إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [102]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الواجب على كل مؤمن أن يحب ما يحبه الله عز وجل ورسوله، وأن يبغض ما يبغضه الله ورسوله، وأن يوالي من والاه الله ورسوله، ويعادي من عاداه الله ورسوله: كالمنافقين واليهود والنصارى، فإن خبثهم ودسائسهم على الإسلام والمسلمين معروفة على مر التاريخ.

    1.   

    بيان خبث المنافقين واليهود ونقضهم للعهود

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الشعبي : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومه، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً من جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النساء:60] الآية.

    وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر رضي الله عنه، فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله ].

    هذا الأثر مشهور ذكره المفسرون في تفسيرهم في بيان سبب النزول، ومن المعلوم المتقرر عند العلماء أنه لا يُعتبر بسبب النزول، وإنما العبرة بعموم اللفظ، أي: أن اللفظ يكون عاماً للأمة كلها من أولها إلى آخرها، وإن كانت الآية نزلت في رجل أو رجلين أو جماعة، فإن هذا لا يُقصر عليهم، وإنما كل من فعل فعلاً يدخل تحت هذا العموم فهو داخل في ذلك، وكون اليهود يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق ويقوله هذا أمر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه؛ لأنهم يعلمون أنه يقول الحق ويحكم به، ولكن المنافق هو الذي يأبى هذا، والمنافقون هم الذين يأبون ذلك لأنهم نفعيون يريدون أن تحصلوا على ما ينفع نفوسهم وعلى الأمور العاجلة، ويبذلون في سبيل ذلك الرشاوي وغيرها حتى يحصل لهم مرادهم، أما أهل الحق فلا يُقبل ذلك عندهم.

    وكذلك إذا كان التحاكم إلى الطاغوت وإلى الكهنة فهو داخل في هذا، فلما أرادا التحاكم إلى كاهن في جهينة كان أيضاً داخلاً فيه، ومن ذلك أيضاً التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي؛ لأنه من الطواغيت، وقد عرف بمعاداته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وانتقض عهده في ذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فإنه لما جاء البشير من وقعة بدر بأن النصر وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وأن صناديد قريش قد قتلوا، وأنه أُسر منهم من أُسر طار عقله وصار يقول: أحق هذا؟ لئن كان هذا حقاً لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم لما تأكد ذلك اغتم غماً شديداً، وذهب إلى قريش وصار يؤلبهم، وكان شاعراً، فجعل يقول الشعر يحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرثي قتلاهم، ويخبرهم بأنهم خير من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن دينهم أفضل، وببعض هذا ينتقض عهده.

    ثم العجيب أنه لما نزل على امرأة من قريش جعل رحله عندها وصار يتكلم بمثل هذا الكلام، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وقال له: إنه نزل عند فلانة. فقال حسان فيها شعراً، فلما بلغها ذلك أخذت رحله ورمته، وقالت: هذا يهودي يهجونا حسان بسببه.

    ثم كلما نزل عند قوم أرسل إليهم حسان أشعاراً يهجوهم بها، حتى تبرءوا منه وطردوه، فجاء إلى المدينة، فصار يقول الأشعار، ويشبب بنساء المسلمين، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي بـكعب بن الأشرف فقد آذى الله وآذى رسوله؟ فقال له محمد بن مسلمة : أنا له، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، فقال: ائذن لي أن أقول، فقال: قل، فذهب إليه هو وجماعة من إخوانه، فأروه بأنهم كرهوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أمرنا هذا الرجل بالصدقة، واحتجنا وجئنا إليك لتسلفنا أو تبيعنا إلى أجل، وقد عنانا فلما سمع مثل هذه الكلمة فرح وقال: أجل، والله! لتملنه، فقالوا: إنا نكره أن نتركه حتى نرى ماذا يصير إليه، ولكن نريد أن تعطينا ونرهنك رهينة، قال: ماذا ترهنوني؟ ارهنوني أبناءكم، فقالوا: تعيرهم العرب، فيقال لأحدهم: رهن بكذا من الطعام، فقال: ارهنوني نساءكم، فقالوا: هذا عار علينا، وأنت أجمل العرب، ولا يمكن أن نرهنك نساءنا فيفتن بك، ولكن نرهنك السلاح، فقال: نعم، فوعدوه أن يأتوا إليه، ويأتوا أيضاً بغيرهم.

