قوله: (في هذه الأحاديث) المقصود التي سبق ذكرها، مثل حديث: أن الرب جل وعلا يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والثرى والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا الملك، ومثل حديث ابن عمر الذي سبق (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله يقبض السماوات بيده، والأرضين باليد الأخرى، ثم يقول هكذا يمجد الرب نفسه، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير بيده، يقول
وتحرك المنبر هو بسبب الذكر الذي يذكر عليه من عظمة الله، وإلا فالمنبر ثابت، وهذا مثل قصة الجذع الذي كان يخطب عليه، ثم اتخذ له منبراً منجوراً من خشب الطرفاء، فلما صعد على هذا المنبر أول مرة، صار ذلك الجذع يحن على ما فقد من الذكر الذي يتلى عليه، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم من المنبر، وذهب إليه والتزمه، فهدأه مثل ما يهدأ الصبي الذي يبكي، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم أصحابه معرفة الله جل وعلا، ويعلمهم الإيمان به، ومن الإيمان المعرفة بما تعرف الله به إلى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائه وأوصافه، فقد سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف؛ فيجب أن نتقبل ذلك كما جاء به المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بدون تحريف ولا تعطيل، وبدون تمثيل ولا تشبيه للرب جل وعلا بالمخلوقات.
أحدهما: التفسير، كما يقول ابن جرير رحمه الله في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، أي: في تفسيره، فهذا معنى صحيحاً من معاني التأويل.
المعنى الثاني: أن التأويل هو ما يئول إليه الشيء المخبر عنه، كما قال الله جل وعلا: يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] يعني: يأتي حقيقة ما أخبر الله جل وعلا عنه يوم القيامة إذا عاينوه، فهذا تأويله.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100] يعني: هذا حقيقة الرؤيا التي رأيتها، جاءت واقعة مشاهدة.
أما المعنى الثالث الذي يقوله المتأخرون فهو مبتدع مخترع، ما جاء لا في اللغة ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، وهو ما اصطلحوا عليه من صرف اللفظ عن ظاهره إلى غير ظاهره؛ لدليل يدل على ذلك، وهذا الدليل: إما أن يكون عقلياً، وهذا لا حصر له، ولا ضابط له، فكل يدعي أن العقل معه، وإما أمر آخر يزعم أنه دليل وهو ليس بدليل، وهذا الذي أنكره العلماء، وعده الإمام ابن القيم في كتابه: (الصواعق المرسلة) طاغوتاً من الطواغيت التي أُفسد بها دين الله، حيث جعله أحد الطواغيت الأربعة التي ذكرها، وقال: إن هذه الطواغيت هي التي أُفسد بها دين الله جل وعلا.
والواجب على الإنسان أن يأخذ دينه من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا ننكر كون الإنسان يستعين بأقوال العلماء على فهم كتاب الله وفهم كلام رسوله، بل ينبغي هذا، ولكن إذا جاءت أقوال تصادم كتاب الله وتصادم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نأخذ بها، ولا يجوز أن نعتبرها من المقبول، بل يجب أن نردها؛ لأنها تخالف قول الله وقول رسوله، فكل قول من أقوال الناس خالف قول الله أو قول رسوله يجب أن يرد ولا يقبل على أي حال، ومهما كان صاحبه.
ومعلوم: أن كل أحد من الخلق -من العلماء أو من غيرهم وإن بلغ في العلم درجة رفيعة- يجوز أن يخطئ وأن يقع في الخطأ؛ لأن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق فيجوز عليهم الخطأ؛ فإن بني آدم كلهم خطاء.
إذاً: أمامنا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت، فيجب الاعتصام بهما كما قال جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ففسر حبل الله بأنه كتابه، وأنه دينه، وفسر بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلها تفسيرات صحيحة.
فالمناظرات هي بالعقول، والعقول تتفاوت، وكل من كان مفرطاً في الذكاء من هؤلاء المتكلمين كانت نهايته الحيرة، فيصبح لا يدري ماذا يقول! كما ذكر عن أحد تلامذة الفخر الرازي الأذكياء أنه كان له صديق من أهل السنة الذين يتبعون السلف في الاعتقاد، وفي يوم من الأيام دخل عليه فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم سلم فلم يرد السلام، ثم سلم الثالثة فلم يرد السلام، فعجب الرجل فما دهاه! فوقف حائراً ما يدري يجلس أو يرجع، وفي أثناء ذلك رفع رأسه إليه فقال: ماذا تعتقد يا فلان؟ فضحك وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا أعتقد!.
والفخر الرازي نفسه خرج يوماً من الأيام إلى سوق نيسابور ومعه تلامذته وهم أكثر من ثلاثمائة تلميذ، وعجوز واقفة على باب بيتها، فسألت واحداً من تلامذته: من هذا الملك؟ فقال لها: ليس هذا بملك، ولكنه فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، فضحكت العجوز، وقالت: والله لو كان عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يبحث عن ألف دليل، أوفي معرفة الله شك حتى يبحث عنه؟! فهم يشكون في الأمور الظاهرة الجلية.
وكان الجويني يسمى إمام الحرمين؛ لأنه جاور في مكة زمناً، وجاور في المدينة زمناً، وصار يدرس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم من الأيام كان يتكلم على كرسي في هذا المسجد الطاهر، ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان؛ ليس فوق ولا تحت، ليس يمين ولا شمال، فقام رجل فقال: ما قولك فيمن إذا دعا رفع يديه نحو السماء قائلاً: يا رب؟! فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، لماذا؟! لأن استناده واعتماده كان على عقله فقط، ما هو على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما أدركه الموت صار يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل بي الآن ما اشتغلت به.
ثم يقول: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور لم أعرف شيئاً، ولا عجب، فبعد طول جهد وطول مسير يموت على عقيدة العجائز!! بل تمنى ذلك؛ لأن كثرة الشكوك التي تلقى عليه لا تدعه يعتقد ذلك، فهؤلاء كثير منهم يتمنى أن يكون على عقائد عوام الناس؛ والسبب أنهم أعرضوا عن طريق الهدى والشفاء الذي يشفي من الشكوك، أعرضوا عن كتاب الله، وزعموا أن آيات كتاب الله ظواهر لا تفيد اليقين، وإنما اليقين ما تدلهم عليه عقولهم، هذا هو السبب الذي جعلهم يحارون.
يجب أن تثبت صفات الله بلا تمثيل ولا تعطيل، والتعطيل هو تعطيل أوصاف الله وأسمائه من المعاني التي أريد بها، كما قال الله جل وعلا : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ [الحج:45] معطلة يعني: ما تستعمل بل تركت، ويقال في اللغة العربية: جيد عاطل: وهو رقبة المرأة إذا لم يكن عليها حلي، فمعنى التعطيل التخلية أي: أن يخلوها عن معانيها التي أرادها الرب جل وعلا، مثل ما يصنعه هؤلاء.
وهذا كثير جداً في تفاسير هؤلاء وفي شروحهم للحديث، فيجتهدون غاية الاجتهاد في صرف معاني أوصاف الله وأسمائه إلى ما يعقلونه هم، وما يتعارفون عليه، ويحرفونه من أجل ذلك؛ لأنهم ما عرفوا من اليد إلا أيديهم التي يتعارفون عليها، ولهذا كثير منهم يقول: يد الله ليست جارحة، فالله لا يوصف بالجوارح، فمن قال لك: إنها جارحة، فقل: إن الله له يد، ويجب أن نثبتها كما جاءت، أما كلمة جارحة فهي من عندك، فلا يجوز أن نثبتها، ولا يجوز أن ننفيها؛ لأنه شيء ما جاء إثباته ولا نفيه فيتوقف فيه.
ثم إن الله جل وعلا قد أخبرنا أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا سمي له، وأنه لم يكن له كفواً أحد، وأنه لا ند له، والناس جميعاً متفقون على أن الله في ذاته جل وعلا ليس له مثيل، ولا يشبهه شيء، فإذا كان الأمر كذلك فالصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذو الذات، فإذا كان جل وعلا ليس له مثيل في ذاته، فهو كذلك ليس له مثيل في أوصافه وأسمائه ؛ لأن الصفة والاسم تبع للذات.
فالواجب أن نفهم كلام الله، وأن نوقعه الموقع الذي أراد منا جل وعلا، وألا نؤول ولا نحرف، فإن التأويل والتحريف كله صد عن معرفة الله جل وعلا، وقد قال جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] فهذا وعيد من الله للملحدين أنهم أنه سوف يلقون جزاءهم حين يلقوه وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا فندعوه بأسمائه ونعبده بها، فنقول: يا منان من علينا، يا غفار اغفر لنا، وهكذا نسأله بأسمائه، ونعبده بها جل وعلا، وكل اسم له صفة أخذ منها، فالأصل الصفات، والأسماء فرع عن الصفات، فالرحمن أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والغفور من المغفرة، وهكذا.
فالمسلم يجب أن يكون قدوته كتاب الله، وأن يحذر من أقوال هؤلاء، والمصيبة أن أتباع هؤلاء ملئوا الدنيا بالكتب، وصارت المطابع تلفظ ما لا حصر له من كتب هؤلاء، وهم يزعمون أنهم أهل السنة والجماعة، وهم محرفون حيث يقولون: غضب الله هو نقمته، ويد الله: نعمته، ورحمة الله: إحسانه، وهكذا، فهؤلاء يزعمون أنهم أهل السنة، ومن أثبت لله غضباً على ظاهر اللفظ، وأثبت له رحمة ومحبة ويداً ورجلاً على ما جاءت به النصوص؛ سموه مشبهاً، ويحذرون من بعض الكتب مثل كتاب خلق أفعال العباد للبخاري ، وكتاب الدارمي , وكتاب الإمام أحمد ، وكتاب ابن خزيمة ، وغيرها من كتب أعلام السنة، ويقولون: هذه ما ينبغي أن يقرأها الإنسان؛ لأن فيها خطورة، ولانحرافها عن التنزيه، فيسمون تعطيل صفات الله: تنزيهاً، وقد قال أحد هؤلاء في كتاب التوحيد للإمام محمد بن خزيمة : هذا كتاب الشرك، وقال الآخر في كتاب الإمام عبد الله بن أحمد -كتاب السنة- هذا كتاب البدعة.
وليس هناك عداوة أكثر من معاداة الإنسان في العقيدة، فإذا خالفك أحد في العقيدة فلا يتفق معك في شيء، ولهذا صار بعضهم يلعن بعضاً، حتى قال بعضهم لأحد هؤلاء -وهو يرد على إمام معروف من أئمة السنة- وهو يريد أن يهدئه، وأن يطفئ شيئاً من غضبه: يا فلان! إني لأرجو أن تلتقي مع هذا الذي ترد عليه في الجنة، وتصطحبان هناك، فماذا قال هذا الرجل نسأل الله العافية؟ قال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها، إلى هذا الحد! نسأل الله العافية، كل هذا لأنه خالفه في وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه.
فالواجب على العبد الحذر، فالأمر ليس سهلاً، ونضرب مثلاً لمصير الطائفتين: لو كان هناك اثنان: أحدهما يقول: إن الله لا يوصف بيد، أو رجل، ولا يوصف بأنه يغضب، أو يحب أو يفرح، ولا يوصف بأنه يضحك؛ لأننا إذا وصفناه بهذه الأوصاف شبهناه بالمخلوقين، لأن هذه صفات المخلوقين. وآخر يقول: أنا أثبتها على ظاهرها، وأعتقد أن الله له هذه الصفات المذكورة على ما يليق به، ثم مات هذا وهذا، والتقيا بين يدي الله، وسألهما الله جل وعلا، فقال للأول: ما مستندك؟ فسيقول: عقلي، وقول فلان وفلان من الأئمة، ولو قال للثاني: ما مستندك؟ فسيقول: كتابك، وقول رسولك، فأيهما أولى بالنجاة؟ وأيهما أولى بالعذر؟ لا شك أنه الثاني؛ لأنه اعتمد على كتاب الله وسنة رسوله.
ثم هناك شيء ينبغي أن ننبه عليه، وهو أنه ما دام هؤلاء يقولون: إن هذه الأشياء ظاهرها مشابهة الخلق، فمعنى ذلك أن كتاب الله ظاهره التشبيه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن يقال هذا؟
هكذا صرح الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير سورة الكهف فإنه قال: الأخذ بظواهر كتاب الله كفر، وصل إلى هذا الحد؛ لأنه يقول: لا يجوز أن نقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] على ظاهر القرآن، لكن نقول كما قال الجعد بن درهم الذي أتانا بعقائد الصابئة والزنادقة، ويريد أن يفرق بين المسلمين ويشتت أذهانهم ويفسد عقائدهم، هذا هو غرضه ومراده، ولهذا ضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله لما قيل له: إن هذا الرجل ينكر أن يكون الرب جل وعلا يتكلم، وينكر أن يكون الرب جل وعلا يحب، فإنه يقول: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، لماذا يقول هذا؟ لأن الكلام عنده يتطلب لساناً، وشفتين، ولهاة، وحنجرة، ومقاطع أصوات، وكذلك المحبة والخلة تقتضي الميل إلى المحبوب، والحاجة إليه، ويقال لهذا المبطل: الذي يحتاج إلى لسان ولهاةٍ وحنجرة وشفتين كلامك أنت وأمثالك، أما الله جل وعلا فلا نظير له ولا شبيه.
