلام، فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله ويبرأ منهم ولو كانوا من جلدته ويتكلمون بلسانه، ويوالي حزب الله وأولياءه من كانوا وأين كانوا ومتى كانوا، يقول تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28].

    ويقول تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]. إلى آخر الآيات الكريمات، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

    مثال آخر: قال تعالى في الملأ المؤمنين من بني إسرائيل: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:250] وجالوت وجنوده كانوا كنعانيين فلسطينيين، ومع ذلك نحن بقلوبنا نوالي بني إسرائيل المؤمنين، ونعادي الكفار ولو كانوا فلسطينيين، قال تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:250-251]... إلى آخر الآية.

    إذاً: نحن حينما نتلو هذا القرآن الكريم نعد هذا النصر نصراً لعقيدتنا ولديننا ولهويتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا فلسطينيين.

    أوضح من هذا وأصرح أن نقول: إنه لو قُدر أن الله سبحانه وتعالى بعث الآن في هذا الزمان داود وسليمان عليهما السلام إلى الحياة من جديد فنحن نجزم حتماً وقطعاً أنهما سيكونان متبعين لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مصداق قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] فما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فداود وسليمان لو عادا الآن لانضما قطعاً إلى المسلمين المجاهدين، ولما وافقا اليهود على ما يسمونه بإعادة بناء هيكل سليمان؛ لأن سليمان يعرف أن شريعته نُسخت، وأنه إذا بعث بعد محمد عليه السلام فلا مكان له إلا أن يكون متبعاً له ولشريعته، فسيبقي المسجد الأقصى، ويصلي فيه، ويحارب اليهود أعداء الله عز وجل.

    ومصداق ذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الصحائف من التوراة في يد رجل من المسلمين من الصحابة رضي الله عنهم غضب أشد الغضب وقال: (أمتهوكون أنتم؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنحن في ضوء الهوية الإسلامية أولى بموسى عليه السلام من اليهود، ونحن على دين موسى، وهم ليسوا على دين موسى، ولو بعث الله موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود والنصارى والعلمانيين وسائر الملحدين، ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم، ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فلسطين من قتلة الأنبياء أحفاد القردة والخنازير الملعونين على لسان الأنبياء.

    ونذكر مثلاً حياً سيقع قطعاً، وهو: أن عيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سوف يحكم بالإسلام، ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي ، ويقاتل اليهود، بل هو الذي سيقود المسلمين في حربهم ضد اليهود، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي).

    فنحن المسلمين أولياء المسيح وأحباؤه، ونحن أتباعه على دين الإسلام الذي جاء به ودعا إليه، ونحن المقصودون بقوله تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، وما أحسن ما قاله صاحب الظلال غفر الله له: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله، ومن ثمَّ يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج، والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

    1.   

    رابطة الأخوة الإسلامية من أعظم أركان الهوية الإسلامية

    قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] تربط هذه العقيدة الإسلامية -التي هي الركن الأعظم في الهوية الإسلامية- المسلم بأخيه، حتى يصير المسلم وأخوه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتواددهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

    ومن الأشياء البديعة أن القرآن الكريم يطلق النفس ويريد بها أخاك في الإسلام وفي الهوية الإسلامية؛ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كما قال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84] والمقصود: لا تخرجون إخوانكم في العقيدة وفي الهوية الإسلامية من دياركم، فأطلق على الإخوان الأنفس، مما يدل على قوة الاندماج والذوبان في الهوية الإسلامية، وقال تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، والمقصود: ظنوا بإخوانهم خيراً، فعبر عن الإخوان بالأنفس، وقال تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] أي: لا تلمزوا إخوانكم على أصح التفسيرين.

    إذاً: العقيدة -كما قلنا- هي المادة اللاصقة التي تربط لبنات المجتمع الإسلامي، وإذا وجدت فإنها تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، حيث لا يمكن أن تقع، كما قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك فالإيمان هو الفيصل في هذه القضية، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويقول تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

    هذه الرابطة التي تجمع المختلف وتألف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، هذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد كالبنيان يشد بعضه بعضاً.

