إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [29]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ضل في باب القدر طائفتان وهما الجبرية والقدرية، ومنشأ ضلالهم من التسوية بين المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وقد نشأت لهم من ذلك تساؤلات وأوهام قد توصل بعضهم إلى الانحلال من التكاليف، وقد أجاب السلف عن تلك الشبهات ودمغوها بالكتاب والسنة.

    1.   

    مراتب القدر

    من أركان الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، فهو ركن من أركان الإيمان الستة، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وذكره الله تعالى بقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وبقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].

    العلم والكتابة

    والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:

    أولاً: العلم، وثانياً: الكتابة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ، هذا دليل على العلم، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59]، هذا دليل على الكتابة.

    كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) أي: أنه تعالى علم ما سوف يحدث من أول الدنيا إلى آخرها، وأثبت ذلك، وليس في ذلك صعوبة على الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] يعني: علمه وكتابته للأشياء قبل وقوعها يسير عليه ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي أوجد الكائنات، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، وحيث إنها تكون بإرادته سبحانه وتعالى، فإنها كذلك كائنة بعد خلقه وبعد إيجاده لها، فهو علمها قبل أن توجد وأثبتها في اللوح المحفوظ كما أخبر بذلك.

    وقد كان غلاة القدرية قديماً ينكرون هذا النوع ويقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وبعضهم يقول: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، بمعنى: أنه لا يعلم مفردات الأشياء وإن كان يعلم عموماتها، وقد ورد في حديث: (أن ثلاثة من أهل مكة اجتمعوا في مكان فقال بعضهم: أترون أن الله يسمع ما نقول، فقال الثاني: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الثالث مستنكراً: إن كان يسمع جهرنا فإنه يسمع سرنا، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:22-23] -يعني: أهلككم- فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]) فهكذا ظن هؤلاء الذين يظنون أن الله لا يعلم أعمالهم، أو أنه يخفى عليه شيء من أحوالهم، أو أنهم يكونون في مكان أو موضع لا يراهم ربهم أو نحو ذلك.

    وفائدة العبد إذا آمن بأن الله عالم بسره وعالم بنجواه، وعالم بأحواله، وعالم بما هو عامل، وإذا علم وآمن بأنه قد كتب أعماله قبل أن يوجده، وقد كتب ما هو كائن، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويتحدث به قلبه؛ لا شك أن فائدة ذلك أنه يخاف الله حق الخوف، فإن من علم أن أعماله محصاة عليه، وعلم أنها مكتوبة لا تضيع؛ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، وأنه سوف يحاسب عليها، وأنه سيوقف عليها كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]؛ فإنه سيخاف الله.

    فهذه درجة من درجات القدر، وهي الإيمان بأن الله عالم بالأعمال وبالمخلوقات، وعالم بعددها، وكتب ذلك وأثبته قبل أن توجد المخلوقات بأسرها، وأنه لا يحدث إلا ما علم الله أنه سوف يحدث، في الوقت الذي قدر أنه يحدث فيه دون تقدم أو تأخر.

    الإرادة والخلق

    وأما الدرجة الثانية فهي الإيمان بإرادة الله تعالى وبخلقه، هذه الدرجة تتضمن أن الله أراد ما في الكون وخلقه.

    والإرادة عامة لا يكون شيء في الوجود خارجاً عنها، وهي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة، فلهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يكون في الوجود حركة إلا بإرادة الله ومشيئته، ولا يكون لإنسان حول إلا بإذن الله، ولا يكون له قوة ولا قدرة ولا استطاعة على أمر من الأمور إلا بالله تعالى، فما شاءه كان وإن لم يشأ العباد، وما شاءه العباد لا يكون إذا لم يشأ الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبيات له:

    فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

    فيؤمن العبد بأن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ الله لم يكن وإن شاء الخلق، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعون بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ومع ذلك فإنا إذا آمنّا بكتابة هذه المخلوقات وبإيجاد الله لها، لم يكن ذلك عذراً لنا في ترك الأعمال، بل يزيدنا ذلك نشاطاً في العمل وجداً واجتهاداً، وما ذاك إلا أننا خلقنا للعمل، وأعطينا من القوة ما نستطيع به مزاولة الأعمال.

    فهذا هو الجمع بين كون الله تعالى خالق ما في الوجود، وأنه يريد ما في الكون، وبين كونه أراد من العباد أفعالهم التي هي الطاعة والإيمان، أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمرهم بما هم قادرون على امتثاله، وأعطاهم من القوة ما يزاولون به تلك الأعمال وما يصح أن تنسب إليهم، ويثابون عليها ويعاقبون عليها، فعلى هذا يجتمع إيمان أهل السنة بما ذكرنا، ويكون هذا من السر الذي لا يعلم كيفيته إلا الله، كما تقدم لنا أن القدر سر الله تعالى في خلقه.

    1.   

    التسوية بين المشيئة والمحبة هي منشأ الضلال في القدر

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين: المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً.

    وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.

    وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها.

    وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقال تعالى عقب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].

    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك).

    فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.

    فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته].

    الفرق بين المشيئة والإرادة

    يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية.

    فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه.

    فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها.

    وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [النساء:26] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، فهذه الإرادات شرعية.

    نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد.

    فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون.

    فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية.

    أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [الأنعام:125] وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125]، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب!

    القدرية والجبرية لا يثبتون إلا الإرادة الكونية

    هذا هو المراد بكونه سبحانه لا يكون في الوجود إلا ما يريد؛ ولكن غلا في هذه الإرادة قوم ونفاها قوم، وتقابل الطرفان والطائفتان، فطائفة جبرية جعلوا كل الموجودات مخلوقة لله ولم يجعلوا للإنسان أي تصرف، بل جعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إن عقوبته على المعاصي ظلم، حيث إنه مقسور ومجبور عليها؛ فهذه الطائفة هم الجبرية.