فلما قال هذا القول، ونمي إلى أحد قواد بني أمية خبره؛ طلبه، فأمسكه وقيده بالحديد، وكان الوقت وقت عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يخطب الناس ويصلي بهم، وإذا لم يكن القائد عالماً ما يصلح أن يكون قائداً في ذلك الوقت، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى المصلى، وقد خرج الناس إليه، فصلى بهم صلاة العيد ثم قام يخطب، وفي آخر الخطبة قال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وذبحه أضحية؛ فشكره العلماء على هذا، شكروا صنيعه ودعوا له؛ لأن هذا طاغوت زنديق يريد أن يفسد الدين.
فتأمل هذه المحاورة وهذه الخطابات الكريمة التي يُخَاطب بها هذا الرجل، فما موقف أهل البدع من هذا؟ لا يؤمنون به -نسأل الله العافية-.
وفي صحيح البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو جالس معهم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه بالزرع، يقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا له: ألم أكن أغنيتك مما تطلب؟ فيقول: بلى يا رب، ولكن أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا: نعم فازرع، فيزرع فينبت الزرع ويستوي حتى تكون الحبوب أمثال الجبال، ثم يقول الله جل وعلا له: دونك يا بن آدم، فإنه لا يملأ بطنك شيء، عند ذلك قال أعرابي جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل إما من المهاجرين أو من الأنصار، أما نحن فلسنا أصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم).
والمقصود من هذا: أن آحاد أهل الجنة يخاطب ربه إذا شاء، ويخاطبه الله ويكلمه بلا واسطة، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه بلا ترجمان) كل واحد يكلمه ربه جل وعلا عند المحاسبة فيقول: يا فلان ألم تعمل كذا وكذا؟ ألم تعمل كذا وكذا؟ أشياء كثيرة جداً، كيف نترك ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونأخذ قول الذين تربوا في أحضان اليهود، أو تلقوا علومهم من اليونان، أو من حكماء الهنود، أو من الصابئة والزنادقة، والله ما يفعل هذا إلا من ضل سعيه في هذه الحياة الدنيا -نسأل الله العافية-، ولو ذكرنا بعض الأشياء التي تدل على أوصاف الله جل وعلا لطال الكلام جداً، ولكن المقصود التنبيه فقط، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتقبلون هذه الخطابات بدون استفسار أيضاً؛ لأنهم مقتنعون بها تماماً، ولم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص أبداً، ومن المعلوم قطعاً عند كل مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر الأمة على ما ظاهره الباطل أو الكفر.
وقد جاء في السنن والمسانيد والأحاديث الصحيحة الشيء الكثير من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته آداب الأكل وآداب قضاء الحاجة، وآداب دخول الحمام، وآداب النوم، وآداب دخول البيت، وآداب المشي، وآداب الجلوس، جاءت في أحاديث صحيحة كثيرة، يعلمنا إياها صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قال يهودي مخاطباً أحد الصحابة: إن نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يعني: قضاء الحاجة، حيث يقول: (إذا ذهب أحدكم لقضاء الحاجة فليستجمر بثلاثة أحجار، ولا يستجمر بعظم ولا بروث)، فذهب هذا الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له هذا القول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجل إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم كل ما ينفعكم) هل يتصور أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذه الآداب التي لو تركها المسلم ما كان عليه ذنب ولا عقاب، مثل: أدب الأكل أو الجلوس أو المشي، وأدب دخول المنزل، والنوم، ودخول الحمام، فهل يعلمنا هذا ويترك معرفة الرب جل وعلا لا يعملنا إياه، وهو أصل الإيمان وأساس الدين؟ هذا لا يجوز أن يعتقد أصلاً، ومن اعتقد هذا فلم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ.
وكذلك مسألة علو الله على خلقه، فهذه من المسائل الكبار التي خالف فيها هؤلاء المتكلمون، وسموا بالمتكلمين؛ لأن دينهم في الحقيقة الكلام، والجدل، ويسمون كلامهم توحيداً، وهو في الحقيقة شكوك وظنون وشبه، أما التوحيد فهو في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنكروا أن يكون الله عالياً على خلقه، مع أن أحد العلماء استخرج من كتاب الله ما يقرب من ألف دليل على علو الله، وعلو الله مفطور عليه الإنسان، فإنه لا يمكن لإنسان أن يدعو ربه ويقول: يا رب إلا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وهذا شيء خلقه الله جل وعلا في الأنفس، وهو مستقر فيها، لا ينكره إلا مكابر، أما أدلة الكتاب والسنة على ذلك فأكثر من أن تحصى، وسبق أن ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) إشارة إلى أن ربهم في السماء جل وعلا، وفي صحيح مسلم : (أن
فالمقصود أن (في) تأتي بمعنى (على)، فإما أن يقال هنا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (في) بمعنى (على)، أو يقال: إن السماء المقصود بها العلو، وهذا حق، ويقول الله جل وعلا في قصة عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55].
ويقول الله جل وعلا في كتابه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، ويقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، ويقول: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [الزمر:1] ينزل الوحي من السماء ، والأدلة كثيرة جداً لا حصر لها، إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وسبق لنا أن العرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات أصلاً، ما فوقه إلا الله جل وعلا، فما أكثر أدلة علو الله جل وعلا، تقول زينب رضي الله عنها -وهي تفتخر على أزواج النبي- (زوجكن أهاليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات)، وعلو الله ثابت حتى في كلام أهل الجاهلية.
فمن أنواعها: كون الله جل وعلا أخبر في آيات كثيرة أنه أنزل الكتاب على عبده ، وأنزل الكتب على رسله، فالإنزال لا يمكن أن يكون إلا من فوق إلى أسفل، وكلها جاءت بهذا اللفظ، وهذا نوع من الأنواع، وأفراده كثيرة، فلو تتبع الإنسان ما في القرآن من لفظ التنزيل الذي يخبر الله جل وعلا أنه فعله تنزيلاً من عنده لوجده كثيراً.
ومن أنواعها: الإخبار بأنه جل وعلا في السماء، كما قال جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17] وهذا أيضاً جاء كثيراً، والسماء المراد بها: العلو الذي فوق، فكل ما علاك يسمى سماء كما قال الله جل وعلا: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج:15] والمقصود بهذا: من كان يتوقع أن الله لا ينصر رسوله، ويترقب هذا ويترصد؛ فليضع حبلاً في السقف، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقتل نفسه، فإن الله لا بد أن ينصر عبده ورسوله.
فالمقصود من السماء العلو، وليس المراد بفي الظرفية مثل ما يقال: الماء في الكوز، والماء في الإناء.
ومن أنواع الأدلة على علو الله: الإخبار بأنه القاهر فوق عباده، وأنه فوق خلقه، وقد جاء هذا في آيات متعددة، كالتصريح بالفوقية.
ومن أنواع الأدلة في كتاب الله على العلو أيضاً: أنه يذكر بعد خلق السماوات والأرض استواءه على عرشه، مرتباً الاستواء على الخلق بكلمة (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، كما قال جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وجاء هذا في سبعة مواضع من كتاب الله بهذا الأسلوب، بكلمة (ثم) مرتبة على خلق السماوات والأرض.
ومن أنواع الأدلة: أنه يذكر جل وعلا أن من عباده من هو عنده: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ [فصلت:38]، والعندية تقتضي التميز والعلو والارتفاع عن خلقه جل وعلا، وأنواع أخرى كثيرة جداً.
ومنها: التصريح بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الرقية: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما أن رحمتك في السماء، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع) هكذا كان يرقي صلوات الله وسلامه عليه بعض أهله.
وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم يصرح بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وكذلك يوم عرفة، وغير ذلك من أنواع شتى كثيرة جداً.
وقد قال العلماء: إن اتصاف الله بالعلو دل عليه العقل ودلت عليه الفطرة، مع الكتب المنزلة، وما جاء به الرسول، وكلها متضافرة عليه، فإنكارها إنكار لما عرف بالضرورة، فمن أنكر علو الله على خلقه يكون منكراً لشرع الله، ولفطرة الله التي فطر عليها الخلق، ولدينه الذي أرسل به الرسل.
وبقي سؤال وهو: ما حكم الذي ينكر علو الله؟ وما شبهته؟ وهل لهم دليل؟
هم في الواقع اعتاضوا عن كتاب الله وعن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بعقولهم، ولن تستقل العقول بمعرفة الله، مع أن الأصل الذي اتفق عليه علماء الأمة، من الذين لهم مقام صدق، ولهم لسان صدق عند الناس، أنه لا يثبت لله جل وعلا من الأوصاف والأفعال إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما ما يقوله الناس، فإنه يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبل، وما خالفهما رد على صاحبه مهما كان مقام وعلم هذا القائل.
وكذلك أخبرنا ربنا جل وعلا عن كليمه -الذي كلمه بلا واسطة، وسمع كلامه- موسى عليه السلام، حيث كلمه الله جل وعلا وهو على عرشه عالياً على خلقه، وموسى بالأرض، فكلمه فسمع كلامه، وخاطبه، ثم طمع في أن يرى ربه، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ؛ فقال له جل وعلا: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] يقول علماء التفسير: تجلى الله جل وعلا للجبل شيئاً قليلاً جداً، فما استطاع الجبل الثبات لرؤية الله.
وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وسبحات الوجه: بهاؤه ونوره وجماله جل وعلا، فلو كشف للخلق هذا النور لاحترقوا عن آخرهم.
فالمخلوقات في هذه الحياة الدنيا لا تقوى على مشاهدة الله جل وعلا، ولكن المؤمنين يوم القيامة يرون ربهم؛ لأن تركيبهم يتغير، فيصبح تركيباً كاملاً لا يقبل الموت، ولا يقبل النقص، فيثبتون لرؤية الله، بل تكون الرؤية هي أعلى نعيمهم في الجنة. ورؤيته تعالى تكون في الجنة، ويرونه أيضاً في الموقف كما جاء صريحاً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري الطويل الذي فيه ذكر الشفاعة، وأن الله جل وعلا بعد الشفاعة يأتي للفصل بين خلقه، فيخاطب خلقه كلهم، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب) ومعنى (يتولاه في الدنيا) يعني: يتخذه ولياً يدعوه ويرجوه ويسأله ويتضرع إليه، فالذي يتولى الله يكون الله وليه، والذي يتولى صاحب القبر يكون صاحب القبر هو وليه، والذي يتولى الصنم يكون وليه.
وذكر صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يمثل لهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا، فالذين كانوا يعبدون الأصنام تأتي أصنامهم بأعيانها، والذين كانوا يعبدون عيسى وعزيراً ومريم والأولياء تأتي شياطين بصورهم، والذين كانوا يعبدون الشمس والقمر تأتي الشمس والقمر، فإذا اجتمعت لديهم يقول الله جل وعلا: اتبعوهم فهؤلاء أولياءكم، فيتبعوهم، فيذهب بهم إلى النار فيلقون فيها، يلقى أتباعهم خلفهم، قال الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:98-99] لما نزلت هذه الآية قال مشرك من المشركين: الآن سأفحم محمداً -يعني: أغلبه في الحجة- فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعبد الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى وأمه، فالملائكة وعيسى وأمه يكونون في النار، فجاء الوحي من الله جل وعلا وأنزل عليه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].. إلى آخر الآيات، وقد أخبر الله جل وعلا عن هذا في القرآن، وأنه إذا حشر الناس إلى يوم القيامة، خاطب الملائكة قائلاً: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] فيقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] فهم الذين زينوا لهؤلاء تلك العبادة.
المقصود: أنه لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كوننا نستدل على علو الله بالعقل وبالفطرة؛ لأنهما اتفقا مع الشرع، وإلا فإنه لا يجوز أن يكون العقل مستقلاً -وكذلك الفطرة- في دليل لا يشارك الشرع فيه، فنحن كلفنا بالوحي الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله؛ ولذلك فكل إنسان أول ما يوضع في قبره يأتيه ملكان عظيمان، مع كل واحد منهما مطرقة من حديد لو ضرب بها جبل لانهد، فيجلسانه، وترد عليه روحه، ويكون كهيئته في الدنيا، فيسألناه فيقولان له: ما كنت تعبد؟ وبأي دين كنت تتعبد؟ ومن الذي جاءك بهذا الدين؟
هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل واحد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، فيتعلم أمور العبادة، ويتعرف على ربه سبحانه وتعالى، ورسوله الذي يأخذ الدين من طريقه؛ لأن كل عبادة لم يأت بها الرسول فهي باطلة مردودة؛ لأنها بدعة، والبدع ضلال، قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4] يقول العلماء: هم أهل البدع الذين يتعبدون الله بالبدع، فيتعبون وينصبون، ويبكون ويخشعون، والنتيجة أنهم يصلون النار، لأنهم تعبدوا بغير دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104].
فالمقصود: أن الدين -سواء كان عقيدة أو عملاً- لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأما صفات الله فلا دخل للعقل فيها.