    ولم تربط فقط بين أهل الأرض من المؤمنين، وإنما أيضاً ربطت بين حملة العرش ومن حول العرش من الملائكة وبين بني آدم المؤمنين في الأرض، مع ما بينهم من الاختلاف؛ فإن هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر من بني آدم، وهم مختلفون في الخلق والتكوين، لكن مع ذلك فإن الانتماء للهوية الإسلامية يربطك ليس فقط بالمؤمنين على وجه الأرض، وإنما يربطك بكل هذا الكون المؤمن، وتشعر بالولاء له، لا كما يفترض الغربيون الجهلة بالله وبسننه عز وجل، حيث يجعلون الإنسان دائماً في حالة صراع مع الطبيعة.

    فهذه الطبيعة ليست عدوة للإنسان، بل -إن جاز التعبير- مظاهر الطبيعة هي إخوان له في الله، وإخوان له في التوحيد، والأدلة على ذلك كثيرة جداً. نذكر مثالاً على ذلك بالوزغ الذي حرضنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قتله، وعلل ذلك بأنه كان ينفخ النار على إبراهيم لما ألقاه قومه في النار، فانظر إلى العداوة لهذا النوع من الحيوانات لأجل أنه فعل ذلك مع إبراهيم، وانظر إلى جبريل عند إغراق فرعون، فإنه: (لما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90])، يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني -يا محمد- وأنا أدس في فيه من حال البحر خشية أن تدركه الرحمة). فجبريل كان يعادي فرعون لأنه عتا وطغى ونازع الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله العظيم، فجبريل كان يبغضه من أجل ذلك، فخشي جبريل أن تنقذه هذه الكلمة التي قالها وهو يهلك، فكان يأخذ من طين البحر ويدس في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذا نطق بهذه الكلمة التي قالها عند الهلاك، والتي لا تنفعه قطعاً.

    كذلك إذا أحب الله عبداً في السماء، نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في ملائكة كل سماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا مظهر من مظاهر هذا التوحد مع الكائنات من حولنا. يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7]، انظر إلى كلمة: (يؤمنون به) هي المادة اللاصقة، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] وهذا هو الرابط في العقيدة والهوية الإسلامية، رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7].

    وتأمل قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، وقابل ذلك بمكانة سلمان الفارسي ، وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين، فما خوطبوا أبداً على أساس أن هويتهم أن هذا رومي، وهذا فارسي، وهذا حبشي، كلا! وإنما كلهم متساوون كأسنان المشط أمام هذه العقيدة وهذا التوحيد، يقول الشاعر:

    لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب

    عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم انظر ما آل إليه، وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات وليس له من الأقرباء إلا ابن واحد كافر فتركته وميراثه يئول إلى إخوانه المسلمين بأخوة الإسلام؛ لأن هذه هي القرابة الحقيقية، ولا يكون الإرث لولده لصلبه الذي هو كافر، مع أن الميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) فوصفهم بصفة الإسلام، وما قال: المصريون، وما قال: الشاميون، وما قال: اليمانيون، وإنما قال: المسلمون.

    وهكذا كل خطاب في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) لم يخاطب قوماً غير أهل الهوية الإسلامية.

    واعتبر أيضاً هذا المعنى بقول الله تبارك وتعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام في شأن ابنه الكافر حيث قال: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وفي قراءة: (أنه عَمِلَ غير صالح) وهو ابنه من صلبه، ولكن الميزان عند الله سبحانه وتعالى في ضوء الهوية الإسلامية ومدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولذا قال سبحانه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لماذا؟ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لم يكن معك على عقيدة التوحيد، ولم يكن مندمجاً في الهوية الإسلامية كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: (ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته).

    واعتبر ذلك أيضاً بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه الكافرين، وتأمل قوله عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].

    وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل، وكيف انقسموا فوراً إلى أنصار مؤمنين وأعداء كافرين، على أساس موقفهم من دعوتهم إلى الاندماج في العقيدة الإسلامية.

