إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [97]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد تطغى شهوات الدنيا على قلب عبد، فيعمل لها حتى يصير عبداً لشهواته، تسيره كما تشاء، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ووصف فاعل ذلك بأنه عبد لغير الله، ودعا عليه بالتعاسة والشقاء.

    1.   

    حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة, إن أُعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.

    طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله, أشعث رأسه، مغبرة قدماه, إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع) ].

    قوله: (في الصحيح) يعني: في صحيح البخاري ، وذكره في موضعين في الجهاد وفي الرقاق.

    معنى قوله: (تعس عبد الدينار)

    قوله: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميلة, تعس عبد الخميصة).

    الدينار: هو قطعه من الذهب كما هو معروف, سواء كان مضروباً أم لم يكن, والدرهم: قطعة من الفضة, أما الخملية فهي كساء له خمل، أي: له أهداب، وأما الخميصة فهي كساء مربع.

    وسماه عبداً لهذه الأشياء؛ لأنه يعمل لها, ويجتهد ويكد لأجلها, وكأن عمله للدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يقتنى.

    المقصود: أن عمله إنما هو للدنيا، ومعنى قوله: (تعس) سقط وهلك، وقيل: معناه انتكس عليه أمره، يعني أنه لم يفلح, وهذا قد يكون دعاء وقد يكون خبراً, إذا كان دعاءً فالرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه مستجاب, فهو يدعو عليه بالتعاسة, والتعاسة هي الشقاء كما قال جل وعلا: فَتَعْساً لَهُمْ [محمد:8]، أي: يعني شقاءً لهم, وقد يكون خبراً يخبر عنه أن هذه حالته؛ لأنه لا يخرج عن هذه الحالة, إذا كان الإنسان يعمل للدنيا فإنه يكون تعساً, ولا يلزم أن يكون في نظر العامل أنه تعس, وأشد التعاسة وأعظمها أن يكون في عمله بعيداً عن ربه جل وعلا وعما يسعده, فكلما تمادى في ذلك -وإن كان يظن أنه في سعادة- فهو يتمادى في التعاسة.

    وقوله: (وانتكس) الانتكاس مثل أن يشفى المريض ثم يعود إلى مرضه, انتكس في مرضه يعني: عاد إلى أسوأ ما كان, وهنا كأنه دعاء يقرر عليه, يكون تعساً ثم ينتكس في أمره أشد مما كان عليه.

    وقوله: (وإذا شيك فلا انتقش)، أي: إذا أصابته الشوكة فلا انتقش, والانتقاش: هو إخراج الشوكة بالمنقاش، والمعنى: أنه إذا وقع في شدة فإنه لا يخرج منها؛ لأن الذي إذا شيك ولا ينتقش لا يجد من ينقشه ومعناه: أنه قد هلك فلا يستطيع الخلاص مما وقع فيه.

    والمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من كانت هذه حالته, فقد وصل إلى الغاية في الهلاك, وهو عدم الخروج مما وقع فيه من المآزق وهي عبادة الدنيا؛ لأن هذا يتمادى حتى يغطي على قلبه، فيصبح عنده الباطل كأنه حق, ويكره الحق ويبغضه، ويحب الباطل, وهذه غاية التعاسة والشقاء, فخروجه من هذا صعب إن لم تداركه رحمة من ربه جل وعلا، وإلا فإنه لا يخرج من ذلك ولا يجد من يخرجه.

    معنى كونه عبداً للدينار والدرهم

    ثم كونه سماه عبداً للدينار وعبداً للدرهم وعبداً للكساء الملبوس، أو الموضوع المفروش, ليس معنى ذلك أنه يسجد لهذه الأشياء ويدعوها ويصلي لها, ولكن المعنى أنه يعمل لأجلها ولا يعمل لآخرته, ولهذا وضح ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أعطي رضي, وإن منع سخط) يعني: أنه إذا حصل له ما يعمل له استمر في عمله ومضى فيه, أما إذا لم يحصل له الشيء الذي يعمل له وهو الدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يكون مراداً له, فإنه يتوقف ويسخط العمل ويتركه.

    (إن أعطي رضي وإن منع سخط): فهذا واضح في أنه يعمل لأجل الدنيا، لأنه لو عمل لله جل وعلا ما نظر إلى هذه الحالة, كونه إذا منع ترك العمل، وإذا أعطي استمر فيه, فهذا تفسير لقوله: (عبد الدينار وعبد الدرهم).

    العبد المخلص المقابل لعبد الدنيا

    ثم ذكر العبد الذي يكون مقابلاً لهذا, وهو الذي يكون عبداً لله جل وعلا, هذا عبد الدنيا والذي يقابله هو عبد الله, فقال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، وطوبى: كلمة يراد بها الفعل الطيب أو الخير الذي يصل إليه, يعني: أنه يحصل على الجزاء الطيب المتناهي في الطيب، وقيل: إن (طوبى) هي الجنة، وقيل: إن (طوبى) شجرة في الجنة, وهذه أقوال متلازمة.

    والمعنى واضح في أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا العبد الذي هذه صفته أن يكون من أهل الجنة أو أنه يخبر عنه بأنه من أهل الجنة.

    والعنان معروف، وهو الحبل الذي يكون في رأس الفرس، يقوده به، وهو الزمام الذي يمسكه، ومعنى ذلك: أنه مجتهد في سبيل الله.

    وقال: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه)، والمقصود بذلك: أنه لا يعتني بنفسه، قد شغل عن ترجيل رأسه وتسريحه وتنظيفه, شغله الجهاد في سبيل الله عن ذلك.