    فجاءوه ليلاً، وكان مع زوجته في حصنه، فدعاه محمد بن مسلمة وهو عند زوجته، فقام فأمسكت ثوبه فقالت: والله إني لأسمع صوتاً كأن الدم يقطر منه، فقال: دعيني؛ فإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة ، فكان محمد بن مسلمة قد اتفق معهم فقال: إذا نزل سوف أمسك رأسه ثم عليكم به، فلما نزل قال له محمد بن مسلمة : ما رأيت كالليلة طيباً أحسن منك، فقال: أجل! فعندي أعطر نساء العرب، فقال: أتأذن لي أن أشم؟ فقال: نعم، فأخذ رأسه فشمه ثم أرسله ليأمن، ثم قال: أتأذن لي أن أعود قال: نعم، فأمسك رأسه وقال: دونكم الخبيث، فضربوه حتى قتلوه.

    فأتوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك.

    فالمقصود أنه انتقض عهده لكونه صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يهجوه ويهجو المسلمين، ولهذا أخذ العلماء من هذه القصة أن كل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل سواء أكان له عهد أم ليس له عهد.

    قال رجل عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يكن قتل كعب بن الأشرف إلا خديعة -أو قال: خيانة- فأمر به فقتل؛ لأنه قتل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك خديعة ولا خيانة، وإنما لأنه خبيث صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين، وكذلك يشبب بنسائهم، والمعاهدة التي وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على المناصرة على كل من قصد المدينة، فإذا فعلوا شيئاً مما يخلف ذلك ينتقض عهدهم.

    وهذه الواقعة كانت في السنة الثالثة من الهجرة، وقتله كان في ربيع الثاني في ليلة أربع عشرة منه كما ذكره المؤرخون وأهل السير، وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والصحابة كانوا يتسابقون على قتل من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، وكما ذكر قصصهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الصارم المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم).

    1.   

    ترجمة الشعبي

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: وقال الشعبي : هو عامر بن شراحيل الكوفي عالم أهل زمانه، وكان حافظاً علامة ذا فنون، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة، وعاش بضعاً وثمانين سنة. قاله الذهبي ].

    وكان رحمه الله تعالى من نوادر الحفاظ، ما يسمع شيئاً إلا حفظه، حتى إنه كان إذا دخل السوق يضع في أذنيه كرسفاً -أي: قطناً- ويقول: حتى لا أسمع أقوال الناس فأحفظها؛ لأنه كان كلما سمع شيئاً حفظه، ولهذا لم يكن يكتب، ولا يحتاج إلى الكتابة؛ لأنه كان يستمع الشيء فيحفظه، وهذا من النوادر التي يقل وجودها في الناس، أي: الحافظة الخارقة، وله نظراء من الحفاظ المعروفين.

    1.   

    بيان صفات المنافقين، وأنهم أخبث من اليهود والنصارى

    قال الشارح رحمه الله: [ وفي ما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه الأزمان وقبلها من إعانة المنافقين العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان ].

    المنافقون في هذه الأزمنة والأزمنة الآتية والموجودة والماضية هم العدو، كما سماهم الله جل وعلا العدو فقال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] .

    والنفاق: هو إبطان الكفر وإظهار الوفاق؛ أي: أنه مع المسلمين، ثم هو يعمل على اجتثاث الإسلام وإبطاله وإذلال أهله، ويكون مع الكفار في كل مناسبة وفرصة، وهم كثيرون وأنواع، والله جل وعلا جلى صفاتهم في سورة (براءة) فكثيراً ما يقول: (ومنهم) فيصفهم بأن منهم كذا، ومنهم كذا حتى افتضحوا، وكذلك في سورة (المنافقون)، كما يقول جل وعلا فيها: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) يعني: لهم مناظر جميلة وحسنة وثياب نظيفة وأبهات وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني: أنهم عندهم فصاحة وبلاغة يلفتون النظر والأسماع إلى ما يقولون، يقول جل وعلا: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

    ومن علامة ذلك أنهم لا يبالون بالشيء الذي يفعلونه، وأنهم يرون المعاصي -كما يقولون-: حرية، وأن الإنسان حر يفعل ما يشاء، وأنها مباحة لا بأس بفعلها، بل يتنقصون الإنسان إذا نهاهم عن ذلك، ويقولون: أنت لم تطلع على ما عليه المدنية وما عليه الناس، ولا تزال متحجراً.

    وأوصافهم كثيرة جداً، وينبغي للإنسان أن يعرفهم؛ لأنهم لا يخلو منهم مكان، نسأل الله السلامة والمعافاة من ذلك، ومع ذلك الإنسان قد يكون عنده صفة من هذه الصفات، وقد يخفى عليه ذلك؛ لأن صفات النفاق مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، فهذه أمور ظاهرة، فمن اتصف بشيء منها فعنده شيء من النفاق العملي الظاهر، وهناك شيء باطن لا يظهر يكون في القلب، ولكن العمل يكون دليلاً عليه، وهو بغض الحق وبغض أهله، وهذا من أعظم الصفات، إذا كان الإنسان مبغضاً للحق ومبغضاً لأهل الحق، ومحباً للباطل ومحباً لأهل الباطل، فهذا من أعظم صفات النفاق الاعتقادي الذي يكون صاحبه خالداً في جهنم، بل يكون في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية.

    1.   

    قتل المنافق المغموس في النفاق

    قال الشارح رحمه الله: [ ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم، وحضهم على جهاد في مواضع من كتابه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق.

    وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له والإظهار لعداوته، فانتقض به عهده وحل به قتله، وروى مسلم في صحيحه عن عمرو قال سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لـكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة : يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: ائذن لي فلأقل، قال: قل)، فأتاه وقال له وذكر ما بينهم، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟! قال: ترهنوني أولادكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة -يعني: السلاح- قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بـالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر ، قال: فجاءوا ليلاً فدعوه فنزل إليهم، قال سفيان : قال غير عمرو : قالت له امرأته: إني اسمع صوتاً كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة ، إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب، قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه).

    وفي قصة عمر رضي الله عنه بيان أن المنافق المغموس بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس؛ فإنه قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فصلوات الله وسلامه عليه ].

    معنى قوله: [المغموس بالنفاق]: المتهم الذي يظن أنه منافق، وليس معنى المغموس الذي غاص فيه وعلم؛ فإن هذا أمره ظاهر، ولكن المتهم في النفاق إذا أظهر نفاقه وظهر وبان فإنه يقتل.

    1.   

    فوائد ومسائل الباب

    فهم قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا...) يعين على فهم معنى الطاغوت

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل:

    الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت ].

    قوله: [ما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت] يعني: أنه جل وعلا قال فيها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء:60] يعني: أن هؤلاء ذهبوا إلى إما إلى كعب أو إلى الكاهن، وهذا هو الطاغوت، فإذاً: يكون التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طاغوتاً أياً كان المتحاكم إليه، والآية يجب أن تفهم على ما أرادها ربنا جل وعلا، يقول: وهذا مما يعين على فهمها.

    يعني: هذه القصة وسبب النزول، ومعلوم أن سبب النزول يعين على فهم الكلام، ولهذا يقول العلماء: المفسر يجب عليه أن يعرف ويعتني بأسباب النزول.

    معنى قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)

    قال المصنف رحمه الله: [ الثانية: تفسير آية البقرة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] الآية ].

    هذه الآية أيضاً في المنافقين؛ لأن سورة البقرة قسمت الناس في أولها إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الذين: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4] ثم ثلاث آيات ذكرت في المؤمنين، ثم بعد ذلك ذكر الله الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، فهذه في الكافرين.

    ثم ذكر المنافقين فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:8-10] يعني: مرض النفاق فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:10-11].

    يعني: إذا قيل لهم: لا تفعلوا هذه الأفعال التي تفعلونها فإنها فساد في الأرض وطاعة الكفار، وكذلك هي من موالاة الكفار، ومن محبتهم وبغض المؤمنين وبغض الحق وأهله، قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: يقصدون أنهم يصلحون الأوضاع والسياسات، فيقولون: نحن نجاري هؤلاء وهؤلاء، وبذلك تصلح أحوالنا وتصلح أوضاعنا، وتكون هذه في زعمهم سياسة وعقلانية، فجعلوا ذلك صلاحاً.

    فأخبر الله جل وعلا أنه فساد في الأرض؛ لأن كون الإنسان يكون مع المؤمنين في الظاهر ومع الكافرين في الباطن هذا من أعظم الإفساد.

    ثم كل معصية يُعصى الله جل وعلا بها فهي فساد، والمعاصي لا تكون إلا على الأرض، أما السماء فالذي في السماء خلقهم الله جل وعلا لطاعته، فهم لا يعصون ما أمرهم الله جل وعلا به، ولكن الفساد إنما يكون في الأرض في برها وبحرها، ويكون الفساد فيها بالمعاصي.

    فإذاً قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] بمعنى: لا تعصوا ولا تخالفوا أمر الله، ولا تخالفوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

    معنى قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)

    قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: تفسير آية الأعراف: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] ].

    يعني أنها مثل آية البقرة، إلا أن آية الأعراف أعم؛ لأن آية البقرة في المنافقين، وأما تلك فهي عامة، بل جاءت في خطاب المؤمنين، فإن الله جل وعلا يقول فيها: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:54-56].

    فهي عامة، والخطاب فيها للمؤمنين، فتبين بذلك أن كل معصية يُعصى الله بها جل وعلا بها فهي فساد في الأرض، والصلاح في الأرض يكون بالأنبياء؛ لأن الأنبياء هم الذين يأتون بصلاح الأرض، وهم الذين يأمرون بالطاعة ويدلون عليها ويزينونها ويذكرون وعد الله عليها، ويكونون أدلاء على الله، والذين يعبدون الله جل وعلا إنما هم بسببهم، وكل خلاف يقع لهم فهو فساد في الأرض.

    معنى قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: تفسير: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة:50] ].

    معروف أن الجاهلية -كما سبق- هي كل ما خالف الإسلام، فكل ما خالف الإسلام فهو جاهلية، سواء أكان قديماً أم حديثاً، فمن طلب حكم الجاهلية فمعناه أنه ترك حكم الله ورغب عنه، فالذي يرغب عن حكم الله ويتركه فإنه يطلب حكم الجاهلية، وحكم الله هو الأحسن، وهو العدل الصواب، ولكن لمن كان يوقن ويؤمن بالله ويخافه، أما الذي يكون في قلبه مرض فإنه يرى أنه ليس حسناً.

    معنى الإيمان الصادق

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.

    السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب ].

    الإيمان الصادق هو في الذي يكون صاحبه مطيعاً لله جل وعلا، ويكون في قوله صادقاً، وليس الذي يكون عاصياً ويكون في قوله كاذباً، فإذا أخفى في قلبه شيئاً خلاف العمل الذي يعمله فإنه يكون كاذباً؛ لأن الصدق هو مطابقة الشيء في الواقع، والكذب أن يختلف عن الواقع.

    من كان هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حقق الإيمان الكامل

    قال المصنف رحمه الله تعالى:[ السابعة: قصة عمر مع المنافق.

    الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

    المقصود بالإيمان هنا الإيمان الواجب، وليس المقصود أصل الإيمان؛ فإن أصل الإيمان يوجد عند من تكون هذه صفته، ولا يكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي، ولكن يكون من أهل الوعيد، من الذين يجوز أن يعذبوا إن لم يعف الله جل وعلا عنهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756258483