فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
موضوع محاضرة اليوم هو: الحدود في الإسلام.
ولماذا هذا الموضوع بالذات؟
لا شك أن هذه الصحوة المباركة لها من المناقب والفضائل ما لها، ولا يخلو الأمر من مثالب ومعايب.
ونحن لا ننتظر أن يأتي دخيل علينا فيعالج أخطاءنا، ولكن لا بد من ناصح من بيننا، فكنا نظن أنه بانقراض جماعة التكفير قد عافى الله عز وجل هذه الجماعات وهذه الطوائف المسلمة أنها لا تقيم الحدود فيما بينها.
ثم فوجئنا بعد ذلك أن هذا الشر لا يزال موجوداً، وإن كانت بصورة خفية دقيقة قليلة، لكن على أية حال يعد هذا الأمر مخالفة عظيمة لدين الله عز وجل، أن يقيم الأفراد حدود الله عز وجل فيما بينهم، وليس هذا الأمر موكولاً إليهم.
ولذلك آثرنا أن تكون هذه النصيحة من أخ شقيق رحيم ودود يعز عليه جداً أن يكون في هذا الصف أخطاء فيتلقفها أعداء هذا الدين فيجعلون منها موضوعاً يتكلمون فيه، ويوجهون سهامهم وطعونهم لا إلى الأفراد الذين خالفوا في هذه المسألة، وإنما إلى دين الله عز وجل، ويحسن بنا أن نتكلم في مقدمة يسيرة قليلة عن أهمية الحدود في الإسلام.
فالحدود في الإسلام إنما هي جزء من نظام إلهي عظيم أنزله رب العالمين على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ليكون نظاماً يكفل لمن اتبعه السعادة والأمان والاستقرار إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138].
فمن حق الفرد على الجماعة: تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها، والعمل على حمايته ليس فقط من غيره، بل من نفسه كذلك. يعني: لا يجوز لأحد أن يقيم الحد على نفسه، فلو أن شخصاً قتل، هل يجوز له أن يقتل نفسه فيكون بذلك قد أقام الحد من نفسه على نفسه؟!
الجواب: أنه لا يجوز، فلو أنه قتل الغير لكان قاتلاً، ولو قتل نفسه لكان كذلك قاتلاً.
وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف، وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى لاضطراب المجتمع وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه، فلا بد من رادع يردع من يخرج على هذا القانون الإلهي الذي شرعه المولى عز وجل.
فلا يقبل من أحد أن يسرق أموال الغير ويقول: أنا حر، ولا يقبل من أحد أن يقول: أنا أزني وأنا حر؛ لأن هذا الفعل إنما هو اعتداء على المجتمع بأسره.
ولذلك أنت تجد أن العاصي لا يشعر بالأمان فيما بينه وبين نفسه، ولو أنه قام بطاعة الله عز وجل لاطمأن قلبه بذلك، وهذا مصداق قول الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
فالذاكر لله تبارك وتعالى بالقول والعمل لا بد أنه مطمئن القلب، وأما العاصي العامل بخلاف الذكر الذي ورد في الكتاب والسنة فلا بد وأن يشعر بالقلق، وعدم الطمأنينة، فلا بد من بيان أن الله تبارك وتعالى إنما يخاطب في عباده الوازع الديني، وأنه يربي في قلوبهم ونفوسهم الوازع الديني قبل أن يعتمد على العقوبة، وإنما العقوبة هي الحد، وهي الغرض وهي المنتهى في غير تشريع المولى عز وجل.
ولذلك أنت لو قلت لواحد: أعطني ألف جنيه زكاة مالك يدفعها لك طيبة بها نفسه، ولو قلت له: ادفع عشرة جنيهات فقط ضرائب لا يدفعها؛ لماذا؟ لأن عنده في الأول الوازع الديني، وليس عنده وازع في الثاني إلا أن يقهر بالسيف والسلطان، فحينئذ يدفع وإن باع أولاده وامرأته في سوق النخاسة.
أما الإسلام فلم يكن كذلك، وإنما خاطب الناس، ولذلك تجد أن الشخص يأتي بزكاة ماله ويدفعها مختاراً راغباً في أن يتخلص من هذا المال؛ لأنه يعلم أنه لا حق له فيه.
وهل سمعتم أن أحداً حمل ماله وذهب إلى مصلحة الضرائب ليدفعه؟ أبداً. لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا ظلم، وأنه ليس من دين الله عز وجل، وأنه لا يؤجر عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولذلك حرص الإسلام ابتداءً على أن يربي الوازع الديني في قلوب العباد، ولذلك أنت بإمكانك أن تقتل، وأن تسرق، وأن تزني، وأن تسب وأن تشتم وغير ذلك، فما الذي يحجبك وما الذي يمنعك؟ إنما هو خوفك من الله عز وجل، فلو أنك تمكنت من السرقة وأنت تعلم أنه لا يراك أحد من الخلق فأنت تقول فيما بينك وبين نفسك: إنما يراني رب الخلق.
فقولك: (يراني رب الخلق)، هذا هو الوازع الديني الذي رباه الله تعالى في قلوب عباده الصالحين.
فإن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة بين الناس، ولا يتخذها الوسيلة الوحيدة لذلك، وإنما يعمل على الوقاية من الجريمة، ومحاربتها بالضمير الوازع، والنفس المهذبة والسلوك المستقيم، وتوفير أسباب الحياة النظيفة لكل الناس، فمن ارتضى هذه الأسباب واتخذها منهج حياته ارتقى وعز بالإسلام، وسعد بالمجتمع، وسعد به مجتمعه.
ومن هجر هذه الأسباب، ونفر منها، وسعى في الأرض فساداً دون رادع من خلق، أو وزاع من ضمير، فهو كمن يتمرغ في الوحل مختاراً، وحق للإسلام أن ينزل به عقابه؛ ليحمي الناس من شروره، ويوفر للمجتمع أمنه واستقراره.
فالإسلام لم يرصد عقوبة دنيوية لكل انحراف أو معصية، بل إن هناك كثيراً من الانحرافات والمحرمات اكتفى الإسلام فيها بأن أنذر مرتكبيها بغضب الله وعقابه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: المنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره).
فليس هناك عقاب عملي في كتاب الله أو في سنة رسول الله يؤدب هؤلاء.
فالمنان يعطيك المال، ويمن عليك، ويقول: أنا أعطيتك في يوم كذا كذا وكذا، فهل في الإسلام عقوبة رادعة.. هل يضرب بالعصا على أم رأسه حتى لا يمن بعد ذلك؟!
الجواب: لا، وإنما ذلك راجع إلى الوازع الديني، وخوف هذا المنان من الله عز وجل؛ لأنه لا يكلمه، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم في الآخرة.
وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى المقابر: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
والنميمة كذلك ليس لها جزاء في الدنيا، فما الذي يمنعك أن تنم إذا لم يكن هناك عقاب، وليس من حق واحد وإن كان والياً أو حاكماً أن يضربك، وأن يؤدبك على هذه النميمة؟ ما الذي يمنعك من هذا؟ إن الذي يمنعك هو: خوفك من الله عز وجل الذي يسميه أهل العلم: الوازع الديني.
فهناك عقوبات كثيرة جداً اعتمدت على الوازع الديني، وتصفية هذه القلوب المؤمنة الطاهرة، وإقبالها على الله عز وجل.
والعقوبات في دين الله عز وجل كثيرة لا تعتمد على الحدود فقط، وإنما اعتمدت على أشياء كثيرة فمنها: الحدود، ومنها: القصاص، ومنها: التعزير والغرامات وغير ذلك.
فالحدود جمع: حد، والحد في الأصل: هو الشيء الحاجز بين شيئين، تقول: أنا أقمت حداً بيني وبين فلان، أي: أقمت حاجزاً بيني وبينه حتى لا يبغي أحدنا على الآخر.
ويقال: الحد ما ميز الشيء عن غيره. ومنه: حدود الدار، وحدود الأرض، وهو في اللغة بمعنى: المنع.
وسميت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها، كما قال الله تبارك وتعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].
فأحياناً يطلق الحد على المعصية نفسها، فلما كانت هذه المعصية خارجة عما حده الله عز وجل لك أمرك بأن لا تقربها؛ فإن اقتربت منها استوجبت الحد الذي فرضه الله عز وجل لهذا الجرم.
والحد في الشرع: عقوبة مقدرة لأجل حق الله، ومعنى حق الله عند الإطلاق: أي: حق المجتمع؛ لأن الحقوق إما حق الآدمي الفرد، وإما حق المجتمع بأسره.
فحق المجتمع بأسره يطلق عليه حق الله تعالى، فيخرج التعزير؛ لعدم تقديره؛ إذ إن تقديره مفوض لرأي الحاكم، ويخرج القصاص كذلك لأنه حق آدمي.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] هذا في القصاص: إذا كان لك قصاص في حق أخيك فعفوت عنه فإنما ذلك حقك وقد تنازلت عنه.
فمن هذه الجرائم: الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والحرابة، والردة والبغي، فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشرع، فعقوبة جريمة الزنا الجلد للبكر، والرجم للثيب، كما قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15].
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام) البكر بالبكر، أي: لو وقع رجل بكر غير متزوج على امرأة بكر غير متزوجة فعقابه جلد مائة، وتغريب عام، وقد اختلف فيه أهل العلم، (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، والثيب بالثيب، أي: لو أن رجلاً متزوجاً وقع على امرأة متزوجة فعقابه الرجم اتفاقاً، وأما الجلد فقد اختلف فيه أهل العلم كذلك، وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة، لو أن واحداً قذف امرأة محصنة، ومعنى (محصنة) أي: حرة عفيفة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4].
وعقوبة جريمة السرقة: قطع اليد، كما قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
وعقوبة جريمة الفساد في الأرض -وهي المحاربة- القتل أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وعقوبة جريمة السكر ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى في تناول الحدود حداً حداً.
وأما عقوبة الردة فهي: القتل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) .
وعقوبة جريمة البغي هي: القتل كذلك؛ لقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه ستكون بعدي هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان) .
وهذه فضلاً عن أنها قولة كفر إلا أن الواحد منهم لو أنه رأى واحداً فوق امرأته، أو سرق ماله لأخرج سيفه، أو مسدسه من جيبه، وأطلق النار عليه، وربما يطلق النار على كل من ظن أنه قد سرق دون أن يتحقق من السارق.
فلماذا في هذا الموقف ليس عمله وحشياً، والذي أتى به الإسلام هو الوحشي، والله تبارك وتعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
(ولكم في القصاص) مع أنه الموت، فقد أثبت الله تبارك وتعالى أن فيه الحياة كل الحياة؛ لأن أحداً لو قتل أباك فأنت لا تقنع قط إلا أن تقتل من أسرة القاتل مائة شخص، أنت لا تقنع إلا بإبادة الأسرة وأصحاب القبيلة كلها، ولكن الله عز وجل لم يجعل ذلك لك، بينما جعله للحاكم بأن يأخذ القاتل أو القاتلة فقط فيقتله في مقابل قتله لوالدك.
فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن نقول: إن تنظيم أمور القصاص فيه توفير الحياة المستقرة الدائمة بين الناس، فمن قتل يقتل ولا يقتل غيره، ولذلك خاصة هذا الأمر يظهر في أن واحداً لو قتل آخر من أسرة أخرى لا يبحثون عن القاتل، وإنما يبحثون عن أعظم رجل في أسرة القاتل، عن أعظم رجل الذي إذا قتل أوجعهم وأضرهم،وهذا على خلاف قانون الله عز وجل؛ لأن القاتل هو الذي يقتل فقط.
فقول الله عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179].
لا بد وأننا نقتنع ونعتقد أننا لو صرنا بمنهج الله عز وجل لا بد وأن نحيا حياة كريمة، فلا يتصور أن يسكر فلان، وأن نعاقب فلاناً آخر، أو أن يزني فلان وأن يرد على زناه بزنا، فإن هذه فوضى، فهل يتصور أن رجلاً زنى بأخت رجل آخر، أو بأمه، أو بامرأته، فهل يقول: أنا لا أقتله، وإنما آخذ حقي بنفسي، وهو أني أزني بامرأته كما زنى بامرأتي، أو أزني بأمه كما زنى بأمي؟! هذه فوضى، وأما الإسلام فإنه جعل حداً لا يزيد ولا ينقص لمن وقع في مثل هذه الفاحشة، ومن وقع في مثل هذا الجرم، فوجب اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام في تلك الحدود، وهذه العقوبات بجانب كونها محققة للمصالح العامة، وحافظة للأمن العام، فهي عقوبات عادلة غاية العدل، إذ إن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها، وعدوان على الخلق والشرف والكرامة، ومقوض لنظام الأسرة والبيوت، ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات، وتذهب بكيان الأمة، ومع ذلك فقد احتاط الإسلام في إثبات هذه الجريمة فاشترط شروطاً لا يقام الحد إلا من خلالها.
وعلى أية حال: فإن الإسلام قد جعل حدوداً وتعزيرات وقصاصاً.
فأما القصاص فإنه حق الأفراد فإن شاءوا عفوا، وإن شاءوا أخذوا حقهم.
وأما التعزير فكل جرم ليس فيه حد ففيه التعزير.
فالفرق بين الحد والتعزير: أن الحد والتعزير كلاهما يتفقان في مسألتين، ويختلفان في سبع:
فالحد هو ما حده الله تعالى حداً معيناً دون زيادة ولا نقصان لجرم بعينه، بشروط معينة.
والتعزير: ما لم يتوافر فيه ذلك، إلا أن التعزير والحد يتفقان في مسألتين:
الأولى: أنهما عقوبتان شرعيتان يستند في إقامتهما إلى دليل شرعي.
فلو أن والداً أعطى ولده ديناراً ليشتري أشياء للبيت، فاشترى الولد لنفسه أشياء أخرى، فضربه الوالد ضربة أو ضربتين أو ثلاثاً، فنقول: إن الوالد هنا إنما يعزر ويؤدب ولده على تلك المخالفة، بخلاف ما لو أن هذا الولد أخذ من بيت الغير خمسمائة جنيه، أو ألف جنيه فإننا نقول في هذه الحالة: إن هذا لا يعزر، وإنما يحد، فقد وجب إقامته الحد عليه؛ لأنه سارق.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا حد في أقل من ربع دينار).
وفي رواية أنه قال: (حد السرقة في ربع دينار وما زاد).
والدينار والدرهم لغة المال في الكتاب والسنة، ويقصد بها: الذهب والفضة، فالذي يسرق ربع دينار ذهب -يعني: ما يقرب من مائة وأربعين جنيهاً، أو مائة وستين جنيها- فالذي يسرق هذا المبلغ لا بد- أنه قد استوجب حداً من حدود الله عز وجل، فلا يعزر، بخلاف الذي يسرق عشرة جنيهات فإنه يعزر ويؤدب ويلام ويؤنب بما يتناسب مع رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله.
أما الذي يسرق فوق حد النصاب، ويسرقه من حرز؛ لأن السرقة لها شروط، فلو أن رجلاً فتح الدرج وأخذ منه مالاً بلغ حد النصاب فإنه سارق، بخلاف من وجد مالاً في الطريق العام فالتقطه، وإن كان قد بلغ حد النصاب، فإنه لا يعد سارقاً، أي: أن اللقطة لها حكم، والسرقة لها حكم آخر.
وهنا نقول: إن الذي يلتقط هذا المال من الطريق العام إن كان هذا المال ذا قيمة فوجب على الملتقط أن يعرفه عاماً كاملاً في المكان الذي التقط فيه هذا المال، فإن ظهر صاحبه دفعه إليه، وإن لم يظهر صاحبه تملكه هو بشرط أن لو ظهر صاحبه بعد ذلك وجب رد المال إليه.
أما لو التقط رجل شيئاً يسرع إليه الفساد، حتى وإن بلغت قيمته النصاب؛ فإنه لا يلزمه الاحتفاظ بهذا الشيء؛ لأنه لو احتفظ به فسد، كمن وجد طعاماً، أو فاكهة يسرع إليها الخراب مع الوقت، فإننا لا نطالبه بالإبقاء والاحتفاظ بهذا الشيء عاماً كاملاً ليعرفه، ولكن نجيز لهذا الملتقط أن ينتفع بهذا المال، بل له أن يبيع هذا المال، وأن ينتفع بثمنه وبقيمته، فإن ظهر صاحبه فإما أن يشتري له مثل تلك البضاعة، وإما أن يدفع إليه المال الذي باع به تلك السلعة.
فهذا لا يقال عنه: سارق، وإنما السارق هو الذي يأخذ المال من حرز مغلق على هذا المال، يأخذه عنوة، يدخل المكان، ويأخذ المال ويهرب، فهذا الذي يقال عنه: سارق، فإن سرق أقل من النصاب استوجب التعزير، وإن سرق النصاب وما زاد استوجب الحد.
الشاهد من هذا: أنه لا يقام حد السرقة على كل من سرق، وإنما على من سرق مالاً بلغ النصاب، وسرقه من حرز، فيقام عليه الحد بهذين الشرطين، فالحد والتعزير إنما هما عقوبتان شرعيتان تستندان إلى دليل شرعي.
الوجه الثاني من أوجه الاتفاق بين الحد والتعزير: أنهما شرعا على سبيل الزجر، والتنكيل ورد العاصي الذي خرج عن سبيل الصراط المستقيم، وعن كتاب الله وسنة رسوله إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، ويعمل بتقوى الله عز وجل، فإنما شرع الحد والتعزير للتنكيل والزجر، ورد العاصي إلى الطاعة، ولذلك حد واحد يقام في الأرض خير للناس جميعاً من أن يمطروا -مع الجدب وشدة الفقر والحاجة- أربعين صباحاً.
فلو أن رجلاً وقع على امرأة أجنبية فزنى بها، فجيء به في ميدان عام، ونقل أمره وأذيع على الهواء، ونظرت إليه تلك الملايين المملينة هنا وهناك وهو يقام عليه الحد -حد الرجم، أو حد الجلد- فلابد وأنه يعطي ردة فعل عند كل من تسول له نفسه أن يزني.
فإقامة الحد إنما هي أكبر عامل على طهارة المجتمعات، وليست فوضى ولا وحشية، وإنما يضحي المجتمع بأسره بواحد للحفاظ على بقية المجتمع، ولذلك أنت لو نظرت كم عقوبة زنى أقامها النبي عليه الصلاة والسلام لوجدتها اثنتين فقط، في المرأة الغامدية وماعز الأسلمي .
وكم حالة حد للسرقة أقامها النبي عليه الصلاة والسلام؟ قيل: واحدة. وقيل: لا شيء؛ لأن الناس يخافون من إقامة الحد، ولا بأس بذلك؛ لأنني كما قلت: إذا كنت تدعي أن ذلك وحشية فلا بد وأن تنظر أن مالك معرض للسرقة.
فلو عطلت هذه الحدود فإن الواحد منا لا يأمن على نفسه ولا ماله، ولا أهله ولا أولاده في أي مكان؛ لأن الأمانة رفعت من الناس، فإن الواحد منا إذا كان يأخذ راتبه في آخر الشهر الذي شقي به ثلاثين يوماً لا يأمن أن يصل بهذا الراتب إلى بيته.
ولذلك تجد الناس في وقت قبضهم لرواتبهم واضعين الراتب في الجيب وواضعين أيديهم على جيوبهم خوفاً على الراتب؛ لأن الأمانة رفعت من كثير من الناس، فعندما يسعى الرجل ويشتغل الشهر كاملاً بهذا المرتب الذي لا يصلح أن يكون ثمناً لإيجار السكن فضلاً عن قيمة الطعام والشراب ومصروف المدارس والعلاج -الذي انتشرت بسببه الأمراض الكثيرة-، فهذا الراتب الذي تأخذه لا يكفي لهذه المتطلبات، فما بالك لو سرق هذا الراتب؟!
إن الله ما شرع هذه العقوبات إلا لزجر ورد العاصي إلى فطرته، حتى يعيش المجتمع كله في أمان وسلام وعافية.
وأما إذا لم يمت فوجب إتمام الحد عليه، ولا تأخذك الشفقة ولا الرأفة ولا الرحمة به، لماذا؟ لأنه لم يرحم نفسه، وهو الذي عرض نفسه لغضب الله عز وجل، كما أن الرحيم الرءوف هو الذي حد له ذلك، وأوجب عليه هذا العدد، فلا يجوز النقصان منه، ولا الزيادة فيه.
فحد الله تبارك وتعالى مقدر، ومحدد شرعاً دون زيادة ولا نقصان.
أما التعزير فعقوبته غير مقدرة شرعاً، وإنما تدور ما بين الواحد والعشرة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى)، أو كما في الحديث، يعني: لا يعزر بأكثر من عشر، فالعشرة إنما هي حد بين التعزير وبين الحد.
والواحد منا أحياناً ينقض على امرأته أو ولده فيضربه على وجهه -وهذه مخالفة أخرى- أكثر من عشر ضربات، فلو أنه راجع نفسه واتقى ربه، ووقف عند حده؛ لعلم أنه قد ضرب ولده بما يستوجب حداً دون أن يختلف الحد.
وهذا تعد وإجرام في الأولاد، ولذلك ينبغي ضبط النفس عند تربية الزوجة، وتربية الأولاد، وتربية العبيد؛ لأن الأب له أن يعزر ولده، والزوج له أن يعزر زوجه، والسيد له أن يعزر عبده، ولكن في الحدود التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وسمح بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز للرجل أن يزيد عما حدده الله وقدره.
ولذلك لا يلزم في التعزير أن تضرب العشرة، وإنما إذا انزجرت الزوجة بعصاً واحدة فلا يجوز ضربها الثانية، وإن انزجرت باثنتين لا يجوز ضربها الثالثة، وكذلك الولد والعم؛ فإن العقوبات إنما هي رادع بسيط ومبدئي لرد العاصي إلى فطرته، فإذا انزجر من أول التأديب فلا يجوز أبداً الزيادة فيه، وإذا انزجر من وسطه فلا يجوز التعدي، وإن لم ينزجر إلا بإتيان التعزير كاملاً وجب ضربه حتى التعزير كاملاً، وهو عشر ضربات.
وقد ترك الإسلام لولي الأمر ذلك، وولي الأمر سواءٌ كان الأب، أو الحاكم، أو الزوج، فقد ترك الإسلام لهؤلاء وهم ولاة الأمور تقدير حد التعزير دون أن يقرر لهم عدداً معيناً، ولكنه حد لهم عدداً معيناً لا يزيدون عنه، ولا يلزم من ذلك أن يأتوا إلى نهاية هذا الحد، وإنما الأمر كما قررنا آنفاً.
هذا هو الفارق الأول بين الحدود وبين التعزيرات.
وكان الناس في الجاهلية إذا زنت المرأة لكنها كانت شريفة في قومها، أو هي من أشراف القوم، أو من عليه القوم، وزنت امرأة أخرى ولكنها من سقط الناس ورعاع الناس، فيقيمون عليها الحد، ولا يقيمون الحد على تلك المرأة الشريفة.
فحد الله تعالى ثابت للشريف والوضيع، والحر والعبد، وعلى كل من استوجب الحد، فإن الذي وقع في جريمة السرقة، أو الزنا أو شرب الخمر أو غيرها، ما دام قد بلغ وجرى عليه القلم، وحتى الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا وقعوا في جريمة من هذه الجرائم فإنهم يستحقون الحد.
فالحدود ثابتة لا تتغير، ولا علاقة لها لا بالزمان، ولا بالمكان، ولا بالأشخاص.
كما لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة التي تستوجب الحد أو عدمها، فلو أن رجلاً سرق مائتي جنيه فقد بلغ نصاب حد السرقة، فيكون هو والذي يسرق الملايين سواء؛ لأنهما اشتركا في بلوغ حد نصاب السرقة في المسروق، فكذلك لا يختلف الحد باختلاف عظم المخالفة أو عدمها، نعم الذي يسرق مليون جنيه بخلاف الذي يسرق مائتين، ولكن شرع الله عز وجل أوجب الحد على كل منهما على مقدار واحد؛ لأنهما قد اشتركا في بلوغ حد النصاب في المسروق.
والذي يزني بأجنبية هذا جرم عظيم جداً، وأشد منه جرماً: أن يزني الرجل بإحدى محارمه، كالذي يزني بعمته، فهذا أشد جرماً ممن يزني بامرأة أجنبية، ولكن الشرع حدد عقوبة واحدة في الاثنين، لماذا؟ لأنه نظر إلى الفاحشة، ولم ينظر إلى المفعول بها؛ لأنها لو انتشرت لفسد المجتمع كله، ولذلك لا اعتبار أبداً بعظم المخالفة وعددها، وإنما العبرة ببلوغ العبد المعصية التي حدد الله عز وجل لها عقوبة مقررة.
أما التعزير فيختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل السفاهة والبذاءة، وهذا فرق بين التعزير وبين الحد، فلو أن رجلاً سرق مالاً لم يبلغ حد النصاب وكان رجلاً شريفاً مهذباً لم يعهد عليه ذلك قط، لكنه في لحظة ضعف تسلط عليه الشيطان وسرق خمسين جنيهاً فقط، فهي لم تبلغ نصاب حد السرقة، وهناك صنف آخر يفعل المعصية، وهو مدرك جيداً لمسألة الحدود والتعزيرات، ولكنه لا يمكن أن يسرق أكثر مما يستوجب تعزيره، فإن الحد يقام إذا كان المبلغ مائة وأربعين جنيهاً، فهو يقول: أنا ما سرقت إلا مائة، فيسرق من ذا مائة، ومن الثاني مائة، ومن الرابع مائة، حتى يعلم عند ولي الأمر أنه بذيء وفاحش وسفيه وسارق، لكن الحاكم لا يقيم عليه الحد؛ لأنه لم يبلغ الحد، فكل ما يسرق يضربه حد التعزير، يؤدبه ويعزره، إذا كان لا يقدر أن يقيم عليه الحد، فهل هذا كالشريف الذي وقع في زلة مرة؟
ولو أن ولي الأمر أتى بهذا الشريف، وقال له: عيب عليك يا رجل؛ أبوك شريف وأمك شريفة وأسرتك شريفة وهذا الفعل يصدر منك!