    والطائفة الثانية التي قابلتهم: هم نفاة القدر أو نفاة قدرة الله، وهم الذي يقولون: ننزه الله عن الظلم فنقول: إنه لو خلق هذه المعاصي وعاقب عليها لكان ظالماً، فهذه الطائفة غلت في النفي فقالت: إن أعمال العباد ومعاصيهم وطاعاتهم ليست من خلق الله، بل من خلقهم ومن إيجادهم، وإن العباد هم الذي يوجدون أفعالهم، فهذه الطائفة غلت في النفي، وجعلت الإنسان يخلق فعله، ونفت أن يكون لله أي قدرة على أفعال العبد، وزعموا بذلك أنهم أهل العدل والتوحيد.

    وكلا الطائفتين ضال؛ فالطائفة الأولى جعلت القدر عذراً للعصاة، حيث إنهم يقولون: كيف يخلقنا ويخلق فينا المعاصي ثم يعاقبنا عليها؟

    والطائفة الثانية: جعلت مع الله من يخلق، وجعلت كل إنسان خالقاً مستقلاً بأفعاله، وكذبت الأدلة التي تثبت أن الأمر بيد الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

    مذهب أهل الحق في خلق أفعال العباد

    وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد.

    ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك.

    فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة:105]، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله.

    أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً)، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً)، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله.

    ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر.

    والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا:ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام .. فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله.

    وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله.

    1.   

    حكمة الله في خلقه ومشيئته لما يكرهه ولا يرضاه

    قال المؤلف: [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟

    قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره

    فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.

    والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده؛ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.

    وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.

    بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى تترتب على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها:

    منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا! كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر.

    وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.

    ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل؛ فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء].

    ابتلاء المؤمنين بمجاهدة الشرور وبغض أهلها

    نعم.. هذا الاعتراض كثيراً ما يردده العصاة ويقولون إذا نصحناهم عن المعصية: إن الله ما هدانا، إن الله قدر هذا علينا، لو أنه هدانا لما خرجنا عن الطاعة، نتوقف حتى يهدينا الله، فيستمرون في المعاصي ويحتجون بمثل هذه الحجج.

    ويقول بعضهم: كيف يقدر علينا أن نكفر أو نفسق أو نعصي، ثم مع ذلك يعاقبنا ويعذبنا، لو كان يعذب على ذلك ما قدره ولا أوجده ولا أراده كوناً وقدراً!

    فدائماً يحتجون بهذه الأمور المقدرة، ونقول: صحيح أن الله أرادها كوناً وأنه قدرها، وأنه لو شاء لما حصلت، ولكن لا يلزم من إرادته لبعضها أنه يحبها، فهو أراد الكفر كوناً وهو يكرهه ويكره أهله شرعاً، وأراد الطاعات وهو يحبها وإن لم تحصل من البعض، فالكائنات التي أرادها وقدرها وخلقها حتى ولو كانت كفراً ومعصية وبدعة ونحو ذلك، ولكن هذه الإرادة لغرض خفي، قد لا نتفطن له.

    وفي كلام الشارح أن المرادات إما أن تكون مرادة لنفسها وإما أن تكون مرادة لغيرها، فالإيمان، الطاعة، السنن، الصالحات، الحسنات، وسائر الطاعات مرادة لنفسها، أرادها الله من المؤمنين وحصلت لأنه يحبها، وأما المعاصي فإنه أرادها ولكن لغيرها ولم يردها لذاتها، وإنما أرادها لمصلحة قد تظهر وقد تخفى على البعض.

    وقد ذكر الشارح بعض الحكم في إيجاد هذه المخلوقات الشريرة، وكذلك في إيجاد المعاصي وإرادة المعاصي، وتقدير الكفر والبدع وفشوها وانتشارها وما أشبه ذلك، فمن ذلك أنه شاء هذه الأشياء كوناً وقدرها حتى يمتحن ويبتلي عباده المؤمنين بمجاهدتها وببغضها وببغض أهلها، وبمعرفة ما يجب عليهم نحوها، فلو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل بغض في الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل جهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل البراء، وهو أن نتبرأ من الكفار ونحوهم.

    إظهار كمال قدرة الله تعالى

    ثم أيضاً من حكمة الله في إيجاد هذا الكفر إظهار قدرة الله، فالله تعالى قد أظهر قدرته العامة ووجدت آثارها، فمن آثارها عقوبات العصاة وما أنزل بهم من المثلات، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما أغرق هؤلاء، ولا أهلك هؤلاء بصيحة، ولا أرسل على هؤلاء الريح العقيم، ولا أهلك هؤلاء بعذاب يوم الظلة، ولا كذا ولا كذا.

    فمن حكمة الله في إيجاد ذلك أن تعرف قدرة الله، حيث إنه ينتقم ممن عصاه ويعاقبه ويعجل له العذاب في الدنيا، ليكون ذلك دليلاً على العذاب في الآخرة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما كان في الآخرة إلا دار واحدة وهي الجنة، ولكنه تعالى قدر في الدنيا معاصي حتى يكون للدار الآخرة نصيب، فإنه خلق الجنة والنار، وهما صنوان، كما خلق في الدنيا الخير والشر، والإيمان والكفر، وكذلك سائر المتضادات، فجعل في الدنيا أضداداً وأزواجاً، وكل واحد مضاد للآخر، فمثلا الليل يقابله النهار، والنور تقابله الظلمة، والخير يقابله الشر، والذكر يقابله الأنثى، والبياض يقابله السواد مثلاً.

    كذلك الطاعة مع المعصية، والكفر مع الإيمان، والعقوبة مع الثواب، والوعد مع الوعيد، فخلق الضدين دليل على كمال القدرة، فإذا رأى العبد خلق المتضادات آمن بكمال قدرة القادر حيث خلق هذه الأشياء.

    ثم مع ذلك نحن نؤمن بأنه ما خلق شيئاً إلا وله فيه حكمة، ولا يجوز أن نعترض على الله بخلقه لشيء من مخلوقاته.

    سمعت أو قرأت حكاية أن إنساناً رأى دابة الخنفساء فقال: لماذا خلق الله هذه الخنفسة التي لا فائدة فيها، وليس لها خلق جميل أو نحو ذلك؟ فاعترض على الله في خلقها، فابتلي بقرحة خرجت فيه، ولم يوجد لها علاج إلا خنفساء أحرقت وذر عليها رمادها فبرأ، فعرف بذلك أن الله ما خلق شيئاً إلا وله حكمة في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ليس الله من خلق السباع، ليس الله من خلق هذه الحيات، ولا هذه الهوام التي ليس فيها إلا مضرة على العباد. نقول: إنه خلقها لتعلم بذلك قدرته، ويعلم أنه قادر على خلق الأضداد، وليكون ذلك أيضاً آية من آياته:

    وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

    فهذه المخلوقات كبيرها وصغيرها دالة على كمال قدرته، إذا تأملها الإنسان عرف بذلك كمال قدرة القادر، مع أن مخلوقاته لا تحصى دواب البر من طيور ومن دواب تدب على الأرض لا يحصيها إلا الله تعالى، وفي خلقها عجائب من عجائب الله.

    دواب البحر مع كثرتها وتفاوتها وما أشبه ذلك؛ فيها عجائب من قدرة الله تعالى، فخلقها ليس عبثاً، حتى البعوضة والنملة والذرة ونحو ذلك من الدواب الصغيرة خلقها وله في ذلك حكمة , ولو كان على الناس مضرة من هذه السباع التي تأكل دوابهم، أو من هذه الحيات والهوام ونحوها، أو من هذا الذباب الذي يقع على طعامهم أو عليهم، أو من هذا البعوض الذي يقرصهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى حكيم.

    وأيضاً فإنه له الحكمة حتى فيما يجلبه من الأمراض ونحوها، فهذه الأمراض التي يسلطها على من يشاء لا يجوز أيضاً أن يعترض على الله بها، ولا يقال: ليس الله من خلق الحمى ولا من خلق المرض، بل الله له الحكمة في خلقه وفي أمره.

    وبكل حال: فإن هذه الأشياء مرادة، ولكن لأجل الحكمة ولأجل إظهار القدرة وكمالها.

    فيقال أيضاً: كذلك في الحكمة في خلق إبليس، والحكمة في خلق أعوان إبليس الذي هو مادة الشر ونحوه، والحكمة من خلق الكفار وانتشارهم، وكذلك في تقويتهم وإمدادهم بالقوات وبالذخائر ونحو ذلك، والحكمة مثلاً في تمكينهم من الأعمال التي عملوها، ومن تسليطهم أحياناً على المؤمنين؛ لا شك أن الله تعالى له الحكمة في ذلك، فلا يعترض على الله، بل يؤمن العبد بأنه هو القادر على كل شيء، وأن ذلك دليل على كمال قدرته وتمام تصرفه.

    ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة

    قال المؤلف: [ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.

    فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.

    ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت؛ فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها].

    يعني: من الحكمة في أنه أوجد المعاصي والطاعات، وأوجد في الدنيا عصاة ومطيعين، وأوجد أسباباً يتمكن بها البعض من مزاولة المعاصي أو تكون سبباً لانتشار بعضها، وبعضها تكون سبباً في الطاعات ونحوها، ويطول البحث فيها.

    فمثلاً: العصاة أسباب معاصيهم كثيرة، فمنها الشهوات التي تتزين لهم، ومنها الدنيا التي تبسط على كثير منهم فيتمادون في المعصية، ومنها الهوى الذي يميل بكثير منهم، ومنها دعاة الضلال الذين يدعون إلى الباطل ويزينونه، ومنها وساوس الشيطان التي هي سبب للضلال والكفران ونحو ذلك.

    كذلك أيضا أسباب الطاعة التي منها إرسال الرسل ودعاتهم، ومنها قراءة كتب الله، وما يكون بها من الاهتداء، ومنها دعوة المؤمنين إخوانهم إلى الله وترغيبهم في الخير وتعليمهم إياه، وذكر الطرق التي يتوصلون بها إلى الطاعات ونحو ذلك، فوجد في الحياة الدنيا طاعات ومعاص، ووجد فيها كفر وإيمان، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما ظهرت آثار أسماء الله.

    فمن أسماء الله العزيز، الجبار، المنتقم، شديد العقاب، هذه الأسماء لو لم يكن هناك من يُعاقَب لم يظهر أثر اسم الله شديد العقاب، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصل أنه ينتقم من العاصي ولا حصل أنه يعاقب الباغي، فهذه من أسماء الله الحسنى، والتي تدل على كماله، فمن حكمة الله في إيجاد المعاصي ظهور آثار هذه الأسماء.

    من أسماء الله: الرءوف، الرحيم، المعطي، المتفضل، ولو كان الناس كلهم على الإيمان الكامل ما حصل أنه رحم هؤلاء وعفا عن هؤلاء، وغفر لهؤلاء وتاب على هؤلاء؛ فإنه ليس هناك معاص ليتوب هذا منها، ولا يستغفر هذا منها فيغفر له، ونحو ذلك كما في الحديث: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)، ولو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار ذلك.

    كذلك أيضاً من أسمائه الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار الحكمة، فمن حكمته أنه يعاقب هذا عقوبة في موضعها، ومن حكمته أنه يثيب هذا، من حكمته أن يعطي هذا ويمنع هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ونحو ذلك، فلا بد أن تظهر آثار هذه الأسماء، فقدر الله وجود هذه المعاصي حتى تظهر آثار هذه الأسماء التي هي من أسماء الله تعالى الحسنى.

    هذا الكلام ونحوه استنبطه العلماء من وجود الطاعات والمعاصي، وكون الناس كلهم ليسوا على إيمان ولا على كفر، بل فيهم مؤمن وكافر، ومطيع وعاص، فقالوا: إن آثار هذه إنما ظهرت بوجود من يتوب الله عليهم بعد أن كانوا عصاة فالله هو التواب، ويقبل توبة عبده ويفرح بها.

    كذلك هؤلاء يستغفرون فيغفر لهم، والله تعالى غفور رحيم، وهؤلاء يرحمهم ويتجاوز عنهم، والله غفور رحيم، وغير ذلك من الحكم في أسماء الله تعالى.

    1.   

    الشرور المرادة لله نظراً لما تفضي إليه من الحكمة هل تكون محبوبة له من هذا الوجه؟

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟

    فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.

    فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم؛ فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟

    قيل: هذا السؤال قالوا يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن.

    الشر يرجع إلى عدم الخير وهو من هذه الجهة شر لا من جهة وجوده المحض

    فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني: عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه؛ مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة خير، وإنما تكون شراً بالإضافة لا من حيث هي حركة.

    والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه.

    فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً فتأمله! فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.

    فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].

    كل ما أوجده الله فهو خير بالنسبة إليه تعالى

    هذا الاعتراض الذي يعترض به بعض غلاة القدرية على خلق الله تعالى للشرور وللأشرار، قد يعترض بذلك فيقال: لماذا خلق الله إبليس مع أنه كله شر؟! ولماذا خلق الله الكفرة والمشركين الذين ليس فيهم خير، بل هم شر وجودهم ضرر على المسلمين؟! ولماذا خلق الله أو أوجد هذه المعاصي والأسباب التي يستعان بها عليها؟ لماذا وجدت المسكرات مثلاً وما يتصل بها؟! ولماذا وجدت العاهرات والفاسقات؟! ولماذا وجد المفسدون الذي يعيثون في الأرض فساداً؟! ولماذا وجدت المعاصي؟!

    قد يعترضون ويقولون: هذا شر، فكيف أوجده الله وكيف أراده وكيف خلقه، مع أنه لا يحصل به إلا شر وضرر على الأمم الدينية، فيتضررون بوجود هؤلاء الكفار حيث إنهم يصدونهم عن الهدى، ويحاولون ردهم إلى الكفر وإخراجهم من ملة الإسلام، ويلقون عليهم الشبهات والشكوك، ويظهرون الفساد والمعاصي ونحو ذلك، فلماذا أوجدوا ولماذا خلقهم الله، ولماذا مكنهم الله؟!

    أليس في هذا إعانة على المعاصي؟ أليس في هذا تمكين للعصاة وتقوية لشأنهم؟

    هذا خلاصة هذا الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.

    وقد تقدم أنه سبحانه خلق الجنة والنار، فمن حكمته أن جعل داراً للثواب وداراً للعقاب، فلا بد أن لهذه من يسكنها ولهذه من يدخلها، حكمة الله لا بد أن تتم لذلك، فلما كان كذلك لم يكن بد من أن يكون الخلق فريقين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].

    وتقدم أن من أسماء الله تعالى الذي سمى بها نفسه وامتدح بها، أسماء تدل على مثل هذه الأفعال، كاسمه المنتقم، واسمه الجبار، واسمه العزيز، وذي القوة المتين، وكذلك أسماؤه المزدوجة مثل: الخافض الرافع، المعز المذل، المعطي المانع، فلا بد أن تظهر مدلولات هذه الأسماء، ولا تظهر إلا إذا وجد من يذلهم الله ومن يمنعهم ومن يخفضهم.

    ولا بد أن يوجد من يقهرهم باسمه القهار، ومن يقدر على عقوبتهم بموجب اسمه القادر، ومن يرحمهم ويغفر لهم بموجب اسمه الغفور الرحيم، ولو كان الناس كلهم أتقياء بررة لم تظهر آثار أسمائه: الغفور الرحيم، وهكذا بقية أسماء الله سبحانه وتعالى.

    بعد ذلك الجواب عن هذا الاعتراض، والجواب أن نقول:

    كل ما أوجده الله وأراده فإنه خير بالنسبة إلى الله تعالى وإن كان شراً بالنسبة إلى العبد الذي صدر منه ذلك الشر، وذلك لأن الله تعالى ما أوجده إلا لمصلحة، وهي الاختبار والابتلاء للعباد، ولكي يظهر من يصبر ومن يجزع، ومن يطيع ومن يعصي، ويظهر من يمتثل ومن يأبى، ولكي يظهر من يكون صالحاً أو يكون فاسداً.

    هذا من اختبار الله لعباده، فهو سلط عليهم هؤلاء الأعداء، فسلط عليهم إبليس الرجيم حتى يكون منهم مقاومة وشدة تمسك رغم ما يلقيه من الدعوات إلى الفساد وإلى المعاصي، فيثابون ويزداد ثوابهم إذا تمسكوا، كذلك سلط عليهم الشهوات التي تدفعهم إلى المحرمات، وأظهرها أمامهم فتنة، فيثبت الله أولياءه ويخذل أعداءه، فالذي يستمسك بالدين ويصبر عليه هو الذي يعظم ثوابه، وهذا أيضاً يصدق على المصائب التي تحصل للعباد، وقد يكون حصولها للأتقياء أكثر من حصولها للفسقة ونحوهم، فالمصائب التي ذكرها الله تعالى بقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155]، هذه قد يكون الابتلاء بها للمؤمنين أشد.

    الكفار قد يمتعون بالقوة ويمتعون بالأموال ونحو ذلك، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا [سبأ:35]، فهذا الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به المؤمنين ليكون أعظم لأجرهم إذا صبروا واحتسبوا، فهكذا خلقه لهذه الشرور ليكون أعظم للأجر، فإذا عرف العبد أنه قد سلط عليه الأعداء فصبر عد مجاهداً غاية الجهاد، فهو يجاهد الشيطان الرجيم الذي يسول له ويوسوس له، وهو يجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تتخيل له دائماً وتدفعه، وهو يجاهد الهوى الذي يعمي ويصم، وهو يجاهد الشهوات التي تتجلى له وتندفع نفسه إليها وتتزين له، ولكنه يمسك نفسه ويقمعها، فيعتبر بذلك مجاهداً غاية الجهاد.

    وهو يجاهد قرناء السوء وجلساء السوء الذين يدفعونه إلى الشرور ويدعونه إليه، هذا يدعوه إلى زنا، وهذا يدعوه إلى ربا، وهذا يدعوه إلى شرك، وهذا يدعوه إلى غش، وهذا يدعوه إلى تكاسل عن عبادة، وهذا يدعوه إلى شرب مسكر، وهذا يدعوه إلى كذا وإلى كذا، ولكنه يمسك زمام نفسه ويجاهد هؤلاء الدعاة، ويرد عليهم دعايتهم، فلو كان الناس كلهم مفطورين على الإسلام ما ظهر هذا الجهاد، زيادة على الجهاد الحسي الذي هو جهاد الكفار الذي أمر الله به وأكده وكرر ذكره بعدد من الآيات.

    لا شك أن الإنسان متى قاوم هذه المقاومة وصبر هذه المصابرة، فإنه يعد ناجحاً في هذا الابتلاء والاختبار، ويعد مثاباً غاية الثواب، فيجزل الله له الأجر على ذلك فهذا من حكمة الله!

    إذاً: فلا يعترض على الله ولا يقال: لماذا سلط الأشرار؟ ولماذا قواهم؟ ولماذا أعطاهم الدنيا، وأعطاهم النعم، وأعطاهم العدد والعدة ونحو ذلك؟ لا يعترض على الله بشيء من ذلك، كما لا يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ ولماذا خلق الله هذه الشهوات المحرمة؟ ولماذا أوجد الله هذه المسكرات وهذه المخدرات وما أشبهها؟

    لا يعترض على الله تعالى، لأنه أوجد ذلك ليظهر من يصبر ممن يجزع، وليظهر من يقوى على نفسه ومن لا يقوى، فيثاب هذا على مقاومته، ويعرف بذلك عدم صبر هؤلاء الذين لم يصبروا على قمع نفوسهم الأمارة بالسوء، فلله تعالى الحكمة في ذلك.

    فهو خير بالنسبة إلى خلق الله تعالى وإيجاده، وشر بالنسبة إلى فعل العبد، فالعبد مثلاً إذا زنا قيل: هذا الزنا شر، حيث إنه صدر منه، ولكن الله تعالى هو الذي قدر ذلك وأحدثه، فهو خير بالنسبة إلى إيجاد الله تعالى، حيث إنه اختبر العباد بذلك وجعل أسبابه ظاهرة.

    كذلك العبد إذا سكر مثلاً، والمرأة إذا تبرجت وتجملت وفعلت ما لا يحل لها فعله عند الأجانب، والرجل إذا تعاطى غشاً في معاملة أو غصباً أو سرقة أو اختلاساً أو ما أشبه ذلك.

    كذلك إذا سولت له نفسه ترك الصلوات أو تخلفاً عن جماعات أو ما أشبه ذلك من ترك الطاعات؛ فالله تعالى هو الذي قدر أسباب ذلك، ولكنه جعل ذلك اختباراً للعباد وابتلاءً لهم، ليظهر بذلك أهل طاعته الذين أراد الله بهم الخير فقويت نفوسهم وأعطاهم قوة، والذين خذلهم وخلى بينهم وبين نفوسهم، وقوى عليهم أعداءهم فلم يتمكنوا من مقاومة أولئك الأعداء، فأصبحوا من الخاسرين.

    إيضاح أن خلق الشرور ليس شراً بالنسبة إلى الله

    قال المؤلف: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد والإعداد والإمداد، فإيجاد هذا خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده.

    فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.

    فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل :

    إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى مـا تستطيع].

    الحكمة من تقدير الشر بخذلان المنافقين عن الخروج للجهاد

    قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46].

    فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة:47] أي: فساداً وشرّاً، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة:47] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] أي: قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.

    فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه].

    يكثر إيرادات هؤلاء المجبرة، وهم الذين يعذرون العبد على فعل المعاصي ويزعمون أن له عذراً في ذلك، حيث لم يكن له اختيار ولا قدرة على أية مزاولة، فيكثرون من إيراد مثل هذه الشبهات، فيقولون مثلاً:

    كيف يريد الله هذه المعاصي وهو يكرهها؟ فيقال: الله تعالى أرادها كوناً وكرهها شرعاً، ويقولون: كيف لا يسوي بين عباده ما دام أنه قد خلقهم كلهم لعبادته، فكيف لا يسوي بينهم فيهديهم جميعاً ويرشدهم؟

    والجواب: أنه سبحانه خلقهم ومكنهم، ولكنه علم أن فيهم نفوساً شريرة تختار الشر فخذلها، ونفوساً خيرة تختار الخير فوثقها، فله الحكمة في توفيق هذا وفي خذلان هذا، وإن كان الجميع كلهم عبيده وتحت تصرفه، وهم الذين كلفوا جميعاً بعبادته وبالإنابة إليه.

    وضرب المؤلف مثلاً لما حكى الله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة في قوله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:46-47]، هؤلاء ممن كانوا أسلموا ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، لا شك أن الله تعالى خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم وشهواتهم، ولم يوفقهم لما وفق إليه صفوته وخيرته من خلقه من المهاجرين والأنصار الذين اصطفاهم والذين مكن لهم في دينهم.

    فهؤلاء المنافقون لما كان في غزوة تبوك تخلفوا عن القتال وتخلفوا عن الخروج، وأتوا بأعذار لا فائدة فيها وليست صادقة، بل حلفوا وهم كاذبون، كما في قوله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96].

    فأخبر تعالى بأنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولم يستعدوا له، ولو كانوا يريدون الخروج ويرغبون في الغزو لأعدوا العدة ولهيئوا أنفسهم، فهم قادرون على أن يخرجوا وعندهم استطاعه وتمكن ولكنهم لم يفعلوا، فلما لم يفعلوا دل على أنهم ما أرادوه ولا أعدوا له عدة، مع أن الله تعالى هو الذي خذلهم؛ لأنه علم أن في خروجهم مفسدة كبيرة حيث إنه لا يكون منهم إلا ضرر، فلذلك كره الله خروجهم وانبعاثهم فثبطهم، أي: سكنهم وصرف أنفسهم عن الخروج لمصلحة عظيمة؛ فإنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالاً، أي: ضعفاً وتخذيلاً وتثبيطاً عن القتال وعن العدو، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يعني: أوقعوا فيما بين المسلمين الفتن والتشكيكات ونحو ذلك، فكان هذا من حكمة الله في أن خذلهم ولم يبعث عزائمهم إلى القتال، وبذلك يعرف أنه تعالى حكيم يضع الأشياء في موضعها اللائقة بها.

    فعلى المسلم أن يرضى ويسلم بما جاءه من شرع الله تعالى وأمره ودينه، وأن يعترف بأنه ما خلق إلا ما فيه مصلحة، سواء كانت مخلوقات جوهرية أو عرضية، وسواء كانت أشخاصاً أو أعراضاً وأعمالاً، كل ذلك له فيه الحكمة، فهو الحكيم العليم.

    وعلى الإنسان أن يلح في سؤاله لربه، وأن يكثر من الدعاء، والله تعالى قد قدر له ما هو مقدر وجعل سبب ذلك هو كثرة الإلحاح في الدعاء، فيكون سبباً من أسباب تيسير اليسرى وتجنيب العسرى، وليس مغيراً لما في قدر الله تعالى.

    1.   

    هل يحب العبد الشر ويرضى به من جهة أنه مراد لله واقع بمشيئته

    قال المؤلف: [وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد: فهو أيضاً ممكن بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه؛ فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان.

    وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته.

    وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد مكروه.

    فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.

    فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟

    قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! وفي ذلك قيل:

    أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات !

    وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل.

    لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال.

    فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه].

    شبهة من يقول: إذا خالفت أمر الله فقد وافقت مراده

    كثيراً ما يحتجون بأن هذه المعاصي مرادة لله تعالى، فيقول أحدهم: أنا خالفت أمر الله ولكن وافقت إرادة الله، الله تعالى أراد مني هذا الفعل وهذه المعصية.

    فالجواب: أن هذه الإرادة إرادة كونية، وقد أراد منك إرادة شرعية أن تطيعه، فلا تحتج بالإرادة الكونية وتترك الإرادة الشرعية، الله تعالى أراد كل ما في الكون إرادة كونية ولكنه أراد الطاعات إرادة شرعية، وهذه الطاعات التي أرادها قد تقع وقد لا تقع، لأنه خلق كل الخلق للعبادة، فمنهم من عبد ومنهم من لم يعبد، فهذه إرادة شرعية.

    فالذي يقول: ليس للعبد أي اختيار، نقول له: هذه مقالة الجبرية الذين يزعمون أن العبد مسلوب الاختيار أصلاً، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، ففي ذلك إبطال شرع الله وإبطال أحكامه وقضائه وقدره، والواجب على المسلم أن يعترف بشرع الله وأن يدين له بالطاعة، وأن يسلم لقضائه وقدره، ولا يرد عليه شيئاً من أمره، فبذلك يصبح مستسلماً لأمره، فأما هؤلاء الذين يقولون: إن جميع حركاتنا ولو كانت معاصي، ولو كانت غير محبوبة لله؛ فهي طاعة حيث إنها وافقت مراد الله القدري، حتى قال قائلهم في هذا البيت الذي ذكره المؤلف:

    أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات

    فهذا عين المحادة لله لأنه لا شك أن الطاعات إنما تكون بالعبادات التي فرضها، فكونه يقول: أفعالي كلها طاعات، حتى ولو كانت فجوراً وزوراً، ولو كانت كذباً، ولو كانت معاصي وكفراً وشركاً، فكيف تكون طاعات وقد حرمها الله تعالى وسماها معاصي؟!

    فهذه معاص بالنسبة إلى صدورها من العبد، وهي مرادة لله كوناً وقدراً، حيث إنها وقعت بخلقه وتكوينه، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فإذا علم العبد أولاً أن الله تعالى أراد جميع ما في الكون كوناً وقدراً، وما هو حادث، ولكنه أحب الطاعات وكره المحرمات، وأمر بالطاعات أمراً شرعياً، ونهى عن المحرمات نهياً شرعياً، وعلم أيضاً بأن مزاولة العبد لها باختيار منه لهذا الذي اختاره إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأن الثواب والعقاب يترتب على هذا الاختيار وعلى هذا الفعل، وعلى الجد والاجتهاد في الطاعة، أو الجد والاجتهاد في المعصية، وهو الذي يكون عليه الثواب والعقاب، فمتى علم العبد واستسلم لذلك فهو من أهل الخير.

    على العبد أن يستحضر أنه مكلف مختار

    ولا شك أن من استحضر دائماً أنه مكلف، واستحضر أن الله تعالى يوفق العبد الذي يستحضر عظمة ربه، واستحضر دائماً أنه ليس بمهمل، بل خلق للعبادة ولم يخلق هملاً ولا سدى؛ من كان كذلك وفقه الله.

    وإذا استحضر أيضاً أن ربه لما كلفه ولما أمره ونهاه، كان في مرأى ومسمع من ربه لا تخفى عليه منه خافية، واستحضر أيضاً أنه في كل حالاته عنده الدافع الذي يدفعه إلى الخير، وهو قوة الإيمان وقوة هذا الاستحضار؛ لا شك أن من تمت معه هذه الاستحضارات فإنه لا يقدم على معصية، وكيف يقدم عليها وهو يستحضر عظمة الله تعالى وكأنه واقف بين يدي ربه؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أنه يترتب عليها عقوبة وإثم شديد؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أن ربه يكرهها؟

    ولا شك أن العبد الذي يكثر من العبادات سواء كانت قلبية أو قولية أو بدنية، ثم يثق بالثواب عليها؛ أن ذلك يحجزه عن أن يأتي بضدها، ولا يجتمع أنه في آن واحد يطيع الله ويطيع الشيطان، ولا يجتمع أنه في آن واحد يعبد الله ويعبد الأصنام مثلاً، ولا يجتمع أنه في آن واحد يكون مستحضراً لعظمة الله تعالى وغافلاً عنه مقبلاً على هواه، بل متى تمت له هذه الاستحضارات عبد ربه وأكثر من عبادته وأقبل عليه إقبالاً كلياً، ومتى كان كذلك فإن ربه تعالى يسدد خطاه ويوفقه، ويحبب إليه العبادة ويحميه عن المعصية، كما في قوله في الحديث القدسي الذي سمعنا بعضه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي).

    والمعنى: أن الله تعالى يحفظه ويحوطه ويحرسه، فتكون حركاته في إرادة الله وفي طاعة الله، وما ذاك إلا أن قلبه امتلأ بعظمة الله وامتلأ بالإيمان به، وامتلأ بحب الخير، وامتلأ بالأعمال الخيرية الصالحة والميل إليها، ولما امتلأ القلب ظهر آثار ذلك على السمع وعلى البصر وعلى اليد وعلى الرجل، فصار نظره كله بالله، وسمعه كله لله، ومشيه وحركاته كلها لله، فصار بالله ومن الله وفي الله، فهذا هو الذي لا يمكن أنه يقدم على معصية مع ما يقوم به من هذه الحال.

    فالعبد الذي يكون بهذه المثابة لا شك -أنه إن شاء الله- لا يقدم على معصية، وإنما يؤتى من نقص في ذلك، يعني من نقص في استحضاره بقلبه لهذه الأشياء، فإن العوائق التي تعوقه عن هذه الاستحضارات كثيرة، فالشهوات من زينة الحياة الدنيا ومتاعها، والشغل بها كثيراً، والانهماك في المحرمات؛ كل ذلك يجلب إلى قلبه شيئاً من الغفلة، فيوجب له بذلك صدوداً عن الخير، وإقبالاً على الشرور والفساد، نعوذ بالله من الخذلان.

    1.   

    ما يرضى به من قضاء الله وما لا يرضى به

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟ !

    فالجواب: أن يقال أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.

    ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ويرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.

    ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان:

    أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به.

    والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى: ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به.

    مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه، وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره؛ نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره، وعصى الله بفعله؛ نسخطه ولا نرضى به.

    وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان.. إلى آخره).

    التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء، والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضا، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة].

    نرضى بقضاء الله ولا يلزم الرضا بكل مقضي

    الكلام الأول يتعلق بالرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، فنقول: يلزمنا أن نرضى بالقضاء، وأما المقضي الذي يقع بذلك القضاء فلا يلزمنا الرضا به، بل قد ننكره ونستبشعه، فمثل الشارح بقتل النفس ظلماً، نقول:

    هذا الذي قُتِل قد بلغ أجله الذي كتب له، ولم يقطع عليه أجله، فالله تعالى قضى وقدر وكتب أن عمره لا يزيد ولا ينقص، فالمقتول مات بأجله المحدد له، لأن الله تعالى يقول: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، ويقول تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: لو تحصنتم في بيوتكم والله قد كتب على بعضكم القتل، لخرجوا إلى أن يصلوا المكان الذي قدر الله أنهم يموتون أو يقتلون فيه ولا بد.

    وقد ذكر الله تعالى أن الموت محتوم على الإنسان مهما تحصن، كما في قوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة [النساء:78]، يعني: ولو تحصنتم في أحصن الأماكن، فإنه يصل إليكم الموت الذي قدره الله لكم سواء بسبب ظاهر أو بسبب خفي.

    فمن حيث حصول الموت لهذه النفس نؤمن بأن هذا قضاء وقدر، وأنه مهما تحصن هذا المقتول فلن يحصل له التحصن أبداً مهما تحصن، ولا بد أن يحصل له ما قدر الله تعالى عليه، ولكن مع ذلك ننكر هذا الذنب على القاتل ونلومه عليه ونسخطه، والله تعالى أنكره عليه وتوعده على هذا القتل بوعيد شديد، وتوعده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بأنه يستحق العقوبة، والله تعالى كتب القصاص في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] وفي قوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].

    فهذا دليل على أنه من حيث إنه قضاء وقدر نرضى به، ومن حيث صدوره من ذلك الظالم القاتل نسخطه وننكره، ونلوم القاتل، وهكذا بقية الحوادث التي تحدث في الدنيا، منها ما نرضاه ومنها ما نسخطه من حيث الظاهر، أما من حيث القضاء والقدر فجميعه مرضي لله سبحانه وتعالى مقضي له، ومرضي للعباد.

    الاحتجاج بالقدر لا يمنع من أخذ الحق

    فعلى كل حال يلزمنا الرضا بكل ما قضاه الله وقدره، ولا يلزمنا الرضا بكل مقضي ومخلوق ومقدر وجوده في العالم، بل نسخط المعاصي ولو كانت قضاء وقدراً، وننكر على من فعلها ونلومه، وإذا احتج بالقدر لم يمنعنا ذلك من أخذ الحق منه، كما ذكر أن عمر رضي الله عنه لما رفع إليه سارق وأمر بقطع يده فقال: هذا قدر الله، فقال: (سرقت بقدر الله ونقطع يدك بقدر الله)، فهو بذلك يعرف أن هذا مأمور به، فنحن مأمورون بكذا وأنت فعلت كذا وكذا.

    ولما خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل على أذرعات الشام، ذكروا له أن الطاعون قد وقع في الشام، فشاور الصحابة هل يقدم الشام أو لا يقدم؟ فاختلفوا، فمنهم من قال: لا تذهب إلى الشام ومعك هؤلاء الذين هم صفوة الصحابة فتعرضهم للموت، ومنهم من قال: إن هذا شيء مكتوب فلا تفر بهم ولا ترجع، ولكنه عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح : أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله.

    أي: نقول إن الله تعالى قدر لنا أن نرجع وما كتب لنا أن نذهب، فنحن إذا رجعنا ففي قدر الله أننا نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب مثلاً وقال: أرأيت لو كان لك إبل وذكر لك واديان: أحدهما مخصب والآخر مجدب، ثم إنك اخترت واحداً منهما، أليس بقدر الله؟

    أي: لو دخلت الوادي المجدب المقحط الذي ليس فيه رعي، ثم قيل لك: إن هاهنا وادياً أخصب وشعباً مخضراً، وفيه أعشاب وفيه رعي؛ فذهبت إليه، أليس ذهابك إليه بقضاء الله وبقدره؟

    الله تعالى هو الذي قدر لك أن تسلك هذا، ثم اختار لك أن تسلك هذا، فهكذا إذا رجعت من مكان مخوف، فليس ذلك هرباً من قضاء، بل الله هو الذي قدر عليك هذا القضاء والقدر، وقدر عليك أنك ترجع أو لا ترجع، وإذا كان الله تعالى قد كتب على الإنسان أنه يموت بسبب، فلا بد أن يصل إليه الموت في أي مكان.

    روي أن إنساناً وقع الطاعون في بلاده، فلما ذكر له ذلك ركب حماراً وتوجه إلى بلاد أخرى، وفي أثناء الطريق سمع هاتفاً يقول:

    لن يسبق الله على حماري قد يصبح الله أمام الساري

    فتوقف واستمع قليلاً ثم إنه نزل في ذلك المكان وأصابه الطاعون فمات، ولم يغنه فراره ولا هربه.

    الأخذ بالأسباب

    الله تعالى قد ذكر قوماً هربوا من الموت ثم إن الله أماتهم، في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243] ألوف: جمع ألف، يعني: آلافاً مؤلفة، (حذر الموت): ما أخرجهم إلا حذر الموت، ولكن هل سلموا؟ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، أي: أن قدرة الله تعالى تأتي على كل شيء، فأماتهم الله ليريهم أن الخروج والهرب لا ينجيهم، ثم أحياهم بقدرته ليريهم كامل قدرته.

    وعلى كل حال نحن نقول: إن الإنسان مأمور بأن يتحصن وبأن يفعل الأسباب وبأن يأخذ حذره، ولكن ذلك لا يرد عنه ما قد كتب الله عليه من الآجال والأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإنما هذه أسباب ظاهرة، ولا يجوز مع ذلك تركها.

    الله سبحانه أمر بأخذ الحذر في حالة صلاة الخوف، فلما أمر بصلاة الخوف أمر بأخذ الحذر، معلوم أن المسلمين قد يقول قائلهم: سوف نصلي جماعة والله تعالى يحرسنا ويحفظنا، ولكن الله تعالى أخبر بأن المشركين يتحينون الفرص ويحتالون في أن يجدوا غفلة من المؤمنين فيقتلونهم، فقال تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، هكذا أخبر عنهم ثم أمرهم بأن يأخذوا الحذر في قوله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] يعني في حالة صلاتهم للخوف، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ [النساء:102] أي: ليكونوا حذرين.

    فكل ذلك دليل على أن فعل السبب لا يمنع في التوكل وأنه لا يرد ما قدر الله، مع أن فعل الأسباب مأمور به وتركها إلقاء باليد إلى التهلكة، وأن التعرض أو فعل الأسباب التي يحصل بها الموت عمداً يصير ذنباً كبيراً، ولهذا ورد الوعيد الشديد على من قتل نفسه بفعل ظاهر، كما في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم) تحساه، أي: التهمه، فمن التهم سماً فإنه يدخل جهنم ويجعل السم في يديه يتحساه دائماً في نار جهنم والعياذ بالله (ومن تردى من شاهق) يعني: رأس جبل حتى يموت (فهو يتردى في نار جهنم) والعياذ بالله، فهذا دليل على أنه إذا فعل سبباً يعوقه أو يصل إلى أنه يقتل به نفسه فإنه معرض لهذا الوعيد.

    ولو قال مثلاً: إن هذا مكتوب علي وإن هذا مقدر، نقول: الله تعالى هو الذي قدر كل شيء ولكنه نهاك عن شيء أنت تستطيعه، فنهاك أن تلقي بيدك إلى التهلكة ونهاك عن هذه المعاصي، ونهاك عن هذه المخالفات وأمرك بأضدادها، وما أمرك إلا بأمر أنت مستطيع له، ولو كان كل ذلك واقع بقضاء وبقدر.

    1.   

    التحذير من الوسوسة والتشكك في القدر

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة)].

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان!)رواه مسلم ، الإشارة بقوله: (ذلك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.

    و لـمسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، فهو بمعنى حديث أبي هريرة ، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.

    هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل سودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.

    وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)، وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده)ورواه ابن ماجة أيضاً].

    يقول: إن عندنا شيئين:

    الأمر الأول: ما يجول في النفس وما يحدث من الوساوس والأوهام، ولكن لا يخرجها الإنسان بل يزيلها أو يحرص على إزالتها، فهذه مما يعفى عنه.

    والأمر الثاني: ما ابتلي به المتكلمون من إظهار تلك الوساوس والتكلم بها وكتابتها وإشاعتها، وهذا مذموم.

    فكان في عهد الصحابة وكذلك في عهد التابعين وتلاميذهم، إذا خطرت في أنفسهم خطرات وشكوك لم يبدوها، بل استمروا على ما هم عليه من العقيدة، وآمنوا بالله وبما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فلم تضرهم تلك الوساوس ولا تلك الهواجس ونحوها.

    كثيراً ما يحصل على قلب الإنسان وسوسة في أمور من الغيب؛ إما مثلاً في طبقات السماء وطبقات الأرض وكيفية العرش وذات الرب تعالى وصفاته، وكذلك أمور البعث وأمور البرزخ، قد يتوارد على نفسه شيء من التشكيكات في هذه، وكيف تتصور؟ وكيف يتحقق ما ذكر من وصفها في هذه النصوص؟ فإن في ذلك شيئاً من الاستبعاد ومن الاستغراب.

    فإذا تواردت هذه الشكوك على هذه النفوس، ولكن أحرقتها النفس المطمئنة ولم تلتفت إليها ولم يتكلم بها الإنسان، فإن ذلك مما يعفى عنه، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان، يعني: ما دمتم تقتصرون على هذه الوسوسة دون أن تتكلموا بها فإن ذلك معفو عنه، ثبت بالحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فحديث النفس معفو عنه، أي عن الخواطر التي تخطر في القلب والتي تكون خواطر ووساوس وأوهاماً وتشكيكات ولكن يغلبها الإنسان بقوة إيمانه، وبما قام عنده من الأدلة الصريحة في صدق الرسل وما جاءوا به من الأمور الغيبية، فلم تؤثر فيه تلك الشكوك والأوهام ونحوها، بل اضمحلت تلك الوساوس ولم تضره.

    فعليك أن تؤمن بالحق الذي أنت عليه وتثق به، دون أن تلتفت إلى شيء من تلك الأوهام أو تتمادى معها، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756004008