يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لا زال الكلام عن أصول وخصائص أهل السنة والجماعة موصولاً، ومن تلك الأصول: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، فلما لم يأخذ منه اليمين، ولم يقطع منه الوتين تبين أنه لم يتقول على ربه بالزيادة ولا بالنقصان.
وقال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7]، وهذا الاستثناء يدل على أن النسيان هو الترك، ومنه النسخ، فيكون المعنى: سنقرئك يا محمد! أي: سنتلو عليك الكتاب فلا تتركن منه شيئاً إلا ما أمرناك بتركه تلاوة أو حكماً، فالاستثناء لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ينسى شيئاً من الوحي؛ لأن أصابع الكفار لا تزال تعمل عملها في الأمة، وأصابع الملاحدة وأفكار الملاحدة لا تزال تلعب في رءوس وأدمغة شباب الأمة، ولما تكلمت في الدرس الماضي منذ شهر عن عصمة الأنبياء وأثبتنا بفضل الله أنهم معصومون في تلقي الوحي وتبليغه، كما أنهم معصومون من الكبائر، اختلط على كثير من الشباب، فهاتفوني وسألوني مشافهة ما قصة الغرانيق التي تفيد بظاهر لفظها أن النبي عليه الصلاة والسلام وقع في شرك صريح مع الله عز وجل، فأحببت أن أذكر هذه الشبهة في هذا اليوم على جهة الخصوص، وإن كانت هناك شبهات كثيرة؛ لكن هذه أعظم شبهة، ولذلك استحسنت جداً طرحها والسؤال عنها لإزالة الإشكال فيها وبيان أمرها، وإثبات براءة صفحة النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب مما سمي في السنة بقصة الغرانيق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقسم الله تبارك وتعالى على عصمته بعظيم من عظائم مخلوقاته فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].. وغير ذلك من الآيات التي أفادت عصمته عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى أراد أن يبرئ نبيه عن أن يكون زاد في القرآن شيئاً أو نقص منه، فقال: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء:73]، حاول المشركون فتنة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى يدخل في القرآن أو يتقول على الله عز وجل ما لم يقله وما لم يأمره به: وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء:73] أي: لو أنك فعلت ذلك يا محمد! لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ، ولما لم يتخذوه خليلاً دل على أنه لم يفتر على الله عز وجل الكذب، والله تعالى يمتن على نبيه فيقول: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]، فلما لم يركن إليهم شيئاً قليلاً، ومن باب أولى لم يركن إليهم شيئاً كثيراً؛ دل هذا على أن الله تعالى هو الذي ثبته وعصمه: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:75]، فلما لم يكن ذلك؛ دل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتقول على ربه بحرف واحد زائد، ولم ينس شيئاً من الوحي تلقياً أو بلاغاً.
والله تعالى كذلك أثنى على نبيه فقال: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، يا محمد! ائتنا بقرآن غير القرآن الذي تأتينا به واقرأه على مسامعنا، أو بدل كلام الله عز وجل وحرفه وأوله، ثم قال الله تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16]، ألستم الذين قلتم: إنني صادق وإنني مصدوق أَفَلا تَعْقِلُونَ إذا كنت لا أكذب عليكم فمن باب أولى ألا أكذب ولا أفتري على الله عز وجل، وهذا باب عظيم جداً من أبواب العصمة؛ لأنه لو ثبت جدلاً أو عقلاً أن الشيطان يوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فيتبع وحي شيطان؛ لكان لزاماً أن نقول: إنه لا وثوق قط بشرع قليله ولا كثيره، فالله عز وجل عصم نبيه أن يوحي إليه الشيطان؛ حفاظاً على الوثوق بالشريعة والعقيدة والسلوك والأخلاق، وإلا لكان الأمر في غاية الضنك والمشقة، ولعاش الناس في تيه إلى قيام الساعة، ولذلك عافى الله تبارك وتعالى الخلق من ذلك بعصمة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ [يونس:17-18] أي: عن الأصنام؛ عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].
قال الله تعالى في سورة النجم في بيان قصة الغرانيق: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى [النجم:19-21]، يخاطب الله تعالى المشركين: أتجعلون لله تبارك وتعالى الأنثى وتجعلون لكم الذكور؟ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22] قسمة جائرة فاسدة أن تجعلوا لكم الذكور ولله تعالى الإناث، قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:23-26]، إذا كان هذا في شأن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكيف بشفاعة أصنام وأوثان صنعتها أيدي المخلوقين، فعبدوها من دون الله عز وجل؟ كيف يكون لها الشفاعة وهي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها نفعاً ولا ضراً؟ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:27-28]، ثم ينبه الله تعالى نبيه بالإعراض عن هذا المعتقد الفاسد والطغيان والبغي، فقال سبحانه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم:29-30].
هذه الآيات لما نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام تلاها في ناد من نوادي المشركين. قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، فزعموا أن الشيطان أوحى على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن تلا هاتين الآيتين: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فيزعمون أنهم سمعوا هذا من النبي عليه الصلاة والسلام.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20] تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى؛ يزعمون أنهم سمعوا هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس الأمر كذلك؛ وأنه لما سمع بهذا النبي عليه الصلاة والسلام شق عليه ذلك، وبلغت المشقة مبلغها في نفسه عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تبارك وتعالى آياته في سورة الحج التي مطلعها: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ [الحج:52-55] أي في شك: مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج:55-57].
هذه الآيات من سورة النجم وسورة الحج قضت قضاء مبرماً على قصة الغرانيق التي افتراها الشيطان على ألسنة المشركين.
إن التمني يمكن أن يكون بالقلب كأن تقول: تمنيت على الله كذا وكذا، ولكن التمني في هذه الآية بمعنى: التلاوة والقراءة والذكر، فيكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ كتاب الله المنزل إليه ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس منها، هذا التقدير.
والدليل على ذلك: أن العرب تستخدم لفظ التمني بمعنى القراءة، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه لما قتل القتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يذكر الله ويقرأ القرآن:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
(تمنى كتاب الله) أي: تلا كتاب الله من (أول ليلة)، حتى إذا بلغ آخر الليل قام عليه القتلة فقتلوه، فتلقى حمام قدره رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ ولذلك ينقل غير واحد عن أكثر المفسرين والمحققين أن التمني بمعنى: القراءة والتلاوة، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة، فقال في إغاثة اللهفان: والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا النبي عليه الصلاة والسلام ألقى الشيطان في تلاوته، وكذلك قال القرطبي في تفسيره العظيم وهو أحكام القرآن.
فتأويل كلامه في هذه الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدث ألقى الشيطان في تلاوته، فينسخ الله عز وجل ما ألقاه الشيطان في تلاوة ذلك النبي ويبطله. هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة، وبالتالي لا أظن أنه قد بقي فيها إشكال؛ لأن الإشكال كما في صدور الإخوة وعقولهم أنهم حملوا التمني على تمني القلب، وإذا عرفت أن التمني هو التلاوة وأن الله تبارك وتعالى أبطل ما ألقاه الشيطان في تلاوة النبي، وأحكم الله تعالى آياته بغير زيادة ولا نقصان زالت الشبهة بإذن الله تعالى.
ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق وترصدوا له عند كل مرصد، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه، ولم يقله رسوله عليه الصلاة والسلام، فذكروا ما ستراه في الروايات مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وذلك ديدنهم منذ القديم، كما فعلوا في غيرما آية وردت على ألسنة الرسل والأنبياء السابقين، كداود وسليمان ويوسف عليهم السلام، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلاً عن نبي مكرم، كما هو مبين في محله من كتب التفسير والقصص، وإن شئت فقل: من كتب الإسرائيليات والضلالات كما في كتاب التلمود والإنجيل والتوراة المحرفة.
ثم جاء في رواية أخرى: (أنه جاء جبريل بعد ذلك فقال: يا محمد! اعرض علي ما جئتك به، فلما بلغ أي في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، قال جبريل: لم آتك بهذا. هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52]... الآيات)، فهذه رواية سعيد بن جبير.
وفي رواية: لما أنزل الله سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه على ما هم عليه، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا، أي: يعيب آلهتنا بما لا يعيب بمقداره ونسبته دين اليهود والنصارى، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يسب آلهتهم ويشتمها.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنته ضلالتهم، فكان يتمنى كف أذاهم، وعند ابن كثير : يتمنى هدايتهم، فلما أنزل الله سورة النجم، قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20] ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلقت بها ألسنتهم وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالنَّجْمِ [النجم:1] سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة عند المهاجرة الأول، فأنزل الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [الحج:52].. الآيات، فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم على المسلمين مرة أخرى، واشتدوا عليهم أكثر من شدتهم أولاً.
قالا: ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد إليه، وكان شيخاً كبيراً كافراً، فمس التراب جبهته مخافة أن تنزل صاعقة من السماء فتجتاح الجميع، فخاف من ذلك، خاصة وأن الله تعالى بين في هذه السورة أنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، فخافوا ألا يسجدوا أن تنزل عليهم صاعقة من السماء فتهلكهم، فسجدوا جميعاً إلا الوليد بن المغيرة ، رفع حصى أو تراباً، وقيل: كذلك فعل ابن أحيحة، ومنهم من يقول: بل الذي فعل ذلك فقط الوليد بن المغيرة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقاهما الشيطان عليه قال -أي جبريل-: ما جئتك بهذا، اعرض علي. قال: ما جئتك بهاتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل! فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء:73] إلى قوله: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:75] فما زال مغموماً مهموماً حتى نزل قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52].. الآيات، فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم؛ لأنهم سجدوا فظنوا أن هذا السجود إسلام، خاصة أن الشيطان أوحى إليهم هذا حتى سار الخبر إلى أرض الحبشة، ففرح بذلك المهاجرون الأول الذين هاجروا إلى النجاشي في أرض الحبشة، وقالوا: إذا كان أهل مكة جميعاً أسلموا فما قيمة بقائنا في أرض الحبشة؟ فرجعوا إلى مكة، فإذا بالمشركين قد رجعوا إلى ما كانوا عليه من عناد وشرك وإلحاد وكفر، حيث رجع المهاجرة إلى عشائرهم وقالوا: هو أحب إلينا -أي: البقاء في مكة أحب إلينا من البقاء في الحبشة- فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان.
وفي رواية: فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاغوا له -أي: فاستمعوا له بإنصات شديد- والمؤمنون يصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربه، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل؛ لأنه معصوم من ذلك.
قال قتادة : لما ألقى الشيطان ما ألقى قال المشركون: قد ذكر الله آلهتكم بخير، ففرحوا بذلك، فذكر الله تعالى قوله: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:53].
وفي رواية: بينما رسول عليه الصلاة والسلام يصلي عند المقام. أي: عند مقام إبراهيم. وانظروا إلى اختلاف هذه الروايات: مرة وهو يصلي، ومرة وهو ساه، ومرة على لسانه وهو متيقظ، وغير ذلك من اختلاف الروايات التي تدل على بطلان القصة من أساسها.
فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم بها وتعلق بها المشركون، فقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20] حتى ألقى الشيطان على لسانه: وإن شفاعتهن لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون، وأخبرهم الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52].. الآيات، فدحض الله الشيطان ولقن نبيه حجته.
وفي رواية: لما عاتبه جبريل قال عليه الصلاة والسلام: (أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه وشركني في أمر الله..) وغير ذلك من كلمات الندم التي قالها النبي عليه الصلاة والسلام.
وغير ذلك أيها الإخوة الكرام! من روايات هذه القصة العجيبة وهي كثيرة.
مفاد هذه الروايات: أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحك عليه إبليس اللعين بأن أدخل في القرآن ما ليس منه، وأن النبي عليه الصلاة والسلام استجاب له في ذلك وأدخل في القرآن كذلك ما ليس منه.
فأقول: إن الحافظ ابن حجر جانبه الصواب ورد عليه غير واحد من أئمة العلم بخطئه في ذلك؛ ليثبت الحافظ ابن حجر أنه بشر، وأنه ليس أحد معصوماً إلا الأنبياء والمرسلون، فانظر يا أخي الكريم! حتى لا تغتر بكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد، فما الذي دعا الحافظ ابن حجر أن يقول بثبوت هذه الرواية وصحتها؟
قال: إن كثرة هذه الطرق وضم بعضها إلى بعض يعطي ويشعر أن لهذه الرواية أصلاً، فرد عليه غير واحد بأن انضمام الطرق وكثرتها ليست على الإطلاق يقوي بعضها بعضاً، بل إذا رويت هذه الطرق من طريق الكذابين والوضاعين والمفترين والملاحدة فإنها لا تزيد الرواية إلا ضعفاً ورداً، وإني لأعتقد أن المقام لا يسمح بذكر علل كل إسناد من هذه الأسانيد، ولكن أقول كلاماً عاماً: إن كل رواية من هذه الروايات اشتملت على كذاب أو وضاع أو مفتر أو ملحد أو غير ذلك ممن هو مطعون عليه في دينه وروايته، فإن بلغت روايات هذه القصة مائة طريق فإنها لا تزيد القصة إلا رداً وفساداً وبطلاناً. هذا من جهة الإسناد.
أما من جهة المتون فقد وقع فيها اضطراب عظيم في سياقاتها، فمعظم الروايات أو جلها أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، وفي بعض الروايات: أن المؤمنين مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ أو وهم، وهذا يدل على أن المؤمنين قبلوا من النبي عليه الصلاة والسلام الشرك الذي جاء به، بعد أن علمهم التوحيد وعلمهم أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تشفع لعابديها عند الله عز وجل، فهو صلى الله عليه وسلم نقض كلامه هذا وأثبت أن لها شفاعات ولم يتكلم واحد من المؤمنين.
وفي رواية: أن النبي عليه الصلاة والسلام بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان حتى قال له جبريل: معاذ الله لم آتك بهذا، هذا من الشيطان.
وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام سها حتى قال ذلك، فلو كان كذلك أفلا ينتبه لسهوه عليه الصلاة والسلام حتى ينبهه جبريل عليه السلام؟
وفي رواية: أن ذلك ألقي عليه وهو يصلي، وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام تمنى ألا ينزل عليه شيء من الوحي يعيب آلهة المشركين لئلا ينفروا عنه، وانظر مقام النبوة كيف يتفق مع هذا؟!
وفي رواية: عندما أنزل جبريل ذلك عليه قال عليه الصلاة والسلام: (افتريت على الله وقلت على الله ما لم أقل وشركني الشيطان في أمر الله) فهذه طامات وبلاوي يجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم منها، لاسيما هذا الأخير، فإنه لو كان صحيحاً لصدق فيه عليه الصلاة والسلام قول الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، فلما لم يكن ذلك تبين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتمن بقلبه ألا يعيب الله تعالى آلهة المشركين، خاصة وأن المشركين قد عملوا على مدار العهد المكي على محاربة النبي عليه الصلاة والسلام بسبب سبه وتنقصه لآلهتهم.
ففي هذه الاحتمالات كلها لا يمكن أن تطمئن النفس لقبول أحاديث هؤلاء الذين رووا قصة الغرانيق، ولاسيما في مثل هذا الحديث العظيم الذي يمس المقام الكريم؛ فلا جرم في تتابع العلماء على إنكار هذه القصة، بل التنديد ببطلانها والرد على الحافظ ابن حجر في إثباتها، كما قال الفخر الرازي في تفسيره: روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة، وأنتم تعلمون أيها الإخوة الكرام! أن الرواية لا تقبل إلا إذا كانت من طريق الثقات العدول، وهذه القصة من رواية الزنادقة والملاحدة فكيف تقبل؟
وصنف فخر الدين الرازي كتاباً خاصاً بهذه القضية، أسماه: (عصمة الأنبياء) وذكر فيه هذه القصة، كما جاء ذلك في تفسيره، وقال الإمام البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وأخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم كل راو على حدة بكلام طويل لا يتسع له هذا المقام.
وقد روى البخاري في صحيحه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم، وسجد، وسجد فيها المشركون والمسلمون والإنس والجن) وليس فيها حديث الغرانيق، وربما يكون هنا شبهة فنجليها بإذن الله تعالى.
ومن الذين أنكروا هذه القصة كذلك ابن العربي رحمه الله في تفسيره أحكام القرآن، وكذلك القاضي عياض بن موسى في كتابه: (الشفا في حقوق المصطفى) عليه الصلاة والسلام، وكذلك أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (أحكام القرآن)، وكذلك الإمام الكرماني شارح صحيح البخاري أنكر هذه القصة.
ومن هذا نفهم أن إنكار أهل العلم قد بلغ الحافظ ابن حجر ، ومع هذا ذهب مذهباً آخر غير مذهب جماهير أهل العلم، فهو مخطئ في ذلك بلا شك؛ لأنه هو الذي نقل كلام الكرماني في فتح الباري، وكذلك بدر الدين العيني في كتابه العظيم: (عمدة القاري شرع صحيح البخاري )، وكذلك الإمام الشوكاني عليه رحمة الله في تفسيره: (فتح القدير) وكذلك شهاب الدين الألوسي في كتابه العظيم في تفسير القرآن واسمه روح المعاني، وكذلك صديق حسن خان أبو الطيب في تفسيره: (فتح البيان)، وكذلك محمد عبده الأزهري رحمه الله قال كلاماً ممتعاً جداً في الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام وإثبات هذه القصة، رغم أن محمد عبده لا علاقة له بالروايات ولا بالأسانيد ولا بعلم الجرح والتعديل، ولكنه انتقد الرواية من جهة المعنى لا من جهة الإسناد.
فالرواية لا تثبت لا من جهة الإسناد تارة، ولا من جهة المعنى تارة أخرى.
المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه فإنه يخلق له العلم حتى يتحقق أن هذا هو جبريل، فلا يكاد ينصرف جبريل إلا وقد علم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا جبريل، وهذا يتنافى مع ذكر القصة أنه سها، وأنه ما عرف وما عقل وما أدرك أن هذا من الشيطان حتى نزل جبريل مرة أخرى ليثبت أنه لم يوح إليه بذلك، وأخبره أن ذلك من الشيطان. فالمقام الأول: أن الله تعالى يخلق في قلب النبي علماً يستبين به أن المحدث معه هو جبريل عليه السلام.
المقام الثاني: أن الله قد عصم نبيه من الكفر، وأمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه، وإطباقهم عليه; فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله، أو يشك فيه طرفة عين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه; بل لا تجوز عليه -عليه الصلاة والسلام- المعاصي في الأفعال فضلاً عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد; بل هو المنزه عن ذلك فعلاً واعتقاداً، إذا ثبتت عصمته في هذا الباب فإن من قال بغيره فقد كفر بالله العظيم.
المقام الثالث: أن الله قد عرف رسوله بنفسه، وبصره بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرفه سنن من كان قبله من إخوته، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه نحن اليوم، ونحن حثالة أمته; ومع هذا نعرف أن هذا من الشيطان، وأن هذا من الرحمن، فكيف خفي على نبيه عليه الصلاة والسلام.
المقام الرابع: تأملوا -فتح الله أغلاق النظر عنكم- إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم هم أعداء على الإسلام، ممن صرح بعداوته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل عليه من الله وحي، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة من عقل أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد ألا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه، وأنس وحشته، وغاية أمنيته، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أجود الناس; فإذا جاء جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فيؤثر على هذا مجالسة الأعداء! أكل هذا الخير في نزول الوحي يتمنى النبي عليه السلام ألا يكون شيء من ذلك، ويريد ويتمنى أن يأنس بالجلوس مع المشركين -وهم أعداؤه- في ناديهم الذي يأتون فيه المنكر؟! الجواب: لا.
المقام الخامس: أن قول الشيطان: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم قبله منه; فالتبس عليه الشيطان بالملك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرق بينهما، ثم يقول ابن العربي : وأنا من أدنى المؤمنين منزلة يرفع الله شأنه، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له وآتاني من علمه لا يخفى علي -أي: لا يخفى علي مثل هذا الباطل، فكيف خفي على النبي عليه الصلاة والسلام؟- أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قاله أحد لكم لتبادر الكل إليه بالتكفير والتفسيق والتبديع والنفاق قبل أن يتم كلامه، فضلاً عن أن يجهل النبي عليه الصلاة والسلام حال القول، ويخفى عليه قوله، ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن ترتجى، وقد علم علماً ضرورياً أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولا تنطق ولا تنفع أصحابها، بهذا كان يأتيه جبريل في الصباح والمساء، فكيف يخفى عليه كل هذا في لحظة واحدة؟ ويتلو هذا حتى نزل قول الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء:73].
المقام السادس: قول الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا ، أي: قاربوا لكنهم لم يكونوا كمن فعل، لكنهم قاربوا بكثرة إلحاحهم وعنادهم ومحاربتهم للنبي عليه الصلاة والسلام حتى كاد يفتن، لكنه لم يكن منه ذلك.
المقام السابع: قول الله تعالى: لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ فلما لم يفتر على الله تعالى، ولم يخبر عنه إلا ما أنزل لم يتخذوه خليلاً.
المقام الثامن: قول الله تعالى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]; ولو كان ذلك منك يا محمد! لا تجد لك من الله تبارك وتعالى نصيراً كما أخبر الله تعالى في الآية، فلما كان الله تعالى هو نصيره وهو مؤيده ومسدده دل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يركن إليهم شيئاً قليلاً. كل هذه الآيات إنما أفادت العصمة.
إذاً: فما هي حكاية هذه الغرانيق إذا كانت غير ثابتة من جهة السند، كذلك المعنى غير مقبول بل هو في غاية النكارة والشذوذ؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.
قصة هذه الآية أيها الإخوة الكرام! أن إبليس اللعين قعد في هذا النادي مع النبي عليه الصلاة والسلام ومع المشركين والمسلمين، والأمر كما قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، إنه يراكم هو وقبيله، أي: هو وأبناؤه ونسله، وإنكم لا ترونهم، فلما تلا النبي عليه الصلاة والسلام هاتين الآيتين: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، تمثل اللعين إبليس صوت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فسمعها المشركون دون المسلمين، فعصم الله تبارك وتعالى منها المؤمنين والموحدين، فلما نطق إبليس اللعين بهاتين الآيتين المفتريتين على الله عز وجل وعلى رسوله بنغمة صوت النبي عليه الصلاة والسلام ظن المشركون الذين لا يرون إبليس في هذا الموطن أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي نطق بهاتين الآيتين؛ ففرحوا لذلك فرحاً شديداً وأقبلوا يصغون إليه عليه الصلاة والسلام حتى ختم السورة كلها، وفي آخرها سجدة -إلا عند مالك فإنه لا يسجد عندها- فسجد النبي عليه الصلاة والسلام وسجد معه المشركون والمسلمون جميعاً.
وأصل هذه الرواية عند البخاري في صحيحه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم، فسجد في آخرها وسجد معه الناس) أي: المسلمون والمشركون، وقد يقول قائل: لماذا سجد المسلمون والمشركون كذلك؟
الجواب: أما سجود المسلمين فإنه لا إشكال فيه؛ لأن آيات السجدة في القرآن الكريم السجود فيها مستحب ومندوب وليس واجباً، ولذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه آية سجدة في كتاب الله، فسجد على المنبر، وسجد معه المسلمون، وفي الجمعة التي تلتها قرأ سجدة في القرآن فتهيأ الناس للسجود، فقال عمر رضي الله عنه: على رسلكم. فإن الله لم يفرضها عليكم، للدلالة على أن سجود التلاوة مستحب وليس واجباً، ولا يشترط فيه طهارة ولا استقبال قبلة ولا له تكبير ولا نزول ولا سجود، كسجدة الشكر لا يشترط فيها طهارة ولا استقبال قبلة ولا تكبير ولا نزول ولا سجود.
أما المشركون فإنهم سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه السورة ووصل إلى آخرها، وذلك لأنه يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم أو خوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم:50-54].. إلى آخر آيات سورة النجم، فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، واستشعروا أنهم إن لم يسجدوا مع النبي عليه الصلاة والسلام تنزل عليهم صاعقة من السماء فتجتاحهم وتستأصل شأفتهم، فخافوا من ذلك خاصة وأنهم قد رءوا عقوبة الجاحدين والمنكرين للرسالة والرسل والنبوة والنبوات التي جاءت من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، فأرادوا أن يفلتوا بجلودهم ودمائهم من هذا النازل، فما كان لهم إلا أن يسجدوا؛ لبيان الذلة والاحتقار لما هم عليه من عناد وجحود وكفر وإنكار، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه عليه الصلاة والسلام، وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير، وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود أن سجودهم -وإن لم يكن عن إيمان- كاف في دفع ما توهموه من العذاب، ولا يستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، فقد نزلت سورة: حم [السجدة:1] بعد ذلك، كما جاء مصرحاً به في حديث عن ابن عباس ، ذكره السيوطي في أول كتاب: (الإتقان في علوم القرآن) قال: فلما سمع عتبة بن ربيعة قول الله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، أي: فإن أعرضوا عنك يا محمد! فإني قد أنذرتهم صاعقة تنزل عليهم تماماً مثل الصاعقة التي نزلت على عاد وثمود، فلما قرأ النبي عليه الصلاة والسلام آية السجدة خافوا أن يمثل بهم كما مثل بسلفهم، فسجد عتبة بن ربيعة ، ولما سجد خشي أن يقول المشركون عنه إنه صبأ وإنه خرج عن دينهم، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يكفه عن القراءة وعن التلاوة ويناشده الرحم، واعتذر لقومه حين ظنوا أنه صبأ، وقال: كيف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب.
عتبة بن ربيعة من زعماء الشرك يقول: إن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فإذا كان الكذب محالاً عليه في مخاطبة البشر، فأكثر استحالة -بل مقطوع يقيناً- أنه يكذب على الله تعالى.
وقال عتبة بن ربيعة للمشركين: إنما أسكته مخافة أن ينزل عليكم العذاب، وهذه القصة قد أخرجها البيهقي في كتاب دلائل النبوة، وكذا ابن عساكر من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما.
أخلص من هذا أيها الإخوة الكرام! أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم في تلقي الوحي وفي تبليغه إلى الناس، لا يتلقى شيئاً زائداً ولا ناقصاً، كما أنه أمين على تبليغ وحيه إلى المؤمنين والموحدين من أصحابه، وهذا إجماع لا يحل لأحد الفكاك عنه، ومن ظن غير ذلك أو شك فيه أو ارتاب فقد خلع ربقة الإيمان والإسلام بالكلية من عنقه.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لي ولكم.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا.. اللهم كن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اغفر لإخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم أهلك عدوك وعدوهم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر