الإطراء هو الزيادة في المدح والكذب فيه، بأن يكذب فيه، ويزيد على غير الواقع ويتعمد الكذب، فيقول شيئاً ليس فيه، هذا هو الإطراء، إذا قالوا: فلان أطرى فلاناً، فالمعنى أنه مدحه مدحاً فوق ما يستحقه، وقال فيه شيئاً ليس فيه من المدح، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى الأمة أن تمدحه بشيء لم يجعله الله له، كأن يقال: إنه يعلم الغيب، أو يقال: إنه يجيب الدعاء إذا دعي، أو يقال: إنه يكشف الكروب، ويغيث اللهفان، ويفرج الكربات، ويعلم ما يعلمه الله، وأنه يقدر على أن يدخل من يشاء الجنة، ويقدر على أن يدخل من يشاء النار، وما أشبه ذلك.
أو أن يمدحه بالمدح الذي نهى عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حريص جداً على هداية الأمة، فكان يعنته ما يشق عليهم، والذي يشق على الأمة هو كل ما يكون سبباً لعذاب الله فإن هذا يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ( عزيز عليه ما عنتم ) يعني: يعز عليه ويشق عليه الشيء الذي يعنتكم، والعنت هو ما فيه العذاب ( حريص عليكم ) يعني: على هدايتكم ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) صلوات الله وسلامه عليه.
ثم منهم من يقول: اليسوع هو الذي جاء لإنقاذ البشرية، وهو الذي قدم نفسه فداء حتى يتحمل ذنوب الناس، وهو الإله، وقد كان في رحم أمه تسعة شهور، ثم خرج من فرجها صبياً رضيعاً يحتاج إلى من يقوم عليه، ومن يجلب له الأمر الذي به حياته، ثم يأكل ويشرب، ثم يأتي بلازم ذلك، ثم يتسلط عليه اليهود على حد زعمهم حتى يمسكوه ويصلبوه على خشبة ويقتلوه، تعالى الله عن قولهم، أين عقولهم؟
عقول سخيفة جداً؛ ولهذا لعنهم الله بذلك، الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] أو قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17] وأخبر أن هؤلاء كفروا بالله جل وعلا.
وعلى كل حال يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نسلك مسلك هؤلاء المتطرفين، ولكن الأمة الإسلامية ليس فيها من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الله، أو هو إله مع الله بهذه الصراحة، ولكنهم أعطوه بعض من المعاني التي هي لله جل وعلا، فادعوا أنه يعلم الغيب، وادعوا أنه يجيب من دعاه ومن ناداه، وأنه من تعلق به نجاه من عذاب الله، وأنه من استغاث به يغيثه، ولو كان الله غاضباً على ذلك المستغيث، وأشياء من هذا القبيل، فأعطوه المعاني فقط، وأما ما يقوله النصارى فإنهم تركوا القول به لظهور الكفر فيه، والشيطان يقنع بهذا، وهذا المعنى يكفي عنده.
عيسى عليه السلام وصفه أنه عبد، وأول كلمة تكلم بها أمام الناس قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، وقد كلم أمه عندما: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:23-26].
فهذا كلامه لها فقط، ولكن كلامه للناس أول ما سمعوا منه أنه قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، فأمه عليها السلام كما قال الله: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:27-29] يعني قالت: كلموه ولا تكلموني أنا، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:29-30] ... إلخ.
فهو عبد من عبيد الله جل وعلا، ولا أحد من عباد الله -لا من رسله ولا من ملائكته- يتكبر ويترفع عن أن يكون عبداً لله جل وعلا، بل كلما كان الإنسان أعرف بالله صار تحقيقه للعبودية أعظم من غيره، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حقق مقام العبودية لربه جل وعلا حتى أثنى الله عليه بلفظ العبادة في أشرف المقامات التي يقومها الرسول صلى الله عليه وسلم، كمقام التحدي حيث قال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] قال: (على عبدنا ) فأشرف ما يتحلى به الإنسان أن يكون عبداً حقيقياً لله جل وعلا.
والمقصود أن قوله: ( إني عبد الله ) يعني: ليس لي من الإلهية شيء، ولا من الملك شيء، ولا من حقوق الله شيء، وإنما أنا عبد كسائر عباد الله إلا أن الله منَّ علي بالرسالة، فالله شرفه بها وكرمه بها، وأوجب طاعته واتباعه.
ولا يمكن أن يكون الإنسان محباً لله جل وعلا وهو غير محب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة لمن يحب الله إذا كان صادقاً، فإذا كان الرجل ممن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يمتثل أمره، فيقول مثلما قال له: (قولوا: عبد الله ورسوله)، ويتبع سنته، ويبتعد عن الشيء الذي نهاه عنه مثل الإطراء.
والإطراء هو المدح الزائد الذي لا يجوز، وكثير من الناس ومن الشعراء وغيرهم يقع فيه، فجعلوه بمنزلة الرب جل وعلا، فجعلوا له كل الأمور، وقالوا: لولاه ما خلق الله شيئاً، ويرددون كلاماً باطلاً كقولهم: لولاك ما خلقت الأملاك ولا الأفلاك، فيقولون: إنه أصل الخلق، وهو أصل الأنوار، فآدم خلق من أجله، والملائكة خلقت من أجله، والسماوات والأرض خلقت من أجله، وهذا إطراء زائد، وفيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في الواقع ضد ما أمر به تماماً، فصار هؤلاء في جانب، وهو في جانب صلوات الله وسلامه عليه.
وأشرف ما يقوم بالإنسان أن يشرفه الله جل وعلا بالرسالة، فيكفي أن يقال: عبد الله ورسوله، وجاء في سنن أبي داود وغيره كما سيأتي، أن قوماً جاءوا إليه وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، فكره هذا القول، وقال: (قولوا بقولكم، لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، فهو صلوات الله وسلامه عليه يكره أن يدعى له شيء مما هو خاص بالله، ومن فعل ذلك أبغضه وعاداه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء يأتون بأسباب بغضه ومعاداته لهم، فهو يعاديهم ويبغضهم، ثم هم يدعون أنهم يسلكون الطرق السليمة الموصلة إلى قربه ومحبته، ولكن الشيطان يغري الإنسان بالأمور التي يقبلها هو، فكلما رآه يقبل شيئاً زاده حباً لها.
وهذا باتفاق أهل العلم، بخلاف أهل البدع الذين لا يجوز أن يلتفت إليهم، فإن أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويليه في الفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويليه في الفضل عثمان رضي الله عنه، ويليه في الفضل علي رضي الله عنه، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، هذا ما عليه أهل السنة، وهو الذي دلت عليه النصوص.
وبعد ذلك بقية الصحابة، فأفضلهم من شهد بدراً، ثم الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان، ثم من جاء بعدهم، على هذا الترتيب؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد:10] يعني: لا يستوون مع الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
والصحابة رضوان الله عليهم كلهم خير قرون هذه الأمة؛ لأن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فصاروا يقاتلون العدو معه، وصاروا يمتثلون أمره، ويظهرون دين الله على يديه، ويتربون على يديه، ويتلقون الإيمان منه، فلا يمكن أن يكون أحد مثلهم، فالصحابة رضوان الله عليهم اختارهم الله جل وعلا؛ ولهذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم)، وكان يوصي ويقول: (لا تتخذوا أصحابي غرضاً ترمونهم، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، فالذي يبغض الصحابة يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، والذي يحبهم يحبهم بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويوصي بحبهم.
والله جل وعلا أثنى عليهم كثيراً فقال جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] من هم الذين معه؟ هم الصحابة عموماً، ثم يثني عليهم ويقول: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، ويذكر مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل.
وكذلك يقول جل وعلا: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10].
وهذا الذي يجب أن يكون عليه المسلم، أن يقول هذا القول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وفي آخر سورة الفتح يقول الله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]؛ ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاظه شأن الصحابة فليس من المسلمين؛ لقول الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] فحب الصحابة دين، يرجى به الخير الكثير، فالله يثيب عليه، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا إلينا الشرع، فنقلوا إلينا القرآن، ونقلوا إلينا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة، فالذي يطعن فيهم معناه أنه يطعن في الدين، ويكون النقلة الذين نقلوا الدين ليسوا عدولاً عنده، وربما يقول: إنهم كفار! فماذا يكون المعنى؟
ولهذا يقول أبو زرعة رحمه الله: من طعن في الصحابة فإنما يطعن في الدين الإسلامي، فهم الذين نقلوا إلينا الدين الذين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عدلهم الله جل وعلا، فهم عدول بتعديل الله، ولا يمكن أن يثني الله جل وعلا على قوم يعلم أنهم سيرتدون ويكفرون؛ لأنه علام الغيوب، فكيف يثني عليهم ويمدحهم ثم بعد ذلك يتركون دينهم؟ هذا لا يمكن، فهو علام الغيوب جل وعلا، وقد قال جل وعلا: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وفي آيات كثيرة جداً يمدحهم، ويذكر خير أمة أخرجت للناس، وأنهم تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم نصرة لله ولرسوله، ويذكر أنه رضي عنهم، ويذكر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار.
