إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [24]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم أملاً في الشفاعة، وأعظم الخلق شفاعة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خصه الله بشفاعات كثيرة لأمته، وقد ثبتت الشفاعة في القرآن والسنة، فالإيمان بها واجب، والتسليم بها فرض على كل مؤمن.

    1.   

    الشفاعة يوم القيامة

    ذكر الشفاعة العظمى

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار).

    الشفاعة أنواع، منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.

    النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

    وفي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة.

    منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدُفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟

    يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.

    فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.

    فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -وذَكَرَ كذباته- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.

    فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.

    فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو- وكلمتَ الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنباً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

    فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي! يا رب! أمتي أمتي! يا رب أمتي أمتي! فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى).

    أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد].

    هذا أيضاً من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بالشفاعة التي هي شفاعته لأهل الموقف في إراحتهم من الموقف، فيؤمن بذلك أهل السنة.

    وقد أنكرت ذلك الخوارج، وكذلك أنكرته المعتزلة، وقد غلا بعض المشركين وأثبت الشفاعة بدون إذن الله سبحانه وتعالى، وقول أهل السنة هو الوسط، وهو أنه يشفع وكذلك غيره، ولكن لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، فالشفاعة عند الله تعالى في الآخرة بإذنه.

    وقد ورد في هذا الحديث أنه يقول: (اشفع تشفع)، فلا يبدأ بالشفاعة أولاً حتى يأذن الله تعالى له بأن يشفع، وكذلك غيره من الأنبياء لا يشفعون، وكذلك الملائكة لا يشفعون إلا بعد إذن الله سبحانه وتعالى.

    إيراد الشارح للرواية التي فيها الشفاعة العظمى

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب تعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور؛ فإنه المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم، فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس، ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار.

    وكأن مقصود السلف -في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالِفة للأحاديث، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله؛ لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك -وهو أعلم-؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم، قال: فأرجع فأقف مع الناس -ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزُّل الملائكة بالغمام- ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح.

    قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا لي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه..

    إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: مَن أحق بذلك من أبيكم؟ إنه خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبُلاً، فيأتون آدم فيُطلب ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمداً صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثم أستفتح فيُفتح لي فأُحَيَّا ويُرَحَّب بي، فإذا دخلتُ الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررتُ له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعتُ رأسي قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفَّعتك وأذنت لهم في دخول الجنة) الحديث رواه الأئمة ابن جرير في تفسيره، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، والبيهقي وغيرهم].

    شرح حديث الشفاعة العظمى

    ذكر العلماء أن أكبر أنواع الشفاعات التي اختُص بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة في يوم القيامة لأجل إراحة الناس من طول الموقف، ولأجل فصل القضاء بينهم، وذلك لأن الموقف يوم القيامة قد ذُكر من طوله ومن هوله وما يكون فيه من الغم والكرب ومن العذاب والألم ما الله تعالى به عليم.

    فأما طوله فقد ذكر الله أنه كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، وفي آية أخرى أنه مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، ولعل ذلك لاختلاف تقديره عند الناس، أو في ظن الكثير من الناس، ولكنه لا يحس بطوله أهل التوحيد والعقيدة وأهل الأعمال الصالحة، وذلك لأنهم ينعمون في ذلك الموقف.

    كذلك من الهول الذي ينالهم في الموقف شدة الحر، كما روي أنها تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى يكون بينها وبينهم قدر ميل، ويُزاد في حرها، وأنهم يلجمهم العرق من شدة الحر، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنم من يلجمه العرق إلجاماً.

    كذلك أيضاً شدة الهول الذي يشاهدونه، فمن طول هذا الموقف وما هم فيه من الكرب يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون من يشفع لكم حتى يريحكم الله من هذا الموقف، وحتى تتخلصوا منه إما إلى جنة وإما إلى نار؟

    فعند ذلك يطلبون من يشفع لهم، فذُكر في الحديث أنهم يأتون أولاً إلى أبيهم آدم وهو أبو البشر، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته -أي: خصك بهذه الخصائص- ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد أصابنا؟! اشفع لنا إلى ربك ليريحنا من طول الموقف. فيعتذر آدم فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا ذنب أو خطيئة أبيكم؟! يعترف بأنه أخطأ وأنه هو الذي بسببه خرجتم من الجنة وقد كنتم من أهلها، فإنه لما أُسكن فيها وأخطأ تلك الخطيئة التي هي أكله من تلك الشجرة، أُخرج منها إلى دار الشقاء وهي الدنيا.

    وفي هذا تحذير من الأعمال السيئة التي تحرم من دخول الجنة، قال بعض السلف: أُخرج آدم من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون أن تدخلوا معه الجنة!

    ويقول بعضهم:

    يا ناظراً يرنو بعينَي راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد

    تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَج الجنان بها وفوز العابد

    أنسيت أن الله أخرج آدَماً منها إلى الدنيا بذنب واحد

    والحاصل أن أباهم آدم يعترف بخطيئته ويعتذر عن الشفاعة، ويقول: كيف أشفع وأنا مذنب؟ ثم يحيلهم إلى نبي الله نوح عليه السلام، فيأتون إليه ويقولون: يا نوح! أنت أول الرسل بُعث إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك.

    ونوح عليه السلام له ميزة وفضيلة، ولكن لم يقبل أن يشفع لهم تواضعاً، وتعلل واعتذر بأنه قد دعا على قومه بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً [نوح:26]، فاعتذر بذلك، وإن كان ما دعا إلَّا على الكفار الذين يستحقون الغرق، فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض إلَّا أهل السفينة.

    وبعد نوح يأتون إلى إبراهيم فيعتذر، ويأتون بعد إبراهيم إلى موسى، فيعتذر أيضاً، ثم إلى عيسى فيعتذر.

    ثم يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، فعند ذلك يقول: (أنا لها)، فإذا التزم أن يشفع سجد لربه، ثم إذا أذن له ربه تكلم بما يفتح الله عليه من المحامد ومن الثناء ما لا يحسنه الآن، يعني أن الله يلهمه من تمجيد ربه وتحميده والثناء عليه ما الله به عليم، فبعد ذلك يرغب إلى ربه أن يفصل بين العباد، وأن يريحهم من ذلك الموقف.

    ذكر ما يقع بعد فصل القضاء

    بعد ذلك يستجيب الله دعوته فيفصل بينهم، ويقول -كما في هذا الحديث-: (إني أنصتُ لكم منذ خلقتُ السماوات والأرض إلى هذا اليوم، فأنصتوا لي لأحكم بينكم)، فعند ذلك تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ويأتي دور الحساب، ويحاسب الله كل أحد، وتتفرق الكتب وتتطاير الصحف بالأيمان وبالشمائل، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، فيُسعد الله أقواماً ويُشقي أخرين، يسعد أهل الدين وأهل التقوى وأهل الصلاح، ويشقى أهل الفساد وأهل الكفر والعناد.

    بعد ذلك يكون ما أخبر الله به من كونه يميز هؤلاء من هؤلاء، فتُفَرَّق عليهم أنوار، فيمشون في أنوارهم فينطفئ نور المنافق ونور الكافر، ثم يتأخر فيُضرب بينهم بسور له باب، وذلك تمهيد وفصل بين أهل التقوى وأهل الشقاوة -والعياذ بالله- حتى يميز الله بينهم.

    ثم بعدما يتميزون ويركبون الصراط ويسلكونه وهو جسر على متن جهنم يمرون عليه بقدر أعمالهم، كما ذُكر في بعض الأحاديث أنه أحر من الجمر وأحد من السيف وأدق من الشعرة، وأنهم يسيرون عليه بأعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف من أُمرت بخطفه، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش، ومكردس في النار تختطفه تلك الكلاليب التي ذكر أنها مثل شوك السعدان إلا أنه لا يُعلم قدرها إلَّا الله تعالى.

    فإذ نجوا من الصراط وسلكوه وكانوا قد وُعدوا بأنهم يرِدون النار في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قالوا: أين النار التي وعدنا الله بأنا سوف نردها؟ فيقال: إنكم مررتم عليها وهي خامدة. يعني: عندما مروا على الصراط وكان منصوباً على متن جهنم، وذلك لأنه إذا مر المؤمن لم يحس بلهبها، بل تقول: جُز يا مؤمن، فقد أطفأ نورُك لهبي.

    عند ذلك يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ويُقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم بدخول الجنة، ولا يدخلونها أيضاً إلا بعد أن يستأذن لهم أو يشفع لهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائصه ومن مميزاته.

    ذكر الشارع أنواعاً أخرى من الشفاعة

    قال رحمه الله: [النوع الثاني والثالث من الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها.

    النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.

    وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات مع تواتر الأحاديث فيها.

    النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسُن أن يُستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مُخَرَّج في الصحيحين.

    النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه.

    ثم قال القرطبي في (التذكرة) بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يُخرَجون منها ويُدخَلون الجنة.

    النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول شفيع في الجنة)].

    1.   

    تفصيل ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الشفاعات

    الشفاعة العظمى

    هذه من أنواع الشفاعات التي خُص بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبع النوع الأول، أعني شفاعته لأهل الموقف أن يريحهم الله من طول الموقف، وأن ينزل الله ليفصل القضاء بينهم حتى يدخل هؤلاء دارهم وهؤلاء دارهم، فأشهرها هو النوع الأول.

    الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم

    النوع الثاني: شفاعته في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم في أن يدخلهم الله الجنة.

    أي: قوم لهم طاعات ولهم معاصٍِ متساوية كأنه لم تترجح كفة هذه ولا كفة هذه، ولكن كتب الله على نفسه أن (رحمتي تغلب غضبي)، فيتلافاهم برحمته، ويقبل فيهم شفاعة نبيه، فيدخلهم الجنة، مع أن لهم سيئات تساوي أو تقدر بقدر حسناتهم.

    وقد ورد في بعض الأحاديث أنه إذا حاسب الله العبد فإنه يُقتص من سيئاته لحسناته، فإذا بقي له حسنة واحدة؛ ضاعفها وأدخله بها الجنة، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] يعني: يجعلها أضعافاً مضاعفةً حتى يستحق بها الثواب.

    الشفاعة فيمن استحق العذاب

    أما النوع الثالث من أنواع الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار فيدخلون الجنة بعدما أُمِر بهم، وكأنهم من أهل التوحيد، ولكن معهم سيئات ومعهم ذنوب من الكبائر التي تُوُعِّد عليها بالعذاب أو التي تُوُعِّد عليها بنفي الإيمان، أو بعدم دخول الجنة، ولكن فضل الله تعالى ورحمته تعم عباده الذين يشملهم اسم الإيمان واسم التوحيد واسم الاستجابة، فيشفع لهم لكونهم من أمته، فيدخلون الجنة، فهذا نوع ثالث من أنواع الشفاعة.

    الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة

    أما النوع الرابع فهو الشفاعة لأهل الجنة في أن يدخلوها، عندما يقفون عند أبواب الجنة لا يدخلونها حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، فيقول خازن الجنة: (بك أُمرت ألَّا أفتح لأحد قبلك)، فهو يستأذن ويشفع إلى ربه في أن يفتح أبواب الجنة فيدخلها أهلها مع سعة أبواب الجنة، فقد ذُكر أن للجنة ثمانية أبواب، ولكن ما سعة الباب؟

    ورد في الحديث: (ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) من كثرة من يدخل من تلك الأبواب الثمانية، فالباب الواحد سعته مسيرة أربعين سنة، ليس أربعين يوماً ولا أربعين شهراً، بل أربعين سنة، ما مقدار ذلك؟ الله أعلم بمنتهاه، ومع ذلك يأتي عليه يوم -والله أعلم بمقدار ذلك اليوم- وهو كظيظ من الزحام من كثرة من يدخل منه، من هذه الأمة ومن غيرها.

    الشفاعة في دخول قوم الجنة بغير حساب

    أما النوع الخامس من الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن ، لَمَّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أهل الجنة من يدخلونها بغير حساب ولا عذاب، وهم سبعون ألفاً، لما قال الله له: (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، قام عكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يعني: كأنه شفع له أن يكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم أيضاً غيره.

    الشفاعة في الجنة وهي التي أقر بها المعتزلة

    أما النوع السادس من أنواع الشفاعة فهو الشفاعة لقوم من أهل الجنة أن يُزاد في ثوابهم وقد دخلوا الجنة، ولكن مراتبهم نازلة، فيشفع لهم أن تُرفع مراتبهم وأن يُعطَوا أجراً وأن يُزاد لهم في الثواب وفي مضاعفة الجزاء.

    وهذا النوع من الشفاعة اعترفت به المعتزلة الذين أنكروا بقية الشفاعة، وذلك لأنهم إنما أنكروا شفاعة من يُخرج من النار أو من يستحق النار، أما أهل الجنة فأقروا بأنه يكون فيها شفاعة في رفع المنازل ونحوها.

    الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض من استحقه

    أما النوع السابع من الشفاعة، وهو آخر الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ فهو الشفاعة في قوم استحقوا النار ودخلوها بأن يُخفف عنهم من عذابها.

    ومن ذلك شفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف الله عنه من العذاب، ذكر في الحديث أنه يستحق أن يكون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه عرف التوحيد ولكنه لم يقبله، وعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يتبعه، ولكن بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم وحياطته له، وبسبب أنه مكَّنه من أن يدعو إلى الله وقال له: اجهر بما تريد فأنا أنصرك، فنصره وآواه حتى بلغ الرسالة، ولم يتجرأ المشركون على النيل من النبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب ، فبسبب نصرته خُفِّف عنه العذاب، فأصبح في ضحضاح من نار.

    ولكن ليس ذلك بهيِّن، بل قد ذكر أن ذلك الضحاح يغلي منه دماغه، ويرى أنه لا أحد أشد منه عذاباً وهو أخفهم، وقد ورد: (أخف أهل النار من يكون له شراك من نار يغلي منه دماغه)، والشراك: السير الذي تربط به النعل، فهو سير من النار في رجله، ومن شدة حرارته يحمى جسده كله، حتى إن دماغه يكون له غليان من شدة حره، وما يرى أن أحداً أشد عذاباً منه وإنه لأخفهم.

    سرد ما اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعات

    فنأخذ من هذه الأنواع ميزةً وفضيلةً لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث خُصَّ بأنه الذي يشفع هذه الأنواع من الشفاعات:

    الأولى: الشفاعة العظمى التي هي لإراحة الناس من الموقف.

    والشفاعة الثانية: التي هي في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة.

    والشفاعة الثالثة: التي هي في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها.

    والشفاعة الرابعة: التي هي في أهل الجنة أن يُفتح لهم وأن يدخلوها.

    والشفاعة الخامسة: التي هي في بعض أهل الجنة أن تُرفع مراتبهم، وأن يُزاد في ثوابهم.

    والشفاعة السادسة: التي هي في قوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب.

    والسابعة: في بعض أهل النار أن يُخفف عنهم من عذابها.

    هذه أنواع من الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    وبقيت شفاعةٌ أو نوعٌ من الشفاعة ليس خاصاً به بل يشفع به الملائكة وغيرهم، وهو أعم أنواع الشفاعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756410082