إسلام ويب

في ظلال الإسراء والمعراجللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • معجزة الإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلى بها شأنه، وكانت تخفيفاً لألم رسول الله وحزنه وما لاقاه من قومه من إعراض وأذى. وليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والمهم هو أن نعلم أن رحلة الإسراء والمعراج وقعت يقظة لا مناماً، وكانت بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه. وإن حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس لتؤكد هوية القدس الإسلامية، وتوجب على الأمة إخراج اليهود منه، ولا يتم ذلك إلا برفع علم الجهاد، أما طاولة المفاوضات فلن ترد حقاً ولن تردع عدواً، وإنما هي استهلاك إعلامي، وتخدير للشعوب، وتمييع للقضية.

    1.   

    تاريخ وتحقيق

    بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور وطبتم جميعاً أيها الآباء وأيها الإخوة الأعزاء وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت العامر على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك: (في ظلال الإسراء والمعراج)، وحديثي معكم سوف يتركز في العناصر التالية: أولاً: تاريخ وتحقيق. ثانياً: ولماذا الإسراء؟! ثالثاً: الأقصى الجريح. رابعاً: المعراج إلى السماوات العلى. وأخيراً: دروس وعبر من الأحداث. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.

    اختلاف العلماء في تحديد زمن الإسراء

    أولاً: تأريخ وتحقيق: لقد اعتاد المسلمون -إلا من رحم الله جل وعلا من المحققين- أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، احتفالاً باهتاً بارداً لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم. لقد اعتقد الكثيرون أن الإسراء كان في ليلة السابع والعشرين، والتحقيق أن العلماء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، بل في شهر الإسراء، بل في سنة الإسراء!! قال السدي : كان الإسراء في شهر ذي القعدة. قال الزهري : كان الإسراء في شهر ربيع الأول. قال ابن عبد البر : كان الإسراء في شهر رجب. قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب. قال الواقدي : كان الإسراء في شهر شوال. وفى قول آخر قال: كان في شهر رمضان. وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير، ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله. والتحديد للإسراء بيوم وشهر ضرب من المجازفة والتخمين، ولا دليل عليه من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وربما يسمع الآن كثير من آبائي هذا الكلام ويعجب ويقول: كيف.. وقد احتفلنا السنوات الماضية بالإسراء ليلة السابع والعشرين؟! أقول: لو احتفل المصطفى وأصحابه والتابعون من بعد الأصحاب بذكرى الإسراء ليلة السابع والعشرين من شهر رجب في كل عام لعلم ذلك لنا ولنقل إلينا بالتواتر، فلما لم يحتفل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأتباع من بعدهم بذكرى الإسراء، وجب علينا أن يسعنا ما وسع هؤلاء الكرام. فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة زادها الله تشريفاً، وكان إلى المسجد الأقصى الجريح -خلَّصَه الله من أيدي إخوان القردة والخنازير- ثم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى كما سأفصل الآن بحول الله وقوته.

    1.   

    لماذا الإسراء؟

    ثانياً: ولماذا الإسراء؟ وللجواب على هذا السؤال: قصة! إنها قصة طفل طهور كالربيع!! إنها قصة طفل كريم كالنسيم!! إنها قصة طفل نشأ في مكة في بيئة تصنع الحجارة بأيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا! بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من خشب، أو من نحاس، أو حتى من حلوى أو من تمر! فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام ليدس هذا الإله الرخيص في جوفه ليذهب عن نفسه شدة الجوع! في هذه البيئة نشأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فترك هذه البيئة الشركية وانطلق بعيداً إلى قمة جبل النور.. إلى غار حراء؛ ليقضى ليله ونهاره في التأمل والتفكر والتدبر والتضرع. وفى ليلة كريمة يخشع الكون، وتصمت أنفاس المخلوقات، ويتنزل جبريل أمين وحي السماء لأول مرة على المصطفى صلى الله عليه وسلم على قمة جبل النور، ليضم الحبيب المصطفى ضمة شديدة وهو يقول له: (اقرأ) والحبيب يقول: ما أنا بقارئ، وجبريل يقول: (اقرأ) والمصطفى يقول: ما أنا بقارئ، وفى الثالثة: غطَّه حتى بلغ منه الجهد، وقال للحبيب: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] وانطلق الحبيب بهذه الآيات وفؤاده يرتجف، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تضطرب، حتى وصل إلى السكن.. إلى رمز الوفاء.. إلى سكن سيد الأنبياء.. إلى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها. وصل إلى هذه الزوجة العاقلة الصالحة التي استحقت أن يسلم عليها ملك الملوك من فوق سبع سماوات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (أن جبريل نزل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة وهي تقبل على المصطفى، وتحمل إناءً فيه إدام من طعام أو شراب، فقال جبريل: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، فإن هي أقبلت فأقرئها السلام من ربها). عش مع هذا بقلبك وكيانك ووجدانك وجوارحك! امرأة تستحق أن يسلم عليها الملك من فوق سبع سموات! إن عبداً من العبيد لو أن هيئة مشبوهة قد كرمته ومنحته جائزة مشبوهة، من أجل تفوقه العفن النتن في مجال الفكر -زعموا- حيث لا أدب ولا فكر، فإنه يرفع على الأعناق وتشير إليه الأصابع، ويحتفى به على أعلى المستويات في هذه الأمة المسكينة التي خدعت على أيدي هؤلاء الذين انطلقوا ليقودوا الأمة على حين غفلة من أهل القيادة والريادة في هذه الأمة! (وأقرئها السلام من ربها ومني -أي: ومن جبريل- وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أقبلت خديجة بَشَّرَهَا المصطفى بهذه البشارة وقال يا خديجة : ربك يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام!! -فماذا قالت خديجة البليغة العاقلة العالمة؟ هل قالت: وعلى الله السلام أم ماذا؟ قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته). خديجة، عاد إليها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، وهو يقول: زملوني.. زملوني.. غطوني دفئوني، ضعوا علي الأغطية، فاستجابت خديجة ، حتى استيقظ الحبيب وقد هدأت نفسه، واستقرت جوارحه، وقال: (والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة ، وقص عليه، فبشرته بهذه الكلمة الطيبة وقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) ... إلى آخر ما ذكرت، والحديث رواه البخاري وهو حديث طويل.

    1.   

    الحكمة من فتور الوحي ثم تتابعه

    ثم فتر الوحي لفترة قليلة -على الراجح- ثم نزل قول الله عز وجل على الحبيب المصطفى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، أي: يا أيها المتلف في هذه الأغطية: قُمْ فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:2-7] قم يا محمد! دع عنك هذه الأغطية، فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:1-5]، فقام الحبيب ولم يقعد عشرين سنةلم يعرف طعم الراحة.. ولم يذق طعم النوم.. لم يهدأ، وإنما انطلق على قدميه حاملاً نور الله عز وجل إلى هذه البشرية؛ ليخرجها من ظلمات الشرك وأوحال الوثنية، إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.

    1.   

    الدعوة السرية

    بعد أن نزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] انطلق الحبيب يدعو الناس سراً إلى الإسلام ثلاث سنين .. يدعو الناس إلى دين الله تحت السراديب. لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً غاضبة. إن هؤلاء القوم يقتتلون من أجل ناقة! فما ظنك بآلهة فسيذبحون لها آلاف النياق إن مُس جنابها على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!

    1.   

    الدعوة الجهرية

    وبعد هذه المرحلة السرية نزل قول الله عز وجل: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] فقام الحبيب ملبياً أمر الله، فوقف على جبل الصفا، ونادى على بطون مكة: يا بني فهر! يا بني عدي! يا بني كذا! يا بني كذا! -والحديث في الصحيحين- فالتف حوله الناس من أهل مكة، ووقفوا بين يديه وعلى رأسهم أبو لهب وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم ليقيم الحجة على قومه بلغة النبوة، فقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم: أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: بلى، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال الحبيب المصطفى: فإني رسول الله إليكم، فكان أول من تكلم أبو لهب عليه من الله ما يستحقه حيث التفت إلى الحبيب وقال: تباً لك سائر اليوم يا محمد!) إن أول من عادى الحبيب المصطفى عمه الذي قال له يوم الصفا: (تباً لك سائر اليوم يا محمد! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله عز وجل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5])، وبعد ذلك رعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على رأس المصطفى وأصحابه، وانطلقت مكة على قلب رجل واحد لتصب البلاء والإيذاء صباً على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى ورد في صحيح البخاري أن عقبة بن أبي معيط -عليه لعنات الله المتوالية- انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخنقه خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس المصطفى أن تخرج بين يديه، فجاء الصديق ليدفع هذا الفاجر الكافر عن رسول الله وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! وورد في تاريخ الطبري أنهم وضعوا التراب على رأسه ... إلى آخر ما تعرض له الحبيب المصطفى من أذى ومحن وفتن وابتلاءات.

    1.   

    دعوة أهل الطائف وما لاقاه الحبيب المصطفى من أذى

    لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أرض مكة صلدة قاسية لا تقبل بذرة التوحيد، وليست صالحة لتلقي الخير، انطلق الحبيب إلى الطائف يبحث عن أمل.. يبحث عن قلوب حانية لعلها تحمل هذا النور. انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم على قدميه المتعبتين، لا يركب الراحلة؛ لأنه لا يمتلك الراحلة إذ ذاك، تحت شمس محرقة تكاد تذيب الحديد والصخور والحجارة، وعلى رمال ملتهبة إذا ما انعكست عليها أشعة الشمس كادت أن تخطف الأبصار، وكل من ذهب إلى تلك البلاد في حج أو عمرة، يعلم طبيعة هذه البيئة وشدة حرارتها. انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الجو وهو متعب يتألم، لاسيما وقد ازداد حزنه بموت زوجته خديجة وبموت عمه أبي طالب الذي كان حائطاً منيعاً لحملات المشركين في الخارج. انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ قبله بالحزن مشياً على الأقدام، لا يريد مالاً ولا يريد جاهاً ولا يريد وجاهة، إنما يريد لهؤلاء خيري الدنيا والآخرة، ولكن أهل الطائف فعلوا بالمصطفى ما لم يكن يتوقع، وما لم يكن يخطر بباله، فلقد سلطوا عليه الصبيان والسفهاء فرموه بالحجارة حتى أدمي الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. إنه المؤيد بمدد السماء.. إنه المؤيد بوحي السماء.. تلقى عليه الرمال، ويلقى عليه التراب، ويقذف بالحجارة حتى يسيل الدم الطاهر من جسده صلى الله عليه وسلم، وحتى ألجأه الصبيان والسفهاء إلى بستان لبني ربيعة، وهنالك رفع أكف الضراعة إلى الله كما في الحديث وإن كان شيخنا الألباني قد ضعفه، إلا أن الحديث قد رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات ما عدا ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وقد رأيت شاهداً آخر يقوي هذا الحديث عند ابن إسحاق موصولاً وكلاهما يقوي بعضهما الآخر، ولا بأس أن أستشهد به لا أن أستأنس به. لجأ الحبيب إلى الله بهذه الدعوات الصادقة، فقال: : (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

    1.   

    التخفيف الإلهي لآلام وأحزان النبي صلى الله عليه وسلم

    وهكذا ... عاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمل في قلبه هموماً وأحزاناً.. دعوة.. مطاردة.. خديجة ماتت.. أبو طالب مات.. أصحاب مشردون في الحبشة.. أمر جلل! والمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل كل هذه الهموم وهو في طريقه إلى مكة يسمع نداءً كما في الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فيلتفت فإذا جبريل في سحابة في السماء ينادي على المصطفى ويقول: (يا رسول الله! إن الله جل وعلا قد سمع ما قاله قومك لك، وهذا ملك الجبال أرسله الله إليك فمره بما شئت. يقول المصطفى: فسلم علي ملك الجبال وقال: السلام عليك يا محمد! فرد النبي عليه السلام، فقال ملك الجبال: يا محمد! مرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر. هذا ملك الجبال يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم هذه الجماجم الصلدة، وهذه الرءوس العنيدة المتكبرة الكافرة المتحجرة، ووالله لو كان المصطفى ممن ينتقم لنفسه.. ممن ينتقم لذاته.. ممن يثأر لمنصبه.. ممن يثأر لمكانته، لأمر المصطفى ملك الجبال، ولحطم ملك الجبال هذه الرءوس ولسالت الدماء ليرى أهل مكة دماء أهل الطائف في مكة، ولكنه ما خرج لنفسه.. ما خرج لذاته، إنما خرج لله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] لا إلى جماعة بعينها، ولا لزعامة، ولا لمنصب ولا لقيادة ولا لريادة ولا لشهرة ولا لجاه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ). أيها الأحباب! دعوكم من هذه العصبيات المنتنة للجماعات، وللثارات وللرايات، وليس معنى ذلك: أنني أنكر صحة العمل الجماعي، وإنما أقول: شتان بين العمل الجماعي الذي هو أصل من أصول الدين، وبين التعصب لجماعة بعينها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كالشمس في وضح النهار! (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ). أيها الأحباب! لو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يدعو لنفسه ولذاته؛ لأمر ملك الجبال فحطم ملك الجبال تلك الرءوس والجماجم ولسالت الأودية أنهاراً من الدماء حتى يرى أهل مكة دماء أهل الطائف بمكة ... لكن: ماذا قال الحبيب نهر الرحمة وينبوع الحنان؟! قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا، بل إنني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله جل وعلا) أي: من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ... إنها الرحمة! وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] .. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159] وهذا نصر من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وما إن وصل الحبيب إلى مكة زادها الله تشريفاً إلا ورأى كرامة أخرى له من الله عز وجل .. ليرى جبريل في انتظاره؛ ليأخذه إلى هذه الرحلة المباركة.. إلى رحلة الإسراء والمعراج، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يقول لحبيبه المصطفى: يا رسول الله! إن كان أهل مكة وأهل الطائف قد رفضوك فإن رب السماء والأرض يدعوك! يا محمد! لا تظن أن جفاء أهل الأرض يعني جفاء السماء، بل إن الله يدعوك اليوم ليعوضك بجفاء أهل الأرض حفاوة أهل السماء. الله أكبر! يرجع الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم هانئ -لنجمع بين الأحاديث وبين الروايات إذ لا تعارض بينهما كما قال الحافظ ابن حجر- فيأتيه جبريل فيشق البيت ليأخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الحجر، أو إلى الحطيم في بيت الله الحرام، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة الإسراء بشق صدر المصطفى، والحديث متفق عليه. يشق جبريل صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أنه قد شق صدره قبل ذلك وهو غلام صغير حينما كان في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها، يشق صدره وبعدها تبدأ الرحلة المباركة.

    1.   

    وتبدأ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

    ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وآله وسلم: (حينما قال له أبو ذر : يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ فقال الحبيب المصطفى: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما، قال أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فالأرض كلها مسجد). وكما في الحديث الآخر واللفظ لـمسلم من حديث أنس : (أتيت بالبراق) وبكل أسف قرأنا عن البراق هذا، وسمعنا ما يستحي الإنسان أن يردده الآن في أمة ينبغي أن تحترم علمها وقرآنها ونبيها وعقلها. سمعنا أن له عرفاً كالديك، وأن له أجنحة.. وأن.. وأن.. وأن..! البراق بنص الحديث الصحيح، قال عنه المصطفى: (دابة) وحدد النبي لونه فقال: (أبيض) وحدد صفته، فقال: (فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) له سرعة مذهلة! وقف الحافظ ابن حجر عند قوله: (البراق) فقال: البراق من البريق. أي: من اللمعان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد لونه بالبياض، وقال: البراق من البرق، والبرق ضوء. وهذا هذا هو البراق أيها الأحباب! وورد عند الترمذي، والإمام أحمد في المسند، وعبد الرازق في مصنفه، والبيهقي في السنن من حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انطلق ليركب البراق استصعب عليه، فقال جبريل للبراق: ما حملك على هذا؟ والله ما ركبك أحد من خلق الله أكرم على الله منه -أي: من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم-)، والحديث رواه أحمد والترمذي وعبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن وهو صحيح على شرط الشيخين. ركب النبي صلى الله عليه وسلم البراق وانطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في هذه الرحلة الجميلة وعنصر الإعجاز في رحلة الإسراء الأرضية هو الزمن، إذ كيف انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى في زمن قليل؟! وهذا الذي أنكره المشركون في مكة، فقالوا: نضرب لها أكباد الإبل شهراً من مكة إلى بلاد الشام، وأنت تقول: بأنك انطلقت من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعدت في جزء من الليل! يقول الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] و(ليلاً) عند علماء اللغة، أي: في جزء من الليل ولم يقل: ليلة، ولنقل إن الإسراء قد استغرق ليلة بكاملها لا، بل استغرق جزءاً من الليل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]. وختمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكان من السياق: (إنه على كل شىء قدير)، (إنه عزيز حكيم) ليظهر عظمته وقدرته، وإنما قال (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: الذي سمع قول قومك لك، ورأى فعل قومك بك فأراد أن يكرمك وأن يشرفك. والإسراء معجزة ليست تأييداً للدعوة وإنما هي تأييد في المقام الأول لصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. أيها الأحباب! إننا أمام معجزة فريدة، ليست تأييداً للدعوة بقدر ما هي تأييد لصاحب الدعوة، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الأقصى جريح

    الأقصى الجريح: عنصرنا الثالث في هذا اللقاء الكريم. إنه الأقصى الذي تدوسه الآن أقدام إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، على مرأى ومسمع من العالم كله، بل لقد تبنت زعيمة الكفر على ظهر الأرض أمريكا هذه المقولة الخطيرة التي تغنى بها أعضاء الكونجرس حيث قالوا: سننقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ لتصبح القدس عاصمة أبدية لأبناء يهود، ولإخوان القدرة والخنازير! عار وشنار على ألف مليون! أين هم؟! أين من لا يجيدون إلا لغة الجعجعة والصياح والشجب والاستنكار؟! هل ستصبح القدس الشريفة.. مسرى الحبيب محمد وأولى القبلتين وثالث الحرمين عاصمة أبدية لإخوان القردة والخنازير والمسلمون لا يجيدون إلا الشجب والصياح والاستنكار والجعجعة، ولا يجيدون إلا لغة الإنكار في الجرائد والمجلات؟ أين هم؟! أين العمل؟! أين السلوك؟! أين الأخلاق؟! أين الإسلام الذي أمرهم الله أن يحولوه إلى واقع، وإلى منهج حياة؟! لا أصل له ولا أثر، لا يجيدون إلا الاحتفالات. نحتفل بذكرى الإسراء، ونسمع القصائد والأشعار ونسمع الكلمات، ونحتفل بذكرى المولد، ونحتفل بذكرى النصف من شعبان. هؤلاء هم الذين عشقوا الهزل يوم أن كرهوا الجد والرجولة والبطولة والجهاد في سبيل الله! لقد كان المسجد الأقصى قبلة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الصلاة، واشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام، فنزل قول الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] فأمر الله بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهو المسجد المبارك الثالث الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشد الرحال إليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم) يعني: لا يجوز لك أن تشد الرحل إلى مسجد ولي من الأولياء، وإنما تشد الرحل فقط إلى المسجد الحرام في مكة، وإلى المسجد الأقصى في فلسطين الذبيحة، وإلى مسجد المصطفى في المدينة المنورة. أسأل الله أن يرزقني وإياكم صلاة في مسجده الحرام، وصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وصلاة في المسجد الأقصى؛ إنه ولي ذلك ومولاه!

    1.   

    الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة

    أيها الأحبة! إن الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة ووجود وليس صراع أرض وحدود، فلو كانت القضية قضية دولة وقضية أرض لانتهت منذ مئات السنين، ولكنها قضية اعتقاد.. قضية وجود لهذه الأمة أو لا وجود. المسجد الأقصى الآن يداس بأنجس الأرجل!! الحفريات تحت جدران المسجد الأقصى من كل ناحية مستمرة إلى يومنا هذا، وهذا معلوم للقاصي والداني، وللصغير وللكبير فالحفريات تحت جدران المسجد مستمرة، بحجة التوسعة وبحجة الترميم! ليسقط المسجد الأقصى، وليقيم إخوان القردة والخنازير عليه ما يسمونه بهيكل سلميان. إنها حقائق لابد أن ترسخ في القلوب والعقول. الصراع بين اليهود وبين المسلمين صراع عقائدي، ولن ينتهي إلى قيام الساعة، ومن ثم فإن ما يحاوله البعض من القيام بحلول عبر مفاوضات ومؤتمرات، إنما هو تضييع للوقت وللجهد وللمال ومسخ للهوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال والحديث في الصحيحين، من حديث أبي هريرة : (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله! قال المصطفى: إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) والآن يقوم اليهود بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد الذي لن ينطق؛ لأنهم يصدقون كلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في وقت كذب فيه كثير من أبناء أمة الحبيب الحبيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! الأقصى فتحه عمر وحرره صلاح الدين فهل من صلاح جديد!!

    1.   

    الجهاد الطريق الوحيد لتحرير الأقصى

    أيها الأحبة! فلنتق الله ولنعد إليه ولنرجع إلى الدين، ولنتخل عن هذه القنوات المشبوهة وعن هذه القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة التي نتحدى بها مولانا، ولنرجع إلى الله، فوالله ثم والله، ثم والله لن يحرر الأقصى جيل تربى على الخلاعة.. جيل تربى على الميوعة.. جيل تربى على الأفلام القذرة.. جيل تربى على المسلسات الداعرة.. لن يحرر الأقصى إلا جيل أحب الآخرة، كما أحب أصحاب المصطفى الآخرة .. جيل يحب الموت في سبيل الله كما يحب جيلنا الآن الحياة .. لن يحرر الأقصى إلا إذا رفع علم الجهاد. اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد! أيها الأحباب! إن من أبناء الأمة الآن من يتمنى بكل قلبه أن لو رفعت راية الجهاد ليسد فوهة المدافع بصدره وليلقى الله عز وجل شهيداً سعيداً ... فما أرخصها من حياة حياة الذل والهوان والعار! إن لم تمت بالسيف مت بغيره تعددت الأسباب والموت واحد لا شرف لهذه الأمة إلا بذروة سنام هذا الدين .. إلا بالجهاد في سبيل الله، ورحم الله ابن المبارك الذي أرسل برسالة من ميدان الجهاد.. من ميدان الشرف والبطولة إلى أخيه العابد التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض ليبين له فيه شرف الجهاد، فقال له: يا عابد الحرمين لو أبصـرتـنا لعلمـت أنـك بالعـبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعـه فنـحـورنا بدمـائنا تتخـضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغـبار الأطيـب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يـوم الصـبيحة تـتعب ولقد أتانا من مـقال نبينـا قـول صـحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبـار خـيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -وهذا نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذنان البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). إنه الذل! الذل لمن؟! لإخوان القردة والخنايز. الذل لمن؟! للشيوعيين في الشيشان. الذل لمن؟! للصليبيين الحاقدين في البوسنة. الذل لمن؟! لأحقر أمم الأرض لعباد البقر في الهند. إنه الذل: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). اللهم كما فتحت المسجد الأقصى على يد عمر وحررته على يد صلاح الدين فارزق الأمة بصلاح ليحرر الأقصى من جديد يا رب العالمين! أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا برحمتك يا أرحم الراحمين! يقول الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ [الإسراء:1] أي: لنري الحبيب المصطفى (مِنْ آيَاتِنَا) من آيات الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). ما وجه الاعتراض من المشركين؟ قالوا: كيف تقطع هذه المسافة في جزء من الليل؟! أقول أيها الأحبة: إن معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإسراء كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه يقظة لا مناماً. لماذا ينكر المشركون ذلك، وينكره من يعبد العقل الآن؟! ينكرون ذلك لعنصر الزمن، إذ كيف يقطع هذه المسافة التي يقطعها الناس في شهور في لحظات؟!! وأنا أقول: سبحان: تنزيه لأفعاله وأسمائه وصفاته جل وعلا. أي: إذا كان الفعل من الله فنزهوا فعل الله عن فعلكم، ونزهوا صفات الله عن صفاتكم، ونزهوا قول الله عن قولكم. (الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ): والعبد لغة: تطلق على الإنسان بروحه وبدنه، ولا يطلق لفظ العبد على الروح دون البدن (الذي أسرى بعبده ليلاً) والسري: هو السير ليلاً، وبعضهم قال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] فلقد كانت رؤيا منام؟! نقول: لو كانت رؤيا في المنام ما ضج المشركون، وما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت سبعاً، ومشيت بين الصفة والمروة سبعاً، وحلقت، ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟ لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا.. رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. أخي! خذ معي هذا الدليل الذي يحلو لبعض من يريد أن يقدم العقل في كل شيء أن يستمع إليه، أنا بداية لا أقلل من قدر العقل ولا من شأن العقل ولا أريد أن أمتهن العقل، إنما أقول: إن نور الوحي يزكي ويبارك نور العقل، بشرط أن يذعن العقل لله رب العالمين. أقول: لو أنني حملت طفلي الرضيع وصعدت به إلى قمة جبل من الجبال، ثم قلت لكم: لقد صعدت بولدي إلى قمة هذا الجبل، هل سيسأل عاقل طفلي الرضيع ويقول: كيف صعدت أيها الطفل هذا الجبل؟! إن الذي أسرى به هو الله، فلا تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إسرائه، وإنما إن شئتم فاسألوا الذي أسرى به جل وعلا، والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة، بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقل الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله. إذاً: لا عجب، فإن الذي أسرى بعبده هو الله، والأمر بين ولله الحمد، ونحن الآن رأينا الصاروخ ورأينا الطائرة وإن كان العربي الأول في أرض الجزيرة لم ير هذا. رأينا الطائرة ورأينا الصاروخ ورأينا مركبة الفضاء، وعلمنا سرعة الضوء الذي هو برق، وعلمنا أن البراق من البرق ... إلى آخره. اتضحت الآن لنا الصورة أكثر بكثير مما كان عليه الحال عند العربي الأول في أرض الجزيرة العربية، والآن رأينا المصعد الكهربي، بل ورأينا السلم الكهربي، وإذا ذهب أحدكم إلى حج بيت الله فسيرى هذا السلم الكهربي، وبعضكم رآه في المطارات، وهناك الآن مصاعد كهربائية تصعد إلى ما يزيد عن مائة دور في أقل من دقيقتين. فثلاً مركز التجارة العالمي في أمريكا يزيد على مائة دور، وللدور الأخير فقط مصعد مختص به، إذا ما ركب أحدكم هذا المصعد الكهربائي لا يرى إلا أن تثبت الشاشة: الدور الأول، وإذا ما أغمض عينه وفتحها فيرى الشاشة تعطيه الإشارة أنه قد وصل إلى الدور الذي يزيد عن مائة! إذا كان هذا من صنع الإنسان الذي خلقه الله فكيف بالخالق الذي يقول للشيء (كن) فيكون: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33]. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    ابتداء رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: بدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى ركعتين، وبعدما خرج وجد جبريل يقدم له إناءين: إناءً من لبن، وإناءً من خمر، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: قد أصبت الفطرة يا محمد! ثم تبدأ رحلة المعراج، وهنا نرجع مرة أخرى إلى حديث أنس في صحيح البخاري . يقول: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى السماء الأولى فاستفتح، فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم)، ولا تفهم أخي قوله: (أوقد بعث إليه) أي: هل هو رسول مبعوث من قبل الله؟! وإنما المراد: أوقد بعث إليه ليصعد إلى الملأ الأعلى، (أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به فنعم المجيء جاء، يقول: وإذا آدم عليه السلام، فيقول جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فيقول المصطفى: فسلمت عليه في السماء الأولى فرحب بي، ورد علي السلام، ودعا لي بخير وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى ابنا الخالة، فقال جبريل: هذا يحيى وعيسى سلم عليهما، فسلم النبي عليهما فردا عليه السلام، وقالا له: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعيا للنبي بخير. يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة يقول: فإذا يوسف، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم النبي عليه وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى آخره، ثم قال له إدريس في الرابعة مثل ذلك، ثم قال له هارون في الخامسة مثل ذلك، ثم قال له موسى في السادسة مثل ذلك، ثم قال له إبراهيم في السابعة، مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، كما قال آدم عليه السلام، يقول المصطفى: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:1-14]) الرائي هو محمد، والمرئي هو جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته التي خلقه الله عز وجل عليها. يقول: (فرفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبتها كقلال هجر) ، الثمرة من النبق -الثمر المعروف- كقلال هجر، ضخامة: (وإذا ورقها كآذان الفيلة)، جمع فيل أو جمع فيول، واللغتان صحيحتان: (وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال المصطفى: ما هذا يا جبريل؟! فقال جبريل: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات)، أصلهما من الجنة، ولكن لا تفهم أنهما الآن متصلان بالجنة. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم رفع لي البيت المعمور)، والبيت المعمور بناء كالكعبة، والراجح والصحيح أن في كل سماء بيتاً معموراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهو بمحاذات بيت الله الحرام، بمعنى: لو خر البيت المعمور لخر على الكعبة، والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون، فإن غفلت أنت عن الذكر فعنده من يذكره جل وعلا، لا يغفلون عن ذكره ولا يفترون: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]. وفي رواية صحيحة: (ثم انطلقت إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام) اقترب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرب الكبير وكرمه الله هذا التكريم العظيم ثم فرض الله عليه الصلاة، خمسين صلاة فقبل ورضي وسلم واستسلم فهو المطيع لربه دوماً، ولما مر على إبراهيم في السابعة لم يقل له شيئا وقد تلحظ طبيعة إبراهيم في هذا: إنه لأواه حليم: (ثم مر على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال له موسى -الذي قد تلمح طبعه أيضاً من هذا، بل ومن آيات كثيرة في القرآن- قال: فما أمرت؟ قال: أمرني الله بخمسين صلاة كل يوم وليلة، فقال موسى: لقد جربت الناس قبلك، إن أمتك لا تستطيع ذلك، فلقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك) صلى الله على موسى وصلى الله على محمد، لا نفرق بين أحد من رسوله ولا داعي لسرد الأقوال التي تنضح بالحقد، والتي تريد أن تبث العداء بين أنبياء الله ورسوله، فالحديث صريح في لفظه وواضح في معناه، لا يحتاج إلى لي لأعناق الكلمات ولا لأعناق النصوص. قال موسى: (إني قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع المصطفى إلى الله، فحط الله عنه عشراً، وعاد إلى موسى فقال: ارجع، فحط الله عنه عشراً وهكذا حتى بلغت الصلاة عشراً فقال له موسى: ارجع، فرجع حتى حط الله عنه خمساً، وفرض الله عليه خمس صلوات فلما عاد إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فقال له له المصطفى: إني قد استحييت من ربي عز وجل وإنما أرضى وأسلم، يقول: فانطلقت فسمعت المنادي يقول: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي). وهكذا أيها الأحبة! تنتهي رحلة المعراج. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المكان المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.. اللهم أقلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718653

    عدد مرات الحفظ

    754296855