ومرة أخرى كان يحدث أصحابه صلوات الله وسلامه عليه -كما في الصحيحين- فقال: (بينما راع يرعى غنمه، إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فاستنقذها راعي الغنم منه، فجلس الذئب على ذنبه فقال: من لها يوم لا راعي لها غيري؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال: آمنت بذلك أنا و
ولما مرض صلوات الله وسلامه عليه قال: (مروا
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكابه نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وحذرهم منه ].
قصده بالمشركين هنا الذين يعبدون قبور الصالحين، ويعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان الله جل وعلا قد صان قبره عن العبادة، فحماه لدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فأصبح لا يستطيع أحد أن يصل إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه؛ صيانة له من الله، واستجابة لدعوته حينما دعا ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولكن كثيراً من الناس يعبد الصالحين عبادة صريحة، فيدعوهم، ويلجأ إليهم فيما لا يستطيعه إلا الله، مثل شفاء المرض، ومثل الرزق، ومثل الولد، ودفع العدو، وما أشبه ذلك، يستغيثون بالأموات، ويسألونهم هذا، وهذا شرك، فقصده بالمشركين هؤلاء.
قال الشارح: [ وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عده، وصنفوا فيه مصنفات ]
مضى في درس سابق ذكر المصنفات والمصنفين في هذا، ولكن تسميتها أو تسمية أصحابها لا داعي له، وليس هناك دافع للتسميات.
الرد هو كتاب الاستغاثة، وهو موجود مطبوع بهذا الاسم: "كتاب الاستغاثة".
[ويقول : إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وذكر لهم أشياء من هذا النمط، نعوذ بالله من عمى البصيرة ].
والعجيب أن هذا المؤلف من القضاة! ألف هذا الكتاب رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قال: لا يجوز شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وأن شد الرحال إلى زيارة القبور لا يجوز، فرد عليه وقال: إنه يجب أن تشد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويستغاث به، وكل ما يستغاث فيه بالله جل وعلا فالرسول مثله يستغاث به! يعني: تستغيث به من ذنوبك كما تستغيث بالله جل وعلا، وتسأله الجنة والنجاة من النار مثلما تسأل الله جل وعلا، يقول هذا القول وهو قاض؛ ولهذا قال الشارح: ( نعوذ بالله من عمى البصيرة )، والإنسان إذا عميت بصيرته لم ينفعه العلم، نسأل الله العافية!
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم ]
البوصيري نسبة إلى بوصير، وهي بلدة في مصر معروفة، ومقصوده في قصيدة البردة، وهي مشهورة، وفيها استغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوجد ما هو أشر من البردة، مثل: شعر البرعي ، وكله استغاثات شركية شنيعة، نسأل الله العافية! فليس ذلك خاصاً وكثير جداً غيرهما.
فليس ذلك خاصاً بـالبوصيري أو بـالبرعي ، بل كثيرون وقعوا في هذا الأمر العظيم الذي فيه مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ومضادة له صلوات الله وسلامه عليه، ثم هم يزعمون أنهم يحبونه بذلك، ولكن الشيطان يزين للإنسان السوء حتى يصبح الباطل في قالب الحق، ويرى أن الباطل حقاً، ويرى أن الحق باطلاً؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر:8] فمن يهديه؟ لا يستطيع أحد أبداً، الذي يزين له سوء عمله يرى عمله السيئ حسناً، وهذا معناه الهلاك.
قال الشارح: [وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات ]
ما بعد هذا البيت أبيات معروفة، حتى أن كثيراً من الناس يحفظها كما يحفظ الفاتحة، ويجعلون لهم ورداً منها، يدعون الله بها، وقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
يعني: ما له من يلوذ به إلا الرسول صلى الله عليه وسلم! أين الله؟!
وما هو الحادث العمم؟ الحادث العمم هو الذي يعم الخلق، وهو يوم القيامة، فإذا جمع الناس في صعيد واحد فهذا هو الحادث العمم، يقول: في ذلك الموقف ما لي من ألوذ به سواك ثم يقول:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقمِ
الكريم هو الله، أي: إذا اتصف باسم المنتقم لينتقم من العصاة يقول: لا يضيق جاهك بي يا رسول الله! احمني من غضب الله، فهذا استغاثة بالرسول على الله، وهذا شيء فظيع جداً، نسأل الله العافية.
ثم يقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ
وضرة الدنيا هي الآخرة، يعني: من جملة جودك -يا رسول الله- الدنيا والآخرة، إذاً: ماذا بقي لله؟!
يقول: ومن جملة علومك علم اللوح والقلم! اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب به الله جل وعلا كل شيء، فماذا بقي لله؟ هل يوجد إطراء فوق هذا؟ نسأل الله العافية.
ثم يمضي بنحو هذا الكلام الذي هو مضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا كثير في الواقع من هذا الرجل، ويوجد غيره أيضاً؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يسأل ربه السلامة دائماً، وأن يسأله الهداية؛ لأن المسألة ما هي مسألة عقل، أو مسألة كون الإنسان العاقل يعلم ويعرف، بل من منّ الله جل وعلا عليه بالهداية، فهذا الذي يكون فضل الله عليه عميماً، ويجب عليه أن يشكر الله، وإلا فهؤلاء علماء يشرحون الأحاديث، ويفسرون القرآن، ويؤلفون في سائر أصناف العلم، ومع ذلك يقعون في هذه الأمور الفظيعة الشنيعة، نسأل الله العافية!
يعني أنهم يقولون: إذا نهيت عن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا تنقص له، وما عرفت حقه، ولو عرفت حقه لدعوت إلى الاستغاثة به ودعائه، هذا معنى أنهم جعلوه في قالب التنقص، فجعلوا النهي عن الشرك الذي هو التوحيد تنقصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما نقول: إذا زين للإنسان سوء عمله فإنه يرى القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، نسأل الله العافية، فلا أحد يستطيع هدايته إلا رب العالمين، إذا شاء أن يهديه هداه.
قال الشارح: [وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له].
الإفراط: هو الزيادة على المشروع، وأما التفريط فهو النقص منه وتركه، ومعصية أمره، والناس ما يأتيهم النقص في دينهم إلا من هذين الوجهين فقط، إما أن يزيدوا على المشروع أو ينقصوا منه.
قال الشارح: [وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه، فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله، فالله المستعان].
هذا الحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لما كان غداة مزدلفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف)، والخذف صفة معروفة، يضع الإنسان الحصاة على ظفر أصبعه الإبهام ثم يرميها هكذا، هذا يسمى الخذف، فهي حصى صغيرة، يقول: (فأخذهن وصار ينفضهن بيده، ويقول: بمثلهن فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، والغلو هو التجاوز والزيادة على المشروع، وهذا وإن كان في حصى الجمار فإنه عام في الواقع، يعني: إياكم أن تظنوا أن الرمي بالحصى الكبار أبلغ فتخالفوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فتهلكوا، وتكونون غلوتم في ذلك، (فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وهو تجاوز الشيء المشروع، وهذا يكون في كل الدين، فإذا تجاوز الإنسان ما شرعه الله كان طريقاً إلى الهلاك، ومنه الغلو في الحب.
قال الشارح: [ قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه، وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس ]
بل رواه أهل السنن، ولكن هو اقتصر على الراجح الصحيح، فذكر أصحاب السنن الذين رووه بسند صحيح.
قال شيخ الإسلام : هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك ].
مقصود شيخ الإسلام بقوله: إنه عام، قوله: (إياكم والغلو)، فهذا عام في كل شيء، سواء في الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل أن يزيد فيها فيكون قد تعدى المشروع، أو في النواهي التي نهي عنها بأن يبالغ في تركها فيترك الشيء الذي شرع، فيكون متعدياً للمشروع.
وقوله: ( وهو داخل فيه ) يعني: أن رمي الجمار داخل في هذا لأنه من الدين، فالغلو هو المجاوزة سواء كان في الفعل أو كان في الترك، أو كان في القول كالمدح الذي يكون في كذب أو غير ذلك.
قال الشارح: [ قال الخطابي : المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
ومن التنطع : الامتناع من المباح مطلقاً كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، قال الشيخ تقي الدين : فهذا جاهل ضال. انتهى ].
يعني: أن الإنسان إذا بالغ في مجانبة الأمور التي قد يخيل إليه أن تركها أحب إلى الله، وهو في ذلك ليس على دليل؛ لأن الإنسان في كل ما يتعبد به يجب أن يكون على دليل، ولا يجوز أن يعمل برأيه أو بقياسه أو بالنظر إلى ما الناس عليه؛ لأن العبد مقيد في عبادة الله جل وعلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء قدر على فعل ذلك أو لم يقدر؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يأتي بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ، فقيد الفعل بالمستطاع، أما الترك فيجب أن يجتنب جميعاً، ولا يقول: ما استطعت أن أترك هذا، فكل منهي عنه يستطيع أن يجتنبه.
فالإنسان إذا لم يكن متقيداً بالشرع فهو على خطر عظيم، ولا بد أن يقع في التقصير أو يقع في التفريط، إما أن يقع في البدع أو يقع في المعاصي، ولا يخلو من ذلك إذا لم يكن متقيداً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
لما جاء أولئك النفر يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بهديه وبطريقته، وأرادوا أن يزيدوا على ما كان يفعله الرسول صلى عليه وسلم، فقال أحدهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا لا آكل اللحم، كل ذلك تقشفاً وطلباً للخير باجتهادهم، ولما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لكني أقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
من كان مجتهداً وقاصداً الخير، ولكنه لم يكن على طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه يكون ضالاً، ويكون غاوياً، ويكون آثماً، فقد قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4] فأخبر أنها مع خشوعها وعملها ونصبها تصلى النار الحامية، وذلك لأنهم يتعبدون بالبدع، بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو السعادات : هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النِطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً ].
الصواب أن هذا عام ليس كما يقول الخطابي رحمه الله، فإنه يخصه بالمتكلم المتشدق، بل هو عام مطلق في كل شيء، فالذي يبالغ في الأمور، ويتعدى فيها المشروع متنطع، ويكون هالكاً.
وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم ردد هذه الكلمة ثلاثاً فهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه، كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات حتى تفهم عنه وتحفظ، ولم يكن كلامه كثيراً، بل يستطيع الإنسان الحاضر عنده أن يحصي كلامه وأن يحفظه، وإذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً حتى يحفظ عنه، وقد تكون الإعادة للمبالغة في التحذير والتبليغ الذي كلف به وأُمر به، وقد تكون لهذا وهذا، أي: للتعليم وللمبالغة والتحذير.
قال الشارح: [ وقال النووي : فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.
قوله: (قالها ثلاثاً) أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين].
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب ].
هذا الباب والذي قبله والبابان اللذان بعده؛ كلها بمعنى واحد، ولكن المؤلف رحمه الله نوع الأدلة، ونوع الكلام، وأبدى فيه وأعاد؛ لأن الخطأ فيه عميق وكثير، حتى يفهم الإنسان، ومعلوم أنه بتنويع الكلام وترديده يفهم الناس أكثر مما لو كان مرة واحدة، وهذا الخطر لا يزال قائماً بين الناس من عبادة القبور والتبرك بها، والعكوف عندها، وقصدها لطلب النفع ودفع الشر، فهذا لا يزال في الناس، وهذا أعظم ما وقع من النقص في الدين؛ ولهذا أكثر المؤلف من ذكر النصوص في الباب الذي قبل هذا، وفي هذا الباب، وبابين بعده.
[ الثانية:
معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين ].
المقصود بشبهة الصالحين شبهة حبهم، ولا يعني أن الصالحين مشبهون وملبسون على الناس، ليس هذا المراد، ولكن المقصود أنه لبس الحق بالباطل، فزعموا أنهم يحبون الصالحين، وكان هذا هو الباعث لهم أولاً، فصوروا صورهم، ونصبوها في مجالسهم التي كانوا يجلسونها للتعبد، زاعمين أن في هذا تذكيرهم وتنشيطهم على العمل الذي كان يعمله أولئك، فبقوا على هذا وقتاً كما سبق، ثم بعد ذلك جاء الجيل الذي بعدهم، ونسي السبب الذي من أجله نسبت الصور، ودب إليهم الشيطان فقال لهم: إن آباءكم صوروا هذه الصور للتبرك بها، والتوسل بها، وطلب شفاعتها، وجعلها وساطة بينكم وبين رب العالمين، لتسألوا بها؛ فوقعوا في الشرك، هذا معنى قوله: بشبهة الصالحين، يعني: بشبهة حبهم، وكل هذا سببه البدع، فإن هذا أمر مبتدع، ولو التزموا ما جاء به أبوهم آدم عليه السلام ولم يحيدوا عنه ما وقعوا في شيء من ذلك.
[ الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم ].
هذه نفس المسألة، يعني بالتصوير والعكوف على الصور.
الشرائع تردها، والنفوس التي بقيت على فطرتها تردها، ولكن الواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الشرع بعقله أو بفطرته، فالشرع هو أمر ونهي من عند الله جل وعلا، فلا بد من تلقيه من الرسل، والفطرة لا تستطيع أن تستقبل أمر الله ونهيه.. وتعرفه، وإن كانت الفطرة تميل إلى الحق وتقبله وتريده، وتنفر عن الباطل، ولكن لا بد لها من هادٍ ومرشد الذي هو الوحي، وإلا كان المجتمع نفسه يضل الفطرة ويغيرها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وليس المقصود بالأبوين الأم والأب حقيقة، وإنما المقصود المربي، وقد يكون المربي هو الشارع، وقد يكون المربي وسائل تعليمية، وقد يكون المربي هو المدرسة.. وغير ذلك، فالمربي هو الذي يغير فطرة الإنسان.
فالمقصود: أن الفطرة لا تستقل بمعرفة الشرع، وأنه لا بد من تلقي الأمر والنهي من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هي تنفر عن الباطل إذا لم تألفه، أما إذا ألفته وعايشته فإنها تحبه وتبقى متغيرة، فإذا ذهبت الفطرة جاء بدلها حب الشر وإلفه كما هو نص هذا الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره ].
هي واضحة: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وقد تقدم أن هذه أسماء رجال صالحين، وأن هؤلاء هم الذين صوروا صورهم، ثم صارت صورهم أوثاناً تعبد، حتى وصلت إلى العرب.
الواقع أنه ليس في قلبه فقط، وإنما ينقص في قلبه وفي أفعاله، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه)، جاء أصحاب أنس بن مالك رضي الله عنه يشكون إليه ما يجدونه من الحجاج وظلمه وتعسفه، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم),
وهذا مطلق: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شرٌ منه)، حتى تأتي الساعة التي تقوم على شرار خلق الله، فإنها تقوم على أناس لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
وهذا واضح في أن هذه البدعة لما ابتدعوها في دين الله جرتهم إلى الكفر وعبادة الشياطين وعبادة الأصنام، فصارت سبباً لترك الدين كله وليس بعضه، وهكذا البدع كلها؛ ولهذا يقول السلف: إن الشيطان يفرح بالبدعة أكثر من فرحه بالمعصية.
أي: كون الإنسان يبتدع أحب إلى الشيطان من أن يزني أو يسرق؛ لأنه إذا فعل جريمة من الجرائم وهو يعرف أنها منكر، وأنها قبيحة، وأن الله يبغضها، ويعاقب عليها، يبقى في قلبه حرج منها وضيق، ثم ربما يتوب ويرجع، بخلاف البدعة فإنه إذا كان يراها ديناً فإنه يتمسك بها ويزداد منها، وتثبت في قلبه حتى يتشرب بها فلا يتركها، فهذا كون البدع بريد الكفر والشرك، والشيطان يحبها أكثر. وهذا معنى قول السلف: إن صاحب البدعة لا توبة له، وليس معناه أنه لا تقبل توبته إذا تاب، وإنما المراد أنه لا يتوب؛ لأنه إذا كان يعتقد أن هذا دين كيف يتوب منه؟ إنما هذا علاجه بالعلم واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا تبين له ذلك ربما يتوب فيتوب الله عليه.
الشيطان فقيه فيما يدعو إليه، وفي تزيين المعاصي للناس، وعنده دقة فيها، وعنده في الواقع مبالغة وفصاحة، وعنده حيل عجيبة وغريبة، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيرى ماذا تميل إليه نفسه! وماذا يحب! فيزين له هذه الأشياء حتى يكون تمسكه بها وأخذه بها عن إقبال واقتناع، بخلاف الذي تحذوه حاجة إلى فعل المعصية، فإن هذا يفلت من يد الشيطان غالباً، إذا كان الذي دعاه إلى مواقعة المعصية: إما شهوة، أو حاجة، أو غضب، أو معاندة لإنسان.. أو ما أشبه ذلك، فهذا ممكن أن ينفلت من يد الشيطان ويرجع إلى صوابه ويتوب، فيتوب الله عليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح ].
المقصود أن هؤلاء لما صوروا هذه الصور للتذكر، ثم بعد ذلك صارت أصناماً، من ذلك العكوف على القبر؛ لكونه مثلاً يدعوه، أو أنه يظن أن الدعاء عنده يتقبل ببركة الصلاح الذي كان هو عليه، أو لأن له عند الله جاهاً، وأن الله يكرمه، فإذا كان الإنسان كما يقوله العوام وغيرهم من طلبة العلم أشباه العوام الذين يذهبون إلى القبور يلتجئون إلى أصحابها، ويزعمون أن فيها البركة وأن الجلوس عندها ينيل الجالس بركة من بركاتها، وقد يدفع عنه مثلاً سوءاً أو عدواً أو أذى، والواقع أنها لا تنفع ولا تضر، بل تضر أكثر مما تنفع.
والذي شرعه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في إتيان القبور هو السلام عليهم، والدعاء لهم، وتذكر الآخرة فقط، أما أن يلتمس شيئاً آخر فهو ضلال.
فإذاً: الجلوس عند القبر لطلب نفع من أمور الدنيا أو الآخرة بدعة وضلالة، ويجعل الإنسان سائراً في طريق الشرك إلى جهنم؛ لأن هذا من وسائل الشرك العظيم.
التماثيل: هي الصور، فكل صورة تسمى تمثالاً سواء كان لها ظل أو كانت منحوتة باليد، أو مصورة باليد، أو لم يكن لها ظل، فهي تمثال، والتماثيل هي سبب عبادة الأصنام، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريمها، والوعيد على فاعلها، وهذا شيء أظنه ما جاء في معصية من المعاصي، وقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر من الأحاديث فيها، فقال صلوات الله وسلامه عن ربه جل وعلا أنه قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (كل مصور في النار يجعل له صورة بما صور، يعذب بها في النار) وقال: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ) يقال له: أحي ما خلقت، انفخ فيها الروح وأحيها. أحاديث كثيرة وصحيحة، ومبالغة في التحذير.
فينبغي للمسلم أن يحذر من الوقوع في هذه المعصية، وكثير من الناس يتخذ هذا له رزقاً، ويتخذه له مهنة، وربما يفعله الإنسان عبثاً مثلما يقول بعضهم: يصور للتذكرة، وبعضهم قد يملأ بيته صوراً نسأل الله العافية، وقد جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وليست الملائكة التي تحفظ على الإنسان أعماله، فهؤلاء لا يفارقون الإنسان: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] .
ولكن هناك ملائكة للرحمة، يبحثون عن مجالس الذكر، وملائكة معقبات وغيرها، لكن الكتبة لا يفارقون العبد، فلا ينطق كلمة إلا سجلوها.
المقصود أن التصوير أمره ليس سهلاً، والواقع أنه كله حكمه سواء، سواء كان (فوتغرافياً) أو نقشاً باليد أو غير ذلك، بل التصوير بالآلة يكون أدق من التصوير باليد، والمحذور موجود في هذا وهذا؛ لأن المحذور فيه مشابهة الرب جل وعلا الخلق؛ لهذا يتحداهم الله جل وعلا ويقول: (فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة)، ويكلفهم أن ينفخوا الروح.
أما إذا اضطر الإنسان إلى التصوير فالضرورة تبيح المحرم، وذلك كمن لا يستطيع أن يسافر إلا بصورة، ويلزم بأن يأتي بصورة حتى يكون مثبتاً هويته وما أشبه ذلك، فهذه ضرورة، والإنسان يفعل الضرورة مضطراً وكارهاً، ولكن لا يفعل ذلك اختياراً؛ لأنه إذا فعل ذلك اختياراً دخل في الوعيد.
المقصود بالقصة قصة هؤلاء الذين صوروا هذه الصور، ثم عبدوها فيما بعد، يقول: إنها كثيرة في كتب التفسير والحديث، وهي مشهورة، وفيها إيضاح وبيان؛ لأن الناس وقعوا فيما وقع فيه أولئك، ومع كثرتها والحاجة إليها وكون الناس يقرءونها في الكتب؛ لكنهم يقعون في نفس ما وقع فيه أولئك، فما السبب؟
السبب في الواقع هو كون الإنسان لا يطبق الذي جاء في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله على عمل نفسه، ويظن أن هذه الأخبار والوقائع في قوم كانوا ففنوا، وليس لهم وجود ولا وارد، فإذا قيل له مثلاً: لا تفعل كذا وكذا، قال: لا تستدل علي بآيات نزلت في اليهود، أو نزلت في المشركين، وما علم أن فعله هو فعل المشركين تماماً، والقرآن نزل للمستقبل وليس للماضي، نزل ليعمل به، وليتفهمه الإنسان، والذي يحول بين الإنسان وبين فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو كون الشيطان يأتيه ويقول: لا تطبق هذه الآيات على المسلمين؛ فتكون بذلك قد سلكت مسلك الخوارج، هكذا يقولون!
ثم هناك أمور وضعها الشيطان للحيلولة بين الناس وبين فهم كتاب الله، والشيطان قد يكون شيطاناً من الإنس، وليس شيطان الجن فقط، وقد جاءوا مثلاً بشروط وضعوها لمن يريد أن يعرف كلام الله، وما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فقالوا: لا بد أن يكون الإنسان عارفاً باللغة العربية، مجملها ومفصلها، وعامها وخاصها، ولا بد أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ، ولا بد أن يكون عالماً بالفصاحة والبلاغة.. لا بد أن يكون... ذكروا ما يقرب من ثلاثين شرطاً في الإنسان الذي يريد أن يتكلم بكتاب الله أو بحديث رسوله.
يقول شيخ الإسلام : هذه الشروط لا تجتمع في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجعلونها حائلاً بين الإنسان وبين فهمه لكتاب الله وهي من الشيطان.
[ الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب : قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ، ومعرفتهم بمعنى الكلام ، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال ].
المقصود بهذا أنه مع ظهور هذه المسألة ووضوحها، وكونهم يقرءونها في كتب التفسير وغيرها، فإن الله جل وعلا حال بينهم وبين قلوبهم أن يفقهوا ذلك، فوقعوا فيما وقع فيه قوم نوح، واعتقدوا أن هذا الذي وقعوا فيه أفضل العبادات، يعني: أن العكوف على القبور، وسؤال أصحابها، والاستنجاد بهم في الملمات، وطلب جلب المنافع ودفع الضرر من أصحاب القبور، يرون أنه أفضل الأعمال، ويسمونه توسلاً، ويسمونه حباً للصالحين، ومن كراماتهم.
ويقولون: كرامة الصالحين هي ثابتة لهم بعد مماتهم كثبوتها لهم قبل مماتهم في حال حياتهم. وكل ما يعتمدون عليه دعاوى، وربما اعتمدوا على المنامات والأحلام، وربما اعتمدوا على شيء يأتي به الشيطان لهم ليضلهم ويزيدهم في الضلال، والذي ينهى عن هذا ويأمر بما أمر به رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقولون: هو مبتدع! هو ضال! هو خارجي! أو جاء بمذهب خامس، ليس من أهل السنة، وهو من الذين يكفرون المسلمين ويخرجون عليهم.
وهذا معنى قوله: وصار التوحيد عندهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الضلال، (عندهم) يعني: حسب عقيدتهم.
يعني: تصريح الذين عبدوا الأصنام أنهم لا يريدون منهم إلا الشفاعة، أي: لا يعتقدون أنهم يخلقون مع الله، أو شركاء لله في الخلق والإيجاد والتدبير والتصريف، فلا أحد منهم اعتقد هذا، وإنما يقول: أدعوهم ليشفعوا لي عند الله، هذا شرك المشركين، وليس عندهم شرك أكثر من ذلك، أما الذي يزعم أن المشركين يسجدون للأصنام لأنهم يعتقدون أنها تدبر وتتصرف في الكون، فهذا كذب عليهم، ما كانوا يفعلون هذا، بل هذا تكذيب للقرآن، فإن الله جل وعلا يقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] ويقررهم بذلك، فيقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] تعلمون أن هذه الأشياء كلها بيد الله، وأن الأصنام ليس لها شيء من ذلك، فشركهم هو طلب الشفاعة.
ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] هذه عبادتهم! وهذا شركهم! فهذا أخف من شرك المشركين الذين يشركون بالقبور اليوم، فإنهم يزعمون أن أصحاب القبور يتصرفون بالأمور كجلب المنافع ودفع المضار، ولهم تصرف وأن الله ملكهم التصرف، هكذا يقولون!
فيمكن أن يهزموا الأعداء، ويمكن أن يجلبوا النفع للإنسان الخاص بأن يوجدوا له ولداً، أو زوجة أو رزقاً أو ما أشبه ذلك.
السابعة عشرة : البيان العظيم في قوله : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين ]
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً ما بلغه، ولا سيما الأمور التي تتعلق بعبادة الله جل وعلا، فإنه بالغ فيها حتى لم يترك شيئاً من الأمور التي تكون وسيلة إلى فعل الشرك إلا ونهى عنها وحذر منها، فلما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لا أحب أن تطروني أو أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا إياها، أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).
ولما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟!) ومعلوم أن له مشيئة يفعل بها، وهذا القائل يقول هذا القول أمام فعل يفعله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن منعه منه صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل الشيطان إليهم من هذا الباب، فيوقعهم في الضلال.
كذلك لما قال قائل منهم: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) كل هذا سداً للباب، ومنعاً من أن يقعوا في محذور مما نهى الله جل وعلا عنه، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً من الأمور التي يمكن أن تكون وسيلة أو طريقة إلى الشرك إلا وسدها ومنعها ونهى عنها، مبالغة في ذلك.
ومن ذلك: كونه نهى عن مدحه وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده].
يعني: وجود العلم، والمقصود به العلم النافع، وهو العلم الشرعي الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العلم الذي يكون من أفكار الرجال وأقيستهم، أو يكون من الوضع الذي تواضعوا عليه، أو من علوم الدنيا، فهي إما مضرة أو يكون نفعها قليل جداً، وإنما النفع بالعلم الشرعي الذي يهدي إلى الله، وإذا فقد العلم فقد الخير كله، وفقد العلم بموت العلماء؛ لأن الكتب لا تفيد إذا كان الإنسان لم يوفق إلى من يدله على الفهم الصحيح، وكيف يسير في الطريق فيخطئ أكثر مما يصيب، ويضر أكثر مما ينفع.
الكتب تنفع ولكن نفعها محدود، وليس في كل شيء، وقد يفهم فهماً خطأ، ولا بد أن يكون الإنسان عارفاً بالأدلة، فالمقصود أن العلم النافع هو ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر