إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [85]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام وأبي بكر الصديق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وفضائله كثيرة، ومناقبه عظيمة، وهذه عقيدة أهل السنة فيه، وقد صح عن علي بن أبي طالب ما هو مطابق لها.

    1.   

    اعتراف المسلمين بفضل الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدين

    يعترف المسلمون بفضل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ولأنهم ورثوا نبي الأمة وبلغوا شريعته ودينه، ودعوا إلى ما دعا إليه، ونشروا الإسلام بعده، وجاهدوا في سبيل الله، وأطاعوا شريعة الله، ونفذوا حدوده، فالنبي بلغهم الرسالة التي أرسل بها، وهم قاموا بتبليغها لمن بعدهم، ودعوا إليها قاصي البلاد ودانيها، فكانوا بذلك ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن ميراثهم هو أشرف ميراث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) هذا العلم الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من الذي تحمله عنه؟

    أليس هم الصحابة، وبالأخص الخلفاء الراشدون؟ من الذين بلغه بعده؟

    إنهم صحابته، إنهم الذين بلغوه وعلموه الأمة، أليسوا هم قادة الأمة وسادتها؟

    نعترف لهم بالفضل، ثم نعترف للخلفاء الراشدين بالأقدمية؛ لأنهم أفضل الأمة بعد نبيها، ونعترف لهم بأنهم أهل الولاية والخلافة والإمامة التي قاموا بها أتم قيام، فأجمعوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم على تقديم الخليفة الأول الراشد أبي بكر رضي الله عنه، ورأوه أهلاً للخلافة كما رآه نبيهم صلى الله عليه وسلم أهلاً للإمامة، كذلك أيضاً رأوه سباقاً إلى الخير، ورأوه عاملاً بالأعمال الصالحة، ورأوه أهلاً للخلافة لحنكته وحذقه وقوة تفكيره ومعرفته وذكائه وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وطول ملازمته، فلم يروا بداً من أن يبايعوه خليفة عليهم وإماماً وقائداً لهم، فكان ذلك عين المصلحة، فثبته الله في وقت اشتدت فيه الغربة، إذ إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتد العرب عن الإسلام إلا ما شاء الله، وما بقي إلا أهل المدينة ومن حولهم، وهم الأعراب أن يغيروا على المدينة وأن يسلبوهم ما هم فيه، وأن يقتلوهم ويستأصلوهم، ولكن ثبت الله أبا بكر وربط على قلبه؛ فقابل أولئك الأعراب بقوة، وهزمهم شر هزيمة، ثم توالت الانتصارات على أيدي جيوشه الذين دفعهم لقتال المرتدين، فرجع العرب -في ظرف نصف سنة أو عدة أشهر- إلى الإسلام بعدما كانوا خرجوا عنه. حتى قال قائلهم:

    أتانا رسول الله مذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر

    يعني: ما لنا ولطاعته؟ إنما طاعتنا للرسول حين كان بيننا!

    ولكن لما استخلفه الله على المسلمين كان ذلك عين المصلحة التي أيد الله بها الإسلام في ذلك الوقت العصيب، والظروف الشديدة، وقد سار فيهم السيرة الحسنة، وخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله، فلم يترك شيئاً كان يفعله النبي إلا فعله؛ كتوزيعه للأموال وللغنائم، وتقسيمه لخمس الخمس، وإعطائه لمن كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذوي القربى، وتوزيعه للصدقات، لم يأل جهداً أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما لم يعط فاطمة -كما زعموا- ميراثها من أبيها نقمت عليه الروافض، وطعنوا في خلافته، وطعنوا في إمامته، وصاروا يسبونه ويشتمونه زعماً منهم أنه خان الأمانة، وأنه خالف ما جاء من سيرة من قبله، وحاشاه من ذلك!

    معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخلف تركة، فقد ثبت عنه أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لم نترك شيئاً إلا أن يكون صدقة، وثبت أيضاً عن الحارث بن أبي ضرار أنه قال: (ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة) فهذه شهادة من هذا الرجل الذي ليس من قريش بل من بني المصطلق، وهو أخو إحدى أمهات المؤمنين، وهي جويرية أم المؤمنين، ومع ذلك أخبر بهذا الخبر فدل على أنه عليه السلام لم يكن وراءه تركة حتى يقول الرافضة: إن أبا بكر لم يعط فاطمة حقها، ما أعظم فريتهم! فهل هذا لشدة محبتهم لـفاطمة ؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لـفاطمة منهم، فهي بضعة منه، ولو كان يعطيها لأعطاها في حياته لما جاءته تشتكي من العمل، وذكرت أن الرحى أثر في يديها، وتعبت من العمل، فطلبت منه أمة من السبي تخدمها، لكنه لم يعطها شيئاً من ذلك، بل باع ذلك السبي ووزع ثمنه على المستضعفين من أهل الصفة وغيرهم، وأرشدها وأرشد زوجها إلى التسبيح والتكبير والتحميد عند النوم وقال: (هو خير لكما من خادم) فكيف يزعم هؤلاء الرافضة أنهم يغارون لـفاطمة والنبي عليه الصلاة والسلام يحرمها ولا يعطيها؟

    كذلك أيضاً هو صلى الله عليه وسلم يقول لها: (سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) ولو كان عنده مال لأخذت منه في حياته، فكيف مع ذلك يقولون: إنه منعها من ميراثها، ومعلوم أيضاً أن الأنبياء لا يورثون، إلا أن الرافضة يتمسكون بآيات فيها شيء من ذكر الميراث، مثل قول الله تعالى في سورة النمل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد [النمل:16]، ويقولون: هذا دليل على أن الأنبياء يورثون، عجباً لهم! الآية إنما فيها ذكر إرث النبوة، بمعنى أنه ورثه في ملكه، فكان ملكاً بعده، وكان نبياً بعده، ومعلوم أن داود كان له كثير من النساء، وكذلك كان له الكثير من الأولاد، فكيف خص داود سليمان بالإرث؟ فالإرث هنا إنما هو إرث الملك، كذلك يستدلون بقول الله تعالى في سورة مريم في قصة زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5-6]، فيقولون: هذا دليل على أن زكريا طلب ولداً حتى يرثه، الله أكبر! كأن المال أكبر هم الأنبياء، لا والله! إنما أراد يرثني في النبوة والعلم، أي: يرث ما عندي من العلم، ويرث العلم الذي خلفه آل يعقوب ، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل، أما أن يهتم بمن يرث ماله فحاشاه، ليست الدنيا أكبر همه حتى يطلب ولداً لأجل أن يأخذ المال الذي بعده، من الذي أعلمكم أن زكريا كان ذا أموال حتى يطلب ولداً ليأخذها؟

    فهكذا ينقبون عن مثل هذه الآيات ليطعنوا في أبي بكر ، ويدعون أنه حرمها من الميراث؛ فلأجل ذلك يكفرونه، ويضللونه، ويزعمون أنه خان الأمانة، وأنه خالف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقم بما قام به، وأنه بخس فاطمة حقها، وبخس علياً حقه، وأن علياً هو الإمام؛ لأنه هو الوصي، وغير ذلك من أكاذيبهم.

    والصحابة ما اختاروا إلا من هو أفضلهم، ومن هو أهل للولاية، وقد مرت بنا أحاديث تدل على فضله، وأحاديث تدل على أولويته وأحقيته بالولاية وبالخلافة والإمارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تقديم السلف لعمر على سائر الصحابة بعد أبي بكر

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ثم لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه).

    أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لـعمر رضي الله عنه، وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة من بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تنكر، فقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: (يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني! أو ما تعرف؟! قلت: لا، قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وخشيت أن يقول: ثم عثمان ، فقلت: ثم أنت، فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه فإذا هو علي، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ وذلك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر .. ودخلت أنا وأبو بكر وعمر .. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما) ، وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبو بكر ثم استحالت الدلو غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن.) الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) قال ابن وهب تفسير (محدثون) أي: ملهمون].

    استخلاف أبي بكر لعمر دليل على أحقيته بالخلافة

    اتفق الصحابة رضي الله عنهم على مبايعة عمر ، وهو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي رضي الله عنه، الخليفة الثاني، فلما أن مرض أبو بكر وأحس بقرب الوفاة دعا عمر وقال: (أنت الخليفة بعدي، أوليك بعدي هذه الولاية) فأرشد الناس إلى مبايعته، وعهد إليه بالخلافة، فلم يختلف عليه اثنان، بل أجمعوا على مبايعته، وأجمعوا على أهليته، ولم يخالف منهم أحد، فتمت له البيعة، وتم أمره.

    وفي ولايته رضي الله عنه اجتهد في توسعة رقعة الإسلام، حيث أنفذ الجيوش وأرسلهم إلى أطراف البلاد، ففتحت بلاد الشام في عهده، وكذلك بلاد العراق ومصر وأفريقيا وخراسان، واتسعت الفتوحات وكثرت في زمانه، ووقعت في عهده وقائع كثيرة، وفتوحات كثيرة، كوقعة اليرموك، ووقعة القادسية، ووقعة نهاوند وغيرها من الوقائع المشهورة التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين، وانتصر فيها أولياء الله على أعدائه، وكل ذلك بتوفيق من الله تعالى ثم بتحريض من عمر وتوصية منه بولاته، ولم يقف الأمر عند وصيته لهم بل سار بنفسه حتى وقف على كثير من البلاد، ففتح بيت المقدس التي هي (إيلياء) وتسمى بلغتهم (أورشليم)، هذا البلد المعروف الذي هو من أقدس البلاد لم يفتح إلا بعدما غزاه بنفسه، ووقف عليه وحاصره، فعند ذلك فتحوا له الأبواب، ودخل المسجد الأقصى وأسس فيه ما أسس.

    وبكل حال فهو ثاني الخلفاء الراشدين، وقد وفق الله أبا بكر لتوليته، فكانت توليته عين المصلحة، ووافق على ذلك المسلمون، وترضى عنه أهل السنة، واعترفوا بأفضليته وبقوته وبصرامته وبشهامته وحنكته وسيرته الحسنة التي ضرب بها المثل في عدله وفي تواضعه وفي منهجه وفي سلوكه.

    لا شك أن هذا من توفيق الله تعالى للأمة، حيث ظهر الإسلام وانتصر وتمكن وفشا في البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وذل للإسلام أعداؤه من اليهود والنصارى، وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ومكن الله للمسلمين في بلادهم، وحقق الله لهم وعده في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55] ، فحقق ذلك كله في عهد الخلفاء رضي الله عنهم، وبالأخص في عهد أبي بكر ثم عمر .

    ولا شك أن اختيار أبي بكر لـعمر له مستند، فهو الذي قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف إشاراته، وعرف محبته له، وسمع منه ما يدل على أفضلية عمر وعلى أهليته، وقد وردت إشارات نبوية إلى خلافتهما، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أن عمر منهم، وتقدم قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) فسماه مع من قبله باسمه الصريح، وأمر بالاقتداء به؛ وذلك أنه أهل للاقتداء، كما أنه أهل لحمل السنة، فقد حمل من الشريعة ما حمل، وفي عهده رضي الله عنه كثرت المسائل الواقعية فأفتى فيها بما قبله منه أهل السنة؛ ولأجل ذلك يعرف فقهه وفهمه وفتاواه، لكثرة ما نقل وما وقع له.

    ومن الإشارات التي تدل على أنه الخليفة بعد أبي بكر قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب أنزع منها -يعني بالدلو- ما شاء الله، فأخذها أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) فأشار إلى خلافة أبي بكر وأنها قليلة، حيث لم ينزع إلا ذنوباً أو ذنوبين، يعني: دلوين، أما عمر فجعل ينزع بهذه الدلو مع كونها استحالت غرباً، والغرب هو الدلو الكبيرة التي ينضح عليها قديماً، ومع ذلك أخذ ينزع حتى روي الناس وضربوا بعطن، إشارة إلى طول خلافته، وإشارة إلى امتداد الخلافة في عهده، وامتداد الإسلام والدولة في عهده، وانتشار الإسلام في زمانه، والانتصارات التي حصلت بواسطة تدبيراته وسيرته.

    موقف آل البيت من أبي بكر وعمر ومخالفة الرافضة لهم في ذلك

    يعترف جميع أهل السنة بأفضلية عمر، ومن أهل السنة علي بن أبي طالب الذي تعظمه الشيعة، وترفع من قدره، وتعلي شأنه، وتغلو فيه الغلو الزائد، ومنهم من يدعوه من دون الله، فيزعمون أنه عدو لهؤلاء الخلفاء، وأنهم أعداء له، وأن من والى علياً فلابد أن يعادي أبا بكر وعمر فإنهما ضدان، ويقولون: لا ولاء إلا ببراء، بمعنى أنك إذا واليت علياً فتبرأ من أبي بكر وعمر ؛ لأنه لا يمكن أن توالي هذا وهذا في آن، فإنهما ضدان مفترقان، فنقول: كذبتم، بل هما صاحبان، بل هما أخوان، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة كلهم إخوة، وعلي واحد منهم، يحبهم ويحبونه، ويصلي خلفهم ويتولى ولايتهم, ويأخذ أعطياتهم، ويجالسهم، ويؤانسهم، ويكلمهم، ويصحبهم، ولم يظهر لهم عداوة، ولم يقاطعهم، ولم يهجرهم، ولكنكم أنتم -أيها الشيعة- نكست فطركم، وتغيرت أفهامكم، ورأيتم الحق باطلاً والباطل حقاً، وصوبتم ما كان خطأً، وزعمتم عداوة بين الصحابة لم تكن، وإنما العداوة والبغضاء منكم، فأنتم أهل الحقد وأهل البغضاء، كيف تجعلون بين الصحابة بغضاء وهي لم تحصل ولم تكن؟ ما هي العلامات التي تدل على أنها حصلت بينهم؟

    يذكر العلماء أن الآثار شبه متواترة عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ) فيعترف بذلك ويصرح به على المنبر، سبحان الله! أين صرفت عقول هؤلاء الرافضة من هذا الأثر الذي يعتبر مشهوراً غاية الشهرة؟! ومع ذلك يخالفونه، فيكفرون ويشتمون ويسبون هذين الخليفتين اللذين يعترف إمامهم وقدوتهم -في زعمهم- بفضلهما.

    وهذا ولده محمد ابن الحنفية وهو أيضاً ممن يغلون فيه؛ لأنه من أولاد علي ، ولكن ليس كغلوهم في الحسن والحسين ، فيسأل ابن الحنفية أباه ويقول: يا أبت! من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقول مستغرباً: يا بني! أما تعرف؟! فيقول: لا، فيقول: أبو بكر ، فيعترف علي بأن أفضل الأمة هو أبو بكر ، ولفضله اتخذ والياً وخليفة عليهم، ولفضله سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسأله: ثم من أفضل بعد أبي بكر ؟ فيقول: عمر ، وعلى هذا فـعمر رضي الله عنه هو ثانيه في الخلافة، وهو ثانيه أيضاً في الفضل، يقول محمد بن الحنيفة : قلت: ثم أنت يا أبتي! خشي أن يقول: ثم عثمان ، وأحب أن يكون أبوه له الفضل، ولكن علياً رضي الله عنه تواضع غاية التواضع، وقال: ما أنا إلا واحد من أفراد المسلمين أو كما قال، مع أن له الفضل، وقد اختلف العلماء من أهل السنة في تفضيل عثمان وعلي ، والخلاف في ذلك ليس مخرجاً من الملة ولا يضلل به.

    الأدلة العقلية والنقلية على أحقية عمر بالخلافة

    فضائل عمر رضي الله عنه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف قديماً وحديثاً، فـابن كثير رحمه الله صاحب التاريخ ذكر أنه كتب في فضل أبي بكر وعمر كتاباً أتى في ثلاثة مجلدات.

    وأفرد بعضهم عمر بالتأليف، وأشهر من كتب فيه ابن الجوزي (مناقب عمر ) وهي رسالة مشهورة مبوبة منتشرة، ذكر فيها أبواباً تدل على حنكة عمر وفضله، وذكر فيها فضائله وأحواله، وذكر فيها ما بشره به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. وقد تقدم أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وفي حديث أبي موسى لما كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، يقول: فجاء رجل فأراد أن يدخل فقلت: من أنت قال: أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه).

    كذلك أيضاً من فضائله ما جاء في الحديث الذي أشار إليه الشارح رحمه الله، وفيه أن عمر رضي الله عنه طرق باب النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء قد رفعن أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر ابتدرن الحجاب، وألقين الستر بينهن وبينه، ودخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فأخبره بأنهن كن رافعات أصواتهن، فلما دخل عمر احتجبن عنه وتسترن، فقال عمر : أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) والفج هو: الطريق، بمعنى: أن الشيطان إذا لقيه في طريق هرب منه وذهب إلى طريق آخر، وما ذاك إلا لصرامته بحيث إن الشيطان يهرب منه!

    كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من المحدثين، يعني: من الملهمين، يقول: (إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فإنه عمر -أو فإن منهم عمر -) ولأجل ذلك يكثر موافقته للسنة وموافقته للقرآن، يقول رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله قوله تعالى وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب [الأحزاب:53]) بمعنى: أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقين محجبات في البيوت، ولا يخرجن إلا لحاجة ضرورية، فنزل القرآن موافقاً له، يقول: والمرة الثانية قلت له: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]) والمرة الثالثة يقول: (إنه قال لزوجات النبي صلى عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية موافقة لما قاله).

    كذلك أيضاً في قصة أسارى بدر لما أشار بقتلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر اختارا أن يمكنوا من الفدية، فجاء حكم الله موافقاً لقول عمر ، حيث قال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض [الأنفال:67] إلى آخر الآيات، فذلك دليل على أنه رضي الله عنه كان من المحدثين الملهمين.

    ومن أشهر فضائله أنه دفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وذلك دليل على اعتراف الصحابة بفضله، حتى قال بعض العلماء في أبي بكر وعمر : إن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته، فهما قريناه في حياته، وكذلك بعد مماته جعلا معه في طرف الحجرة النبوية، أوليس ذلك دليلاً على أفضليتهما، وأنهما صاحباه وحبيباه والمقربان إليه؟ وقد شهد بذلك علي رضي الله عنه في الحديث الذي سبق حين مات عمر رضي الله عنه، حيث قال: (ما تركت أحداً كنت أتمنى أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت) يقول: إنني لا أغبط أحداً وأرجو أن أكون مثله إلا أنت، أما البقية فأنا أقول: إني خير منهم، يعني: من كان بعد عمر رضي الله عنه، فـعلي رضي الله عنه يغبط عمر ، ويقول: لا أحد أغبطه وأتمنى أن ألقى الله بمثل عمله سوى أنت يا عمر ! يقوله بعد موته.

    ثم يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أبا بكر، ومن آثار تلك المحبة أن جمعا معه في المكان الذي قبر فيه، يقول: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ) يجعل ذلك من المبررات في أن يكون رضي الله عنه أهلاً لأن يجعل إلى جانب أبي بكر ، وإلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل، وعلى ذلك فنعترف بأنه هو الخليفة الراشد الذي امتدت خلافته بعد أبي بكر عشر سنين، وهو الذي ظهر من آثاره ومن فضائله الاقتداء التام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وله أوليات كثيرة، فهو الذي أشار بجمع القرآن في عهد أبي بكر حين كثر القتل واستحر في القراء في وقعة اليمامة، حيث قتل فيها خمسمائة من حملة القرآن، فخشي رضي الله عنه أن يذهب شيء من القرآن، فأشار بأن يكتب في صحف، ووافقه أبو بكر على ذلك، فكتب في صحف حتى يحفظ ولا يضيع منه شيء، ووافقهما الصحابة على ذلك,

    كذلك هو الذي وضع التأريخ، واختار أن يكون تقييد التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد الهجرة بدأ الإسلام يظهر وينتشر، فجعل التاريخ من أول الهجرة، وأجمعت الأمة بعده إلى يومنا هذا على التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

    كذلك هو الذي سن هذه الأوقاف، وهي الأرض المفتوحة عنوة، إذ إنه لما فتحت أرض مصر وأرض الشام وأرض العراق الزراعية جعلها وقفاً على بيت المال، فكانت تزرع وتعاد إلى بيت المال لتموله عند انقطاع الفتوحات ونحوها، وأقره على ذلك الصحابة ومن بعدهم، فلا شك أن ذلك دليل على معرفته بمهام الأمور ومستقبلها.

    وقد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جريئاً على إنكار ما رآه منكراً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن الرافضة يتتبعون ما يظنون أن فيه شيئاً من العيب والقدح فيه، فيجمعون أكاذيب، ويجمعون وقائع لا مطعن فيها، ويجعلونها طعناً في خلافته، وطعناً في أهليته للخلافة بل في إيمانه، فيجعلونه مرتداً عن الإسلام أو نحو ذلك، وأكبر ما يطعنون به فيه أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ائتوني بأوراق أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) وكان ذلك في يوم الخميس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد ثقل، عند ذلك قال عمر : (إنه صلى الله عليه وسلم قد شق عليه فلا تكلفوه، وعندكم كتاب الله) فعند ذلك قام الرافضة يقولون: إن علياً كان هو الخليفة، وإن أبا بكر ليس بخليفة، وإن عمر خاف أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لـعلي فعند ذلك قال: لا تكتبوا، فحرم الكتابة ومنعها وتجرأ بقوله: عندنا كتاب الله، هذا مطعن يطعنون به في عمر رضي الله عنه، مع أنهم غائبون لم يحضروا ذلك الوقت, ولم يعرفوا الإشارات، ولم يعرفوا القرائن، وعمر رضي الله عنه عرف القرائن المختصة به، وكذلك علي رضي الله عنه كان حاضراً ولم يخطر بباله أنه يكتب له بالولاية، ولا أن عمر حرمه من الولاية أو من الخلافة، فأين في هذا إشارة ولو من بعيد إلى أنه حسد علياً فقال: لا تكتبوا، وعندنا كتاب الله؟

    والدليل على ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً قال: (من أراد أن يقرأ وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151] إلى آخر الآيات الثلاث التي في كل واحدة منها ِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] .

    فالصحابة فهموا أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي وصية بولاية ولا بخلافة، ولكنها وصية بديانة وبأمانة ونحو ذلك، وليس فيها إشارة إلى خلافة علي ولا غير ذلك، بل قد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ادعي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ) فهذا دليل على أنه لو كتب لولى أبا بكر الخلافة، فكيف يزعمون أن عمر هو الذي حال بين علي وبين الخلافة، فيوجهوا الطعن عليه؟

    ولهم مطاعن عليه كثيرة لا تحصى، وينشرونها في كتبهم، وكذلك يجعلونها في خطبهم، وفيما يذيعونه فيما بينهم، ويرمونه بالفظائع والعظائم، والله حسبهم، ولكن ذلك لا يضره، بل يكتب أجره عند الله وافياً.

    فنعتقد أنه رضي الله عنه خليفة الأمة بعد أبي بكر ، وأن له الفضل وله الميزة، فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر ، وهو خليفة الأمة بعد أبي بكر ، وهو أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755955643