    وكذلك الغبرة التي تلحقه، فهي تعني أنه لا يعتني ببدنه بالتنظيف والغسل؛ لأنه مشغول عن ذلك، ويعمل عملاً يرى أنه لا يجوز التساهل فيه أو الغفلة عنه، فهو في أمر مهم؛ لأنه يطلب رضا الله جل وعلا، والوصول إلى أعلى الدرجات.

    ثم قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة) هذا الشرط اتحد مع الجواب، يعني: أنه إن كان في الحراسة قام بما يلزم ولم يكن مقصراً فيها, فهو في الاجتهاد والعمل غير مقصر، (وإن كان في الساقة كان في الساقة)، والحراسة والساقة كلاهما من أشد المواقف.

    فذكر هذين الموقفين ليدل على أنه قائم بما يلزمه طاعةً لله جل وعلا، وطلباً لمرضاته, وأنه مجتهد غاية الاجتهاد لا يفتر ولا يقصر في ذلك.

    ثم قال: (إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)، يعني: أنه يعمل عملاً لله، ولا يقصد به وجوه الناس ولا يقصد به الدنيا, فلهذا يكون غير معروف عند ذوي المناصب والمسئولين, لأنه لا يظهر نفسه حتى يعرفوه, بل يعمل لربه جل وعلا, فلهذا إذا طلب شيئاً لا يعطاه، وإذا شفع لأحد لم تقبل شفاعته.

    إن استأذن على الكبراء لم يؤذن له لأن عمله ليس للدنيا, فهو يحرص على أن يكون عمله خافياً, وألا يكون مطلوباً به وجوه الناس ورضاهم.

    وإن شفع لأحد لم تقبل شفاعته؛ لأنه لا قيمة له عندهم, فهذا معناه أنه مغمور عند الناس, وليس له ذكر ولا نباهة عندهم ولا وجه, ولكنه عند ربه رفيع القدر وعظيم الجزاء؛ لأن قصده وجه الله جل وعلا؛ ولأنه عبد لله، فهذا يقابل الأول, فالأول عبد الدنيا وهذا عبد ربه جل وعلا.

    وهذا مثلما يأتي في القرآن, فإن الله جل وعلا يذكر المتقابلين، يذكر مرة الصالحين ثم يتبعهم الفاسدين الكافرين، أو يذكر الجنة ثم يتبع ذلك ذكر النار.

    فهنا في هذا الحديث ذكر عابد الدنيا، ثم ذكر عابد ربه الذي يقصد بعمله وجه الله جل وعلا، ويتقرب به إلى الله, والشاهد في هذا واضح, أنه سمى الذي يعمل للدنيا عبداً للدينار، وعبداً للدرهم، وعبداً للخميلة، وعبداً للخميصة.

    فدل على أن من عمل عملاً يقصد به الدنيا, فإنه عند الله من الخاسرين, فالحديث مطابق للآية التي ترجم بها المؤلف الباب، وهي قوله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فمعلوم أن الأول باطل عمله في الآخرة، وأنه ممن يستحق النار، ويكون خالداً فيها؛ لأنه عبدٌ للدنيا ويعمل لأجلها, ولهذا يرضى لها ويسخط من أجلها.

    أما الثاني: فهو يقابل هذا تماماً, فالدنيا ما أهمته، ولا يلتفت إليها، ولا يعيرها أي اهتمام, ولهذا كان عمله عظيماً, إذا وقف في المواقف وقف موقف الرجال, ولم يؤت من قبله, ولكنه لا يظهر ذلك بل يخفيه؛ لأنه يريد وجه الله جل وعلا, ولهذا لا يتحصل له جاه عند الناس, بل يكون مطموراً مغموراً، لا يؤتى به ولا يلتفت إليه؛ لأن عمله لله جل وعلا، وهذا هو المقصود.

    شرح ألفاظ الحديث

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (في الصحيح): أي: صحيح البخاري .

    قوله: (تعس) وهو بكسر العين، ويجوز الفتح, أي: سقط, والمراد هنا هلك، قاله: الحافظ.

    وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي: شقي, وقال أبو السعادات : يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه, وهو دعاء عليه بالهلاك.

    قوله: (عبد الدينار) هو المعروف من الذهب، كالمثقال في الوزن.

    قوله: (تعس عبد الدرهم) وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزناً, وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية, وهو زنة خمسين حبة شعير, وخمسا حبة، سماه عبداً له، لكونه هو المقصود بعمله ].

    يعني: في القرن الثالث عشر يقولون: عندنا درهم من ضرب بني أمية يعني: بقي إلى ذلك الوقت، ولا يزال عند بعض الناس, واشترى أحد التلاميذ درهماً من أول الإسلام وهو محتفظ به, وهذا يترتب عليه أحكام من أحكام الشرع, كمعرفة المكاييل والموازين، وهو أمر مهم؛ لأن فيها الزكاة وفيها الكفارات وفيها الأحكام التي تتعلق بها كثيراً, فمعرفتها مهمة، فإذا وجد مثل ذلك دينار أو درهم فشيء جيد؛ لأن هذا هو الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعينه كثيراً على معرفة المقادير والموازين.

    قال الشارح: [فكل من توجه بقصده لغير الله, فقد جعله شريكاً في عبوديته, كما هو حال الأكثر.

    قوله: (تعس عبد الخميصة) قال أبو السعادات : هو ثوب خز أو صوف معلم, وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة, وتجمع على خمائص, والخميلة بفتح الخاء المعجمة, وقال أبو السعادات : ذات الخُمل: ثياب لها خُمل من أي شيء كان.

    قوله: (تعس وانتكس): قال الحافظ : هو بالمهملة أي: عاوده المرض. وقال أبو السعادات : أي: انقلب على رأسه؟ وهو دعاء عليه بالخيبة، قال الطيبي : فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.

    قوله: (وإذا شيك): أي: أصابته شوكة.

    (فلا انتقش) أي: فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش، قاله أبو السعادات .

    والمراد: أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلابد أن يجد أثر هذه الدعوات في الواقع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه].

    كلام ابن تيمية على منزلة المال عند المسلم

    قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء عليه بلفظ الخبر، وهو قوله: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه.

    وهذا حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه: (إن أعطي رضي، وإن منع سخط)، كما قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58]، فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله.

    وهكذا حال من كان متعلقاً منها برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده..

    - إلى أن قال: وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه، ومنكحه ومسكنه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً.

    ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار مستعبداً ومعتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.

    وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله: من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان.. انتهى ملخصاً].

    هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العبودية، وكلامه في منزلة المال عند الإنسان، يقول: المال يكون عند الإنسان على قسمين:

    أحدهما: الشيء الذي لابد له منه مثل المسكن والطعام -المأكل والمشرب- والملبس ونفقة الزوجة وما أشبه ذلك.

    فهذه يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا، ولا يتعلق قلبه بها، وإنما تكون لأجل الحاجة؛ لأنه محتاج إلى ذلك، ولكن لا تشغله ولا تصده عن عبادة ربه، وكون قلبه خالصاً لربه لا تأخذ شيئاً منه، فتكون هذه بمنزلة الحمار الذي يركبه، ولو قلنا السيارة فإنه يمكن أن يتعلق قلبه بها، وتجده إذا كانت مثلاً جميلة ينظفها، بل ينبغي أن يكون المال بمنزلة الحمار الذي يركبه.

    ثم يقول بعد هذا: بل يجب أن يكون المال عند المؤمن بمنزلة المحل الذي يقضي فيه حاجته ولا يتعلق به قلبه نهائياً؛ لأنه إذا تعلق به القلب لابد أن يعمل من أجله، ثم يأخذ شعبة من قلبه فيصبح عنده شيء من العبودية لغير الله جل وعلا، فالعبودية الخالصة أن تكون لله وحده، وهذا هو الذي يكون كامل الإيمان، وهو الذي إذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، أما إذا كان قلبه قد تشعب شعبة للمال، وشعبة للعمل، وشعبة للرئاسة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعلق بها، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم...)، إلى آخره.

    يعني: عنده عبادة لغير الله جل وعلا، وهذه تختلف: إما أن تكون عبادة كاملة فيصبح ممن تشمله الآية ويدخل فيها أو تكون عنده خصلة من خصال العبادة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، فالناس يتفاوتون في هذا، فهذا الشيء الذي يحتاجه ينبغي أن يكون بهذه المنزلة، والأمور الضرورية ينبغي أن تكون للمؤمن بهذه المنزلة، أما الأمور التي لا يحتاجها وهي فضلة زائدة، فهذه يقول: إنها عذاب يعذب بها الإنسان، وكونه يعمل ويجمع لها فإنه يصير خادماً لها -يعني: عبداً لها- ويصبح أقل ما يقال فيه إنه صد عن عبادة الله وأعرض عنها إلى عبادة ما يضره ولا ينفعه، وسوف يخدمه ويتعب نفسه وبدنه في جمعه وحراسته ثم يأكله غيره وينتفع به غيره.

    وقد يسعد به غيره فتكون عليه الحسرات، إذا وجد من سعد بالشيء الذي شقي هو فيه تصبح عليه الحسرة فقط، وقد يشقى فيه غيره أكثر من شقائه، وذلك بأن يعصي الله جل وعلا فيه، فيكون عليه شيء من التبعات، فهو لا ينفك عن المسئولية، لماذا؟

    لأنه في الواقع خرج عن الشيء الذي طلب منه، وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يجوز أن يعمل على وجود المال، وإنما لا يجوز أن يطلبه من الأمور المحرمة، وألا يمنعه المال من أداء الواجبات، ويجب ألا يدعوه المال إلى ارتكاب المحرمات، فإذا لم يكن يدخل في ذلك -يعني: ما منعه جمع المال من ترك واجب، ولا حمله على فعل محرم- فإنه يكون سالماً وليس مذموماً، ولكن الغالب في صاحب المال أنه لا يسلم من أحد شيئين: إما ترك واجب، وإما فعل محرم من أجل المال.

    وهذا أمر مشاهد، حتى إن كثيراً من الناس يثقل عليه كثيراً إخراج الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام لمحبة المال، وبعضهم قد لا يخرجها؛ لأنه قد يستكثرها مثلاً مع أنها ليست كثيرة، فيمنعه حب المال من إخراج الزكاة، وهذا في الواقع قد أخذ المال شعبة كبيرة من قلبه، فأصبح القلب متعبداً له، وكذلك قد يبخل في أداء الواجب من المال ويعجز، وإن لم يكن مثل الذي منع الزكاة، ولكنه يكون عليه من إثم ذلك بحسب ما منعه من الواجب، سواء كان الواجب يتعلق بمن يجب عليه نفقته أو يتعلق بغيره، فإذا كان الإنسان عبداً لله جل وعلا خالصاً فيكون المال عنده بمنزلة الشيء الذي لا يؤبه له، ولا يتعلق قلبه به؛ لأنه يعمل في هذه الدنيا للدار التي سيسكنها سكنىً لا تنقطع، فهو يعمل على عمارة تلك الدار بكل وسيلة، بالبدن وبالمال الذي يكون بعض الناس خادماً له وعبداً له، فهو إذا كان عبداً لله يستخدم المال ويوظفه لأعماله التي تكون مرضية لربه جل وعلا.

    فالإنسان لا ينفك إما أن يكون بهذه الصفة أو يكون بالصفة الأخرى، وكل إنسان يجد من نفسه شيئاً من ذلك، ولابد من المجاهدة والعمل والكدح، فإن الله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، والكدح: إما أن يكون في الخير أو يكون في الشر، ولابد من ملاقاة الله جل وعلا، ثم محاسبته وجزاؤه على الكدح الذي كدحه الإنسان.

    معنى كلمة (طوبى)

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (طوبى لعبد)، قال أبو السعادات : طوبى: اسم الجنة. وقيل: هي شجرة فيها، ويؤيد هذا ما رواه ابن وهب بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها).

    وروى الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت ابن لهيعة قال حدثنا دراج أبو السمح ، أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، قال له رجل: وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) وله شواهد في الصحيحين وغيرهما].

    ذكر البخاري في صحيحه أن طوبى هذه كلمة تقال لكل عمل طيب، ولكل جزاء طيب، وهي على وزن فعلى، وكلامه هذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، ولو كان الحديث صحيحاً لبين ذلك في الترجمة كعادته، وإن كان الحديث ليس على شرطه، فإنه إذا لم يكن على شرطه -يذكر ذلك في ترجمة ولا يرويه- يذكر معناه، وذكره هذا يدل على أن هذا الحديث غير صحيح عنده.

    1.   

    أثر وهب بن منبه في وصف بعض نعيم الجنة

    قال الشارح رحمه الله: [وقد روى ابن جرير ، عن وهب بن منبه هاهنا أثراً غريباً عجيباً.

    قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرةً يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المزعري من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت ورفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجباً من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا ترك راحلة ترك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم؛ لئلا تفرق بين الرجل وأخيه.

    قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام، ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب، وأطاعوا أمري، قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا بالسجود قدامك، قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس أهل الدنيا في ديناهم فتضايقوا، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد.

    قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال، قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرض عليهم: براذين مقرنة على أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له.

    وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء.

    وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهوها نورها، فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مزودة بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان.

    فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سروجها موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق.

    فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم، ينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم، ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم، وما سألوا وتمنوا، وإذا على كل باب قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام.

    لما تبوءوا منازلهم، واستقروا قرارهم، قال لهم ربهم: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قالوا: نعم وربنا، قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضاي عنكم أحللتكم داري، ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35]، وهذا سياق غريب، وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين].

    هذا الأثر من كلام وهب بن منبه ، وقصارى الأمر أن يكون منقولاً عن بني إسرائيل، فلا يجوز إثباته واعتقاد ما فيه، وفيه أشياء منكرة، وهو كما وصفه بأنه أثر عجيب غريب، فالعجيب والغريب ينبغي أن لا يثبت، ولكن أورده لما فيه من الترغيب في الجنة، وفيه أشياء تحرك القلوب للعمل، ولكن خير من ذلك وأفضل ما في كتاب الله جل وعلا.

    ولا شك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وأعظم مما ذكر هنا بكثير، والله جل وعلا يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، (فلا تعلم نفس) هذه نكرة تشمل الملائكة وغيرهم، فهي لا تعلم الشيء الذي أخفي لهم.

    ثم إن هناك شيئاً فيه نكارة، والحديث الذي في الصحيحين يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله جل وعلا الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن فوق ما يذهبون إليه أي: أنهم يسيرون، وتتفرق الشجر عنهم، فيزورون الله جل وعلا، الله أكبر من كل شيء وأعظم، فإذا أراد جل وعلا النظر إليهم أزاح الحجاب فنظر إليهم في أماكنهم، وكلموه وكلمهم تعالى وتقدس، ولا يحتاج أنهم يركبون ويذهبون يمشون بين الشجر كما يذكر هنا؛ لأنه يقول: (وسقفه عرش الرحمن) ولكن في الجنة الفردوس وهو أعلى ما في السماء، وليس فوقه إلا عرش الرحمن تعالى وتقدس.

    كذلك ما يذكر من وجود براذين من كذا وكذا.. هذا ليس بعجيب على قدرة الله جل وعلا، ولكن يحتاج إلى أن يثبت ذلك عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، أو عن قول الله جل وعلا، أما إذا كان منقولاً عن كتب بني إسرائيل فبيننا وبينهم مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل، فلا يجوز أن نثبت ذلك إلا بشيء ثبت من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك في الفضائل والترغيب متسامحاً فيه، لكن نكتفي بما صح وثبت في كتاب الله جل وعلا، وفي هذا غنية وخير كثير.

    وكم من النقص دخل على المسلمين بسبب ما يذكره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من أحبار اليهود الذين أسلموا وصاروا يذكرون هذه الأشياء في أمور كثيرة، بعضها قد يخالف ما في كتاب الله، ولهذا في صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال: (لا تسألوا أهل الكتاب، فإن كتابكم هو أحدث كتاب نزل، فو الله ما رأينا واحداً منهم أتى يسأل، وإن من أصدق هؤلاء كعب الأحبار ، وإننا لنبلو عليه الكذب). هكذا يقول: يعني: أنه قد يظهر من بعض ما يخبر شيء فيه مخالفة لما في كتاب الله ولما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والمقصود: أن هذا لا يعتمد عليه في مثل هذا الأثر الطويل الذي فيه هذه الأمور التي ذكر؛ لأنه ليس له مستند ثابت صحيح، لا من كتاب الله، ولا من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قاله وهب رحمه الله وعفا الله عنا وعنه، نقلاً عن الكتب السابقة، والله أعلم به، ومعلوم أن الذي ينقل عن بني إسرائيل على أقسام ثلاثة:

    قسم يكون موافقاً لما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهذا حق يجب تصديقه والإيمان به.

    وقسم بعكس ذلك، يكون مخالفاً له، فهذا يجب تكذيبه.

    وقسم ثالث ليس عندنا شيء يدل على أنه صحيح ولا أنه باطل، فمثل هذا لا يصدق ولا يكذب، بل يوقف فيه ويقال: الله أعلم، ونقول: آمنا بما أنزل الله في كتابه.

    1.   

    هل الجنة فيها صبيان

    قال الشارح رحمه الله: [وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة].

    الجنة فيها صبيان، هذا يحتاج إلى دليل، قد اختلف العلماء: هل أهل الجنة يولد لهم صبيان أو لا يولد؟ وأكثر قول العلماء أنه لا يولد لهم، إنما هم في نعيم فقط، ولا يحتاجون إلى الولدان، ثم إن في الحديث الصحيح: أن كل من يدخل الجنة على شكل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً في السماء، كلهم على هذه الصفة، وكذلك يكونون مرداً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيهم كهل واحد، فإذا كان لهم صبيان يرضعون فإنه يحتاج إلى دليل يثبت.

    [وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم ].

    السقط يكون في الدنيا وليس في الجنة، يعني: إذا أسقطت في الدنيا من المؤمن، أما الجنة فليس فيها سقط، ولا فيها حمل، ولا فيها أولاد على القول الصحيح.. وإذا أثبت شيء من ذلك يجب أن يكون على دليل جلي.

    1.   

    فضل الجهاد في سبيل الله

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (آخذ بعنان فرسه في سبيل الله): أي: في جهاد المشركين.

    قوله: (أشعث) مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، و(رأسه) مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالادهان وتسريح الشعر.

    قوله: (مغبرة قدماه) هو بالجر، صفة ثانية لعبد].

    يجب أن يكون (عبدٌ) مرفوعاً، ويكون (مغبرة قدماه) صفة للعبد، أقول: هذا هو الأقرب.

    [قوله: (إن كان في الحراسة) هو بكسر الحاء أي: حماية الجيش عن أن يهجم العدو عليهم.

    قوله: (كان في الحراسة) أي: غير مقصر فيها، ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال.

    قوله: (وإن كان في الساقة كان في الساقة): أي: في مؤخرة الجيش، أي: يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلاً أو نهاراً؛ رغبة في ثواب الله وطلباً لمرضاته، ومحبة لطاعته.

    قال ابن الجوزي : وهو خامل الذكر لا يقصد السمو.

    وقال الخلخالي : المعنى: ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة. انتهى. وفيه: فضل الحراسة في سبيل الله].

    قد ورد في فضل الحراسة في سبيل الله أحاديث، ولكنها ليست على شرط الصحيحين منها: أن من حرس ليلة في سبيل الله فهي خير من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها، ويقول الحافظ : إن هذا الحديث رجاله ثقات إلا فلاناً وذكره.

    وكذلك ورد: أن من حرس في سبيل الله لا تمسه النار، كذلك جاء نحو هذا في الرباط في سبيل الله، والمرابطة: هي لزوم الثغور في الأماكن المخوفة التي يتوقع أن يأتي منها العدو، ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذروة سنام الإسلام)، يعني: هو أرفع شيء في الأعمال، وإذا ترك الجهاد في سبيل الله عطل أموراً كثيرة، وأصبح دليلاً على ضعف المسلمين، بل وضعف الإسلام أيضاً كما هو الواقع اليوم، فإن المسلمين صاروا أكلة لأعدائهم، يريدون أن يأخذوا منهم ما أرادوا بدون خوف، ولا يردهم شيء عن ذلك، والسبب في هذا تقاعس المسلمين عما أمرهم الله جل وعلا به، وما حضهم عليه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقد سبق في الدرس الماضي الحديث الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا تركوا الجهاد سلط الله عليهم ذلاً لا يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم وبهذا يتبين أن عز المسلمين في الجهاد، وفي التمسك بدينهم، وأنهم إذا أعرضوا عن دينهم ذلوا، ولابد أن يذلوا، والواقع شاهد بهذا، الواقع الذي ينظر إليه الإنسان من أول الإسلام إلى اليوم يشهد بهذا الأمر.

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إن استأذن لم يؤذن له)، أي: إذا استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه.

    قوله: (وإن شفع) بفتح أوله وثانيه، (لم يشفع) بفتح الفاء مشددة يعني: لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم.

    وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)].

    ليس معنى ذلك أنه يفعل ما يشاء، وأنه يقسم على الله ثم يطيعه الله، ولكن هذا عبد مطيع لله جل وعلا ممتثل لأمره، فإذا طلب من الله أعطاه، وطلبه لا يكون من باب الإدلال على الله، ولكنه من باب أنه عبده حقاً، فيطلبه من باب العبودية والذل والتعلق به وحده، فيعطيه مع ذله وخضوعه لربه جل وعلا واستكانته له، وليس الإقسام معناه: أنه الذي يأمر أمراً ملزماً فيعطيه ذلك، كما هو الواقع بين الخلق، هذا ليس المراد، بل المراد أنه مطيع لله، وإذا طلب من ربه شيئاً من باب الجزم والعزم فإنه يطلبه من باب الذل والخضوع والاستكانة لربه جل وعلا، فمعلوم أن الله جل وعلا إذا ذل له عبده وخضع له أعطاه ما يريد ولكن حسب مشيئته، فما أحد يلزم الله جل بشيء، لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، فإن الله لا مكره له)، أي: لا أحد يكرهه على شيء، والأمر كله بيده جل وعلا، يتصرف بخلقه كيف يشاء.

    قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ : فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع. انتهى].

    هذا العبد الذي ذكر أنه أشعث رأسه.. إلى آخره، هذا من باب الثناء والمدح، فصار دليلاً على أن هذا أمر مطلوب، ينبغي للإنسان أن يطلب هذه الصفات حتى يتصف بها، فيكون عبداً لله جل وعلا.

    فضل الحراسة في سبيل الله

    قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن مصعب بن ثابت أن عبد الله بن الزبير قال: عثمان رضي الله عنه -وهو يخطب على منبره-: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها)].

    هذا الحديث الذي قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن رواته ثقات وهذا شيء عجيب! لأن هذا أتى في ليلة القدر، كما قال الله جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3]، ألف شهر أي: قرابة ثلاثة وثمانين سنة، أي أن الإنسان يعمل هذه الليلة عملاً صالحاً خير وأكثر من عمر إنسان فيه صلاة وصيام.

    قال الشارح رحمه الله: [وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال: قال عبد الله بن محمد ، قاضي نصيبين، حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، ووعده الخروج، وأنفذها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة قال:

    يا عابد الحرمين لو أبـصرتنا لعلمت أنك في الـعبادة تلعب

    من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمـائنا تتـخضب

    أو كان يتعب خيله في باطـل فخيولنا يوم الصبيحة تـتعب

    ريح العبير لكم ونحن عـبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

    ولقد أتانا من مقال نـبـينا قول صحيح صادق لا يكذب

    لا يستوي وغبار خـيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب

    هذا كتاب الله ينـطق بينـنا ليس الشهيد بميت لا يكذب

    قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأ ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث: وأملى علي الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله! أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهد في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهدين ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات؟).

    معروف أن عبد الله بن المبارك رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين الذين كانوا يلازمون الثغور وهذه الأبيات أرسلها إلى الفضيل بن عياض وسماه عابد الحرمين؛ لأن الفضيل كان في مكة، وفيها إشارة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمع غبار في سبيل الله في منخر عبد ودخان جهنم)، يعني: أن الذي يقاتل في سبيل الله ويدخل في أنفه غبار لا يرى النار أبداً، وكذلك هذا الغبار في سبيل الله أطيب من ريح العبير، والعبير هو طيب الطيب، وهذا أيضاً جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفيه أيضاً أنه يقول: جاء مع نبينا أن الشهيد حي، يقول الله جل وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] أي: وإن كانت قد فارقت روحه بدنه في القتل، فهو حي حياة الله أعلم ما هي، ولكنها حياة أكمل من حياة الدنيا.

    المجاهدون أحياء عند ربهم يرزقون

    وفي آية أخرى يقول جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] ومعنى يرزقون: أنهم يتنعمون بالأكل والشرب وغيره، وهذا شأن الحي.

    وليست الحياة بالروح كما يتصور بعض الناس: أن حياة الشهيد حياة بالروح؛ لأن الروح لا تموت، فحياة الروح يستوي فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وروح كل إنسان لا تموت وإنما تفارق البدن، ولابد أن تكون الحياة التي ذكرها الله جل وعلا للشهداء غير حياة الروح، ولهذا يبقى بدن الشهيد طرياً ولا تأكله الأرض ولا يكون كغيره، وهذا قد شوهد كثيراً، ومن المعروف أن أرض المدينة ليست كالأراضي الأخرى؛ لأنها سبخة وتأكل ما وضع فيها بسرعة، ومع ذلك فإن شهداء أحد وجدوا بعد أربعين سنة أو بعد ستين سنة في مناسبات معروفة، ومرة أخرج السيل بعضهم، ومرة حُفر ليزالوا عن طريق عين أجريت من هناك فوجدوا كما هم ودماؤهم طرية كما هي، وهذا من معاني كونهم أحياء، وليست الحياة على البدن فقط، وأنه لا تأكله الأرض، بل هي أعم من هذا، فهم كما قال جل وعلا: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    وقد ذكر العلماء أشياء عجيبة غريبة من هذا القبيل.

    والشيخ العالم المجاهد ابن النحاس رحمه الله في كتابه مصارع العشاق في ذكره للجهاد في سبيل الله، ذكر قصصاً من هذا القبيل فيها مشاهدة لعلماء كبار مما يدل على أن حياة الشهيد محسوسة وليست معنوية.

    تمني الشهداء العودة إلى الدنيا

    ثم إنه قد علم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث معاذ بن جبل لما قال: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وذروة سنام الشيء: أعلاه.

    وليس هناك ميت من المؤمنين المتقين يموت ويفارق الدنيا ويرى ما أعد الله جل وعلا له من الفضل والسعادة والخير، فيتمنى العودة إلى الدنيا إلا الشهيد، لما يرى من فضل ما أعد الله له، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى!

    وقد جاء في الصحيح في قصة عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله : (لما قتل في أحد، يقول جابر : جيء به -يعني: والده- وهو ميت، يقول: فصرت أبكي، فينهاني الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، ثم بعد ذلك قال له: إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي تمن، فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الحياة مرة أخرى فأقتل في سبيلك، قال الله جل وعلا: إني كتبت: ألا يعودوا إليها مرة أخرى).

    وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله)، وهذا الذي يوده الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلى ما يمكن أن يطلب في مرضاة الله جل وعلا، والآثار والأحاديث في هذا واضحة وجلية وظاهرة.

    وكذلك نوه الله جل وعلا به في كتابه، فإنه أخبر أنه: اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] ثم يقول بعد هذا: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ [التوبة:111]، هل يوجد أحد أوفى من الله جل وعلا؟! ثم يقول: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111]، فهذا عقد مبايعة؛ لأن الإنسان المؤمن يبذل نفسه وماله في سبيل الله، وهذه المبايعة وجدت في أفضل كتب الله التي أنزلها: التوراة والإنجيل والقرآن، وعقد المبايعة وقع على يدي رسل الله جل وعلا جبريل ومحمد وموسى وعيسى، فأكد هذا وبينه كأنه حاصل وموجود؛ لأنه موثوق به تمام الثقة.

    وجاء أيضاً في الحديث الصحيح: (أن الصحابة تذاكروا فيما بينهم: أي الأعمال أفضل؟ فانتهى الأمر إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا في ذلك قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ.. [الصف:10-11]) إلى آخر الآيات، فهذا فصل للنزاع، والجواب: أن هذا هو أفضل الأعمال.

    ولهذا أملى الفضيل بن عياض على الذي جاءه بكتاب أخيه عبد الله بن المبارك بعدما قال إنه نصح جزاه الله خيراً؛ لأنه في هذه الأبيات يحضه على العمل الفاضل، وهو الجهاد في سبيل الله، ويقول: إن هذا لا يستوي مع عبادتك، وإن كنت تبكي وتسيل الدموع على خديك من خشية الله جل وعلا، فغبار في سبيل الله أفضل من هذا، فلهذا قال: نصحني جزاه الله خيراً، ثم أملى عليه الحديث الذي رواه، وفيه: أن المجاهد في سبيل الله لا يعدل فضله عمل من الأعمال، وأنه سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمل يعدل الجهاد في سبيل؟ فقال: لا أجده، والشيء الذي لا يجده الرسول صلى الله عليه وسلم لا وجود له، ثم قال له: هل تستطيع أن تصوم النهار ولا تفطر -يعني: جميع حياتك- وتقوم الليل ولا تنام -يعني: صلاة التهجد طوال حياتك- قال: لا يستطيع ذلك أحد، قال: إن المجاهد في سبيل الله كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر.

    ثم ذكر أنه تكتب له الأعمال التي لا يعملها هو، إذا ربط فرسه بحبل طوله، الطول: هو الحبل الذي يوضع في يد الفرس، ويطول له حتى إنه يمتد فيرعى من حول مربطه الذي يوضع فيه الحبل، هذا يسمى طول الفرس، وإذا مشى فيه فإنه يكتب له حسنات، وإذا أكل يكتب له حسنات، وإذا بال يكتب له حسنات، وإذا راث يكتب له حسنات، يكتب ذلك للمجاهد الذي أمسك هذا الفرس في سبيل الله، وكذلك لو رجع ووضعه في بيته فإنه تكتب له الأجور دائماً ما دام أعده للجهاد في سبيل الله، فتكتب له خطواته وما يأكله وما يخلفه.

    كذلك الشيء الذي يعده مثل العدة التي يعدها، فقد جاء: أن السهم يدخل فيه الجنة ثلاثة: صانعه ومعده محتسباً ذلك في سبيل الله ولجهاد أعداء الله، والذي يناوله من يرمي به، والرامي به، ثلاثة يدخلون الجنة بسهم، فكيف الذي يراق دمه ويكون مقبلاً غير مدبر؟!

    ومن الخصائص التي يختص بها الشهيد في سبيل الله أنه لا يجد ألماً للموت إلا مثل عضة القراد الذي يكون في الدابة، وأنه يأمن من فتنة القبر، وأنه يزوج سبعين من الحور العين، وغير ذلك مما ذكر في الأحاديث، ويكفي في هذا ما قاله الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    1.   

    مسائل باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

    الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة].

    عمل الإنسان الذي يطلب به الدرجات عند الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا خلاص له، ويكون داخلاً في قوله جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16].

    والإرادة هنا: المقصود بها الإرادة التي هي عن عمل القلب، ومعلوم أن عمل القلب وإرادته يتبعها عمل الجوارح، ولا يمكن أن يوجد عمل للجارحة إلا وقد سبقته إرادة القلب فهو الباعث إلى الأعمال، ويعبر بالإرادة عن العمل كله، يعني: أن العمل صدر مراداً ومنوياً به هذا الشيء، فإذا صدر العمل من إنسان -مما يتقرب به إلى الله كطلب العلم والحج والصدقة والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك- لا يريد به إلا تحصيل الدنيا ولا يرغب في الآخرة، وإنما رغبته في الدنيا فهو المقصود بهذه الآية.

    [الثانية: تفسير آية هود.

    الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة].

    لابد أن يفهم كونه يسمى عبداً للدينار والدرهم والخميصة والخميلة، وعرفنا أن الخميصة كساء، يقول الحافظ ابن حجر : الخميلة كساء معلم فيه أعلام، والأعلام هي النقوش والأهداب التي تكون في الثوب للزينة، أما الخميصة: فهي الكساء المربع، ويشبه الشيء الذي يلتف به كالرداء وما أشبه ذلك، فكيف يكون العاقل عبداً لهذا؟!

    أما الدينار والدرهم فمعروفان، ولكن ليس المقصود أنه يعمل العمل ويطلب الشيء من الخميلة والخميصة أو الدرهم أو الدينار، ولكن المقصود أنه يريد بعمله الدنيا، ولهذا سمي عبداً لها؛ لأنه جعل عمله من أجلها، فهو يخدم المال.. يخدم الدينار والدرهم.. يعمل على تحصيله ويتعب نفسه في ذلك، وهمه جمعه وحياطته وحيازته، وإذا حصل له اجتهد في العمل ورضي، وإن لم يحصل له ذلك ترك العمل وسخط؛ لأنه ليس له مقصد إلا هذا فيكون عبداً له، ويكون مثلما ذكر في الآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [هود:15].

    أما كون المسلم يحب المال ويجمع المال فلا ينافي أنه مسلم ومؤمن؛ لأن هذا شيء لابد منه ولكن لا يجوز أن يكون عمله من أجل ذلك، بل يكون همه وكدحه هو الحصول على رضا ربه، وإذا ذهبت الدنيا فلا يأسف عليها ولا تهمه كثيراً، فيقدم الدين على الدنيا، أما إذا قدم دنياه على دينه فيكون عابداً للدنيا.

    ومعروف أن العبادة يجب أن تكون لله ولا يجوز أن تكون لأحد غير الله جل وعلا، والعبادة قد يقصد بها شيء محسوس مشاهد كما هو معروف عند الكفار والمشركين: منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد القبور كما هو معلوم، وقد تكون العبادة متجهة لشيء معنوي من رئاسة ومنصب ووظيفة أو مال، وكثير من الخلق اليوم يعبدون بطونهم وفروجهم نسأل الله العافية؛ لأنهم يعملون على تحصيل شهواتهم فقط، فهذه أهم ما لديهم، وكذلك كثير من الناس يعبد حبه وإراداته وشهواته كما قال الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، يقول العلماء: من اتخذ إلهه هواه معناه: الذي إذا اشتهى شيئاً فعله بدون مراقبة لله جل وعلا أو خوف منه، أو يرجو ثوابه، بل يقدم هوى نفسه.

    فالمسلم ليس هذا شأنه وإن حصل على الدنيا وطلبها، ولكن طلبه إياها على وفق أمر الله جل وعلا، فلا يطلبها بفعل محرم، ولا يطلبها من الطريق الذي حرمه الله جل وعلا، ولكنه يطلبها بالطرق التي أباحها الله جل وعلا وأمر بها.

    ثم هو بالمال يعبد ربه، فيؤدي زكاته، وكذلك يستعين به على عبادة الله، وكذلك يبذله فيما وجب عليه، وكذلك يتقرب به أو بما يسر الله منه في طاعة الله جل وعلا، وترك المال والعزوف عنه ليس من شأن المسلمين وليس من أمر الدين الإسلامي، بل الإسلام يحث على تحصيل المال، ولكن من الطرق الصحيحة المشروعة.

    ولهذا إذا نظر الإنسان في كتاب الله يجد أن الله جلا وعلا يقدم الجهاد في سبيل الله بالمال على النفس، لا تجد آية في كتاب الله من الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله إلا ويذكر الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، مما يدل على أنه لابد من المال، ولكن يجب أن يكون طيباً حتى يكون مقبولاً ونافعاً، أما إذا كان من الطرق التي حرمها الله، فإنه إن أنفق منه لم يقبل، وإن أكل منه أفسد عليه قلبه، وإن خلفه فتركه خلفه صار عذاباً وحساباً عليه، فلابد أن يكون المسلم متقيداً بأمر الله جل وعلا في طلب المال وفي غيره، فإنه في عبادة إذا كان متقيداً بالشرع، أما الزهد في المال والإعراض عنه نهائياً فإن هذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان لابد له من شيء يقتات به، ولابد له من شيء يتمتع به، وكونه يستغني بعمله وبما يكسبه لنفسه أمر مطلوب شرعاً، حتى يستغني عما في أيدي الناس، وإذا فعل ذلك قصداً لكف نفسه وإغنائها عن الخلق والقيام على من أوجب الله عليه القيام عليهم، كان في عبادة فكيف إذا بذله في الجهاد في سبيل الله؟!

    ولهذا السبب ذهب فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويجاهدون كما نجاهد، ولكنهم ينفقون وليس عندنا شيء ننفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء تسبقون به من لم يعمل به وتلحقون من سبقكم به، تكبرون الله وتسبحونه وتحمدونه دبر كل صلاة: ثلاثاً وثلاثين)، يعني: ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، فذهبوا بهذا المكسب، (فسمع إخوانهم من أهل الدثور فقالوا مثلما يقولون، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إخواننا سمعوا ذلك فقالوا مثلنا)، يعني: فهم يحصلون على الأجر مثلما نحصل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، يعني: أن الصدقة وبذل المال تفضل الله به على الأغنياء وبذلك فضلوا الفقراء، وعلى هذا يكون أهل الدثور وأهل الأموال أفضل من الفقراء في تحصيل الأعمال إذا قصدوا بها وجه الله واتبعوا فيها الكتاب والسنة.

    قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.

    الخامسة: قوله: (تعس وانتكس).

    السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).

    قوله: (تعس وانتكس)، يجوز أن يكون خبراً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالته أنه له التعاسة والشقاء، وأنه إذا وقع في شدة لا يستطيع أن يتخلص منها، فهو يهلك عند أول أمر يقع فيه من الشدائد، ويجوز أن يكون دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والشقاوة وعدم الخروج من الورطات التي يقع فيها؛ لأنه عمل أعمالاً لم يقصد بها وجه الله، بل خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحق الدعاء عليه.

    [ السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات ].

    يشير إلى تلك الصفات: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، آخذ عنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، يعني: أنه قائم أتم القيام في أمر الله وفي محاربة أعداء الله وإعلاء كلمة الله يطلب بذلك مرضاة الله جل وعلا، ولا يهمه كونه إذا شفع لم يشفع وإذا طلب شيئاً لا يناله ولا يعطاه من المسئولين؛ لأن هذا ليس مقصوده، إنما مقصوده مرضاة الله ولهذا قال: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، يعني: أن عمله ليس للناس وليس للدنيا، ومعروف أن غالب الناس ينظرون إلى الذي يكون بيده شيء من أمور الدنيا ومن المناصب وغيرها أكثر من غيره، أما هذا فعدل عن ذلك نهائياً، فآثر الخمول وعدم الظهور على كونه يظهر ويبرز ويشار إليه؛ لأنه لا يريد ما في أيدي الناس، وإنما يريد ما عند الله جل وعلا فآثر ذلك، فهذا هو الذي يستحق الثناء؛ لما قال له صلى الله عليه وسلم: (طوبى له)، وطوبى: تعني السعادة الطيبة والحياة الطيبة أو الجنة بما فيها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756262909