إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [68]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من محاسن الشريعة أن أباحت الطلاق للحاجة إليه، ومن رحمتها أن منحت الرجعة بعد الطلاق، فقد يندم الزوج بعد الطلاق، أو تصلح المرأة بعده وتعود إلى رشدها، فأجازت الشريعة السمحاء الرجعة بضوابط وشروط حكيمة.

    1.   

    مقدمة في أقسام فراق الرجل لامرأته

    قسم العلماء فراق الرجل لامرأته إلى ثلاثة أقسام: الخلع، والطلاق، والفسخ.

    القسم الأول: الخلع: وهو خاص بما إذا طلبت الزوجة الفراق، وبذلت شيئاً من المال، فإذا كرهت خُلق زوجها، أو خَلقه، أو نقص دينه، أو خافت الإثم بالبقاء معه لعدم أداء حقه، فلها والحال هذه أن تبذل شيئاً من مالها، أو تعطيه صداقه على أن يفارقها.

    وهذا الفراق ليس طلاقاً، ولا ينقص به عدد الطلاق، بحيث إنه لو خالعها، ثم بعد ذلك تراجع، ثم خالعها مرة أخرى، ثم تراجع، ثم خالعها ثالثة فلهما أن يتراجعا بعقد جديد؛ لأنه ليس طلاقاً من قِبله.

    القسم الثاني: الطلاق الذي يفعله الزوج، فقد يكره زوجته؛ يكره خَلقها أو خُلقها أو، نقص دينها، أو عدم عفتها، أو يكرهها كراهية قلبية، وإن لم يكن هناك سبب ظاهر، ففي هذه الحال له أن يطلقها، وله بعد الطلقة الأولى أن يراجعها، وله بعد ذلك إذا راجعها أن يطلقها مرة ثانية، وله أن يراجعها بعد الطلقة الثانية في العدة، وبعد العدة بعقد جديد، وإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويطؤها الزوج الثاني، ويكون نكاحه نكاح رغبة لا نكاح تحليل، وهذا هو الذي جاء به الإسلام؛ حتى لا يضر الرجال بالنساء.

    ذكروا أنهم كانوا قبل الإسلام يطلق أحدهم ما شاء ثم يراجع، يطلقها المرة الأولى، فإذا قاربت انقضاء العدة راجع، ثم يطلق طلقة ثانية، فإذا قربت العدة راجع، ثم يطلق ثالثة فإذا قربت العدة راجع، وهكذا بعد رابعة وبعد خامسة، إلى ما لا نهاية له، ولما كان في ذلك ضرر على المرأة منع الله من ذلك، وحدد له ثلاث طلقات، يراجع بعد اثنتين أو يجدد العقد، ولا يقدر بعد الثالثة؛ حتى لا يضاروا بالنساء؛ لقول الله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا [البقرة:231] ، فإنها إذا كانت كلما شارفت على انقضاء العدة راجعها، لا شك أنها تتضرر، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:128] ثم قال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129] يعني: العدل التام الذي يكون في القلب محبة وفعلاً، ثم قال: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] يعني: يميل مع إحدى زوجتيه، ويترك الأخرى كالمعلقة، فتكون لا أيماً ولا ذات زوج، أي: ليس معها زوج يواسيها ويعطيها حقها، وليست أيماً أي: غير مزوجة بل زواجها كأنه ليس زواجاً، هذا هو الإمساك ضراراً.

    وأباح الله له أن يفارقها، قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130] إذا لم تناسبه فإن له أن يفارقها، وسوف يغنيه ربه، ويغنيها أيضاً، وييسر لكل منهما ما يناسبه، ييسر له امرأة تناسبه، وييسر لها زوجاً يناسبها: (يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ) هكذا وعد الله، فهذا الطلاق هو الذي يعتاده الذين يرغبون في فراق أزواجهم، ولكن كرهوا للرجل كثرة الطلاق، فلا يكون مذواقاً مطلاقاً، بحيث إنه يتزوجها ثم بعد شهر أو سنة يطلق، ثم يتزوج الثانية ثم يطلق، وما روي عن بعض السلف أنه كان كثير الزواج وكثير الطلاق، فلعل ذلك بسبب عدم صلاحية أو ما أشبه ذلك، كما ذكروا عن الحسن بن علي رضي الله عنه، فإنه تزوج نساء كثيرات، ذكروا في بعض ترجمته: أنه مرة كان يمشي في المدينة، فرأى نساءً كثيرات، ولما رأينه اجتمعن والتف بعضهن ببعض وجلسن حياءً منه، فوقف متعجباً! فكلمته إحداهن -وهي أجرؤهن- وقالت: امض رحمك الله، فما منا واحدة إلا وقد ذقت عسيلتها! يعني: هذا الجمع الكثير ما منهن واحدة إلا وقد تزوجها ودخل بها ثم طلق.

    وقرأت في تاريخ ابن كثير ، فذكر في آخر ترجمة لبعض المترجمين فيه أنه تزوج بألف امرأة، هكذا ذكر، ويظهر أن فيه مبالغة.

    وكذلك في هذه الأزمنة إذا رأوا الرجل مذواقاً مطلاقاً كرهوا أن يزوجوه؛ لأنه إذا طلقها كرهتها النفوس، فإذا طُلقت المرأة فإن الرجال ينفرون منها، ويعتقدون أنها ما طلقت إلا لعيب فيها؛ لأمر من الأمور التي تعاب بها، فيكون ذلك ضرراً عليها، وكان الأولى ألا يتزوج إلا برغبة، وأن يعزم على أنها زوجة له طوال حياته وحياتها، ولا ينوي أن زواجه بها تجربة أو ما أشبه ذلك.

    فلعله بذلك يرغب فيها وترغب فيه، أما أن يطلقها بعد أن يدخل بها بيومين أو بشهر أو نحو ذلك، فإنها تتضرر بذلك، حتى ولو كان كثير الأموال ويقول: لا يهمني أن أتزوج كل شهر أو كل سنة، وأدفع كثيراً من الأموال، فالمال عندي متوافر، فهذا لا يسوغ له كثرة الطلاق وكثرة النكاح.

    القسم الثالث: الفسخ: وهو فسخ الحاكم للعقد الذي بين الزوجين، ولا يتولى ذلك إلا القاضي أو من يقوم مقامه، وله أسباب؛ منها:

    غيبة الرجل، فإذا غاب كثيراً، وترك زوجته، وليس عندها نفقة، ففي هذه الحال إذا تضررت فإن للحاكم أن يفسخ نكاحه ولو كان غائباً، فيقول: حكمت بفسخ نكاح فلان بفلانة. وبعد فسخه تستبرئ بحيضة، ثم تتزوج إذا شاءت، هذا إذا لم تصبر وتتحمل.

    ومن أسباب الفسخ: إذا ظهر في أحدهما عيب، إذا ظهر في الرجل عيب وكرهته المرأة، فإن لها أن تطلب من الحاكم أن يفسخ نكاحها.

    ومن أسباب الفسخ إذا جاءت الفرقة من قِبَلها، كما لو نشزت وطالت مدة نشوزها، فله أن يفسخها.

    وكذا لو ارتدت عن الإسلام فللقاضي أن يفسخ النكاح بينهما، ويكون ذلك الفسخ من قبل الحكام.

    وأكثر ما يكون الفسخ إذا كان الزوج غائباً أو ظهر فيه عيب كعمى أو برص أو جذام أو جنون أو مرض مزمن أو ما أشبه ذلك، ففي كل هذا يجوز للحاكم أن يفسخ ما بينهما من النكاح.

    وهذا الفسخ لا يحسب من عدد الطلقات، بمعنى: أن زوجها لو رجع ووجده أنه قد فسخ نكاحها، فله أن يخطبها، ولو كانت قد فسخت منه ثلاثاً، فله أن يخطبها ويعيد نكاحها.

    الرد على شبهات دعاة التحرير حول الزواج في الإسلام

    بما تقدم نعرف أن الزوجية التي هي عقدة النكاح بين زوجين أجنبيين ليست مثل الرق، وغير المسلمين قد يعيبون أهل الإسلام بهذا الزواج، ويقولون: إن الرجل الذي يتزوج المرأة يحجزها ويحجرها في منزلها، ويضيق عليها، ولا يترك لها حرية التصرف، ولا يترك لها الخروج متى أرادت، وتكون موقوفة على مصالحه، ولا تتمكن من التصرف لنفسها وما أشبه ذلك، وهؤلاء دعاة التحرر كما يسمون أنفسهم يقولون: ندعو إلى أن نحرر المرأة من هذا الرق الذي جعلها الإسلام فيه.

    ولا شك أن هذا تهور وكذب على الإسلام، الإسلام جاء بهذا النكاح، ومع ذلك جعله ينحل بهذه الثلاثة الأمور: بالخلع، وبالطلاق، وبالفسخ، وألزم الزوج أن يحسن العشرة، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] أي: عليه أن يحسن عشرة النساء، وكذلك ألزمه أن ينفق عليها بالمعروف، قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، وأمره بأن يسكنها، قال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:6]، وقال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] ، وإذا طلقها فعليه أن يمتعها كما قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241] ، وقال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236] فذلك دليل على أن الإسلام أعطى حقها كاملاً.

    وكون المرأة إذا تزوجت قامت على منفعة ومصلحة زوجها لا يقال: إن ذلك رق، ولا إن ذلك إذلال لها، بل إن هذا صيانة لها، حيث إن الإسلام أمر بأن تكون المرأة معززة ومكرمة عند زوجها، وأمر الزوج أن يحافظ عليها، وأن يصون كرامتها، وذلك دليل على أنه أعطاها حقها كاملاً، لا كما يقول الكفرة الذين يقولون: إن النساء نصف المجتمع، وإن لهن حقاً على الأزواج، وإنهن يملكن أنفسهن، ولهن التصرف في أنفسهن، بحيث إنهم أباحوا لها أن تبذل نفسها لمن يزني بها إذا رضيت، ويقولون: لا عقوبة عليها في ذلك؛ لأن هذا شيء تملكه، هي تملك نفسها، فإذا بذلت نفسها باختيارها ولو كانت مزوجة، أو كانت عند أبويها، فإن ذلك في نظرهم جائز، ولا يحق لأبيها أو زوجها أو وليها أن يحافظ عليها!!

    ولكن الإسلام جاء بتولية زوجها عليها، وكذلك غيره من أوليائها، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] يعني: قائمون عليهن: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالله تعالى فضل بعضهم على بعض، أي: جعل الرجال أفضل من النساء، وجعل الرجال أولياء للنساء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي)، وروي: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) ، وما أشبه ذلك، فيعرف بذلك بطلان ما يقوله أعداء الإسلام من أن الإسلام ظلم المرأة، وبخسها حقها، وأن لها حقاً في التصرف في نفسها، بل الإسلام جاء بحفظها، وبصيانتها، وبحراستها، حتى لا تكون ممتهنة، ولا تكون مبتذلة، فترخص بذلك، وتقل معنويتها، وتقل الرغبة فيها، وتكون آلة يتبادلها الأعداء، وتتبادلها النفوس الرديئة، يأخذها هذا ثم هذا، وهذا هو الواقع في بلاد الكفر وغيرها من البلاد التي قلدت بلاد الكفر.

    هذا ما أردنا أن نبينه في هذه المقدمة.

    1.   

    أحكام الرجعة

    قال المصنف رحمه الله تعالى:

    [فصل:

    وإذا طلق حر من دخل أو خلا بها أقل من ثلاثٍ، أو عبدٌ واحدةً لا عوض فيهما، فله ولولي مجنونٍ ‏رجعتها في عدتها مطلقاً، وسن لها إشهادٌ، وتحصل بوطئها مطلقاً، والرجعية زوجةٌ في غير ‏قسمٍ. ‏

    وتصح بعد طهرٍ من حيضةٍ ثالثةٍ قبل غُسلٍ، وتعود بعد عدةٍ بعقدٍ جديدٍ على ما بقي من طلاقها.

    ومن ادعت انقضاء عدتها وأمكن قُبِل لا في شهرٍ بحيضٍ إلا ببينةٍ. ‏

    وإن طلق حر ثلاثاً أو عبدٌ اثنتين لم تحل له حتى يطأها زوجٌ غيره في قبلٍ بنكاحٍ صحيحٍ مع ‏انتشارٍ، ويكفي تغييب حشفةٍ، ولو لم ينزل أو يبلغ عشراً، لا في حيضٍ أو نفاسٍ أو إحرامٍ أو صوم ‏فرضٍ أو ردةٍ]. ‏

    ذكر في هذا الفصل ما يملكه الزوج من الطلاق، وكيف إذا طلق العدد الذي يملكه، والفرق بين الحر والعبد، ومتى يراجع، ومتى لا يقدر على الرجعة، وحكم الرجعية، وحكم ادعاء المرأة انقضاء عدتها، وإذا طلق الطلاق الذي يملكه فماذا يفعل، ومتى تحل له إذا طلقها ثلاثاً أو عبد اثنتين، وصفة النكاح الذي يحلها للزوج الأول والذي لا يحلها.

    هذه المسائل مذكورة في هذا الفصل.

    الرجعة لا تكون إلا في العدة

    قال المصنف رحمه الله: (وإذا طلق حر من دخل أو خلا بها أقل من ثلاثٍ، أو عبدٌ واحدةً لا عوض فيهما، فله ولولي مجنون رجعتها في عدتها مطلقاً).

    يعني: إذا طلق الحر واحدة، وابتدأت في العدة فله أن يراجعها ما دامت في العدة، وسيأتينا أقسام المعتدات، يقول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: طلقوهن في زمن يستقبلن العدة، ويقول تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي الذي يملك رجعتها، ثم قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] أي: الزوج أحق برد الزوجة في هذه المدة التي طلق فيها واحدة أو طلق اثنتين، فإذا طلقها الطلقة الأولى راجعها في العدة، إذا كانت عدتها ثلاث حيض، الحيض الثلاث عادة تكون في ثلاثة أشهر، غالب النساء تحيض في كل شهر مرة، ففي هذه الحال يطلقها قبل الحيضة الأولى، وبعدها قبل الحيضة الثانية، وبعدها قبل الحيضة الثالثة، وله أن يراجعها في هذه المدة، حتى قال بعضهم: لو راجعها بعدما طهرت من الحيضة الثالثة، وقبل أن تغتسل، صحت رجعتها، حتى ذكروا: أن رجلاً طلق امرأته وتركها، ولما طهرت من الحيضة الثالثة وأخذت ماءها وسدرها، وتجردت للاغتسال، فقبل أن تغتسل طرق الباب عليها وقال: يا فلانة! إني راجعتك. فقالت: إني قد حضت ثلاث حيض، فترافعا إلى بعض الصحابة فأثبت الرجعة.

    وهكذا بعد الحيضة الثانية قبل الحيضة الثالثة أو قبل الطهر منها، إذا كان الطلاق رجعياً.

    ومتى يكون الطلاق رجعياً؟ إذا طلق حر أو عبد واحدة، أو طلق اثنتين وهو حر، فإن الطلاق رجعي، وتسمى المرأة: رجعية، يعني: تصح رجعتها، هذا سبب تسميتها رجعية: أنه يقدر على مراجعتها، وإذا راجعها فإنها على ما بقي لها من الطلقات، إذا طلقها وهو يملك ثلاثاً، طلق واحدة ثم راجعها بدون عقد، أو تركها إلى أن انتهت عدتها ثم جدد العقد، فإنه يبقى له طلقتان، فإذا طلق الثانية ثم راجعها وهي في العدة بدون عقد أو بعد العدة بعقد جديد، ثم استعادها ورجعت إليه، حتى ولو بعد الزواج من آخر، فإنه لا يبقى له إلا واحدة؛ لأنه قد طلق اثنتين، فيبقى له طلقة واحدة.

    كذلك العبد إذا طلق واحدة فإن له أن يراجعها في العدة، وله أيضاً أن يؤخر رجعتها ويجدد العقد بعد انتهاء العدة، إذا كانت زوجته أمة فعدتها طلقتان، وهو ما يملك إلا طلقتين، فإذا طلق طلقتين حرمت عليه.

    إذا كانت الزوجة أمة والزوج حر ملك ثلاث طلقات، وإذا كان الزوج عبداً والمرأة حرة لم يملك إلا طلقتين، هكذا الفرق بين الحر والعبد.

    فإذا كان الزوج الذي طلق قد دخل بزوجته أو خلا بها، وكان طلاقه واحدة أو اثنتين، أو كان طلاق العبد طلقة واحدة، وكان الطلاق بغير عوض، فله الرجعة.

    صحة مراجعة الزوجة للحر والعبد

    ذكر المصنف بعض المحترزات، فقوله: (من دخل بها) فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فهل له رجعة؟ ليس له رجعة؛ لأن غير المدخول بها لا عدة لها، قال تعالى: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، فإذا عقد عليها ثم طلقها قبل الدخول ففي هذه الحال بانت منه، فلو امتنعت وقالت: لا أريده، فلها ذلك، فإذا أرادها فلابد من تجديد العقد؛ لأنه لا عدة لها، ولأنه لا يصح رجعتها؛ لأنها قد بانت منه بمجرد قوله: قد طلقتها، هذا إذا لم يكن دخل بها ولا خلا بها.

    كذلك قوله: (أقل من ثلاث) نعرف أنه إذا طلقها الثالثة بانت منه، فلا يقدر على نكاحها حتى برضاها وبعقد جديد، فضلاً عن رجعتها، بل تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.

    قوله: (لا عوض فيهما) أي: لا عوض في فراق العبد، ولا عوض في فراق الحر، ويدل على أنه إذا كان الطلاق على عوض فلا رجعة، إذا اشترت المرأة نفسها من زوجها وقالت: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بهذا البستان، أو بهذه العمارة، تريد أن تخلص نفسها، وهو ما يسمى: بالخلع، وقَبل ذلك، فهل يقدر على الرجعة؟ لا يقدر، وما ذاك إلا لأنها ما بذلت المال إلا للتخلص، ولو علمت أنه يستعيدها ما بذلت مالها، فهذه لا يقدر على رجعتها؛ ولأنه ليس لها عدة، وإنما عليها الاستبراء.

    وقوله: (ولولي مجنون)

    إذا كان الزوج مجنوناً، أو أصابه الجنون، أو مرض أخل بعقله، بحيث إنه عادم للشعور، ففي هذه الحال نقول: إن وليه يقوم مقامه. فإذا طلق عليه الحاكم فلوليه الرجوع، إلا إذا كان طلاق الحاكم فسخاً، وإذا طلقها الولي أو طلقها الزوج في حالة عقل، ثم أصيب بالجنون، فلوليها الرجعة إذا رأى ذلك مصلحة.

    وقوله: (ولولي مجنون رجعتها في عدتها مطلقاً)

    أي -كما قال في التعليق-: سواء رضيت أو لم ترض، فلا يشترط رضاها؛ لأن الطلاق حصل باختياره، ولأنها والحال هذه قد بذلت نفسها؛ ولأنها طلقت وهو أملك بها، فليس لها أن تمتنع، لكن شرط الله تعالى شرطاً في قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] ، أما إذا كان راجعها للضرر بها فيحرم عليه، ولو أن الرجعة صحيحة، فحرام عليه أن يراجعها بقصد الإضرار بها؛ لقوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231] .

    حكم الإشهاد وعدمه على الرجعة

    الإشهاد على الرجعة مسنون، كما أن الإشهاد على العقد مسنون، وكذلك على الطلاق، ودليل الإشهاد على العقد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ، وعلى الطلاق قول الله تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] إلى قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وروي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: (إني طلقت امرأتي وراجعتها. قال: هل أشهدت على ذلك؟ قال: لا. فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة) أي: ما عملت بالسنة في الطلاق، ولا عملت بالسنة في الرجعة، قال: (طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة، لماذا لم تشهد؟ أشهد على رجعتها يقول تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] ).

    وهل تحصل الرجعة بغير الإشهاد؟ يقولون: تحصل؛ وذلك لأن الرجعية في حكم الزوجة، إذا طلقها مرة فإنه يبقيها في بيتها، ولا يخرجها، قال تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1] فلا يجوز له إخراجها، بل يتركها في بيتها، يتركها في مكانها الذي كانت تسكنه حتى تنتهي عدتها، وعليه نفقتها، وعليه كسوتها، وعليه سكناها، وهي في حكم الزوجة؛ لأنها لم تنقطع علاقتها به، ولها أن تكشف له، ولها أن تتجمل أمامه، ولها أن تعرض نفسها عليه لعله أن يراجعها إذا كانت ترغبه، وعليه أيضاً أن يقسم لها في المبيت، فيبيت عندها، ولكن إذا كان عازماً على الطلاق فلا يجامعها، فإذا جامعها حصلت الرجعة، فتحصل الرجعة بوطئها مطلقاً، حتى ولو لم يكن له نية، فإذا وطأها فإن الوطء لا يحل إلا للزوجة، وفيه دليل على أنه قد رضيها، وأنه قد قنع بمراجعتها، فيحصل بذلك تمام المراجعة، سواء نوى الرجعة بالوطء أو لم ينو.

    حكم القسم والنفقة للرجعية

    قال المصنف رحمه الله: (والرجعية زوجة في غير قسم)

    هكذا استثنوا القسم، بعض العلماء يقول: يقسم لها؛ لأن القسم ليس الغرض منه الوطء، وإنما الغرض منه المؤانسة، ومنهم من يقول: لا قسم لها؛ لأن الأصل في القسم أنه لأجل العدل، وهذه قد انعقد سبب فراقها.

    والرجعية زوجة في أنها تكشف لزوجها، وفي أنه ينفق عليها، وتبقى في بيته، وفي أنها تتجمل له رجاء مراجعته، ولو مات أحدهما لورثه الآخر، وإذا مات وهي في العدة فإنها تترك عدة الطلاق، وتنتقل إلى عدة الوفاة مع الإحداد.

    وقت التمكن من مراجعة الزوجة فيه

    قال المصنف رحمه الله: (تصح رجعتها بعد طهر من حيضة ثالثة قبل غسل) يعني: إذا حاضت المرة الأولى وطهرت ولم يراجع، وحاضت المرة الثانية وطهرت ولم يراجع، وحاضت المرة الثالثة وطهرت ولم يراجع، وقبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة بعد الطهر راجعها، صحت الرجعة، وقد ذكرنا قصة الرجل الذي دخل على زوجته بعدما أخذت ماءها وسدرها وتجردت لأجل أن تغتسل بعد طهرها من الحيضة الثالثة، فطرق عليها الباب وقال: يا فلانة! إني قد راجعتك، فقالت: إني قد طهرت من الحيضة الثالثة، فقال لها: هل اغتسلتِ؟ قالت: لا، قال: قد راجعتك، فتحاكما إلى أحد الصحابة، فأفتاهما بأنها ما دامت لم تغتسل، ولم تحل لها الصلاة، فهي في حكم الحائض، فتصح رجعتها.

    وهكذا إذا طلقت مرة ثم راجعها، فيبقى له عليها طلقتان، وكذلك إذا طلقها واحدة وانتهت عدتها، ونكحها نكاحاً جديداً فإنه يبقى له عليها طلقتان.

    من راجع المطلقة بعقد جديد فهو على ما بقي من طلاقها

    قال المصنف رحمه الله: (تعود بعد عدة بعقد جديد على ما بقي من طلاقها) بمعنى: أنه لو طلقها واحدة وانتهت عدتها فهو خاطب من الخطاب، أي: لها أن تقبله ولها أن ترده، فإذا قبلته فلابد من عقد جديد، ورضا وشهود، ومهر.

    وتعود على ما بقي،يعني: أنها تعود على أنه ليس له عليها إلا طلقتان، ولا يقول: إني نكحتها نكاحاً جديداً فأنا أملك ثلاثاً، نقول: إنك قد أمضيت طلقة واحدة، فما بقي لك إلا طلقتان.

    إذا كان طلقها طلقتين وانتهت عدتها، وخطبها وتزوجها، فكم يبقى له عليها؟

    يبقى له عليها طلقة واحدة؛ وذلك لأنه قد أمضى اثنتين، ولو كان العقد جديداً، حتى ولو نكحت قبله، فلو قدر مثلاً أنه طلقها طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، وتزوجت من غيره وطُلقت، فهذا الزوج الثاني لا يهدم الطلقتين من الأول، فالزوج الأول إذا نكحها بعده لا تعود على ثلاث، وإذا نكحها زوجها لم يبق له عليها إلا واحدة؛ وذلك لأن النكاح الثاني ليس شرطاً في حلها له، هي تحل له ولو لم ينكحها غيره، إنما الذي يهدم هو إذا طلقها ثلاثاً، ثم تزوجت وطلقت، ثم تزوجها الزوج الأول، ففي هذه الحال تنهدم الطلقات الثلاث، وصار يملك ثلاث طلقات أخرى، نكاح الزوج الثاني لها إذا كان الأول قد طلقها طلقة واحدة فإنه لا يهدمها، وكذا إذا كان الأول قد طلقها طلقتين لا يهدمها نكاح الثاني، وإنما يهدم الثلاث.

    فهذا معنى قوله: (تعود بعد عدة بعقد جديد، على ما بقي من طلاقها) إذا كان بقي طلقة أو بقي طلقتان لا يملك غيرهما.

    حكم قبول من ادعت انقضاء عدتها

    قال المصنف رحمه الله: (ومن ادعت انقضاء عدتها وأمكن قبل، لا في شهر بحيض إلا ببينة)

    ذُكِر أن رجلاً طلق امرأته، وبعدما أتمت شهراً رجعت إلى علي رضي الله عنه وقالت: إني قد انقضت عدتي في شهر واحد، فسأل شريحاً : هل يمكن؟ فقال: إن جاءت ببينة من صالحي أهلها تشهد بذلك، وإلا فهي كاذبة، فإذا ادعت انقضاء عدتها في شهر واحد فهي كاذبة؛ إلا إذا جاءت ببينة، وأما إذا كان الزمن ممكناً فإنه يقبل بلا بينة؛ وذلك لأنها مؤتمنة على نفسها، والله تعالى يقول: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:228] فهي مأمونة على ما في رحمها من الحمل أو الحيض.

    وأما قصة علي وتلك المرأة فقال العلماء: يمكن وقوعها إذا اعتبرنا أقل الحيض وأقل الطهر، فيمكن أنها بعدما طلقها الزوج حاضت في اليوم الثاني من وقت طلاقها، ولم تبق إلا يوماً، وهو أقل الحيض، ثم طهرت في اليوم الثاني من حيضها، ولما طهرت حسبنا هذه حيضة ثم بقيت ثلاثة عشر يوماً وهي طاهر، ثم حاضت الحيضة الثانية، ولما مضى عليها يوم طهرت في اليوم الثاني، فهنا مضى عليها حيضتان في ستة عشر يوماً، ثم طهرت الطهر الثاني ثلاثة عشر يوماً، ففي اليوم التاسع والعشرين حاضت الحيضة الثالثة، وطهرت في اليوم الثلاثين أو في اليوم الواحد والثلاثين، فهي حاضت في اليوم الأول، وفي اليوم الخامس عشر، وفي اليوم التاسع والعشرين، في شهر واحد حاضت ثلاث حيضات، وبينهما طهران، فتقبل إذا جاءت ببينة، ولكن هذا شيء نادر، يعني: قليل أن توجد امرأة يكون حيضها يوماً واحداً وطهرها ثلاثة عشر أو أربعة عشر يوماً، غالب النساء تحيض وتطهر في شهر، غالب حيضها ستة أيام أو سبعة أيام، وغالب طهرها ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون يوماً، هذه عادة النساء.

    فعلى هذا العادة لا تنقضي عدتها إلا في ثلاثة أشهر، فلو انقضت عدتها في شهرين وأمكن ذلك قبل منها؛ لأن هذا شيء لا يعرف إلا من قبلها، وأما في شهر فلا يقبل إلا ببينة.

    1.   

    متى يجوز نكاح المطلقة ثلاثاً؟

    قال المصنف رحمه الله: (إذا طلق الحر ثلاثاً أو العبد اثنتين لم تحل له حتى يطأها زوج غيره في قبل بنكاح صحيح، مع انتشار، ويكفي تغييب حشفة ولو لم ينزل، ولو لم يبلغ عشراً، لا في حيض أو نفاس أو إحرام أو صوم فرض أو ردة)

    ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بدون عدد، يطلقها وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم يطلقها ثانية، وإذا شارفت على انقضاء العدة راجعها، ثم الثالثة والرابعة والخامسة وهكذا، ولو إلى عشر أو عشرين، فجاء الإسلام بتحديد الثلاث، وأنها بعد الثالثة تحرم عليه، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] يعني: الطلاق الرجعي، وقال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] أي: بعد الطلقتين، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] يعني: الثالثة: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] ، فإذا طلقها الحر ثلاثاً حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإذا طلق العبد اثنتين لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولابد في ذلك الزوج أن يطأها، ولا يكفي العقد، فلو عقد عليها ولم يدخل بها وطلقها ما حلت للأول، وفسروا قوله تعالى: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] بأن النكاح هو الوطء.

    وفي ذلك قصة امرأة رفاعة، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن رفاعة طلقني وبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟! لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وعبر بالعسيلة عن الوطء، أي: لذة الوطء، فلا يكون هناك رجعة إلى الزوج الأول، ولا تحل له؛ حتى يذوق الثاني عسيلتها، بمعنى: يطؤها زوج غيره، فلو وطئها في الدبر ما حلت للأول، لابد أن يكون في القُبُل، ولو وطئها في نكاح فاسد لم يكفِ، كما لو تزوجها بغير شهود، أو زوجته بنفسها، فإن هذا أيضاً لا يكفي، حتى ولو دخل بها، ولو بقي عندها مدة؛ لأنا نحكم بأنه نكاح فاسد، لابد أن يكون النكاح الثاني نكاحاً صحيحاً كامل الشروط.

    وقوله: (مع انتشار) الانتشار: هو الإنعاظ، أي: قيام الذكر، فلا يكفي أن يباشرها بدون انتشار، ويقول: إني قد جامعتها وأنزلت؛ لأن مجرد المماسة والمباشرة لا تسمى جماعاً.

    قوله: (ويكفي تغييب حشفة) يعني: يكفي في الوطء الذي يوجب الغسل تغييب الحشفة في الفرج، أي: تغييب رأس الذكر، تغييب المدورة ولو لم ينزل، فإذا أولج رأس الذكر ولو لم ينزل، واعترف بذلك، واعترفت هي، فإنها تحل للأول إذا طلقها.

    ولو كان الزوج الثاني صغيراً دون عشر، يعني تزوجها وعمره تسع سنوات وعشرة أشهر، ولكن يتصور منه الانتشار، ويتصور منه الشهوة، ودخل بها، وأولج فيها رأس ذكره، وطلقها بعد ذلك أو طلقت عليه؛ حلت للزوج الأول.

    واستثنوا إذا وطئها وهي حائض، فإن هذا وطء فاسد وحرام، لا يحللها للأول، وكذلك وهي نفساء ثم، بأن طلقها زوجها الأول ثلاثاً، وكانت حاملاً فولدت وانقضت عدتها، وتزوجت زوجاً آخر وهي في النفاس، ودخل بها ووطئها وهي نفساء، ثم طلقها بعده فهل هذا الوطء يبيحها للأول؟ لا يبيحها.

    أو وطئها وهي محرمة، وحرام وطء المحرمة، ويجب عليها أو عليه إذا كانا محرمين فدية، حتى لو وطئها بعد التحلل الأول، فإذا أحرم بحج وتحلل، بأن رمى وحلق وبقي عليه الطواف، ووطئ، فإن هذا الوطء محرم؛ لأنه لم يتحلل، فلا يحلها لزوجها الأول لو طلقها بعده.

    أو وطئها وهي صائمة في رمضان أو صوم قضاء، فلا يحل له أن يطأها في صيام الفرض، فهذا الوطء لا يحللها لزوجها الأول.

    أو في ردة، فالمرتدة لا يصلح أن تكون زوجة للمسلم؛ لأن الردة تفرق بينهما، قال تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]، وهذه قد كفرت، فإذا تزوجت وهي كافرة مرتدة، ودخل بها الزوج، ثم أسلمت وعادت إلى الإسلام، فهل هذا الوطء يبيحها لزوجها الأول المسلم؟

    لا يبيحها؛ وذلك لأنه وطء محرم في حالة لا يبيحها الشرع، لا يبيح لها أن تتزوج مرتداً، ولا يبيح للمسلم أن يتزوج مرتدة.

    حرمة نكاح التحليل

    يشترط أن يكون النكاح الثاني نكاح رغبة، وهذا لابد منه، لا نكاح تحليل، سواء اتفق مع الزوج الأول، أو اتفق مع المرأة، فلا يباح أن يتزوجها ليحللها؛ وذلك لأنه ورد لعن المحلل في عدة أحاديث، ذكرها ابن كثير في تفسير هذا الآية: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فالزوج الثاني لابد أن يتزوجها على أنها زوجة، لا على أنه يحللها للأول، والأحاديث التي وردت بلفظ اللعن كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحِلل، والمُحَلل له) فالمحِلل هو الذي يتزوجها إذا طلقت ثلاثاً، ثم يطلقها ويقول: أحللها لزوجها الأول أحسن إليه، فإنه يريدها وهي تريده، وكل منهما يرغب في العودة، وهذا قد طلقها ثلاثاً، فأنا أحسن إليهما، فإذا دخلت عليها وجامعتها طلقتها حتى تحل للأول، هذا هو المحِلل.

    والمحلل له: هو الذي يستأجره، كأن يقول: أنا قد حرمت علي زوجتي حيث طلقتها ثلاثاً، وأريدها وتريدني، وهي أم أولادي، ولا تحل لي إلا بعد زوج، فأريد منك أن تتزوجها، وأن تدخل بها، وأن تطلقها بعد ليلة أو بعد ليلتين، وأنا أدفع لك كل ما تخسره من مهر وغيره، أنا أعطيكه، ولكن بشرط: أن تدخل بها ثم إذا أصبحت فإنك تطلقها، ولا تبقها معك، يستأجره ويستعيره؛ ولذلك يسمى المحَلل: التيس المستعار، والتيس ذكر المعز، فالذين ليس عندهم فحل يستعيرون تيساً لينزو على غنمهم.

    فيما سبق دليل على تحريم تحليل المرأة إذا طلقت ثلاثاً وحرمت على زوجها، وإنما ينكحها برغبة وإرادة منه ومحبة لأجل أن تكون زوجة، ثم بعد ذلك يقع منه كراهية لها فيطلقها فتحل للأول، أما إذا كان لا رغبة له في البقاء معها، وإنما يريد أن تحل للأول فإنها لا تحل، ويكون الوعيد الشديد عليه وعليها وعلى زوجها الذي استأجره لذلك.

    وأما إذا كانت المرأة تريد أن ترجع إلى زوجها، فهذا ليس باختيار أحد الزوجين، فلو أنها ندمت على زوجها، ثم خطبها إنسان وعقد عليها ودخل بها، ولما دخل بها بعد يوم أو بعد يومين نفرت منه ونشزت، وأثارت البغض والكراهية، وقالت: لا أريدك، ولا أرغب في البقاء معك، ولست صالحاً للزوجية، وما قصدها إلا أن يفارقها حتى تحل للأول، ولو دفعت إليه ما دفع إليها، فإن هذا مكروه، ومع ذلك لم يذكروا أنها تحرم على الأول.

    1.   

    أحكام الإيلاء

    قال المصنف رحمه الله: [فصل: والإيلاء حرامٌ، وهو حلف زوجٍ عاقلٍ يمكنه الوطء، بالله أو صفةٍ من صفاته على ترك ‏وطء زوجته الممكن في قُبلٍ أبداً أو مطلقاً أو فوق أربعة أشهرٍ، فمتى مضى أربعة أشهرٍ من يمينه ولم ‏يجامع فيها بلا عذرٍ أمر به، فإن أبى أمر بالطلاق، فإن امتنع طَلق عليه حاكمٌ. ‏

    ويجب بوطئه كفارة يمينٍ، وتارك الوطء ضرراً بلا عذرٍ كمؤلٍ].

    هذا الفصل يتعلق بالإيلاء المذكور في قول الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].

    الإيلاء: هو الحلف، فإذا حلف رجل على ترك وطء زوجته سمي مولياً، والإيلاء حرام؛ لأن الله أنكره، ولكن إذا فاءوا غفر الله لهم ذلك الحلف، فإذا حلف الزوج العاقل الذي يقدر على الوطء، حلف بالله أو بالرحمن أو بعزة الله أو بصفة من صفاته، حلف وقال: والله! لا أطأ هذه الزوجة، مع أنه يمكنه وطؤها في القبل، فقال: والله! لا أطؤها أبداً، أو والله! لا أطؤها، أو والله! لا أطؤها خمسة أشهر أو نصف سنة أو سنوات؛ فيسمى هذا: إيلاءً، فأما إذا حدد ترك الوطء بشهر، فقال: والله! لا أطؤها شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو ثلاثة وعشرين يوماً، فلا يسمى هذا إيلاءً، إلا إذا زاد على أربعة أشهر.

    وكذلك إذا كان الزوج مجبوباً لا يمكنه الوطء، فحلف أنه لا يطؤها، فلا يسمى هذا: إيلاءً؛ لأنه ليس له آلة يطأ بها.

    وكذلك إذا كان الحلف بغير الله، إذا حلف بمخلوق، كأن يحلف بالولي أو بالنبي أو بالسيد فلان، فهذا حلف بغير الله، ولا تنعقد يمينه، ولكن عليه الكفارة.

    وإذا كانت الزوجة لا يمكن وطؤها بأن كانت مثلاً رتقاء، أو بها ما يمنع الوطء من العفل ونحوه من العيوب التي تقدمت في النكاح، فإذا حلف أنه لا يطؤها يعني: الوطء العادي الذي تعلق منه بولد، فإن هذا لا يسمى إيلاءً؛ لأنه لا يقدر على وطئها لعدم تمكنه.

    كذلك لو حلف غير الزوج وقال: والله! لا أطأ فلانة، وهي أجنبية، فلا يسمى هذا إيلاءً.

    وهكذا لو حلف المجنون، وكان له زوجة، فالمجنون مرفوع عنه قلم التكليف فلا تنعقد يمينه.

    وأما إذا حلف على عدم وطئها في غير القبل فإنه لا يسمى إيلاءً، إذا حلف لها أو لأهلها إذا كان متهماً بالوطء في الدبر، فحلف وقال: والله لا أطؤها في الدبر أبداً. فإن هذا ليس بإيلاء؛ لأنه التزم ألا يفعل الحرام؛ لأن الوطء في الدبر محرم، ولو وطئها في الدبر وقد حلف، عليه كفارة يمين، وعليه التوبة إلى الله من ذلك.

    فإذا حلف ولم يحدد مدة، أو كانت المدة فوق أربعة أشهر، أو قال: والله! لا أطؤها حتى تقوم الساعة، أو والله لا أطؤها حتى تطلع الشمس من مغربها، أو: والله لا أطؤها حتى ينزل عيسى ابن مريم، يعني: مدة يغلب أنها تطول، فهذا أيضاً قد آلى من زوجته.

    حكم سكوت المرأة عن إيلاء الزوج

    إذا حصل الإيلاء وسكتت الزوجة، ولم تطلب الوطء، فالحق لها، وأما إذا طالبت فإن الحاكم يخيره، يقول له: إما أن ترجع، وإما أن تطلق، يلزمك أحد الأمرين، مضت أربعة أشهر، والله تعالى يقول: فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] يعني: رجعوا عن ترك الوطء: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:226] يغفر لك ذنبك، ويغفر لك ما حلفت عليه من ترك الوطء، وعليك الكفارة، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] إذا قال: أنا لا أريدها، قيل له: إما أن ترجع عن يمينك وتطأ، وإما أن تطلق، فأما بقاؤها معلقة فذلك لا يجوز.

    قرأنا قبل قليل قول الله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] أي: لا أيماً ولا ذات زوج، وقول الله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231] أي: مضارة بها.

    لو سخط عليها وقال: لا حاجة لي في وطئها، وصد عنها، وترك وطأها، ففي هذه الحال يعتبر قد أضر بها، وإن لم يكن مولياً، فمتى مضت أربعة أشهر ولم يجامع، ولم يكن له عذر؛ أمره الحاكم بالجماع أو بالطلاق، يقول له: إما أن تجامع وإما أن تطلق، فإذا أبى كلفه أن يطلق، فإذا امتنع طلق عليه الحاكم، ويسمى طلاق الحاكم: فسخاً، فيقول: إما أن تطلقها وإما أن تفيء وتجامعها، وإلا فسخنا نكاحها، لا نقرها ولا نقرك على هذه المضارة.

    كيفية الفيء في الإيلاء

    إذا أراد المؤلي أن يفيء فكيف يفيء؟

    الفيئة تكون بكفارة يمين؛ لأنه حلف بالله أو حلف بالرحمن أو حلف بذات الله أو باسمه العزيز أو برب العالمين أو بمالك يوم الدين، حلف أنه لا يطأ امرأته، فإذا أراد ترك اليمين والوطء فاليمين لها كفارة ذكرها الله تعالى في قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] إلى آخر الآية، وهذا قد عقد اليمين، فعليه كفارة اليمين، فإذا عزم على ترك ما حلف عليه ألزم بذلك.

    حكم تارك الوطء إضراراً بالزوجة دون عذر

    قال المصنف رحمه الله: (وتارك الوطء ضراراً بلا عذر كمؤلٍ).

    بعض الأزواج قد يغضب على زوجته، فإذا كان له زوجتان مثلاً فغضب على إحداهما، ترك مضاجعتها، وترك وطأها، والاستمتاع بها، ومضى على ذلك شهر وشهران وأشهر، فما حكم هذا الترك؟

    لا شك أنه إضرار، والله تعالى يقول: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا [البقرة:231] ، ويقول: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] وهذا ما أمسكها بمعروف، بل أضر بها، حيث لم يعطها حقها.

    في هذه الحال إذا طلبت حقها فلها أن ترفع أمره إلى الحاكم، والحاكم يقول له: إما أن تطأها وإما أن تطلق، وإما أن نطلق عليك إذا امتنعت، فإذا أراد الرجوع لا كفارة عليه؛ لأنه ما حلف، إنما ترك الوطء بغير يمين، ولكن يحدد لها لمدة، والمدة هي أربعة أشهر؛ لأنها المدة التي يمكن للمرأة أن تتحمل غيبة زوجها فيها.

    مدة تحمل المرأة غياب زوجها عنها

    ذكر ابن كثير عند تفسير آية الوفاة: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] أن هذه المدة هي التي يمكن للمرأة أن تصبر عن زوجها إذا غاب عنها، وذكر أن عمر رضي الله عنه كان مرة يعس في المدينة، فسمع امرأة غاب عنها زوجها، وكان في الجهاد، وهي قد اشتاقت إليه، سمعها وهي تقول:

    تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه

    ألاعبه طوراً وطوراً كأنما بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه

    فوالله لولا الله لا شيء غيره لحركت من هذا السرير جوانبه

    مخافة الله والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراتبه

    فعلم أمير المؤمنين أنها قد اشتاقت إلى زوجها، فسأل ابنته: كم تصبر المرأة عن الزوج عادة؟

    قالت: أربعة أشهر إلى ستة أشهر، فأمر أمراء الغزو ألا يتركوا الإنسان يغيب عن أهله أكثر من ستة أشهر،

    فلأجل ذلك حدد الله مدة الإيلاء بأربعة أشهر؛ لأن هذا هو الذي يمكن للمرأة أن تتحمله، لكن إذا صبرت أكثر من ذلك فلها ذلك، وأنتم تشاهدون هؤلاء العمال الذين يأتون ويتركون زوجاتهم، يغيب أحدهم سنتين، وربما أكثر، ففي هذه الحالة نقول: إذا سمحت الزوجة بهذا المقدار الذي هو سنتان فلها ذلك، وإذا لم تسمح فإما أن يذهب إليها وإما أن يطلق، والعادة أنها تصبر؛ لأنه ما ذهب إلا لأجل طلب الرزق.

    ويوجد بعض النساء لا يرغبها زوجها، ولكنها ترغب في البقاء معه، فهو يخيرها ويقول لها: أنا لا أريدكِ كزوجة، ولا أرغب مجامعتكِ، فلك الخيار: إما أن تبقي ولا تطالبينني بالقسم، وتبقي مع أولادك في بيتك، كلي واشربي ونامي وامكثي مع أولادك، وإما الطلاق واخرجي وتزوجي إذا شئت.

    فإذا آثرت البقاء، وأسقطت حقها؛ فلها ذلك، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [النساء:128] خافت أن ينشز عنها أو يعرض أو يطلق: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [النساء:128] تقول: نصطلح على أني أسقط حقي من القسم، وأسقط حقي من الوطء، وأرغب في البقاء في عصمتك حتى أبقى مع ولدي، فلها ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756314852