    وتأمل أيضاً كيف يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نقتدي بهم في هذا، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] فهم في الحال صاروا أعداء لما خالفوهم في هذه العقيدة.

    1.   

    محافظة الكفار على هويتهم

    الكفار يستكثرون علينا هذه الرابطة وهذه الهوية، في حين أن تصرفاتهم تبنى على أساس هذه الهوية.

    وأذكر على ذلك نموذجاً عابراً يبين كيف أن الهوية العقائدية هي التي تحدد وتوجه سلوك هؤلاء القوم: في كتاب الصربيون خنازير أوروبا للدكتور عبد الحي الفرماوي يقول: في رحلة من رحلات عبد الناصر لحضور أحد مؤتمرات عدم الانحياز في بلغراد، استعد المسلمون في يوغسلافيا وقالوا: عبد الناصر قادم من مصر بلد الأزهر وبلد الإسلام، وهناك صداقة حميمة بينه وبين تيتو ، فأعدوا مذكرة لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر بصفته زعيم مصر الإسلامية بلد الأزهر الشريف، وموطن الأئمة الأعلام من العلماء والمحدثين والفقهاء، ومقر مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، هذه المذكرة كان الغرض منها أن يتدخل جمال عبد الناصر لدى صديقه تيتو حتى يخفف من وطأة النظام الشيوعي على المسلمين في يوغسلافيا، لاسيما في البوسنة والهرسك وعاصمتها سراييفو؛ حيث يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة بالنسبة إلى بقية البلدان الأخرى التي يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي، واشتملت المذكرة على المعاناة التي يلاقيها المسلمون على يد الشيوعيون اليوغسلافيين، وعلى حرمانهم من معظم الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن العادي، وعلى القوانين الجائرة التي كان يصدرها تيتو، والتي كانت تستهدف المسلمين وحدهم دون بقية الطوائف الأخرى في مجالات التعليم والثقافة والحقوق السياسية والتمثيل النيابي، وفي التضييق عليهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية، وفي إهمال مساجدهم فلا بناء لجديد ولا ترميم لقديم، مما جعل معظم المساجد آيلة للسقوط، وما أن تسلم عبد الناصر المذكرة العاجلة من أحد زعماء المسلمين على رأس وفد من علماء سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى امتعض وجهه، وتقطب جبينه، وقال بالحرف لرئيس الوفد: (إن مصر لن تسمح بأن تقحم نفسها في الشئون الداخلية للدول الصديقة، وأرجو ألا يتكرر ذلك مرة أخرى!) ثم أنهى المقابلة.

    وزيادة في مضايقة وفد المسلمين الذي جاء بالمذكرة ومجاملة لـتيتو ألغى عبد الناصر المنح التعليمية والأزهرية لطلبة المسلمين في البوسنة والهرسك ذلك العام!

    إن جمال عبد الناصر الذي رفض مذكرة علماء المسلمين في يوغسلافيا هو نفس جمال عبد الناصر الذي استجاب لمطلب نيكيتا خروتشيف رئيس الاتحاد السوفيتي، فحين هبط خروتشيف إلى مطار القاهرة كان جمال عبد الناصر في استقباله، وبعد أن صافح كل منهما الآخر وضع خروتشيف يده في جيبه الأيمن وأخرج كشفاً بأسماء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات، وقال في دعابة خبيثة: لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يفرج عن الشيوعيين المصريين في سجون مصر ومعتقلاتها، وقبل أن يغادر الرئيسان مطار القاهرة كانت التعليمات قد صدرت إلى مدير مصلحة السجون وأجهزة الأمن الأخرى بالإفراج عن الرفاق المحظوظين الواردة أسماؤهم في كشف خروتشتيف رغم أن بعضهم كان مداناً بجريمة الخيانة العظمى!

    ومع ذلك فلم يعتبر عبد الناصر ما حدث من خروشتوف تدخلاً سافراً عرياناً في شئون مصر الداخلية.

    ونفس الشيء حصل لما قدمت مذكرة طبق الأصل من مذكرة عبد الناصر لـأحمد سوكارنو وكان مصيرها نفس المذكرة.

    والموقف الآخر أيضاً من يوغسلافيا فيما يتعلق بالمعاملة الوحشية للمسلمين، وهذه المذابح الأخيرة لفتت النظر، أما المذابح القديمة على يد خروتشيف وقبله أيضاً بعد الحرب العالمية فما كاد يسمع عنها أحد شيئاً، وكثير من المسلمين ما كانوا يعرفون أن يوغسلافيا في هذا الكم الهائل من الشعوب الإسلامية دولة في منطقة البلقان؛ لأننا نهمل الاطلاع ومعرفة أجزاء جسدنا، ولا نعرف هويتنا.

    كان هناك كاتب إسلامي يدعى علي عزت بيغوفتش كان قد ألف كتاباً في سنة (1970م) اسمه: (البيان الإسلامي)، اعتبر تيتو وحكومته الشيوعية هذا الكتاب خطراً يهدد أوروبا الشيوعية، فقالوا في إدانة هذا الكتاب: إن هذا الكتاب ميثاق عمل إسلامي يضم المسلمين من إندونيسيا حتى المغرب في اتحاد وسيف متكاتف، وفور ظهور الكتاب الإسلامي اعتقلوا صاحبه علي عزت بيغوفتش ، وألقوه في غياهب السجون، وخلال إحدى زيارات تيتو المتكررة إلى مصر طلب الشيخ الباكوري وزير الأوقاف حينئذ من الرئيس عبد الناصر أن يفاتح تيتو في الإفراج عن الزعيم المسلم الذي أودع المعتقل، ويجري تعذيبه في بلغراد، وعندما استفسر جمال من صديقه تيتو عن هذا الموضوع أجابه قائلاً: إن هذا الرجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين عندكم في مصر، وهو يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها فيه الأكثرية العددية، كما أن هذا الرجل يرصد كل ما هو غير إسلامي في مجتمع المسلمين، ثم توقف تيتو قليلاً وسأل عبد الناصر : لماذا تتوسط له وأنت تتخذ نفس الموقف منهم في مصر؟!

    وسكت عبد الناصر لقوة الحجة والمنطق التي تحدث بها تيتو .

    وهذا موقف عقائدي ينبني على انتماء لهوية تتجاوز حدوث الأرض والأوطان؛ لكي تكون العقيدة هي المسيطرة، فلماذا يكون ذلك حلالاً لهم وحراماً علينا؟!

    1.   

    الهوية الإسلامية هي الفطرة

    إن الهوية الإسلامية المتميزة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، ولا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وإلا من استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

    إن الذي يفهم معنى الهوية الإسلامية وثمار الهوية الإسلامية سواء في الدنيا أو في الآخرة، والشرف الذي يطلبه من ينطوي تحت هذه الهوية الإسلامية إذا كان أستاذاً عاقلاً فضلاً عن مسلم مؤمن يدرك هذه المعاني؛ فالإنسان العاقل فضلاً عن المسلم المؤمن لا يأتي ويقول للذين كفروا: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]، إذ لا يمكن أن يصدر ذلك ممن فهم معنى الهوية الإسلامية.

    ولا يعرف مفكر أو داعية مسلم مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية، بل العكس هو الصحيح، فالدعوة إلى الهويات المزاحمة والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعداء ديننا الذين لا يألوننا خبالاً، وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ممن رباهم الاستعمار في محاضنه، وصنعهم على عينه، وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام، ومحو الهوية الإسلامية من الوجود.

    1.   

    موقف المسلم من الهوية الإسلامية

    ماذا عن موقفنا الآن من الهوية الإسلامية؟

    لا شك أن المسلمين لم يكتشفوا أنفسهم، ومن المؤلم جداً أن أعداءنا يكتشفوننا بطريقة أفضل منا، ويفهموننا أكثر مما نفهم نحن حقيقة موقعنا في هذا الوجود، وبلا شك أن عند معظم شباب العالم الإسلامي الآن أزمة هوية، وأزمة اختراق؛ لأنهم يجهلون هذه الهوية؛ لأنه تم غسيل عقولهم.

    فمثلاً: هل يمكن أن ترى من يحمل الهوية الإسلامية ثم يفعل هذه الأشياء كالشاب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، أو في سيارته، ويتزين ويفخر بالعلم الأمريكي؟! فما الذي يمنعه -إذن- أن يعلق علم إسرائيل؟!

    وهكذا ترى من يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم وفي مخبرهم، ومن المسلمين من يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ، ثم يفتخرون بأنهم فازوا بجنسية البلاد الكافرة، وللأسف الشديد! فهل هذا من المحافظة على الهوية الإسلامية؟ وكيف يتخلى طواعية عن جنسية إسلامية، ثم ينضوي تحت لواء كافر، ويقسم القسم للدفاع عن الدولة الكافرة في حالة تعرضها لاعتداء وهو منتسب للهوية الإسلامية؟! إن هذا ضلال مبين.

    وبعض الإخوة الذين يذهبون إلى الخارج لزيارة أهاليهم ممن تلطخوا بالجنسية الكافرة يشتكون من سوء مقابلة أهلهم الذين يقولون: إن أهالينا عندما نذهب لزيارتهم يقولون: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ فأين الانتماء والهوية التي يحملها المتلطخون؟!

    مثل المذيع الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه العدو الصائل على المسلمين لأجل حفنة دولارات أو جنيهات إسترلينية أو غير ذلك، فيذهب ويقبل أن يعمل مذيعاً بوقاً يستعملونه كآلة لمحاربة الإسلام وتوجيه حملات الحرب الباردة ضد المسلمين.

    وأقبح ما يكون هو ضياع الهوية في الشخص الذي يعمل جاسوساً لأعداء أمته وأعداء دينه، وأن يبيع نفسه لأعداء وطنه المسلم من أجل تحصيل متاع زائل، وهذا من أزمة الهوية، بل إنك تجد أستاذاً في الجامعة يسبح بحمد الغرب صباح مساء، ولا يقبل أي نقد للغرب ولا لضياع الغرب، وهذا يعاني من أزمة هوية.

    ومثل هذا مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدولة الكافرة المحاربة للإسلام، فبعض الناس ينظم للجيش الأمريكي، ومثل هذا ليس عنده هوية، بل قد ضاعت هويته.

    وهكذا كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، ويرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم، وباختصار فإنه يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين.

    وهذا نموذج موجود الآن بكثرة وهو: أنه حتى في أدق الأشياء يقول لك بعض الناس: لا تعمل كذا ، فإن الأجانب سيقولون علينا كذا! إنه شيء غريب جداً!

    وهكذا الناس الذي يحتفلون بالاحتلال الفرنسي لمصر! فإن فرنسا الآن لأول مرة تطلب رسمياً من مصر أن تحتفل بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر! يا للمصيبة! وبعض الناس .. تحتفل، ولا يحتفل بالاحتلال إلا الخونة؛ إذ كيف يحتفلون باحتلال مصر؟! وبالحملة الفرنسية التي قتلت المسلمين، والتي دخلت الجامع الأزهر بالخيول، وحولوا الأزهر إلى إسطبل، فضلاً عن غير ذلك من المسالك التي فعلها نابليون !!

    ومع ذلك يأتي يوم يحتفل بهم! ونحن نعجب فإن مثل هذا اليوم يوضع في ضمن أسباب عداء الغازين المحتلين، أما الآن فصار يحصل احتفال بهذا الاحتلال؛ والله المستعان!

    1.   

    حقارة من يتنازل عن الهوية الإسلامية

    إن هؤلاء الذين يذوبون في هوية غيرهم، ويبتغون عندهم العزة في الحقيقة أنهم يعودون مذمومين مخذولين من الفريقين، ويعاملهم الله بنقيض قصدهم، فهم يريدون العزة عند الكافرين، فيتحقق فيهم قول القائل:

    باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا رضيت عنه العباد

    لأنهم يحتقرون من يتنازل عن هويته، وهذا شيء نعاير به واقع المسلمين في قضية الهوية.

    وكم رأينا الحيز الإعلامي الذي لم يسبق له مثيل الذي شغله موت أميرة ويلز في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الإسلام وإلى الهوية الإسلامية! ورأينا ما صار إليه هذا الإعلام من السقوط، بينما نجد الإعلام غافلاً عن موت الشيخ محمود شاكر رحمه الله في نفس الفترة!

    وهذا يكشف لنا أزمة الهوية التي نعاني منها، وقضية الهوية هي قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين اليوم لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في دائرة العالمية الأممية، وإزالتها من الوجود؛ لأنها هي لا غيرها الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، يقول تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وقال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].

    إن أي جماعة تملك الهوية سوف تجد في عالم تحكمه شريعة الغاب من يحاول الهيمنة عليها وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية، ويجعل سياجاً على شخصيتها؛ فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابعٍ مقلد.

    إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا، كما قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] فحين تمسكنا بهذه الهوية سدنا العالم كله، حتى كنائس أوروبا لا تجرئ على دق نواقيسها حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، يعني: أنهم لهيبتهم من المسلمين كانوا يتوقفون عن دق أجراس الكنائس إذا عبرت الجيوش الإسلامية البحر المتوسط أو مرت في موانيها.

    ومن أراد أن يدرك الفرق بين العزة التي تكتسبها الأمة من الهوية الإسلامية وبين الذل حين تخلت عن هذه الهوية الإسلامية فلينظر إلى النموذج التركي الممسوخ؛ إنه أقبح صورة لمسخ الهوية، وأقبح مثال يمكن أن يضرب بالضياع والذل والهوان والخيانة التي يتنفس بها من تخلوا عن الهوية الإسلامية، حتى إن كل إعلام العالم يشتكي من فساد القنوات الفضائية التركية والانحلال الذي فيها، فبعدما كانت عاصمة الخلافة صارت الآن يخشى من الفساد الذي يبث منها، فمن أجل أن يتخلوا عن الإسلام حاربوا الإسلام، وفعلوا كل ما فعلوا من أجل أن يرضى عنهم الغربيون، ويدخلوهم في التجمع الأوروبي، لكن مع كل هذا احتقروهم وساموهم سوء العذاب والهوان والذل، ومع أن الدواء واضح وهو العودة إلى مصدر العز، لكنهم يأبون إلا الذل والهوان، فهذا أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يترتب عليه من ضياع وهوان ومذلة.

    فحين تخلينا عن هذه الهوية نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). فإضعاف الهوية الإسلامية هي عملية انتحار جماعي، إن أي خلل في الهوية هو عبارة عن انتحار، فينتهي إلى الضياع وإلى التذبيح؛ فإضعاف هذه الهوية هو أخطر وأشد فتكاً بالأمة من نزع سلاحها.

    1.   

    حرص أعداء المسلمين على إبعاد المسلمين عن هويتهم

    مما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن الهوية الإسلامية أقوى سلاح، فالهوية الإسلامية في نظر أعدائنا أقوى من القنابل النووية أو القنابل الهيدروجينية والأسلحة الفتاكة كلها.

    وهذا الكلام ليس من جيبي ولا من عندي، وإنما هو من بعض تصريحات ساستهم، ففي آخر سنة (1967م) ألقى وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية فقال في هذه المحاضرة بعد النكسة مباشرة: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل! انظر كيف يتكلم وهو منتصر في حرب الأيام الستة، ومع ذلك انظر إلى الخوف من الإسلام! فمع أنه كان في حالة انتصار لكنه يقول: يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيق على إسرائيل! ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي!

    والمجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من أكثر من مائة دولة مختلفة، فهي تجمع من الشتات أنواعاً مختلفة، فهم من كل أفق أتوا من أكثر من مائة دولة من كل أنحاء العالم، ويتكلمون سبعين لغة مختلفة من شتات الأرض، ولكن جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان.

    وهذا أحدهم يعلنها ويقول: جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى.

    والدعوة القومية تفكك، فالشيوعية نفسها كانت تقف حاجزاً دون انتشارها، وتدعو إلى تفضيل المذهب الشيوعي، ومع ذلك فإن المسلمين بالذات كانوا يشجعون القوميات، حيث شجعوا القومية العربية، وشجعوا انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية التي أصبحت الآن بنغلادش، ولذلك نرى الأستاذ يوسف العظم يحكي واقعة في أيام حرب حزيران أو يونيو حرب النكسة فيقول: لقد سمعت وزير إعلام عربياً إبان حرب حزيران يقول: دعونا من خالد بن الوليد وصلاح الدين ، ولا تثيروها حرباً دينية، قال ذلك وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة من الحث للجندي على الثبات وتشجيع المقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: منهزمون ورب الكعبة! وقد كان؛ لأن السلاح ليس بذاته أساساً مادام السلاح بمثل هذه العقيدة القتالية التي يعبر عنها هذا المصطلح الذي عبر عنه الوزير المذكور، فأين العقيدة إذا كنت تقول له: شادية معك في المعركة، وأم كلثوم معك في المعركة، وعبد الحليم معك في المعركة؟!!

    إن اليهود أول ما دخلوا سيناء دخلوا بنسخ كثيرة من التوراة حملوها على أول دبابة دخلت سيناء، وجاءت صحيفة أحرونوت اليهودية سنة (1987م) تقول: إن على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي: أننا نجحنا بجهودنا وبجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تمكين خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا!!

    حينما أراد الشاعر محمد إقبال أن يبين أثر تخلي المرء عن هويته وعن عقيدته ضرب هذا المثل فقال: كانت مجموعة من الكباش تعيش في مرعىً وفير الكلأ عيشاً رغيداً، ولكنها أصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها، فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها، فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريح من هذا الخطر الداهم الذي يهددها، فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة هو الوسيلة الوحيدة، فظل يتوسد إلى هذه الأسود في مكانها حتى ألفته وألفها، فاستغل هذه الألفة، وبدأ يعرض الأسود ويدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء والعيش في سلام وأمان ودعة وإلى أن تترك أكل اللحم، وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله، وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون، ويقبح لها الوثب والاعتداء، حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام، فأخذت الأسود تتباطأ في افتراس الكباش، ومالت إلى حياة الدعة والهدوء، واكتفت بأكل الأعشاب كما تفعل الكباش، فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها، وتثلمت أسنانها، وتقصفت أظفارها، وأصبحت لا تقوى على الجري، ولم تعد قادرة على الافتراس، وبذلك تحولت الأسود إلى أغنام؛ لأنها تخلت عن هويتها وعن خصائصها ففقدت ذاتيتها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا). فالذي كان يفعله هذا الكبش هو الذي فعله الكثير من المستشرقين حيث كانوا يلقون الشبهة على المسلمين، وهم يعرفون عقدة النقص والانهزامية عند بعض المسلمين والمفكرين، ونتيجة العقدة في النفس والشعور بالدونية عند بعض المنهزمين هي أنهم أصبحوا يردون بأن الإسلام دين لا يعرف الجهاد، ولا يعرف كذا وكذا، وآخر يوم يوضع الإسلام في قفص الاتهام، ويوظف الغرب نفسه محامياً ليبرئه من هذه التهم، وبالتالي بدأ طمس مفاهيم الإسلام شيئاً فشيئاً من خلال هذه الحيل الماكرة، حتى وصلت محاولات طمس الهوية الإسلامية إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفوا الكلم عن مواضعه أن نمارس مثلهم هواية التحريف لكلام الله؛ حيث كان من محاور اتفاقية (كامب ديفيد): ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام، ونظفوا الإسلام من المفاهيم السلبية تجاه اليهود لعنهم الله، وإسحاق نافون رئيس الكيان اليهودي السابق خطب خطاباً في جامعة بن غوريون أمام السادات في (27/5/1979م) وقال: إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية، وصرح أيضاً أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في (28/10/1980م) بأن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي! ويقصد بالصياغة الأدبية والدينية القرآن الكريم، والآيات التي تفضح اليهود وتكشفهم.

    إذاً: يحرص هؤلاء على هويتهم، وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755982404