لهذا يقول علماء أهل السنة في عقائدهم: اتفق العلماء على أن أوصاف الله توقيفية، أي: تتوقف معرفتها على ما في النصوص فقط.
وكذلك إذا سمعوا قوله جل وعلا في مخاطبته لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] اعتقدوا أن لله يدين، وكذلك إذا سمعوا أن الله سميع بصير اعتقدوا أن له السمع والبصر، كقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] هذه الآية نزلت بسبب امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وهو في بيت عائشة -أي: في غرفتها، لأن بيت عائشة عبارة عن غرفة واحدة، وكل بيوت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن غرفة واحدة-، قالت عائشة : لقد جاءت المجادلة وإني في طائفة البيت، والله إنه يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله جل وعلا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا يعني: كونها تحاور الرسول صلى الله عليه وسلم حول مظاهرة زوجها لها، والظهار كان معروفاً في الجاهلية، فحرمه الله جل وعلا في الإسلام، وأثبت فيه أحكاماً، وهو أن يشبه زوجته بظهر أمه أو بيد أمه أو ببطن أمه أو بظهر أخته، أو بظهر بنته، فيشبهها ببعض محارمه التي تحرم عليه على الأبد، فمن شبهها بذلك فقد ارتكب محرماً، ولا يجوز له أن يقربها حتى يكفر، والظهار كان طلاقاً في الجاهلية، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه رجل كبير وفقير، ولي أولاد منه، فكيف أصنع بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أراك إلا قد حرمت عليه)، فصارت تقول: اللهم إليك أشكو صبية إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فأنزل الله جل وعلا الحكم في ذلك بالكفارة فقال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] إلى أن قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا .. [المجادلة:3] إلى آخر الآية، فلا بد أن يحرر رقبة، فإن لم يجد فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] فهذه الكفارة التي نزلت في الظهار هي قبل أن يمسها أو يقربها فلا بد أن يكفر.
فالمقصود: أن الله جل وعلا سمع قول هذه المرأة وهو فوق عرشه، فأنزل قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1] فالمسلمون يعتقدون أن الله سميع بصير، وأنه لا يخفى عليه شيء، فسمعه يسع كل صوت وإن دق، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في ظلمة الليل.
وكذلك يعتقدون أنه عليم بكل شيء، وأنه خبير بكل شيء، ويعتقدون أنه لا يخفى عليه شيء -تعالى وتقدس- فلماذا يراد منهم ما لا يعتقدونه؟
فالجواب أن نقول لهؤلاء الضلال -الذين أرادوا أن يلبسوا على المسلمين، وأن يشككوهم في ربهم- كلمة جسم من أين أتيتم بها؟ هذه كلمة مبتدعة لا وجود لها في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نفياً عن الله ولا وصفاً له بها، فنردها عليكم، ونثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا نقول كما تقولون، ولسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا ذلك.
وأما إذا أردنا التفصيل والجدال فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ فأنتم تختلفون في تعريفه، فهل تريدون بالجسم: البدن المكون من اللحم والدم والعظام؟ إذا كنتم تريدون هذا فالله يتعالى عن ذلك ويتقدس، وهذا تكلف ما جاءنا به كتاب ولا سنة، ولكن جاءنا قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهذا الذي تعرفونه أنتم من أنفسكم نعتقد أنه تشبيه، حيث شبهتم الله في أذهانكم أولاً، ثم نطقتم بنفيه، أما أهل الحق فلا يعتقدون هذا، وإن اعتقدتم أن الجسم يشغل مكاناً؛ فنحن نعتقد أن الله فوق، وأنه مستو على عرشه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ لأن نصوص الشرع جاءت بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إليه، والله أخبرنا أنه ينزل متى يشاء، وأخبر أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، فلا يجوز أن يترك كتاب الله وشرعه ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء المبطلة المعطلة الضلال، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.
أما مسألة الكلام فنقول: هل المخلوق الذي يتصف بالكلام أكمل ممن لا يستطيع أن يتكلم أو أنقص؟ أليست صفة الكلام صفة كمال؟
فالله جل وعلا قد عاب على قوم موسى عليه السلام حينما عبدوا العجل وهو لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لهم قولاً، فلا يخاطبهم إذا خاطبوه، ولا يجيبهم إذا سألوه.