أول ما يسمع هذه الكلمات ربما يخر مغشياً عليه، فهذا يكفيه، ولا يلزم ضربه؛ لأن التعزير مقصود قد حصل بالتوبيخ، ومثل ذلك الزوجة إن أتت بالوعظ هل يجوز توبيخها؟ لا. وهكذا إذا لم تأت إلا بالتوبيخ لا يجوز ضربها، ولذلك الله تبارك وتعالى لما حدد لنا مراحل تأديب الزوجة وهو الخبير اللطيف سبحانه وتعالى بما خلق، وبمن خلق، فهناك زوجة لو أنك نظرت إليها تعرف ماذا عملت، وتذوب كما يذوب الملح في الماء، وأخرى مهما تنظر إليها تخرج لسانها ولا يهمها مهما نظرت.
فالأولى مهذبة، إنما يكفيك منها أن تنظر إليها ولا تؤذها بكلمة، ولا بتوبيخ ولا لوم ولا تقريع أبداً، لا يجوز لك هذا.
وهناك زوجة لو أنك أنت نمت ووجهت إليها ظهرك كأنك قتلتها، وهناك زوجة لا تستريح إلا حين تذهب هي إلى غرفة ثانية وتنام بعيدة عنك.
ونحن طبعاً رأينا في هذه الأيام التي لا تستريح إلا حين تذهب تنام في بيت أبيها، وفي الصباح تقوم أنت تنظف الأولاد وتؤكلهم وتشربهم وتوصلهم إلى المدرسة، وهي تأتي في الضحى أو في الظهر أو في العصر أو حين يرجع الأولاد من المدرسة.
فكل أسلوب ينفع في موطن لا يجوز التعدي والزيادة على هذا الأسلوب حتى في التعزير.
ولذلك يقول: التعزير يختلف باختلاف حال الناس، فتأديب ذوي الهيئات يختلف عن تأديب غيرهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم).
يعني: إذا وقع واحد صاحب وجاهة وسقط مرة، وليس من عادته السقوط، فلا يضغط عليه، ولا يفتن في دينه، والناس بشر، والبشر يخطئون ويصيبون، فمنهم من الأصل فيه الخطأ، ومنهم من الأصل فيه الصواب والاستقامة.
فإذا وقع أصحاب الاستقامة في الخطأ فاستروهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن ستر مسلماً على خزيه في الدنيا ستره الله عز وجل يوم القيامة).
كما يختلف التعزير باختلاف عظم المخالفة وعدمها، كمن يسرق مالاً دون النصاب بقليل، والثاني: يسرق دون النصاب بكثير.
فلو أن رجلاً سرق جنيهين، وجاء آخر فسرق ثلاثين جنيهاً، أو أربعين جنيهاً فهذا يستحق اللوم أو التعزير أكثر ممن سرق اثنين أو ثلاثة جنيهات.
ومن سب جاره يختلف عمن سب غير الجار؛ لأن الجار له حرمة أعظم من حرمة المسلم العادي، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام شدد وتوعد من زنى بحليلة جاره، مع أن الزنا كله قبيح، ولكنه أقبح في الجار؛ لأن الجار إذا ترك أهل بيته وانطلق إلى عمله إنما يعدك من أهل بيته، فتنقلب أنت عليه خائناً لعرضه، فهذا جرم عظيم جداً، ولذلك توعد النبي عليه الصلاة والسلام فيه ما لم يتوعد في غيره.
والمرأة المخزومية لما سرقت قالوا: لا نقيم عليها الحد؛ لأنها من أشراف الناس، فقالوا: بعد وصول الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام: لا بد من أحد يشفع لهذه المرأة عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: لا أحد إلا حِبه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان النبي عليه السلام يحبه جداً، وهو مولاه، فقالوا: إنه لا يقبل إلا من أسامة ، فأرسلوا أسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشفع في رفع الحد عن تلك المرأة المخزومية، فعاتب عليه السلام أسامة بن زيد ، وقال: (يا
فليست هناك شفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان، أما قبل ثبوت الحد فيجوز فيه الشفاعة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) .
يعني: فقد وجبت إقامته، أما إذا كان الحد قد بلغ السلطان فلا بد من إقامته، وإذا لم يبلغ السلطان فالناس فيما بينهم أحرار في أن يتنازلوا عن حقوقهم.
أما التعزير فتجوز فيه الشفاعة، ويجوز للحاكم أن يسقطه بالكلية إذا رأى أن في ذلك مصلحة لا تضر بحق آدمي، فإن كان ذلك له تعلق بحق الآدمي فلا يجوز إلا بإذنه.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء).
وتسن الشفاعة لتخفيف التعزير، أو بإسقاطه بما لا يضر بحق الغير، فإذا علم صدق توبة المسلم وتمزق قلبه على ما بدر منه فلا يجوز تعزيره مخافة فتنته.
يعني: لو رأينا واحداً في هذا الوقت في الشارع سكران، أليس السكران هذا له حد؟ له حد ربنا قرره، بعدما جلدناه أربعين جلدة وأفاق قال: ماذا حصل؟! قلنا: أنت كنت سكران، قال: كيف وطول عمري ما رأيت الخمر؟ وإنما شربت هذه الكوكاكولا من المحل الفلاني، ولما شربتها حصل لي الذي حصل، ولما سألنا صاحب المحل قال: والله أنا هكذا أتيت بها من الشركة، فلما رأينا الماء المتبقي في الزجاجة رأيناه فعلاً خمراً، فهذا الرجل ليس سكيراً، وإنما شرب الخمر على سبيل الخطأ حيث ظن هو أنه ماء، أو أنه بيبسي كولا أو شيء من هذا، فهذا الرجل مع جهالته بالمشروب وظنه أن هذا المشروب ليس خمراً، هل والحالة هذه يستوجب الحد؟
إذاً: لا بد في إقامة الحد من رفع الجهالة عن المحدود، ولذلك انظر أنت إلى ماعز الأسلمي لما (أتى إلى النبي عليه السلام فقال له: زنيت يا رسول الله، فأشاح عنه بوجهه، ثم أشاح أربع مرات، وهو في كل مرة يقول: زنيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لعل صاحبكم مجنون، قالوا: والله يا رسول الله ما عهدنا عليه جنوناً. قال: لعله سكر -يعني: ما وقع فيما وقع فيه إلا وهو سكران- فقال النبي عليه السلام: ادن مني. فلما دنا منه وضع فاه على فيه واستنكهه - شم رائحته - فما وجده سكران، قال: يا
فلا بد قبل إقامة الحد من توافر الشروط في المحدود وفي محل الحد، وفي كيفية الحد، فإذا لم تعلم هذه الشروط فلا يجوز إقامة حد على عبد من عباد الله.
ولو أن رجلاً أكره على شرب الخمر، هل يقام عليه الحد؟ الجواب: لا. لأن الإكراه يسقط الحد.
والجاهل والصبي الصغير الذي لم يبلغ والمجنون هل يقام عليهم الحد؟ الجواب: لا.
فمن أجل إقامة الحد لا بد من شروط يجب توافرها، وموانع يجب امتناعها.
ولذلك جعل الله عز وجل إقامة الحد بيد السلطان لا بيد غيره؛ لأن السلطان إنما يوكل علماء مجتهدين لإثبات الحد، فإذا ثبت الحد على المحدود - أي: على العاصي - من جهة النظر - أي: من جهة الشرع - فيوكل أمره بعد ذلك إلى الجهة التنفيذية لتقيم عليه الحد، ولذلك ليست حدود الله تبارك وتعالى تبعاً لنا، بل لا بد من إثباتها بالضوابط والقيود الشرعية، ولا بد أيضاً من انتفاء الموانع التي جعلها الشارع مانعة من إقامة الحد، أو إلحاق الحد بصاحبه، ولذلك جعل الحدود بيد الحاكم أو بيد الوالي أمر في غاية الأهمية، فلا يجوز لأحد قط أن يقيم الحد على مجرم ولا على عاصٍ، أبداً، حتى وإن كان عالماً؛ لأن الأصل في إقامة الحدود إنما هي للوالي، حتى وإن توافرت الشروط وانتفت الموانع فلا يجوز لك أبداً؛ لأن هذا ليس حقاً لك، والله تبارك وتعالى لم يكلفك بذلك، وإنما كلف غيرك.
فدع من كلفه الله تبارك وتعالى يتحمل هذه المسئولية، ولا تقحم نفسك فيما لم يكلفك الله عز وجل به.
ولذلك فإن من أعظم ما يستلزم به المجتمع المسلم: وضع الأمور في نصابها، وأن يقوم كل واحد بما أوجبه الله تبارك وتعالى عليه، وعدم تدخل الآخرين في أعمال أهل الولايات وأهل الاختصاص.
وقد ارتفعت إقامة الحدود من الأرض جميعاً، ولم يكن هناك إقامة حدود على منهج الله لا في هذا البلد ولا في غيره من بلاد المسلمين قاطبة، لا نستثني من ذلك بلداً واحداً، فليس للناس - والحالة هذه - إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يستغفروا من ذنبهم، وأن يكثروا من النوافل، وأن يحافظوا على الفرائض ولا يتساهلوا فيها، ومن كان ذا مال فليكثر من الصدقات، ومن بذل المال لله عز وجل، وعلى العاصي أن يتوب، ويتقطع قلبه حسرة وندماً على إساءته، ويعزم على ألا يعود لمثلها أبداً.
فلا يجوز للعبد العاصي - والحالة هذه - إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، لا يأذن لأحد غير الوالي أن يقيم عليه الحد؛ لأن هذا بخلاف ما أمر الله تعالى به، وكذلك هو لا يجوز له أن يقيم الحد على نفسه؛ لأنه من باب الانتحار، فإن الحد لا ينفذ إلا بيد الحاكم، بخلاف التعزير، فإن الشارع إنما جعله للحاكم ولغيره.
أما التعزير فإنه يثبت بالإقرار والبينة، وبشهادة شهود، بل وببعض القرائن.
فمجال إثبات التعزيرات أوسع من مجال إثبات الحدود، الحدود ضيقة، فإثبات الحدود إما بأن يأتي الرجل فيقر على نفسه، وإما ببينة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، أما غير هذا فإن الحدود تدرء بالشبهات كما قال عمر وغيره، وهو حديث لكنه ضعيف مرفوعاً.
فأقل شبهة يسقط فيها الحد، ولذلك جيء برجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزعموا أنه قد لاط بطفل، وجاء أربعة يشهدون عند أمير المؤمنين، فقال الأول: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، وقال الثاني: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، وقال الثالث: رأيته يزني يا أمير المؤمنين، فلما جيء بالرابع قال له أمير المؤمنين: اتق الله يا فلان ولا تشهد إلا بما رأت عيناك، فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما رأيت إلا شراً، قال: وما رأيت؟ قال: رأيته وذاك الغلام قد التحفا بلحاف ورأيته يرتفع وينخفض، والله ما رأت عيناي غير ذلك، فقال أمير المؤمنين: الله أكبر! الحمد لله الذي أسقط عنه الحد بهذه الشبهة.
فانظروا أيها الإخوة الكرام! فإن أعراض الناس وأبدان الناس، وأرواح الناس ليست هدراً، فلا بد من وضع الأمور في نصابها، وعدم التعدي على حرمات الناس، حتى وإن كانوا كفاراً، ولذلك ضيق المولى عز وجل دائرة الإثبات في الحدود، فجعلها بإقرار المسلم العاصي، أو ببينة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: أطع أمك يا أخي الكريم، فإن هذا الصيام سنة من السنن وأنت مأجور في الحالتين، فكونك أقبلت على طاعة أمك وتركت هذه السنة؛ فإن الله عز وجل يأجرك عليها بنيتك، كما قال النبي عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات) .
فأنت مأجور في هذا؛ لأن الذي يمنعك إنما هو برك لأمك.
الجواب: هو من أنواع الزنا، والنبي عليه السلام يقول: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدركه لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي إلى ما حرم الله) وغير ذلك من الجوارح، والفم منها.
فإذا كانت النظرة هي طريق وبريد إلى الزنا، فما بالك بمن تخطى هذه المرحلة ووصل إلى المرأة حتى يقبلها؟! فإن ذلك شر مستطير، ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه.
فعلى أية حال على من وقع في ذنب من الذنوب، أو عصى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع المعاصي خاصة الفاحشة، سواءٌ كان ذلك بآدمي، أو بحيوان؛ فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يندم على ما مضى، وما فرط في جنب الله، وأن يتوب إلى الله توبة صادقة مخلصة.
الجواب: لا.
الجواب: قد ورد عن أهل العلم هيئات مختلفة، أقوى الهيئات: أن العضد لا يفارق الجانب.
الجواب: نعم. كما في الحديث: (البكر بالبكر ...).
الجواب: الحديث محل نزاع بين المحدثين، فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه.
الجواب: على الرجل من باب القوامة أن ينفق على بيته، سواءٌ في إعداده وتحضيره للزواج، والإنفاق عليه بعد البناء، وأن الزوجة لا تتكلف شيئاً في تأثيث البيت، ولكن إن تكلفت أو تكلف لها أبوها كما تكلف النبي عليه السلام لإعداد فاطمة لـعلي رضي الله عنه فلا بأس بذلك، وهذا أمر لا يخدش في الكرامة ولا المروءة، وإنما الأصل الأصيل: أن الرجل هو الذي يتكلف تأثيث البيت.
الجواب: نعم يجوز؛ لأنها محرمة عليك على التأبيد، حتى لو أنك طلقت هذه المرأة أو ماتت لا يجوز لك أبداً أن تتزوج أمها من بعدها.
الجواب: نعم.
الجواب: في الحقيقة: الإسلام لا يعرف لغة السجن، وإنما يعرف لغة التغريب، والتغريب للتأديب والزجر، وفي الغالب أن هذا التغريب يكون تعزيراً ولا يكون حداً إلا ما سمعتموه في حد الزنا، ولكن غالب النصوص التي ورد فيها التغريب إنما كان ذلك على سبيل التعزير، سواءٌ كان له في ذلك ذنب، أو لا، كما عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الغلام الجميل الذي لما طال شعره فتنت به النساء، فلما حلق ازداد جمالاً، فغربه، وإنما غربه لمصلحة شرعية، وهي: أن لا تقع الفاحشة في مجتمع المدينة.
الجواب: على أية حال يذهب إليه الناس ويصلون عليه، ويعزون أهله في مصابهم.
أما الرجل الذي يشار إليه بالبنان فلا يذهب، ولا يصلي عليه من باب الزجر والتوبيخ لمن يمكن أن تسول له نفسه في المستقبل أن يفعل فعله هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يصلي على أصحاب الكبائر، وكان أحياناً يدع الصلاة.
كان قد ترك الصلاة على ماعز وصلى على المرأة الغامدية، وكلاهما وقعا في الحد، وكلاهما جريمته واحدة وهي: الزنا.
والنبي عليه السلام ترك الصلاة على ماعز من باب زجر بعض الناس الذين كانوا يحضرون هذا المشهد، وصلى النبي عليه السلام على المرأة الغامدية بخلو الحاضرين من ذلك، أو لقيامهم على السلامة والستر والعافية.
ولذلك أهل العلم يقولون: لا ينبغي لواحد يشار إليه بالبنان أن يتعامل برحمة مع أهل المعاصي، حتى يكون في ذلك أكبر زاجر وواعظ لأمثاله أن ينتهوا عن المعاصي، فلو أن رجلاً ترك الصلاة، ولما مات قال الناس: تعالوا نصلي عليه، فعلى هذا الرجل الذي يشار إليه بالبنان أن يقول: أنا لا أصلي على تارك للصلاة؛ لأن النبي عليه السلام يقول: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
الجواب: هذا حديث موضوع قد حكم عليه أهل العلم بالوضع.
الجواب: لا حد يقام الآن، نحن قلنا: الحدود مرفوعة يا إخواني، الحدود مرفوعة، أما لو أن واحداً ارتكب حد السكر وحد القتل، فأي الحدين يقام عليه؟ يقام عليه أعظم الحدين وهو القتل؛ لأن القتل يتضمن الأقل منه والأدنى منه.
الجواب: أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا وعليكم بمزيد إيمان.
والطريق الأمثل في زيادة الإيمان إنما هو طلب العلم، والمحافظة على الصلوات في جماعة، وكثرة قراءة القرآن، وعليك أن تصاحب إخوانك الصالحين حتى يذكروك بالله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر