إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [16]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تشعب الناس في الكلام على القرآن وكلام الله تعالى، وقد أخذتهم أهواؤهم فذهبت بهم كل مذهب، ولم يسلم إلا من اعتصم بالكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وقد بين العلماء تلك الاختلافات وما فيها من الباطل كما بينوا القول الحق بأدلته.

    1.   

    القرآن الكريم والاعتقادات فيه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله الله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر).

    هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.

    مذاهب الفرق في القرآن الكريم

    وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:

    أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معانٍ، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.

    وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه. وهذا قول المعتزلة.

    وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـالأشعري وغيره.

    ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.

    وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم.

    وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.

    وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي رحمه الله.

    وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات. وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.

    وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.

    وقول الشيخ رحمه الله: (إن القرآن كلام الله)، (إنّ) بكسر الهمزة عطف على قوله: (إنّ الله واحد لا شريك له)، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى)، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنه معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: (نقول في توحيد الله)].

    الكلام هنا على القرآن، وسبب ذلك أن مسألة القرآن من أقدم المسائل التي أنكرتها المبتدعة، أنكرت المبتدعة صفة الكلام، وكان أول من اشتهر بإنكار أن الله يتكلم هو الجعد شيخ الجهم ، وقد قتله خالد القسري في يوم العيد، وجعله كالأضحية حيث قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.

    فأنكر الجعد وكذا تلميذه الجهم أن يكون الله متكلماً، وأن يكون القرآن كلام الله، وادعى أن الكلام لا يحصل إلا من المخلوقين، وأن الكلام يحتاج إلى لهوات وإلى نفس وإلى شفتين وأسنان ولثة ونحو ذلك، فادعى أن هذا لا يتصور إلا من المخلوق، وأن الخالق لا يمكن أن يتكلم.

    فلما أنكر أن الله تعالى متكلم جيء بالقرآن، وقيل: هذا القرآن ماذا تقول فيه؟ أليس هو كلام الله كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] ، وكما سماه قولاً في قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ، وكما ينسب القول إليه بقوله: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119] ، وقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55] وغير ذلك من النصوص التي فيها إثبات أن الله قال، وأنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأن الله كلم موسى تكليماً، وأن هذا القرآن كلام الله في قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] ، وأن كلمات الله قديمة النوع حادثة الآحاد، وأنها لا نهاية لها، كما في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109] وكما في قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115].

    وغير ذلك من النصوص الكثيرة! فلما جيء بهذه النصوص تحير ماذا يقول، فلم يجد بداً من أن يقول: إن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، يعني: كما خلق الإنسان، وكما خلق الأجرام، وكما خلق الكواكب، وكما خلق الحيوانات والنباتات، وأنكر أن يكون كلام الله تعالى، وسيأتي مناقشة قوله وذكر ما استدل به، وبيان ضعف تلك الأدلة.

    ولما تكلم الجعد ثم الجهم ثم تلميذ لهما أيضاً اسمه ( بشر المريسي )، ثم غيرهم من المبتدعة كانوا في أول الأمر ضعفاء مقهورين لا يلتفت إلى قولهم، ولا أحد ينخدع بهم، ولكن حدث في خلافة المأمون أنه قرب بعضهم، وأنه لما قرب بعضهم زينوا له مذهبهم، وبينوا له أنهم أولى بالصواب، وأن القرآن مخلوق، ودعوه إلى أن يمتحن الناس بذلك، فأطاعهم ووافقهم الخليفة المأمون ، وحصلت بذلك فتن عظيمة وامتحن فيها أئمة الإسلام، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو الذي صمد أمام الفتنة وصبر وأوذي في ذات الله، ومات المأمون قبل أن يؤتى بالإمام أحمد ، وتولى بعده أخوه المعتصم ، وهو الذي تولى ضرب الإمام أحمد ، فأمر بضربه بين يديه، وأطال حبسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي المعتصم ، وتولى بعده ابنه الواثق فخفت الفتنة في زمنه، ولكن لم يزل على عقيدة أبويه فيما يظهر، ثم بعده تولى ولد الواثق ويقال له: (المتوكل ) ، وهو الذي نصر السنة، وقرب أهلها، وأبعد المبتدعة.

    الصحيح من أقوال الفرق في القرآن الكريم

    والحاصل أن مسألة القرآن والقول فيه قديمة، حدثت في أول القرن الثاني، ثم استفحلت في أول القرن الثالث وتمكنت، وكثر الخوض في مسألة القرآن وما هو، وكذلك في مسألة كلام الله وكيف يتكلم، وتشعبت المذاهب -كما ذكر الشارح- إلى تسعة أقوال كلها فيما يتعلق بالقرآن، والصواب منها هو القول التاسع الأخير الذي هو قول أهل السنة، وهو إثبات أن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأن كلامه يسمعه من يشاء من خلقه، كما أسمعه موسى لما ناداه، قال تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء:10] ، والنداء لابد أن يكون مسموعاً، وكما ناجاه في قوله: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً [مريم:52] ، ولابد أنه سمع مناجاة ربه.

    وهكذا كلم نبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به وأوحى منه إليه.

    إذاً يعتقد المسلمون بأن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأن هذا القرآن هو كلام الله حقاً حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، وليس المعاني دون الحروف، بل كلها كلام الله تعالى متى شاء، ويعتقدون بأنه لم يزل متكلماً، وما ذاك إلا أن الكلام صفة كمال، وتركها أو فقدها صفة نقص، ويلزم من فقدها أو نفيها نفي التشريع، فلو كان الله تعالى غير متكلم فمن أين يعرف أنه أمر أو نهى؟ ومن أين يعرف أنه يحب هذا ويبغض هذا؟ ومن يعرف أنه أنزل هذا أو لم ينزله؟ فإذاً لابد أنه متكلم، ويضطر كل عاقل إلى إثبات صفة الكلام لله تعالى؛ لأنه موصوف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب.

    أقوال شاذة مخالفة وما يلزم منها

    فأما قول غلاة الصابئة والفلاسفة ونحوهم: إنه ما يفيض من العقل الفياض، فالعقل الفياض عندهم كأنه عبارة عن الخالق، وما يفيض عنه: بمعنى: ما يقع في النفوس أو تتحرك به العقول. يسمى ذلك فيضاً من العقل الفياض، فعندهم -على هذا- أن كل شيء في الوجود من قول الله ومن كلامه، ولهذا طبق ذلك أهل الاتحاد؛ حيث يقول قائلهم:

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

    وهذا من أمحل المحال وأبطل الباطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون كلام الكفار كلام الله، وكلام الإلحاد وكلام الكفر والزندقة والنفاق ونحو ذلك عند هؤلاء كلام الله.

    وأما قول المعتزلة: إنه مخلوق، وإن الله خلقه كما خلق البشر وكما خلق حركات البشر، فهذا قول باطل ستأتي مناقشته.

    وأما قول ابن كلاب وكذلك الأشعرية ونحوهم: إنه معنى واحد قائم بنفسه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.. إلى آخره، فهذا أيضاً قول باطل، وذلك لأنه يلزم منه أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن، ومعنى القرآن هو معنى الإنجيل ليس بينهما فرق، وهذا معلوم بطلانه، فإن في التوراة أحكاماً ومواعظ لم ترد في القرآن بلفظها، وكذلك في التوراة أشياء ليست في الإنجيل، وفي الإنجيل أشياء ليست في التوراة، وهذا دليل على بطلان قول الذين يدعون أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى.

    وأما الأقوال الأخرى كالذين يدعون أنه أزلي، فحروفه أصوات أزلية -أي: قديمة- فمقتضى ذلك أن الله لا يتكلم الآن، وأنه تكلم في وقت ثم انقطع من الكلام، تعالى الله عن ذلك وأشباهه من الأقوال.

    فالحاصل أنا نعتقد أن هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من الله، وتلاه المسلمون، وقرءوه وتعبدوا بتلاوته، وصدقوا بأنه قول الله ليس قول البشر.

    ونعتقد أن هذا كلام الله حقاً ليس كلام غيره، ويأتينا مناقشة أقوال المخالفين.

    1.   

    نقض أدلة المعتزلة على أن القرآن مخلوق

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم؛ فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معانٍ وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً.

    والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] ، فكان عُبَّاد العجل مع كفرهم أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً. وقال تعالى عن العجل أيضاً: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] ، فعلم أن نفي رجوع القول، ونفي التكليم نقصٌ يستدل به على عدم ألوهية العجل.

    وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم! فيقال لهم: إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى قال: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65] ، فنحن نؤمن أنها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] ، وكذلك تسبيح الحصى والطعام وسلام الحجر كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف.

    وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً) أي: ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به، وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله:

    وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

    تحريف بعض المعتزلة للقرآن ليوافق معتقدهم

    ولقد قال بعضهم لـأبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة -: أريد أن تقرأ:

    وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى [النساء:164] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله، فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فبهت المعتزلي!].

    عرفنا أن صفة الكلام صفة شرف وصفة كمال، ونفيها صفة نقص، واستدل الشارح بقوله تعالى في حكاية قصة العجل الذي عبده أصحاب موسى، قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف:148]، وقال في موضع آخر: أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89]، وبخهم موسى وكذلك هارون، وقالوا: كيف تعبدون من لا يتكلم؟ وكيف تعبدون من لا يكلمكم؟ فلم يقولوا كما قالت المعتزلة، فلو كان الله تعالى لا يتكلم لقال قوم موسى لموسى: وربك أيضاً لا يتكلم. ولكنهم أعقل من المعتزلة، فعرف بذلك أن صفة الكلام صفة كمال وشرف، وأنها ثابتة لله تعالى عن طريق التواتر لكثرة الأدلة التي تبينها، والتي اتضحت دلالتها من تلك النصوص.

    وفي هذا أن المعتزلة الذين ادعوا أن الكلام مخلوق، وأنه كسائر المخلوقات خلقه كخلق الإنسان ونحوه، أنهم لم يعتبروا بالأدلة التي بين أيديهم، ولم ينظروا في هذه النصوص التي دلالتها واضحة.

    وقد سمعنا هذه القصة التي أوردها عن ذلك المعتزلي الذي جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من أهل العراق وقال له: اقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ موسى تكليماً)، ليكون موسى هو المكلم ولا يكون الله متكلماً، ولكن أبا عمرو رحمه الله بين له أن ذلك لا يفيدك، فلو قرأت أنا أو أنت هذه الآية: (وكلم الله)، لجاءتنا آية لا يمكن أن نحرفها وهي قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، فإنها صريحة بأن الرب تعالى هو المكلم، (وكلمه ربه)، ولهذا بهت ذلك المعتزلي ولم يرد شيئاً.

    وقد اشتهر أن جمعاً من المعتزلة أولوا التكليم هنا بأنه التجريح، فقالوا: (كلم الله موسى تكليماً) يعني: جرحه، لأن الكلم: الجرح، كما في قوله: (ما من مكلوم يكلم-يعني: ما من مجروح يجرح-إلا وجاء يوم القيامة وكلمه يدمي) فادعوا أن قوله تعالى: (كلم الله موسى) يعني: جرحه بأظافير الحكمة، ولكن هذا قول باطل؛ فإن النصوص دالة على أنه هو الكلام المسموع؛ ولهذا أثبت الله أنه ناداه في قوله: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء:10]، وقوله تعالى: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16]، وناجاه فقال تعالى:وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً [مريم:52]، والمناجاة والنداء لا يكون إلا بنداء مسموع، فكيف يئولون ذلك ويحرفونه تحريفاً لفظياً أو معنوياً؟

    كذلك ثبت أن الله تعالى خاطب موسى منه إليه، وذكر خطابه في آيات، كقوله: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:43-46]؛ فالله تعالى خاطبه وأسمعه ذلك الخطاب، فلابد أن يكون ذلك الخطاب بكلام مسموع، فلا يستطيع المعتزلة أن يحرفوا ذلك.

    فالحاصل أن تأويلاتهم وحرصهم على صرف الدلالات لا يفيدهم لكثرة الأدلة.

    تكليم الله لأهل الجنة يبطل قول المعتزلة

    قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يـس:58]، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. وذلك قول الله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجة وغيره.

    ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77]، فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البخاري في صحيحه: (باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة)، وساق فيه عدة أحاديث، فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].

    هذا أيضاً نوع من الأدلة، وهو ما حكاه الله تعالى من كلامه لأهل الجنة في عدة آيات، فيذكر الله تعالى أنه يخاطب أهل الجنة، فيقول: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، ويقول تعالى يخاطب عباده يوم القيامة: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29].

    كذلك يحكي الله بأنه إذا دخل أهل الجنة الجنة سمعوا كلام الله، وذلك معنى قول الله: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، والقول لابد أن يكون مسموعاً، فلابد أن أهل الجنة يسمعونه، ولا شك أن سماعهم لكلامه يعتبر نعمة ونعيماً، ولذة يلتذون بها، فيلتذون بسماع كلام ربهم كما يلتذون برؤية ربهم، ويتنعمون بذلك، ولكن أهل النار محرومون من الجميع، فحرموا من رؤية ربهم، كما في قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فصار حجابهم عذاباً لهم، وحرموا من سماع كلامه الذي هو كلام نعيم وكلام رحمة لهم، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ [آل عمران:77] يعني: لا يكلمهم كلام رحمة وكلام نعمة، ففرق الله بين أهل الجنة وأهل النار بأن هؤلاء يكلمهم وهؤلاء لا يكلمهم، فدل على أن كلام الله تعالى حق وثابت، وأن تركه لكلام هؤلاء يعتبر عذاباً أليماً في حقهم.

    ولا شك أن الكلام اسم لكل ما يسمعه المكلم والمنادى، وأهل الجنة ينادون فيرفعون أنظارهم فيسمعون كلام الله منه إليهم.

    وكذلك موسى لما ناداه ربه سمع كلام الله تعالى، وكذلك ثبت أيضاً أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] يعني: أسمعهم وأجيبهم إذا دعوني. ونزل أيضاً في موسى في خصائصه أن الله خصه بإسماعه كلامه في قوله تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فأخبر بأن كلامه الحق الذي أسمعه موسى أنه من خصائص موسى دون غيره من أهل زمانه، وكل ذلك دلائل وشواهد ظاهرة في أن الله متكلم ويتكلم إذا شاء، وأن ذلك من صفات الكمال.

    نقض استدلال المعتزلة بآية (الله خالق كل شيء)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] والقرآن شيء فيكون داخلاً في عموم (كل) فيكون مخلوقاً، فمن أعجب العجب، وذلك أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، ولا يخلقها الله، فأخرجوها من عموم (كل) وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفاته به تكون الأشياء المخلوقة؛ إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54]، ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل، وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر؛ فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم (كل)، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين (نَطَق وأَنْطَق) وإنما قالت الجلود: أَنطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21]، ولم تقل: نطق الله. بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً! تعالى الله عن ذلك.

    وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي :

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

    ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير؛ لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره والأعمى قد قام وصف البصر بغيره، ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك].

    نعرف من هذا أن هذه الآيات التي استدلوا بها واردة عليهم، استدلوا بهذه الآية وهي قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فقالوا: القرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم (كل)، فيكون مخلوقاً.

    ورد عليهم الشارح بأن هذا من أعجب العجب! فأنتم تقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، فتخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله، لماذا لم تدخلوها في عموم (كل) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وتدخلون في ذلك صفة من صفاته وهو القرآن وهو كلام الله؟ فتدخلون صفته في كونها مخلوقة ولا تدخلون أفعالكم ولا حركاتكم في كونها مخلوقة لله! وهذا من العجب.

    ثم استدل بأنه يلزم من قولهم أن يوصف الله تعالى بالصفات التي قامت بالمخلوقات، وذلك لأنهم يقولون: خلقه في أفواه العباد. فهذا القرآن خلقه في أفواه العباد، أو خلقه ثم تكلم العباد به، فهو ليس كلامه ولكنه خلقه، ومع ذلك يضاف إليه.

    ولا شك أن هذا أيضاً قول باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون من تكلم بكلام يوصف به غير المتكلم، فالله تعالى -على زعمهم- ما تكلم، ولكن يقال: هو كلامه وإن لم يكن هو المتكلم به؛ حيث إن الكلام الذي قام بمخلوقاته يكون مضافاً إليه وإن لم يقم به، ويلزم على هذا أن يوصف الأعمى بأنه بصير؛ لأن البصر قد قام بغيره، والبصير يوصف بأنه أعمى؛ لأن العمى قد قام بغيره، وأن يوصف الله بصفات المخلوقات كلها، فيوصف المخلوق بأنه عاجز، وعلى هذا يقال: العجز لله؛ لأنه هو الذي خلقه، وكذلك يوصف المخلوق بأنه جاهل وبأنه مجنون مثلاً، وبالكفر، وبالفسوق، وبالزنا، وبالغصب، وبالإلحاد وما أشبه ذلك، فعلى منطوقهم تجوز إضافة هذه الأفعال كلها إلى الله تعالى، ويجوز -على قولهم- أن تكون الكلمات التي تجري في الخلق كلها من كلام الله حتى وإن كانت كفراً وزندقة وسباً وهجاء وكلاماً قذراً يتعلق بالأقذار والأوساخ ونحو ذلك.

    ولا شك أن الجلود تقشعر من هذه الأقوال ومن حكايتها، فعرف بذلك بطلان قولهم، فأصبح القول الصحيح هو أنه كلام الله تعالى، وأن ما قالوه وما اعتمدوه لا دلالة لهم في ذلك.

    فاعتقد -أيها المسلم- بأن هذا القرآن كلام الله حقاً تكلم به، منه بدأ وإليه يعود كما شاء، وإن لم نعرف كيفية تكلمه، وكيفية إنزاله وما يتعلق بذلك، بل نعرف ونتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، وأن من كلامه القرآن وسائر الكتب التي أنزلها على عباده، فإذا اعتقدنا بذلك قلنا بأن هذه الكتب التي أنزلها ضمنها شريعته وضمنها أمره ونهيه ونحو ذلك.

    والله تعالى فرق بين الخلق والأمر في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فدل على أن الأمر ليس الخلق، فالأمر هو الكلام، والخلق إيجاد المخلوقات، والأمر هو الذي يخلقها به، يقول تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فالمخلوق يخلق بالكلام، بقوله: (كن)، وهو أمره، فقوله: (كن) فعل أمر يخلق الله تعالى به المخلوقات، فـ(كن) ليست من مخلوقاته لكونها من كلام الله، وإنما المخلوق ما يحدثه بها، أي: ما يخلقه من المخلوقات بقوله: كن فيكون، هذا الصحيح.

    وكل تشعباتهم وتأويلاتهم بعيدة عن العقل وعن الفطرة التي فطر الله عليها العباد.

    نقض عبد العزيز المكي لأدلة المعتزلة

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر : يا أمير المؤمنين! ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.

    قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: (اسأل أنت). وطمع فيَّ، فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لابد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أنا كلامه في نفسه-، أو: خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب، فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع. فقال عبد العزيز : إن قال: خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً، وإن قال: خلقه في غيره؛ فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله، وإن قال: خلقه قائماً بنفسه وذاته فهذا محال؛ لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة].

    هي رسالة مطبوعة اسمها (الحيدة) كتبها عبد العزيز الكناني ، ذكر فيها أنه لما اشتهر عن بشر المريسي أنه يقول: إن القرآن كلام الله حاول أن يجادله، فذكر أنه لما صلى مرة الجمعة قدم ولده أمام الناس، فسأله بصوت رفيع وقال: يا بني! ما تقول في القرآن؟ فقال بصوت رفيع: القرآن كلام الله، فلما سمع قبض عليه؛ لأن ذلك في زمن فتنة قد افتتن بها خلق كثير، وقد انتشر القول بأن القرآن مخلوق، وقد هددوا وتوعدوا من يقول بأن القرآن كلام الله، عند ذلك أحضر بين يدي المأمون وهو أحد خلفاء بني العباس، وكان ممن دخله كلام المعتزلة وزينوا له حتى اعتقد ما يقولونه بأن القرآن مخلوق.

    فلما حضر بين يديه أمره بأن يحضر من يناظره، فأحضر بشراً المريسي وهو رأس المعتزلة أو رأس الجهمية في ذلك الزمان، فتناظرا بين يدي المأمون ، فكلما أتى بحجة قوية حاد عنها ذلك المعتزلي الجهمي، فسمى رسالته بالحيدة.

    وفي هذه المقالة أنه ألزمه بإحدى ثلاث، قال له: إذا قلت بأن القرآن مخلوق فلابد من واحدة من ثلاث: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في ذاته، وإما أن تقول: خلقه في غيره. وإما أن تقول: إنه خلقه مستقلاً بنفسه. ولابد من واحدة، فحاد ولم يجب المريسي ، ولم يستطع أن يتخلف، فشرحها الكناني رحمه الله وقال: إذا قلت: إن الله خلقه في ذاته، فهذا محال؛ لأنه يكون محلاً للحوادث، والله تعالى منزه عن أن يكون محلاً للحوادث، أي: أنه لم يحدث له صفة كانت مفقودة، بل هو قديم بصفاته كما تقدم في قول المؤلف: (رازق قبل خلق من يرزقه، خالق قبل وجود الخلق)، فبطل أن يكون خلقه في ذاته.

    وإذا قلت: إنه خلقه مستقلاً -أي أنه مخلوق مستقل اسمه القرآن- فيلزم بذلك أن نشاهد ذلك المخلوق، فالمخلوقات لابد أنها تشاهد، وأيضاً لا بد أنه يأتي عليه التغير.

    وقد سمعت أيضاً حكاية أن أحد الذين امتحنوا في القرآن لما أحضروه مرة قالوا له: ماذا عندك؟ قال: رأيت رؤيا. رأيت أني قمت في الليل لأصلي، فلما كبرت قرأت الفاتحة وقرأت سورة: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الركعة الثانية قرأت الفاتحة وأردت أن أقرأ سورة الإخلاص فلم أستطع ولم أقدر، فرفعت رأسي فإذا القرآن مسجى، فقلت: ما هذا؟ قالوا: القرآن ميت، فأنزلته أنا ومن ومعي وغسلناه وكفناه وصلينا عليه، فقالوا له: القرآن يموت؟! قال: نعم، أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت، فخاصمهم بذلك وبين لهم أن هذه وإن كانت رؤيا فإنها رد عليكم، فإذا قلتم: إن القرآن مخلوق منفصل مستقل يرى فلابد أنه يأتي عليه التغير، فيمرض ويشفى، ويكبر ويصغر، ويزيد وينقص، وينطق بنفسه، فهو مخلوق مستقل، فمن الذي لمسه؟ ومن الذي شاهده؟

    القرآن إنما هو هذا الكلام الذي نقرؤه، فهو عرض من الأعراض، وإذا نطقنا به فإنا لا نشاهد الكلمات التي نتكلم بها تخرج ويراها من يراها، فهو عرض تكلم الله تعالى به ليس بمخلوق.

    وإذا قلتم: إنه كلام خلقه الله في غيره، لزمكم أن كل ما يتكلم به الناس فهو كلام الله خلقه في غيره، يعني: خلقه في ألسنة الناس وخلقه في قلوبهم، فما ينطقون به فهو من كلام الله.

    وقد طرد ذلك كثير من الملاحدة الذين يقال لهم: (أهل الاتحاد)، حتى قال بعضهم:

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

    فجعلوا كل ما ينطق به الناس كلام الله ولو كان كفراً، ولو كان هجاء، ولو كان شعراً، ولو كان سخرية أو ما أشبه ذلك، جعلوا كل ما تكلم به الناس من كلام الله تعالى، تعالى الله عن قولهم.

    فإذاً لما بطلت هذه الثلاثة ما بقي إلا أنه كلام الله ليس بمخلوق.

    قال المؤلف رحمه الله: [وعموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألا ترى إلى قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير.

    وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام؛ إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمّل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.

    والمراد من قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي: كل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو مخلوق فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه)، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذاً: كان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً.

    وأما استدلالهم بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:30-31].

    وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق)، قال تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91] ، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَة [البقرة:224] ، وقال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91] ، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] ، وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الإسراء:39] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً [الزخرف:19] ونظائره كثيرة، فكذا قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:30]].

    هذا دليل مما استدلوا به، وذكر نقضه، فالدليل الأول -كما تقدم- استدلوا بعموم (كل) في قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، قال بشر المريسي لـعبد العزيز الكناني : إن قلت: إن كلام الله شيء خاصمناك؛ لأنه داخل في هذه الآية، وإن قلت: إنه ليس بشيء ضللت وكفرت، وذلك لأن المحسوسات كلها داخلة في كل شيء. ولكن بشراً لما قال ذلك اعتقد أنه قد غلب الكناني ، وأنه ظهر عليه بالحجة، فقال له الكناني : ما أمرتك بأن تجيب على الآية، دعني أتولى الجواب، فقال: إن القرآن شيء لا كالأشياء، القرآن شيء ولكن ليس كالأشياء التي في هذه الآية، والجواب الثاني هو ما سمعنا من أن كلمة(كل) قد ترد عامة، ولكن تأتي عامة بحسب ما يراد منها لا أنها يدخل فيها كل الأشياء.

    واستدل الشارح بدليلين: أحدهما: قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] يحكي الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد أنها تدمر كل شيء، ومع ذلك بقيت أشياء موجودة ما دمرتها، فدل على أن كلمة (كل شيء) يراد بها: كل شيء يقبل التدمير.

    والدليل الثاني: قوله تعالى في قصة بلقيس ملكة اليمن: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، ومعلوم أن هناك أشياء لم تؤت منها كالذي أوتي سليمان، فإنه أوتي ذلك الصرح، وأوتي الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وسخرت له الشياطين كل بناء وغواص، ومع ذلك ما أوتيت مثل ذلك، وهي في زمنه، ومع ذلك ملكها لم يتجاوز الجهة التي هي بها، فإذاً قوله تعالى: ( أوتيت من كل شيء) عام، ولكنه مخصوص بما يؤتاه مثلها.

    فعرف أن قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] يراد به كل شيء من المخلوقات، ولا يدخل في ذلك ذاته الكريمة، ولا يدخل في ذلك أيضاً صفاته كعلمه وقدرته وبصره؛ فإنها من جملة ذاته، ومن ذلك كلامه فإنه صفة من صفاته، فلا يدخل في عموم (كل)، وهذا توجيه الدليل الأول.

    والدليل الثاني الذي استدلوا به أو الشبهة الثانية التي تشبثوا بها قول الله تعالى في القرآن: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، فقالوا: (جعلنا) بمعنى: (خلقنا)، واستدلوا بقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] يعني: خلق الظلمات والنور. فنقول: الجواب عن هذه الآية: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] جواب الشارح وهو جواب واضح، يقول: كلمة(جعل) تأتي متعدية إلى مفعول واحد، وتأتي متعدية إلى مفعولين، فإذا كانت إلى مفعول واحد فهي بمعنى (خلق)، كما في هذه الآيات التي استدل بها، فإن قوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً [النبأ:10-11]، وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً [النبأ:9] (جعل) فيه بمعنى: (صير)، وأما قوله: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] فـ(جعل) فيها بمعنى (خلق).

    فإذا تعدت إلى مفعولين فهي بمعنى: (صير) ليست بمعنى (خلق)، فمنه هذه الآية: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] يعني: صيرناه قرآناً عربياً.

    ومنه الآيات التي استدل بها وهي كثيرة؛ فإن قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَة لأيمانكم [البقرة:224] هل معناه: تخلقوا الله عرضة؟ وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً [الزخرف:19] هل معناه: خلقوا الملائكة؟ المعنى: صيروا الملائكة، وكذلك في قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] ليس معناه: لا تخلق يدك مغلولة، بل معناه: لا تصير. وهكذا بقية الآيات.

    فهاتان شبهتان لا مستند للمعتزلة في التعلق بهما.

    نداء الله لموسى ودلالاته

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة [القصص:30] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها؛ فإن الله تعالى قال: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن [القصص:30]، والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة [القصص:30] أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة. كما يقول: سمعت كلام زيد من البيت، فيكون (من البيت) لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وهل قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله، وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى].

    مما استدلوا به -وهي شبهة داحضة- أن استدلوا بقوله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ [القصص:30] قالوا: إن موسى سمع الصوت من الشجرة، فالشجرة هي التي تكلمت، أو خلق الله الكلام في الشجرة. فلذلك قالوا: إن كلام الله مخلوق، وهذا قول بعيد، ويقول المؤلف: إنهم عموا عما بعد الآية وعما قبلها، فإن قوله تعالى: (نودي) النداء يكون بصوت مسموع، وهذا مما استدلوا به على أن الله تعالى متكلم؛ حيث أثبت لنفسه النداء في عدة آيات، قال تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء:10] وقال: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16]، وقال: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً [مريم:52] وقال: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]، وقال: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62] ونحو ذلك، فالنداء من الله بكلام مسموع، فإذاً: قوله (نودي)، يعني ناده ربه بكلام سمعه.

    وأما قوله تعالى: (في البقعة المباركة) يعني أنه نودي وهو في البقة المباركة التي ذكرها بقوله: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]، هذه البقعة ذكر الله بها البركة فقال تعالى: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]؟

    ثم قال: (من الشجرة) سمع الصوت من جهة الشجرة لا أن الشجرة هي التي نطقت، وإنما سمع الصوت من جهتها، ورأى تلك النار التي قال عنها: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [طه:10] أي: رأى ضوءاً يشتعل عند تلك الشجرة فظن أنه نار، فذهب ليأتي بوقود لأهله لعلهم يصطلون، وكان ذلك في شدة برد، فقال: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، فلما جاء إلى الشجرة سمع هذا النداء، وفي ذلك النداء قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:14-17]، كل هذا تكلم الله به وسمعه، ولأجل ذلك يسمى موسى كليم الله، بمعنى أن الله كلمه وأسمعه كلامه، وليست هي الشجرة التي نطقت بذلك، وإنما سمع الصوت من جهة الشجرة، أي: جاء من تلك الجهة. كما يقول القائل: كلمني زيد من الدار، بمعنى أن الصوت خرج من الدار، لا أن الدار هي التي نطقت.

    فإذاً هذا دليل بعيد أن يتعلق به، وهذا من جملة أدلتهم الباطلة.

    علاقة الأمينين بالقرآن الكريم

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فقد قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم!

    قيل: ِذكْرُ الرسول معرَّف أنه مبلِّغ عن مرسله؛ لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأ من جهة نفسه، وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر، وأيضاً فقوله: رَسُولٌ أَمِينٌ [الشعراء:107] دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وأيضاً فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلاً يقول:

    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

    قال هذا شعر امرئ القيس ، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلام الرسول، وإن سمعه يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5] قال: هذا كلام الله إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام مَن؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك؟].

    يقول: قد يعترض معترض بهذه الآية التي في سورة الحاقة وفي سورة التكوير، وهي قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:40-42] وفي الآية الأخرى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، فالرسول هاهنا هو جبريل الذي بلغه عن الله، فمعنى قوله: (قول رسول) تبليغ رسول. ونأخذ من كلمة(رسول) أنه لم ينشئه، وأنه لم يقله من نفسه، وإنما بلغه حيث إنه مرسل.

    فالرسول هو الذي يحمل رسالة من غيره، فكل من حمل كلاماً أو حمل كتاباً فإنه يسمى رسولاً، تقول: أرسلت غلامي بكذا وكذا، أو: يأتيكم رسولي. أي: منتدبي. وأرسلت ابني إلى فلان. فالرسول بمعنى الذي يحمل رسالة، فهذا القرآن قول رسول، أي: قول جاء به رسول أرسل به، وذلك الرسول الذي ذكر في هذه الآيات هو جبريل عليه السلام، يبين ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] فهكذا قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] ، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، فوصف بأنه أمين في الموضعين، فيؤخذ من ذلك أنه مأمون على ما أرسل به، لا يدخل فيه زيادة ولا أي نوع من التغيير، بل يبلغه كما هو دون أي تحريف أو تغيير.

    إذاً لا متعلق في هذه الآية، بل الآية واضحة بأنه بلغه عمن أرسله، والذي أرسله به هو الله تعالى.

    ثم يقول: الكلام إنما يضاف إلى من قاله لا إلى من بلغه، فهو كلام الله، والرسول الذي بلغه سواءٌ أكان جبريل أم محمداً إنما منه التبليغ، وقد ذكر الله ذلك في عدة آيات، كقوله تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48]، وقوله تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99] ، وقوله تعالى: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] ، وقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ [الأحزاب:39]، فالتبليغ معناه إيصال ما بعث به إلى المرسل إليهم كما هو دون نقص أو تغيير.

    فإذاً هو بلغه، ونشهد بأنه بلغ ما أرسل به إلى هذه الأمة، وأن الأمة قد حفظته.

    ثم يقول: الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من بلغه.

    فنحن نقولك: كلام الله وتبليغ جبريل. أي: نزل به جبريل، وقرأه وعلمه للأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الله ولا يضاف إلى من بلغه، ويستدل على ذلك بأن الكلام يضاف إلى من ابتدعه بقولنا إذا سمعنا من ينشد:

    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

    هذا بيت في أول قصيدة من المعلقات، وهو لـامرئ القيس . فإذا سمعناه نقول: هذا كلام امرئ القيس ، ولا نقول: هذا كلامك أيها المتكلم. وإذا سمعناك تقول -مثلاً-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل نقول: هذا كلامك أيها المتكلم؟ نقول: هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. ونعرف أنه أول من قال هذا، وإذا سمعنا من يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] ونحن نعرف أنه كلام الله قلنا: هذا كلام الله، ليس كلامك أيها المتكلم الذي أسمعتنا، إنما أنت مبلغ.

    فإذاً هو كلام الله وتبليغ رسل الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756010186