إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [53]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوقف من محاسن الإسلام، وأجره مستمر ما بقي، فحري بأهل الأموال أن يوقفوا في حياتهم ما يكون صدقة جارية لهم، وللوقف أحكام بينها الفقهاء رحمهم الله تعالى.

    1.   

    أحكام الوقف

    قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق على أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، قال: فتصدق بها عمر للفقراء، وفي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه -وفي لفظٍ: غير متأثل)].

    تعريف الوقف

    هذا الحديث يتعلق بالوقف، والوقف هو: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ويكون في كل عينٍ ينتفع بها مع بقاء عينها، وهو من أفضل القربات.

    في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه ملك هذه الأرض وأعجبته؛ لكونها ذات غلة وذات منفعة، وأحب أن يقدمها لآخرته، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بها، ولكن صدقة لا تباع ولا تبدل ولا تنقل، بل ينتفع بها مع بقاء عينها، ولا تجري فيها سهام المواريث، ولا يتصرف فيها المالك تصرفه في ملكه المطلق، بل ينتفع بها مع بقاء أصلها ويتصدق بغلتها.

    وهذا هو شأن الوقف: أن يجعل غلته في كل شيء ينفع في الآخرة، فتصدق بها على الفقراء والمستضعفين؛ لأنهم مستحقون وفيهم الأجر، لسد حاجتهم، وكذلك المساكين، وهم أخف حاجة من الفقراء، الفقراء: هم الذين يكون دخلهم أقل من نصف حاجتهم، والمساكين يكون دخلهم أكثر من النصف ودون الكل، والجميع يحتاجون إلى تمام الكفاية.

    كذلك ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع الذي لا يجد ما يوصله إلى بلده، ولو كان له في بلده مال، لكن سافر وطال سفره، فنفذ ما معه أو سرقت نفقته، أو طال سفره ولم يكن يظن أنه يطول، أو ظن أنه يجد ما يرجع به إلى أهله فلم يجد، فأصبح منقطعاً، ويقال له: ابن السبيل؛ لأن السبيل هي الطريق، فكأنه لملازمته لها ابن لها.

    وكذلك الضيف الذي ينزل على أهل القرية له حق الإكرام، بأن يقروه جائزته يومه وليلته.

    وهكذا أيضاً الوجوه العامة الخيرية يصرف فيها الوقف، فهذا مصرف وقف عمر جعله في هؤلاء. وأعطى الأقارب من الفقراء والمساكين؛ لأن لهم زيادة حق، والصدقة عليهم صدقة وصلة، ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى اثنتان صدقةٌ وصلة)؛ فلذلك جعل عمر فيها حقاً لذوي القربى.

    هذا هو الوقف، يكون في غلة الشيء الذي يمكن استغلاله مع بقاء عينه، فإذا كان الوقف أرضاً تغل، أي: تزرع مثلاً، ويحصل من زرعها ما يزيد على نفقتها، فهذا الزائد هو الذي يصرف للفقراء والأقارب والمعوزين.

    وإذا كان فيها شجر؛ كنخل وعنبٍ ورمان وتينٍ، وما أشبهه مما له ثمرٌ ينتفع به فيؤكل أو يباع أو نحو ذلك؛ فثمرته تصرف -إما بعد بيعها وإما قبله- للمعوزين وللمحتاجين، ويكون لصاحبها الذي أوقفها أجرٌ بقدر ما انتفع بها.

    وإذا كان الوقف -مثلاً- داراً جعلها مسكناً للمستضعفين أو غيرهم، صدقة على أنها وقف، فقد ثبت أن الزبير رضي الله عنه أوقف داراً وجعلها للمردودة من بناته، أي: المطلقة من بناته تسكن في هذه الدار، ولا تورث ولا تباع.

    إذا جعل الإنسان داراً موقوفةً للمحتاج من أولاده أو أولاد أولاده، فهذا أيضاً من الوقف الذي ينتفع به مع بقاء عينه.

    فضل الوقف

    للموقف أجر، والوقف هو المراد بالصدقة الجارية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فبدأ بالصدقة الجارية.

    فالدار التي تؤجر ويتصدق بأجرتها صدقة جارية، والأرض التي فيها شجرٌ أو لها أجرة أو فيها ثمرةٌ أو نحو ذلك، يتصدق بثمرها وغلتها؛ فهذه صدقة جارية، وكذلك الأعيان التي ينتفع بها تعتبر أيضاً صدقةً جارية، ولو لم يكن فيها غلة، ولكن ينتفع بها، فالمساجد التي يتعبد فيها، إذا بنى الإنسان مسجداً فإنه يعتبر صدقةً جارية، وكذلك جميع المنافع التي يرتفق بها تعتبر صدقة جارية، مثل فُرُش المساجد حيث يرتفق بها المصلون، فتعتبر من الأوقاف الجارية النافعة، ومكيفاتها مثلاً ومراوحها وأدوارها ونحو ذلك من الصدقات الجارية.

    وقف المنقولات

    يجوز وقف الكتب التي ينتفع بها، ووقفها من الصدقات الجارية؛ وذلك لأنها باقية ينتفع بها من يقرأ فيها أو يسمع منها أو نحو ذلك مع بقاء عينها، فلذلك اعتبرت من الأعمال الخيرية التي يجري أجرها لمن سبلها، ويقال كذلك في كل الأشياء التي يمكن أن ينتفع بها.

    كانوا في قديم الزمان يوقفون الأجهزة التي ينتفع بها في المنافع العامة أو الخاصة، فيوقف مثلاً الإنسان الأسلحة التي يقاتل بها في سبيل الله، ويرجو بذلك الأجر من الله، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل إنه منع الزكاة: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، لقد حبّس عتاده -وفي رواية: وأعبده- وسلاحه في سبيل الله)، كان عنده أسلحة فقالوا له: أعطنا زكاة هذه الدروع وزكاة هذه الرماح وزكاة هذه السيوف وزكاة هذه الخناجر.. ونحوها، فامتنع وقال: هذه في سبيل الله، إذا غزونا أعطيت كل سيفٍ أو كل رمحٍ أو كل قوسٍ من يقاتل به، فتصبح كأنها غير مملوكة له، ولو كانت في بيته، فلذلك كان يريد أجرها، فهذه مما ينتفع بها مع بقاء عينها.

    كذلك أيضاً كانوا يوقفون العتاد لمن يحج إذا كان عاجزاً عن الحج، فيركبونه على الفرس أو على الراحلة من الإبل أو نحوها، ويقولون: هذه الراحلة أو هذا البعير مسبلٌ للمجاهدين أو للحجاج، وكذلك: هذه الرحال التي كانوا يجعلونها على ظهور الإبل والركائب يسبلونها أيضاً لمن ينتفع بها، وكذلك أيضاً الأشياء التي يحتاج إليها في البلد كانوا يوقفونها، ولا يزال موجوداً في هذا البلد أشياء موقوفة، وإن كان قد قل الانتفاع بها، فيوجد عند القدماء من أهل البلد قدورٌ مسبلةٌ لمن يطبخ فيها مثلاً، أو أرحية لم يطحن عليها، أو أسلحةٌ لمن يحتاج إليها، أو ما أشبه ذلك، فهذه من الأوقاف.

    وتجددت أشياء وقامت مقامها، وأصبح يمكن إيقافها، ويمكن تسبيلها، فمثلاً بدل ما كانوا يوقفون القربة أصبحوا يوقفون البرادات ونحوها مما يقوم مقامها في كونها يحصل بها تبريد المياه لمن يشرب، بدل ما يشرب ماءً حاراً.

    كذلك بدل ما كانوا يوقفون المراوح اليدوية أصبحوا يوقفون مراوح كهربائية أو مكيفات أو ما أشبهها مما يحصل به الكفاية، ويحصل لمن أوقفها الأجر، والأجهزة كلها فيه أجر، حتى مثلاً هذه الطاولة الذي أوقفها له عليها أجرٌ، وهذه الأجهزة المكبرة ونحوها الذي أوقفها له أجرٌ، وهذه الفرش في هذه المساجد وهذه الأدوار ونحوها الذي أوقفها يحتسب في ذلك الأجر، ويجري عليه أجرها ما دام ينتفع بها.

    المدارس الخيرية التي يدرس فيها القرآن ونحوه، ويوقف فيها المصاحف والرسائل ونحوها، ولا شك أيضاً أن فيها أجراً، حيث إنه ينتفع بها، ويلحق بذلك الرسائل والأشرطة الإسلامية إذا سبلها الإنسان، فله أجرٌ ما دام ينتفع بها.

    تنجيز الوقف وخروجه من ملك الواقف

    الوقف يسمى وقفاً منجزاً، أي: ليس للواقف أن يرجع فيه؛ وذلك لأنه أخرجه لله، وإذا أخرجه فإنه يخرجه من ملكيته، وفي وقف عمر قال: (لا يباع أصلها)، فإذاً: لا يجوز الرجوع فيها متى أوقفها.

    لو أن إنساناً أوقف مكيفات في مسجد، ثم إن ذلك المسجد هدم، وألغي لطريق أو لحاجة إلى توسعة أو نحو ذلك، فهذه الأدوات التي فيه، تنقل لمسجدٍ آخر، فليس له أن يرجع في مكيفاته ولا في نوافذه ولا في فرشه، ولا في أبوابه، ولا في المكبرات أو الأشياء التي تبرع بها، لا يجوز له أن يعود فيها؛ وذلك لأنه أخرجها لله، فتصرف إما للوكالة التي تتولى ذلك، وهي في هذه الأزمنة وزارة الأوقاف، فإنها هي التي تتولى غلال الأوقاف أشجاراً أو عقاراً أو ما أشبه ذلك، وإما أن ينقل إلى مسجد آخر أو مرتفق آخر ينتفع به، ولا يجوز لصاحبها أن يتملكها.

    الإنسان مثلاً إذا قال: أشهدكم أن بيتي هذا وقفٌ منجز، ولكن أسكن فيه مادمت حياً، أو يسكن فيه المحتاج من ولدي، ثم بعد ذلك بدا له أن يعود فيه وأن يبيعه، نقول: لا يجوز لك أن ترجع فيه، ولا يجوز لك أن تبيعه، ولا أن تتملكه؛ لأنه وقف خرج عن ملكية الواقف، وأصبح ملكاً للمنتفعين به، أو ليس لملك لأحد، ولكن غلته لمن ينتفع به أو لمن جعل له، أو يصرف لمن يستحقه.

    ناظر الوقف

    يجوز أن يجعل على الوقف ناظر، والناظر هو الوكيل، إذا كان الوقف مثلاً عقاراً احتاج إلى ناظر، فهذا الناظر هو الذي يؤجره، وهو الذي يقبض الأجرة، وهو الذي يستغله، وهو الذي يعمر منه ما وهى وما فسد ويصلحه، وهو الذي يصلحه إذا خرب، كما إذا كان جهازاً من الأجهزة يحتاج إلى إصلاح، فلابد أن يكون له ناظر.

    هذا الناظر قد يلقى مشقةً وتعباً؛ فلذلك يستحق أن يجعل له جزء من الغلة، فـعمر رضي الله عنه في هذا الأثر ذكر أن الذي يليه يجوز له أن يأكل، ويجوز له أن يطعم صديقه، أو يطعم زواره، ولكن لا يتمول منه مالاً، إنما يأكل منه بقدر نفقته أو بقدر تعبه وعمله، فإذا زاره أصدقاؤه أو نحوهم أطعمهم من ثمر هذا الشجر من فاكهة أو ما أشبهها، أما أن يتخذ منه مالاً فلا، فإذا لم يجد إلا بأجرة، جاز أن يقول مثلاً: لك من غلته (3%)، أو (5%)، أو ما أشبه ذلك، على أن تصلح ما وهى منه، إذا تصدعت حيطانه تصلحها مثلاً، وإذا وهى سقفه تتعاهده، وإذا خربت أدواته تصلحها، وما أشبه ذلك، فإنه: غالباً بحاجة إلى من يقوم عليه.

    فالحاصل أن الذي يوقف هذه الأوقاف يريد بذلك استمرار الأجر، وأن يأتيه أجرها بعد موته، ويستمر العمل الصالح له وهو ميتٌ، حيث ينتفع بهذه الأدوات أو بهذه الغلات أو ما أشبهها، ويدعو له أيضاً الذين ينتفعون بذلك، ويترحمون عليه، فيحصل بذلك على أجر؛ ولذلك فإن أكثر الصحابة رضي الله عنهم جعلوا أوقافاً وأحباساً، وعرفت أحباسهم في مكة وفي المدينة وفي البصرة والكوفة، وفي غيرها من المدن والقرى، واستمر الانتفاع بها أزمنةً عديدة إلا أن اضمحلت المنفعة بها أو تلاشت وقلَّت؛ فعند ذلك نقلت إلى غيرها.

    ولا يزال هناك أوقافٌ تعرف بأوقاف كذا وكذا، وقد تجعل في جهةٍ خاصة كأن يقال مثلاً: هذا البيت وقف على هذا المسجد، يعمر به أو نحو ذلك، أو تابعٌ له، كوقف على الإمام الذي يصلي به أو من يؤذن فيه أو ما أشبه ذلك، أو يقال: وقفٌ على الكعبة، كالذي يوقف أمواله على الكعبة، أو على المسجد الحرام، وهي أوقافٌ كثيرةٌ، أو في شيء خاصٍ، كانوا يوقفون مثلاً على الأدوات التي يحتاج إليها أهل المسجد كمياه الشرب أو مياه الطهارة والوضوء أو آبار يحفرونها أو مياه يجرونها لمن يتطهر في هذا المسجد، أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك يلتمسون به بقاء الأجر واستمراره بعد الوفاة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755919504