البراءة من الشرك في المحبة
البراءة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله
البراءة من دعاء القبور والأولياء والاعتقاد فيهم
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
لقد حدثني الإخوة مراراً وتكراراً عما يحدث عند قبور الصالحين، وأنا أود أن أنبه طلاب العلم إلى أنه لا ينبغي أن ننشغل برجل مقبور في مسجد أهو من الصالحين أم من غير الصالحين؟! لا ينبغي أن يشغلنا هذا؛ إذ إن الرجل بين يدي ربه جل وعلا، وقد أفضى إلى الله، لكن الذي ينبغي أن ننشغل به وأن نكثف الجهود من أجله هو ما يحدث من شرك حول قبر هذا الرجل إن كان من الصالحين أو من الطالحين.
واعلموا يا شباب الصحوة! أن إصدار الأحكام على الناس بالتكفير والتفسيق فقط لن يغير الواقع شيئاً، إن حكمك على الناس بالإيمان لن يدخلهم الجنة إن كانوا من أهل النار، وإن حكمك على الناس بالكفر لن يدخلهم النار إن كانوا من أهل الجنة، فليس هذا من شأنك ولا من شأن جميع العبيد، بل هو من شأن العزيز الحميد جل وعلا، فلا تشغلوا أنفسكم أيها الشباب! بإصدار الأحكام على الناس، ولكن اشغلوا أنفسكم بتعليم الناس حقيقة التوحيد ليتغير هذا الواقع المر.
فلما ذكرني الإخوة بما يقع، قلت: أود أن أرى بعيني، وأن أسمع بأذني؛ لأصل إلى السند من أعلاه، فغطيت وجهي وذهبت إلى مولد السيد
البدوي بنفسي، وأدخلني إخوانكم في طنطا حتى وصلت إلى القبر، ووقفت لأرى بعيني ولأسمع بأذني، فسمعت امرأة مسكينة تقول: أنا زعلانة منك يا سيد! لأني آتي لك بالنذر لمدة خمس سنين وأنت لا تريد أن تعطيني ولداً!!
فتدبر هذا! ثم يخرج علينا بعض العلماء ويتهموننا إذا تحدثنا عن هذا الشرك الغليظ بأننا ممن يعادي أولياء الله جل وعلا، وهذا ظلم فإننا ممن يقر أن المعجزة للأنبياء، وأن الكرامات الطيبة للأولياء، ولا ننكر هذا أبداً، لكن ينبغي أن نفرق بين شرك غليظ يُرتكب حول قبور هؤلاء وبين تكريمنا لأولياء الله جل وعلا؛ فإنه لا يقبل نبي ولا ولي هذا الشرك بأي حال، قال تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].
ولا أريد أن أطيل مع كل مقتضىً من مقتضيات الحب الصادق للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأعرج على بقية المقتضيات كلها إن شاء الله تعالى.
فالمقتضى الأول: هو البراءة من الشرك إن أردت أن تنقب عن حبك للنبي في قلبك فسل نفسك: هل تبرأت من الأنداد والأرباب والآلهة والطواغيت؟! فإن كنت كذلك فقد دخلت في المقتضى الثاني ألا وهو تحقيق التوحيد لله العزيز الحميد.
تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة
هذا هو المقتضى الثاني: تحقيق التوحيد.
ويجب عليك أن تحقق التوحيد بأقسامه لله جل وعلا: فيجب أن تقر بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية بإيجاز معناه: أن تعتقد وأن تقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير والإحياء والإماتة، كما قال الله تعالى:
قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، فهل حققت توحيد الربوبية لله؟ وستعجب إذا قلت لك: إن توحيد الربوبية قد أقر به المشرك الأول في أرض الجزيرة العربية.
فلو سألت
أبا جهل من خالقك؟ لقال: الله.
لو سألت المشرك من رازقك؟ لقال: الله.
كما قال جل وعلا:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ [الزخرف:87].وقال جل وعلا:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9].
بل لقد انفرد
الأخنس بن شريق بـ
أبي جهل ، فقال
الأخنس بن شريق : يا
أبا الحكم ! أستحلفك بالله إذ لا يوجد معنا أحد الآن يسمعنا، فأسألك بالله أمحمدٌ صادق أم كاذب؟!
فقال
أبو جهل : ويحك يا
أخنس ! والله إن محمداً لصادق! فنزل قول الله تعالى:
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].فهم كانوا يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال قائلهم: والله! إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة؛ لأن الذي شهد بصدق محمد هو الله.
وأقول: إن من بين من ينتسبون الآن إلى الإسلام من لم يحقق توحيد الربوبية لله الرحيم الرحمن!
فهذا زعيم دولة خرجت من برك الدماء والأشلاء يقول: بأنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه!! والله جل وعلا يقول:
قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154].
قال الشاعر:
يا صاحب الهمَ إن الهم منفرج أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرةً لا تجزعن فإن الخالق الله
والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله
(قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، فعليك أن تقر بتوحيد الإلوهية -توحيد العبادة- يعني: أن تصرف العبادة بركنيها: كمال الحب، وكمال الذل، وبشرطيها: الإخلاص والاتباع، إلى من يستحق العبادة وهو الله وحده لا شريك له.
فسل نفسك أيها الحبيب! هل استغثت بالله وحده؟ وهل استعنت بالله وحده؟ وهل سألت الله وحده؟ وهل ذبحت لله وحده؟ وهل نذرت لله وحده؟ وهل حلفت بالله وحده؟ وهل طفت ببيت الله في مكة فقط؟! وهل قال لسانك وصدق قلبك وترجم عملك هذه الأقوال وهذه الكلمات؟
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم.
فهل امتثلت قول الله تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي أي: وذبحي،
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]؟! وهل آمنت بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها أو لمعانيها؟ وهل أثبت ما أثبته الله لذاته وما أثبته له أعرف الناس به عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
فلا يمكن على الإطلاق أن تدعي الحب للحبيب المصطفى إلا إذا حققت هذا التوحيد لله جل وعلا؛ فنسبت ما لله لله، وما لرسول الله لرسول الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
تحكيم الشريعة في كل شيء
المقتضى الثالث: تحكيم الشريعة.
أي أمة تدعي الحب للمصطفى وقد نحَت شريعته فهي أمة كاذبة، وأي أمة تحتفل بالمصطفى في كل ربيع من كل عام وقد حكمت في الأموال والأعراض والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة، ونحت كتاب الله وشريعة رسوله فهي أمةٌ خاسرة لا ساق لها ولا قدم.
وسترى الأمة تتعرض لمزيد من الضربات من إخوان القردة والخنازير ممن كتب الله عليهم الذلة حتى تفيء الأمة إلى منهج ربها، وإلى شريعة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم.
ووالله إنه لا فلاح لها ولا عز ولا صلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا عادت من جديد إلى الله، وأعلنت توبتها إلى الله، وحققت هذه التوبة على أرض الواقع في إذعان لأمر الله وانقياد لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:39-40]، فأبت الأمة التي لا تستحي إلا أن تقول: إن الحكم إلا لمجلس الشعب، والله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة الجريئة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأبيض! الله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة المخدوعة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأحمر! فركبت قارب القوانين الوضعية الجائرة وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، فخابت الأمة وخسرت وغرقت الأمة وأغرقت أبناءها. فأين الشريعة؟!
يكاد القلب أن ينخلع من هذا، ووالله إن القلب لينزف حين تسمع عالماً يشار إليه بالبنان يظهر أمام شاشة التلفاز ليقول بجرأة وبجاحة: الشريعة الإسلامية في مصر مطبقة بنسبة (99%) وهذا ظلم وكذب؛ وأين الشريعة في الحكم؟! وأين الشريعة في الإعلام؟! أين الشريعة في التعليم؟! وأين الشريعة في الاقتصاد؟! وأين الشريعة على شواطئ البحار العارية؟! وأين شريعة النبي المحكمة؟! قال تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وقال تعالى:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65] قال علماء اللغة: (لا) في الآية نافية، أي: ينفي الله الإيمان عن قوم أعرضوا عن حكم الله وعن حكم رسول الله.
في (مدارج السالكين) عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حكمي فيمن قدم حكمه على حكم النبي أن يضرب رأسه بالسيف) فعلق
ابن القيم على مقولة
عمر وقال: فكيف لو رأى
عمر ما حدث في زماننا من تقديم رأي فلان وفلان على حكم رسول الله!! وأنا أقول: فكيف لو رأى
ابن القيم ما حدث في زماننا من تحقير شريعة رسول الله وتنقيص قدرها، بل والسخرية منها، بل والاستهزاء بها، بل واتهامها بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وأنها لم تعد قادرة على مواكبة روح القرن العشرين!!
فإن أرادت الأمة أن تعلن حب الله وحب رسول الله فلتسأل الأمة نفسها: أين هي من شريعة نبينها المصطفى؟! وأين شريعة المصطفى منها؟!
أما أمة تغني للنبي صلى الله عليه وسلم وقد نحت شريعته فهي كاذبة، أمة ترقص وتَطبل وتَزٌمر وتسمع الكلمات الرنانة، وتسمع الخطب المؤثرة والمواعظ الرقيقة من أعلى المستويات إلى أقل المستويات وإذا نظرت إلى واقعها بكيت دماً بدل الدمع!!
لقد أصبحت الأمة أمة تذوب في بوتقة الغرب الكافر، وتركت بين يديها أصل العز ونبع الشرف ومعين الكرامة ومصدر الهداية، تركت القرآن والسنة والشريعة المحكمة المطهرة، وذابت في بوتقة الغرب في أحكامه.. في أخلاقه.. في معاملاته.. ويا ليت الأمة! قد نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العملي والمادي، ولكن الأمة -بكل أسف- تركت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي ونقلت أعفن وأقذر ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي، ولا زلت تقرأ وتسمع إلى الآن أن من بين أبناء الأمة المخدوعين من يتغنى بالغرب!! وكأن الغرب الآن أصبح إلهاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!!
قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا
الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدا لها السكينا
الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا؟!
الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا؟!
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا
وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا
يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا
وترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا
لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا
شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا
شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهنين يقينا
يا مجلساً في جسم عالمنا غدا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا
إني أراك على شفير نهاية ستصير تحت ركامها مدفونا
إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا
اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين!
إن أرادت الأمة أن تعلن الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم فلتحكم شريعته،أما أن تتغنى بالكلمات والمحاضرات والعبارات والسهرات الحافلة الماجنة، فهذا حب كاذب، كما قال الشاعر:
من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء
فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء
وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين
السمع بلا تردد والطاعة بلا انحراف
أحوال السنة مع القرآن
وتدبروا معي هذا جيداً أيها المسلمون الأخيار! وخذوا مني هذه الهدية، فهي من أدق وأشمل وأنفس ما يُحصل بعد كلام الله وكلام الحبيب، وهذه الهدية هي للإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى إذ يقول: إن السُنَة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن تكون السنة مؤكدة للقرِآن من كل وجه، وهذا يكون من باب تضافر الأدلة.
الوجه الثاني: أن تكون السنة موضحة لما أجمله القرآن.
فقد أمر القرآن بالصلاة؛ فجاءت السنة لتبين لنا كيفية الصلاة وأركانها وشروطها ونواقضها... إلى آخره.
الوجه الثالث: أن تكون السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن.
فالرسول يحلل ويحرم، فيجب عليك أن تذعن لأمر النبي، وأن تحرم ما حرمه وتحل ما أحله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حب النبي صلى الله عليه وسلم بلا غلو أو إطراء
المقتضى الأخير: حب يفوق حبك النفس والمال والأبناء بلا غلو أو إطراء.
يجب أن يكون حبك للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يفوق حبك لنفسك ولوالدك ولولدك، بل والناس أجمعين، فقد روى
البخاري و
مسلم من حديث
أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وأقول: يجب أن يكون حبك للنبي يفوق حبك لوالدك وولدك والناس أجمعين، وسيقول لي الإخوة جميعاً: نشهد الله أننا نحب النبي أكثر من حبنا لآبائنا وأولادنا وأنفسنا، فأقول لك: قدم البرهان على هذه الدعوى، فلو بكى ولدك في الليل وصرخ هل ستتوانى عن تلبية صرخة ولدك؟ الجواب: لا، بل ستسرع وتحتضن طفلك في صدرك، وتجري إلى أقرب طبيب أو إلى أبعد طبيب، وهذه رحمة في قلبك أسأل الله أن يأجرك عليها، لكن لما أمرك المصطفى هل أسرعت لامتثال أمره كما أسرعت لتلبية رغبة ولدك؟!
وقد ذكرت سابقاً قصة التلميذ النجيب الذي جاء لأستاذه ليقول له: يا أستاذي! علمني كيف أرى رسول الله في نومي، فقال له أستاذه: أنت مدعو الليلة للعشاء عندي، وأحضر الأستاذ لتلميذه الطعام وأكثر فيه الملح ومنع عنه الماء، فطلب التلميذ ماءً، فقال له الأستاذ: الماء ممنوع، فكل، فأكل التلميذ حتى امتلئت بطنه بالملح، فقال أستاذه: نم، وقبل الفجر استيقظ -إن شاء الله تعالى- لأعلمك كيف ترى المصطفى في رؤياك، فنام التلميذ وهو يتلوى من شدة العطش، فلما استيقظ من نومه، قال له أستاذه: هل رأيت الليلة شيئاً في نومك قبل أن أعلمك؟ قال: نعم، رأيت، قال أستاذه: وماذا رأيت؟ قال التلميذ: رأيت الأمطار تنزل، والأنهار تجري، والبحار تسير، فقال له أستاذه: نعم، صدقت؛ صدقت نيتك فصدقت رؤياك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله!
فقدم البرهان على دعواك، وطبق هذا الحديث: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، بل خذها مني: لا يكمل إيمانك إلا إذا فاق حبك للنبي حبك لنفسك التي بين جنبيك، فقد روى
البخاري عن
عمر رضي الله عنه أنه قال لرسول الله: والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من كل شيء يا رسول الله! إلا من نفسي، فقال المصطفى (
لا يا، عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال
عمر : والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله! فقال المصطفى: الآن يا
عمر !).
قال أهل العلم: أي: الآن قد كمل إيمانك يا
عمر ! .
فلابد أن تحب الحبيب أكثر من نفسك التي بين جنبيك، فنقب عن محبة الحبيب في قلبك، وقدم البرهان على هذه الدعوى، وقدم الدليل العملي على دعواك حب النبي.
قال الإمام
الخطابي : حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب ونقل هذا القول عنه الحافظ
ابن حجر في (الفتح) وهذا من أنفس ما يستفاد.
يعني: أنا أحبك لأسباب، وأنت تحبني لأسباب، أما حبك لنفسك وحبي لنفسي فهذه جبلة طبيعية.
فتدبر هذا الكلام النفيس! والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من
عمر حب الطبع، بل ما أراد منه إلا حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جبلت عليه.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظر
عمر إلى أن الله عز وجل قد منَّ عليه فنجاه من النار عند أن أرسل له المصطفى المختار. وهذا فخر، كما قال الشاعر:
وممـا زادنـي فـخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي! وأن أرسلت أحمد لي نبياً
ولكن هناك فرق أيها الحبيب المحب! بين حب يدور على الاتباع وبين غلوٍ يدور على الابتداع؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني) قال الحافظ
ابن حجر : الإطراء هو: المدح بالباطل والكذب، يقول الحبيب: (
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). بأبي هو وأمي.
واسمع إلى هذا الذي يزعم أنه يمدح النبي فيقول للمصطفى:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فهل هذا حب للمصطفى؟! والله إن هذا لا يليق به ولا بكرمه ولا بجلال الله، فالحب هو أن تنسب ما لله لله، وأن تنسب ما للرسول للرسول؛ ففرق أيها المحب بين حب يدور على الاتباع وبين غلو يدور على الابتداع.
حب النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب السلف
وأختم بهذه الصورة المشرقة السريعة التي تبين كيف كانت محبة النبي في قلوب الأطهار الأبرار الأخيار؟
تدبر هذا المشهد أيها الحبيب! إنه
المغيرة بن شعبة عند أن كان يقف ليظلل على رأس النبي من الشمس في الحديبية -كانوا لا يقبلون أن تلفح وجهه حرارة الشمس، ولا نسمة هواء باردة- فجاء
عروة بن مسعود الثقفي رسولاً من قبل قريش ليفاوض النبي في الحديبية، فكان
المغيرة واقفاً يظلل ويحمي رسول الله، فمد
عروة بن مسعود يده ليداعب بعض الشعرات الطاهرات من لحية الحبيب محمد جرياً على عادة العرب في التودد إلى من يريد هذا المتحدث أن يكلمه، فمجرد ما مد
عروة يده ليمسك لحية النبي عليه الصلاة والسلام وإذ بـ
المغيرة ابن أخي
عروة يضرب يد عمه بمؤخرة السيف ضربة شديدة وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا سأقطعها، مع أنه مدها مداعبة لشعرات النبي صلى الله عليه وسلم! وأنا أقول الآن: قد يُسب دين الله ودين رسول الله اليوم، في الوقت الذي ترون فيه على شاشة التلفاز أن لاعبي الكرة يرفعون على الأعناق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب، وتصاغ لهم الأمجاد، وتهتف وتصفق لهم الجماهير المخدوعة!
وبالله عليك تخيل معي مشهد
أبي دجانة رضوان الله عليه في غزوة أحد، وهو يترس على النبي، وقد أخذ النبي في صدره بين أحضانه وأعطى ظهره للسيوف والرماح والنبال؛ خشية أن يصل سهم طائش إلى صدر الحبيب سيد الرجال.
وتدبر معي مشهد
طلحة وهو يقاتل أمام النبي يمنة ويسرة، والرسول يقول لـ
طلحة : (
فداك أبي وأمي يا طلحة ! و
طلحة يلتفت إلى النبي ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله!).
وتدبر معي هذا المشهد العجيب لشاب من شباب الصحابة كان في أحضان عروسه، إذ لا زالت الليالي الأولى لعرسه الكريم، فيسمع النداء: يا خيل الله اركبي، وسمع: حي على الجهاد، فينسل من بين أحضان عرسه ويتسلل تتسلل القطا، وإن شئت فقل: نزعه من أحضان عرسه حبه لله ولرسول الله، وانطلق مسرعاً لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، ويسقط شهيداً في الميدان وبعد انتهاء المعركة يرفع التقرير الطبي إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقال: يا رسول الله! إنا نرى على
حنظلة أثر ماء، فمن أين جاء هذا الماء والحرارة تذيب الحجارة والصخور؟! من أين هذا الماء، وينزل المصطفى بنفسه ليقرر حالة هذه الجثة الموحدة الطيبة الطاهرة ويرى النبي بعينه أثر الماء فيأمرهم أن يسألوا أهله، فتقول: لقد سمع منادي الجهاد يقول: يا خيل الله! اركبي، حي على الجهاد، فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فخرج إلى الميدان وهو جنب، فقال المصطفى: (
إن الله تعالى قد أنزل ملائكة من السماء بطست من الجنة -بماء من الجنة- فغسلت حنظلة ليلقى الله عز وجل طاهراً)، إنه الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم!
وآخر يقول له
أبو سفيان وهو يعذب: أيسرك أن تكون في أهلك بين ولدك ومحمد في موضعك تُضرب عنقه؟! فقال هذا الصحابي الجليل: والله ما أحب أن تصيب رسول الله شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال
أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً؛ لأنهم جسدوا الحب إلى واقع وعمل.
وأنا أرى أعظم احتفاء بالنبي قولة
الصديق يوم أن اتهم المشركون رسول الله بالكذب ليلة الإسراء، فرد
الصديق بقوله: (إن كان محمد قال ذلك فقد صدق) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي في قولة فاروق الأمة
عمر للنبي: (
ألسنا على الحق؟! فقال رسول الله: بلى فقال: أليسوا على الباطل؟! فقال رسول الله: بلى، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وحث الناس على الصدقة، فجاء
عثمان فملأ حجر النبي بالذهب والدنانير، ونزل النبي من على المنبر وهو يدعو الله لـ
عثمان ، ويقول: (
ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن نام
علي في فراش النبي ليلة الهجرة، وهو يعلم أنه إلى فناء، ولم لا؟ فليغن
علي ، وليبق حامل لواء الدعوة الحبيب النبي، هذا هو الاحتفاء.
فإن أرادت الأمة أن تحتفي بالحبيب المصطفى فلتتبرأ من الشرك، لتحقق التوحيد، لتحكم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولتوالِ الله ورسوله والمؤمنين، لتحقق من جديد مبدأ السمع والطاعة، ولتسمع أمر ربها وأمر نبيها بلا تردد ولا انحراف، ثم عليها أن تنقب عن مكانة النبي في قبلها، ورحم الله من قال:
من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراء
فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةٌ ووفاءُ