فدل هذا على أن صفة الكلام صفة كمال وليست صفة نقص، هذا في كلام المخلوق، والله جل وعلا قد أعلمنا أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وأن كلامه لا يشبه كلام الخلق، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقات، وأخبرنا أنه يتكلم، وأنه أرسل الرسل بالشرع الذي يوحيه إليهم، ويخاطبهم به، وأنه يخاطب خلقه، وأنه يحاسبهم، فنفي هذا كفر بالله جل وعلا، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ) يقول: السلام عليك يا رسول الله.
حجرٌ أصم يخاطبه خطاب فصيح عربي ويقول: (السلام عليك يا رسول الله) كلما مر عليه، فكلما مر على هذا الحجر سلم عليه. وثبت أنه صلوات الله وسلامه كان يخطب في مسجده على جذع نخلة يابس اتخذه منبراً له، كما أنه اتخذ سواري المسجد من جذوع النخل، هكذا كان مسجده، بنى سواريه بجذوع النخل اليابس، فجذع النخل يجعله سارية، وسقف المسجد من جريد، وإذا جاء المطر نزل عليهم، ويسجد صلوات الله وسلامه عليه أحياناً في الماء والطين، فيظهر أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحا رجلان -يعني: تجادل رجلان- فرفعت، فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحا فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً، وقد رأيتني صبيحتها أسجد في ماء وطين)، يقول أبو سعيد الخدري : وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقوفاً بجريد النخل، فجاء المطر ليلة إحدى وعشرين من رمضان فوكف سقف المسجد، فرأيت أثر الماء والطين في جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة؛ ولهذا كان أبو سعيد يقول: إن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين استناداً إلى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أنه كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على جذع نخلة يابس، ثم فيما بعد أمر نجاراً أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من طرفاء الغابة، فترك ذلك الجذع وصار يخطب على هذا المنبر، فأول ما صعد على هذا المنبر للخطبة وترك الجذع سمع الحاضرون الذين في المسجد حنين الجذع، فصار يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلوات الله وسلامه عليه من على منبره والتزمه فهدأ، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، يحن على الوحي الذي فقده، وكان يُتلى عليه، فعلى ذكر الله وآياته يحن.
فهذا جذع جماد يابس له صوت، فكيف يقول هؤلاء: إذا أثبتنا الكلام لله أثبتنا التشبيه؟ تعالى الله وتقدس، فالله ليس كمثله شيء، فكلامه لا يشبه كلام الخلق، وكلامه لا يتطلب ما تقولون، فالكلام الذي يتطلب ما تقولون هو كلامكم، كلام الآدميين وكلام المخلوقين، فهذا دليل على أنهم مشبهة، وأنه ارتسم عندهم التشبيه أولاً، ثم صاروا ينفونه بالتعطيل.
وعلى كل حال فالإنسان مسئول عما أنزله الله إليه في كتابه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس عن فلان وفلان، وهذه عقيدة الأمة التي سلكت طريق الصحابة وأتباعهم، يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه وما وصف به رسوله، فكل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه أو أثبته له الرسول يُثبتونه، لا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، ولا يشبهون ولايمثلون، تعالى الله وتقدس؛ فإن الله ليس كمثله شيء، ولكن يثبتون ما أثبته لنفسه، فكل ما جاء موصوفاً به الرب جل وعلا يجب أن يثبت له، ولا يُلتفت لقول هؤلاء.
ونزيد هذا ونقول: إن الله جل وعلا أخبرنا أنه يخاطب الجلود، وأنها تتكلم يوم القيامة، ويخاطب الأسماع والأبصار، وأن السمع والبصر يتكلم، وكذلك الأيدي، فقد أخبر جل وعلا أنه يختم على أفواه قوم، وأنها تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فالأيدي والأرجل تتكلم، فيقال لهم: أخبرونا كيف تتكلم الأيدي والأرجل فأنتم تؤمنون بهذا؟ وحينئذ لابد لهم من التسليم للوحي.
أقول: إذا ثبت هذا في المخلوقات بدون أن يكون لها فم ولسان وشفتان، فكيف يشترط في كلام الله وجود هذه الأشياء؟!! وكل ما قالوه من هذا النوع باطل، وبعضه بطلانه ظاهر جداً؛ ولهذا صاروا يردون الكتاب والسنة رداً صريح، ويقولون: ما نقبل هذا، وما نقبل إلا عقولنا، فهل الله يسألكم عن عقولكم، أو يسألكم عما أرسل به رسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ فسوف ترون عاقبة أمركم يوم تقفون بين يدي الله جل وعلا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر