إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [49]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يثير العجب والاستغراب أن أرباب الشرك كانوا إذا ادلهمت بهم الخطوب، وضاقت بهم السبل لجئوا إلى الله مخلصين له الدعاء، فإذا زال عنهم ما كانوا فيه من كرب جعلوا لله أنداداً فيما يدعون!! وهذا الأمر كافٍ بأن يحكم عليهم بالشرك والكفر، إذ فيه صرف ما لله لغير الله، حتى وإن كان غير الله ملك مقرب، أو نبي مرسل. وجناب التوحيد جناب عظيم، لا يجوز أن يخدش أو يمس بشيء يعكر صفاءه، ويذهب ببريقه.

    1.   

    شرح قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ...)

    قال المصنف رحمه الله: [وقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] ].

    هذه الآية من الآيات التي تبطل التعلق بغير الله جلَّ وعلا، وفيها الحجة الواضحة على المشركين، وإلزامهم بأن يعبدوا الله وحده، وقوله جلَّ وعلا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] هو سؤال من الله جلَّ وعلا واستفهام لهم ويطلب جوابهم عليه، والجواب: أنه الله وحده، وكلهم يعترف بهذا، والمضطر هو الذي وقع في الضرورة، ووقع في شدة ألجأته إلى أن يرفع يديه إلى ربه، والإنسان إذا وقع في الكرب والشدة فإن في فطرته ما يجذبه إلى ربه، ويجعله متجهاً إليه وحده، إلَّا إذا تغيرت الفطرة نهائياً، وأصبحت منكوسة منتكسة، فربما دعى الاضطرار المقبور واتجه إليه وهو لا يزيده إلَّا ضلالاً، ولا يزيده إلَّا بعداً عن الله جلَّ وعلا، والخطاب هنا للعقلاء لا للمجانين الذين ذهبت عقولهم وأصبحوا لا عقل ولا فطرة لهم، إنما هو للعقلاء الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كان أحدهم إذا ركب البحر وعصفت به الريح فإنه يقبل على الله وحده، ويدعوه وحده، وإذا كان معه صنم ألقاه في البحر وكفر به، حتى ينجو إلى البر، فإذا نجا وذهبت الشدة عاد إلى شركه القديم، وانتكس، فاحتج الله جلَّ وعلا عليهم بهذا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، وهم يعلمون علماً يقينياً أنه الله، فجوابهم على هذا: الله هو الذي يجيب المضطر، وَيَكْشِفُ السُّوءَ وإذا وقع سوء عام أو خاص فلا تستطيع الأصنام والأوثان التي يعبدونها أن تكشفه، وإنما يكشفه الله جلَّ وعلا، وهم يعترفون بهذا، فلهذا جعل الله جلَّ وعلا ذلك دليلاً على وجوب إخلاص العبادة له، ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] أي: أتتألهون شيئاً من المخلوقات مع الله جلَّ وعلا، وأنتم تعترفون أنه لا يجيب المضطر إلا هو؟! أليس هذا تناقض؟! أليس هذا -في الواقع- إهدارٌ للعقل وللفطرة وللدليل واتباع للهوى؟ إن التقليد والهوى ينكشفان ويذهبان إذا جاءت الشدائد، فإذا وقع الإنسان في الشدائد والسوء ذهب عنه الهوى والتقليد، كما وقع لفرعون الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، فلما وقع في الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، ولكن هذا لا يفيد في هذه الحالة، فصار هذا دليلاً واضحاً جلياً على وجوب الإخلاص في دعاء الله وعبادته، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يكون التأله لله وحده، وكان ذلك دليلاً على المشركين، وأصبحوا لا عذر لهم في شركهم، لإقامة الأدلة والحجج عليهم ومنها هذا.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [... وقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] ...]:

    هذه الأمور الثلاثة: إجابة المضطر، كشف السوء، جعلكم خلفاء في الأرض، كلها ظاهرة في أنها خاصة بالله جلَّ وعلا، يعترف بها لله كل من له عقل سليم وفطرة سوية، إلَّا الذين يقولون -مثلاً- بإنكار وجود الله نهائياً، ويقولون: إن هذا الخلق من صنع الطبيعة، وما الحياة إلا موت يذهب بالمتقدم، وحياة تستقبل المواليد؛ لأن الحياة مادة، فليس هناك إلَّا هذا؛ ولكن هذا إهدار للعقل نفسه ... من الذي خلق وأمات؟! هل الإنسان يخلق نفسه أو يميتها؟! أو يعفل ذلك في غيره؟! لا أحد يقول هذا، ولا يستطيع أن يقوله أحد. إذاً لابد أن يكون للمخلوق خالق قدير بصير عليم، غني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه مفتقر إليه، وكل أهل العقول والفطر السليمة يقرون بهذا، وإنما المكابرون هم الذين يقولون بخلاف هذا في حالة العافية، وليس في حالة الشدة، فإذا جاءت الشدائد -حتى الملاحدة- يرجعون إلى رشدهم، ولكن لا ينفع رجوعهم حينها.

    إذاً: الأمور الثلاثة واضحة الدلالة على وجوب عبادة الله، فكونه يجيب المضطر، وكونه يكشف الشدائد والأمراض والكربات التي يقع فيها الناس عموماً، وكونه يجعل الناس يخلف بعضهم بعضاً: يستوجب عبادته وحده سبحانه.

    قال الشارح رحمه الله: يبين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلَّا الله وحده، فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يعني: يفعل ذلك.

    فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء وحده، وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارَاً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزَاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:60-61]، ولاحقتها إلى قوله: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:63-64] ...]:

    وهذه الآية التي ذكرها مثلما قوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، والآيات في هذا المعنى في القرآن كثيرة، وهذه الآية وهي قوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62]، مثل قوله تعالى أيضاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ... [البقرة:21-22] إلى آخر الآيات؛ لأن المشركين يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق المتصرف، وهو الذي يملك كل شيء، وليس معه في ذلك مشارك، ولهذا قال: إن أصح التفسيرين في هذه الآية في قوله: أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ .

    بمعنى: أن ما يقوله بعض المفسرين بأن المعنى: أمشارك له فعل هذه الأشياء؟ أنه غير صحيح؛ لأنهم مقرون بأن الفاعل لهذه الأشياء الموجودة الظاهرة هو الله وحده، وما كان أحداً منهم ينكر ذلك، وإنما كانوا ينكرون أن تكون العبادة لله وحده، ولهذا ذكر ذلك بلفظ الألوهية أَإِلَهٌ ولم يقل: أمشارك له فعل ذلك؟ أخالق معه فعل ذلك؟ وإنما أنكر عليهم التأله؛ لأنهم مقرون بأنه جلَّ وعلا لا شريك له في الفعل والإيجاد، والخلق والتصرف، وهو الذي يسمى بتوحيد الربوبية، فقد كانوا مقرين به، وإنما أنكروا توحيد الإلهية بأن جعلوا معه شريكاً، وإلَّا فهم يتألهون لله جلَّ وعلا، ويرون أن الله جلَّ وعلا هو أعلى ما يُتأله وأعظم؛ ولكن الشركاء الذين أشركوهم في التأله جعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، مثلما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم بقوله جلَّ وعلا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]. يعني: وسطاء وشفعاء يشفعون لهم.

    أما الملك والإيجاد والتصرف والخلق فما كان أحد منهم يشك أنه بيد الله جلَّ وعلا، وهذه الآيات استدل الله جلَّ وعلا بها على الكفار الذين يشركون معه في العبادة غيره؛ لأنهم إذا وقعوا في الاضطرار أخلصوا له الدعوة؛ ولأنهم يعلمون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله لا تنفع ولا تستجيب لهم، فإذا كان الأمر هكذا، في أنها لم تستجب في وقت الشدة والاضطرار فهي كذلك في الرخاء لا تستجيب، وهذا كثيراً ما يرد في القرآن، فيستدل الله جلَّ وعلا عليهم بالشيء الذي يؤمنون ويقرون به، على الشيء الذي واقعوا الشرك فيه وهو العبادة، وليس لهم حجة في هذا، وإنما تمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وما وجدوا عليه معظَّميهم تقليداً واتباعاً للآباء فقط، كما قال جلَّ وعلا عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] أي: وجدناهم على ملة وعلى دين ونحلة -هذا هو المقصود بالأمة، فالأمة هنا: الملة والدين- فنحن متبعون لهم ومقتدون بهم، وهذه حجتهم فقط وهي حجة كل الكفار، حتى قال فرعون لموسى عليه السلام -لما جاءه بالدعوة إلى عبادة الله وحده- : فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51] أي: ما بال الأمم السابقة. لماذا لم توحّد في عبادتها؛ فجعل ذلك حجة، وهي لا تزال حجة عند الناس، ولكنها حجة تقليد فقط، ليس فيها أي برهان، وإنما البراهين القاطعة في إبطالها ظاهرة جلية، ولهذا استحقوا العذاب بذلك؛ لأنه ليس أمامهم ولا في أيديهم شيء يتمسكون به، لا حجة من كتاب مُنَزَّل، ولا من عقل سديد، ولا من فطرة سليمة، ولا من خلق، فالمشرك ليس عنده إلَّا مجرد التقليد فقط.

    وفي هذه الآية ذكر أموراً، فإذا لم تتوافر في المعبود المتجَّه إليه فعبادته باطلة، منها: أن المدعو يجب أن يكون مستجيباً لمن دعاه، والاستجابة المقصود بها: إنالة المطلوب: سواءً كان المطلوب مرغوباً فيه ومحبوباً، أو مرهوباً منه ومكروهاً، فإذا لم يُنله مطلوبه فلا تصلح عبادته.

    الأمر الثاني: يجب أن يكون للمدعو حق التصرف، ويجب أن يمنع عابده من الضر الذي يناله، فإذا لجأ إليه كشف ما به من ضر.

    الأمر الثالث: أن يكون هو الذي يملك الحياة والموت والإبدال، يذهب بقوم ويأتي بآخرين، فإذا فقد شيئاً من ذلك فدعوته ضلال.

    وهذه كلها لا تكون إلَّا بيد الله جلَّ وعلا.

    الاحتجاج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال أبو جعفر بن جرير: قوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه وَيَكْشِفُ السُّوءَ النازل به عنه؟

    وقوله: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62] يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم.

    وقوله: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ : أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] يقول: تذكراً قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم، تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيراً، ولذلك أشركتم بالله غيره في عبادته. انتهى ...]:

    ومن لازم ذلك -أي: من لازم هذه الأمور التي ذكر-: أن المعبودات التي تُعبد من دون الله لا تملك من هذا شيئاً فعبادتها ضلال، وهذا لازم هذه الاحتجاجات، وفيها إبطال كل شرك وقع فيه الإنسان وقصر العبادة له؛ بأن ينال العابد مطلوبه وينجو من مرهوبه، وليس يفعل ذلك إلَّا الله وحده جلَّ وعلا، سواءً كان الذي يُتوجه إليه بالعبادة من الجمادات أو من الملائكة أو من الأنبياء أو من الأولياء أو من غيرهم، فكلهم لا يملكون شيئاً مما ذكره الله جلَّ وعلا، وإنما الملك بيد الله، وكلهم عبيد لله جلَّ وعلا تجري عليهم أحكامه، كما قال جلَّ وعلا في الملائكة وغيرهم إذا حشر العابدين معهم: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]، فيتبرءون منهم ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] يعني: أن الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة -في الواقع- عبادة المشركين وقعت عليهم، ويقول جلَّ وعلا مبيناً أن الأمور كلها بمشيئته وإرادته: كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً [مريم:93] أي: كل من في السماوات والأرض سيأتيه ذليلاً خاضعاً. والعبد هنا: بمعنى المعبَّد المذلًَّل الخاضع، وليس بمعنى العابد الذي عبد؛ لأن العبد يُطلق على معنيين:

    الأول: بمعنى: معبَّد مذلَّل، تجري عليه أحكام الرب الذي استعبده، ولا يعترض على شيء أراده الله جلَّ وعلا قدراً ومشيئة.

    الثاني: بمعنى: عابد، أي: أنه يعبد باختياره، وهذا الذي ينفع، أما الأول فلا ينفع؛ لأن معناه أن السلطان كله لله جلَّ وعلا، والإنسان وسائر العقلاء من الملائكة وغيرهم ليس لهم أي تصرف، وإنما يأتون إليه خاضعين، وهذه حالة لازمة لهم؛ ولكن في ذلك اليوم -أعني يوم القيامة- يظهر جلياً عبادة الخلق له جلَّ وعلا وذلهم وخضوعهم له، وهو اليوم الذي يقول جلَّ وعلا فيه: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19]، أما في هذا الوقت وفي هذه الحياة فقد جعل للمخلوق شيئاً مما ملَّكه، وجعل له اختياراً ومقدرةً، وجعل الأمر إليه بعدما بين له طريق الهدى من طريق الضلال، وقيل له: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، هكذا يخاطب الله عباده، وليس معنى ذلك التخيير؛ ولكنك مُكِّنتَ من العمل فاختر لنفسك ما ترى فيه فكاكك وخلاصك، وإن كان الإنسان لا يمكن أن يستقل بشيء دون إرادة الله ومشيئته؛ ولكن يتبين من قصد الإنسان ونيته وإرادته للخير أو للشر، فإن كان يريد الخير فإن الله ييسره لليسرى، وإن كان يريد الشر فلن يعجز الله ولن يفوته، ولا يجني إلَّا على نفسه، وهذا هو معنى الإثابة ومعنى العذاب؛ لأنه يثاب على فعله الذي يقع باختياره، ويعذب على فعله الذي يقع باختياره، أما إذا كان ليس له اختيار فهنا يُرفع العذاب عنه، ولهذا يُرتَّب كل ما يجري في الآخرة على ما يكون في هذه الحياة، فالعبد بمعنى العابد وهذا هو المعنى الذي ينفع، أما العبد بمعنى المعبَّد المذلَّل المسخر فهذا لا ينفع شيئاً، وهذا يجري على جميع الخلق.

    والمقصود: أن المعبودات كلها التي يتجه إليها الإنسان في طلبه سواءً كانت من الجن، أو كانت من الملائكة، أو كانت من الأنبياء والرسل، أو من غير ذلك مما هو أقل قدراً من الجمادات أو الحيوانات؛ فإنها كلها لا تنفع، بل لا تملك لأنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضراً، فكيف يجوز للعاقل أن يتجه إليها أو يتعلق بها؟!

    وما أكثر ما يبين الله جلَّ وعلا هذا للخلق! ولكنهم قد يعمَون عن الحق، خاصة إذا كان الإنسان سالكاً طريقاً معيناً ووجد عليه آباءه وقومه وأهل بلده؛ فإنه لا يستطيع الخلاص إلَّا إذا أراد الله جلَّ وعلا له الهداية.

    1.   

    حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [... وروى الطبراني بإسناده: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله) ...]:

    هذا الحديث رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت ، وجاء في بعض الروايات أن المنافق هو: عبد الله بن أبي، وأن القائل: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) هو أبو بكر الصديق ، والأذية كانت باللسان وبالقول، ولم تكن باليد أو بشيء يناله من أجسادهم؛ ولكن كان يقول قولاً يؤذي فيه المؤمنين، كما هو الحال مع المنافقين كثيراً، أما أن يؤذيهم بفعله: فهذا ما كان أحد من المنافقين يقدر عليه.

    وقوله: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) يعني: أن يوبخه أو يعاقبه؛ لأنه يقدر على ذلك؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره لهم هذا اللفظ -لفظ الاستغاثة- صيانةً للتوحيد، وحمايةً لجنابه أن يُخدش أو يناله شيء من النقص، وإلَّا فقولهم صحيح وجائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على ما طلبوا منه، والاستغاثة في الشيء المقدور عليه جائزة.

    ولا تعارض ولا إشكال بين هذا الحديث وبين قوله جلَّ وعلا عن موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]؛ لأن الآية تُدل على الجواز في الشيء المقدور عليه، والحديث يدل على الكراهة فقط، والكراهة في الشيء المقدور عليه كراهة اللفظ -لفظ الاستغاثة- مع جواز ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه جعل هذا من باب الحماية -حماية جناب التوحيد- والصيانة أن يُدخَل عليه النقص من الشيء الذي يجوز، فقال لهم: (إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله تعالى) وليس معنى هذا نفي الاستغاثة مطلقاً، وإنما صيانةً أن يقع الموحد في الشيء الذي لا يجوز، وهذا له نظائر سيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله- فيما بعد.

    إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثهم؛ لأنه حي حاضر، ويستطيع أن يأمر بعض المؤمنين بضربه، أو منعه، أو حبسه، أو حتى إخراجه من البلد، كما وقع له في بعض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نزل فيه قرآن حينما حدث بين الغلامين -الأنصاري والمهاجري- منازعة عند الماء وهم في سفر، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلون، وكان الماء فيه شح، فقال أحدهما: (يا لَلأنصار! وقال الثاني: يا لَلمهاجرين! فسمعوا هذا القول وسمعه عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين- فقال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلَّا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)، وقال: لا تنفقوا عليهم لقد أوسعتموهم في النفقات وفي المساكن وفي كذا وكذا حتى أصبحوا يُزاحموننا في أرزاقنا وفي أماكننا، وأصبحنا نستغيث منهم، فذهب ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال -وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا حدث مثل هذا الأمر بادر بإطفائه- فأمر بالمسير في وسط النهار في وقت ما كانوا يسيرون فيه، وانتشرت الأخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل عبد الله بن أبي، وسمع ابنه عبد الله ذلك فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتريد أن تقتل أبي؟ فقال: من الذي أخبرك؟ فقال: إن كنت تريد أن تقتله فأمرني أقتله؛ لأنني أخشى أن يقتله غيري فلا يتسع صدري في أن أنظر إلى من قتل أبي، فأخشى أن أهلك -يعني: أن أقتل قاتله فأهلك- قال: أوَتفعل ذلك؟ قال: نعم. فقال: لا. ولكن نحسن صحبته، فلما وصلوا إلى المدينة أخذ ابنه السيف ووقف أمامه، وقال: والله لا تدخلها حتى تشهد على نفسك أنك الأذل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز والمؤمنين).

    فالمقصود: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستطيع أن يغيثهم من هذا المنافق، ومع ذلك كره لهم هذا القول، وقال ذلك القول، وهذا يكون من باب الصيانة والحماية لجناب التوحيد، ومن باب الكراهة فقط مع الجواز.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [... وروى الطبراني بإسناده أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله).

    قال الشارح: الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدبري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

    قوله: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين) لم أقف على اسم هذا المنافق ...]:

    الذي قال: (لم أقف على اسم هذا المنافق) صاحب الشرح المسمى تيسير العزيز الحميد -وفتح المجيد اختصار لذلك الشرح- وقد ذكر غيره -ممن وقف عليه- أنه: عبد الله بن أبي.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [... قلت: هو عبد الله بن أبي؛ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته. قوله: (فقام بعضهم) أي: الصحابة رضي الله عنهم، هو: أبو بكر رضي الله عنه.

    قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر على كف أذاه. قوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) فيه: النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه، كره صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقه -وإن كان فيما يقدر عليه في حياته- حمايةً لجناب التوحيد، وسداً لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال].

    بما أن هذا جائز فهو غير ممنوع، والحديث لا يدل على المنع، فالاستغاثة جائزة فيما يقدر عليه المستغاث به، إذا كان حياً حاضراً سامعاً وقادراً، فهذا لا بأس به، كالذي -مثلاً- يهاجمه سبع، وعنده من يقدر أن يعينه، فيستغيث به قائلاً: أغثني من هذا السبع، أو -مثلاً- عنده شيء لا يستطيع حمله، وعنده من يساعده، فيقول: أغثني على حمل هذا الشيء، أو -مثلاً- إنسان يمشي على رجليه، فيأتي من معه سيارة أو ما أشبه ذلك فيقول: أغثني فأركبني، فإن هذا جائز؛ لأنه يستطيع فعل ذلك الطلب؛ ولكن لا يقال: (أغثني)، أو (أستغيث بك) كراهة؛ لأنه يخشى أن تحمل هذه اللفظة معها ما لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم حريص على نجاة أمته، رءوف رحيم بهم، فالشيء الذي يمكن أن يدخل الشيطان عليهم منه منعه، ونهى عنه؛ سداً للذرائع فقط، وليس لأن هذا الفعل -مثلاً- بعينه محرم، أو أنه لا يجوز أصلاً، وإنما لذلك الغرض الذي ذكرناه.

    1.   

    حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويُطلب منه أمور لا يقدر عليها إلَّا الله عزَّ وجلَّ؟!].

    يعني: كالذي يطلب منه أن يرزقه، أو يغفر ذنبه، أو يأخذ بيده يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، أو يحميه من غضب الجبار جلَّ وعلا، أو -مثلاً- أن يزيل المرض الذي فيه، وما أشبه ذلك مما يقع كثيراً من الناس، فإن هذا من الشرك الأكبر، نسأل الله العافية، أو -مثلاً- كالذي يأتي ويقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! أنا بحسبك، يا رسول الله! أنا داخل عليك أريد منك الشفاعة، وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك؛ لأن هذا يجب أن يُطلب من الله جلَّ وعلا، والشفاعة لله وليست للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكي تقع الشفاعة لابد من شيئين:

    أولهما: أن يأذن الله للشافع أن يشفع.

    والثاني: أنه يحد له حداً، ويقول: هؤلاء اشفع فيهم.

    وسيأتي أن الشفاعة معناها وحقيقتها: إظهار كرامة الشافع؛ إذا أراد الله جلَّ وعلا رحمة المشفوع فقط، هذه هي حقيقة الشفاعة.

    وإلَّا فالأمر كله لله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً [الزمر:44] .. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، فالتعلق بغير الله -وإن كان من أوليائه، وإن كان من أقرب المقربين إلى الله- لا يجوز؛ لأن الملك كله لله، والأمر كله لله، فالعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يكون الذل والخضوع، والتعظيم والخشية، والإنابة والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والتوبة وغير ذلك من أنواع العبادة إلَّا لله وحده فقط، وكثيراً من الشعراء يأتي بأشعار صريحة في الشرك في دعوة الله جلَّ وعلا، كما يقول القائل:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ

    إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل: يا زلة القدمِ!

    فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ

    ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ

    إلى غير ذلك من ألفاظ الشرك، ويقول في قصيدة أخرى بعد أن ذكر عن نفسه أنه أنشدها وهو مكشوف الرأس، أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أنزل به فاقته وفقره، وأنزل به الشكوى من أعدائه، يقول:

    هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ

    هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يبقى لله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه في القلوب داء؟! وكان من جوده: الدنيا والآخرة، وكان من جملة علومه: علم اللوح والقلم!! اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء، والقلم الذي قال له جلَّ وعلا: (اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم الاستغاثة به:

    ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ

    يقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً -لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب مثله بعده- فأنا لائذ بك، لا يضيق جاهك بي، احمني من هذا الغضب.

    فهل هذا يتناسب مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه: (يا صفية عمة رسول الله ! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي ما شئتِ، لن أغني عنك من الله شيئاً) فهل هذا يتناسب مع ذلك؟!

    وهل هذا يتناسب مع قول الله جلَّ وعلا: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]؟! وهو صلوات الله وسلامه عليه الذي علم أمته التوحيد، ونهاهم عن التعلق بغير الله جلَّ وعلا.

    فالمقصود: أن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمن دونه لا تجوز، وإنما الجائز منها ما كان في حياته وبمقدوره أن يغيث، أما إذا كان المستغاث به غائباً بعيداً أو كان ميتاً فهذا لا يجوز منه كثير ولا قليل؛ لأن هذا من حقوق الله وحده؛ ولأن الذي يعلم الغيب ويطلع على كل شيء هو الله، والذي يقدر على كل شيء هو الله جلَّ وعلا، وهو الذي إذا استغاث به المستغيث أغاثه؛ إذا كان صادقاً وخالصاً في دعوته، مقبلاً على الله، حتى وإن كان مشركاً، بشرط أن يكون صادقاً في استغاثته -أعني: أنه لجأ إلى الله لجوءاً صحيحاً وصدق في ذلك- ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا أنه يغيث المشركين: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] المضطر من المشركين ومن الكفار؛ لأن هذا مقتضى ربوبيته جلَّ وعلا، فهو رب الخلق جميعاً، والرب هو الذي يمدهم بما فيه حاجتهم، ويقوم على مصالحهم، وإن كانوا غير عابدين له؛ لأنه جلَّ وعلا حليم، حلمه يسع العصاة والكفرة، ولأنه جلَّ وعلا لا يعجل؛ ولأنه إذا أعطاهم لا ينقصه ذلك شيء، فالمآل إليه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26] والمرجع إليه، ثم يحاسبهم على ذلك، والحياة قصيرة، فلهذا أمر الله جلَّ وعلا رسله أن يمهلوا الكفار: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدَاً * وَأَكِيدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً [الطارق:15-17]. يعني: قليلاً قليلاً، وزمنهم الذي يُمهلون فيه قليل، وسوف يكون مآلهم بعده إلى الله جلَّ وعلا، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وليس لأحد معه شيء، فيجب أن يكون الإنسان عبداً لله وحده، عبداً لربه، ولا يكون عبداً لعبيد من عباد الله جلَّ وعلا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا واجهوا الكفار في قتال وسألوهم: ما الذي جاء بكم من بلاد العرب؟ يقولون لهم: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب الناس)؛ لأن الناس يستعبد بعضهم بعضاً، ولا يزال ذلك موجوداً، فترى بعضهم أرباباً وبعضهم عبيداً يستعبدون، وإنما يخرج الإنسان من عبادة الخلق إذا أخلص العبادة لله جلَّ وعلا، وأخبر سبحانه أن العزة للمؤمنين، وأن العزة بعبادته وحده: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَاً [فاطر:10] فالواجب على الإنسان أن يعرف حق الله عليه، ويميز بين حق الله وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، فحق الرسول صلوات الله وسلامه عليه: محبته، وتقديم محبته على محبة الأنفس -فضلاً عن الأولاد والمال والناس- أن تحبه أكثر من محبتك لنفسك؛ ومحبته صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون كذلك؛ لأنه جاءك بالنور من الله؛ فأخرجك به من الظلمات، وخلصك من شبكات الهلكة إلى سبيل الله الذي يوصلك للجنة، ففضله عليك عظيم جداً، وكذا تحبه لأن الله جلَّ وعلا يحبه، فأنت تحب ما يحبه محبوبك، أما أن تكون المحبة مع الله فهذا شرك؛ لأن محبة الله محبة ذل وخضوع وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة لله وفي الله، تحبه لأن الله يحبه، ولأنه بيَّن لك طريق المحبة الواجبة عليك لله جلَّ وعلا.

    وكذلك من حقوقه عليك: اتباعه فيما قال وأمر، وتصديقه في جميع ما أخبر به، وأن تدعو إلى سنته ودينه، وأن تخلص في ذلك، وأن تجتهد في أن تكون ممن سلك سبيله وترسم خطاه، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فباتباعه صلى الله عليه وسلم تحصل محبته ومحبة الله جلَّ وعلا.

    1.   

    بالتوحيد والتجريد يكون العمل مقبولاً عند الله

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كـالبوصيري والبرعي وغيرهم من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه، قال تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] في مواضع من القرآن: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً [الجن:21]. فأعرض هؤلاء عن القرآن، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير؛ فاعتقدوا الشرك بالله ديناً، والهدى ضلالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى! فعاندوا أهل التوحيد، وبدَّعوا أهل التجريد، فالله المستعان! ].

    أهل التوحيد: هم الذين أخلصوا العبادة لله، وأما أهل التجريد: فهم الذين أخلصوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار قولهم وفعلهم متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: جردوا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وتركوا الناس، فلا ينظرون إلى أحد مهما كان من العبادة ومن العلم، إلا إذا كان قوله موافقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان مخالفاً فلا يلتفتون إليه مهما كان، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين: أن المعصوم في أقواله وأفعاله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق -مهما أُعطي من العلم، ومن التعبد، ومن القبول عند الناس- فإنه غير معصوم.

    ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). أي: الذين إذا أخطئوا تابوا ورجعوا إلى الله جلَّ وعلا.

    والمقصود: أن الإنسان جُعل الأمر إليه، وقد بُين له الحق من الباطل، فإذا تبين للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، وإذا لم يتبعه فهو لا يضير أحداً شيئاً، ولا يضر الله جلَّ وعلا شيئاً، وإنما يضر نفسه؛ لأنه يكتسب بأعماله إما القرب إلى الله وحسن الثواب عنده، أو يكتسب بأعماله القرب من الشيطان والبعد من الله، ويكون بذلك قد تحصل على شدة العذاب الذي يلاقيه يوم القيامة: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]، وفي هذا المعنى يقول الله جلَّ وعلا للخلق: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وقال بعد ذلك: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَاً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، نسأل الله العافية، والمهل هو: الماء الذي يتقطع من الغليان، إذا دخل في البطون قطع الأمعاء ومزقها، وإذا قرب من الوجوه شواها، ثم العذاب مستمر ودائم .. كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرَاً [الإسراء:97] نسأل الله العافية.

    فكيف يصبر الإنسان على هذا؟! كيف يستطيع الصبر؟! كيف لا يسعى في نجاته؟! وكما قيل: عجبت لمن آمن بوجود النار وحقيقتها، وأنه وارد إليها، كيف لا ينام عن المعاصي؟! وكيف لا يهرب؟! وعجبت لمن آمن بالجنة ونعيمها، كيف ينام عنها ولا يطلبها؟! مع أن المعروف لدى الناس لو قيل لإنسان: لو ذهبت إلى البلد الذي يبعد عنك -مثلاً- ألف كيلو أو أكثر، وبعت فيه بضاعة لربحت بدل الريال مائة ريال، ثم تعود وليس هناك أي مشاكل تواجهك. لو قيل له هذا لما كان له أن يتخلف، ولو تخلف عن هذا الذهاب لقيل له: مجنون، لا يعرف مصلحته! فكيف والإنسان يؤمن إيماناً يقينياً بأنه سيموت، ثم يُبعث، ثم يجزى، ثم يبقى حياً أبد الآبدين، إما في نعيم وإما في عذاب ... لماذا لا يسعى في خلاص نفسه؟!

    إن أهم ما يسعى إليه الإنسان: أن يجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخلص العبادة لله فقط، فإذا مات الإنسان على التوحيد وليس عنده شرك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان عاصياً، المهم أن يموت موحداً لله، عابداً لله ليس عنده شرك، وإن كان مقصراً في ترك الواجبات وفي فعل المحرمات، أما إذا كان من عباد الله الذين يخلصون له العبادة، ويؤدون الواجب، ويجتنبون المحرم، فهذا من الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].

    إن الإنسان مهما اجتهد لا يضمن أن يكون عملُه مقبولاً، أو أن عملَه ليس مدخولاً -مدخولاً في نيته وقصده أو في عمله- لا يضمن ذلك أبداً، فلهذا ينبغي أن يجتهد، ثم يتوكل على الله جلَّ وعلا حق الاتكال والاعتماد، ويكون متعلقاً به وبرجائه وبدعوته دائماً، متضرعاً ذالَّاً له، يسأله حاجته التي لا غنى له عنها، فهو الغني عمن سواه، ومع ذلك يدعو العباد إلى دعوته، ويدعوهم إلى مغفرته وجنته: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] جلَّ وعلا.

    ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى)، أهناك أحد يقال له: تعال إلى الجنة ويأبى؟!

    يقول: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

    إذاً: الجنة لها ثمن، وهي: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فالرسول جاء بالهدى من عند الله، وعلى الإنسان أن يخلص نفسه: (والناس كلهم إما رائحون أو غادون -يعني: من هذه الدار إما أن يذهبوا مساءً أو صباحاً ولا بد، فإذا ذهبوا- فكلهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: مشتريها بطاعة الله أو مشتريها بطاعة الشيطان.

    1.   

    مسائل الباب

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

    الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص]

    وهذا كثير، عطف العام على الخاص، وبالعكس قد يُعطف الخاص على العام، كقوله جلَّ وعلا: مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة:98]، فجبريل من عطف الخاص على العام.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثانية: تفسير قوله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ[يونس:106]].

    تقدم أن الدعوة هنا عامة، تشمل: دعاء المسألة ودعاء العبادة، وأن كل مخلوق من المخلوقات لا ينفع ولا يضر إلَّا بإذن الله جلَّ وعلا، وأن الله جلَّ وعلا لم يأذن لأحد من عباده أن يدعو غيره.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر]

    نعم، فدعوة غير الله هو الشرك الأكبر، ولهذا يخاطب الله جلَّ وعلا الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: فَإِنْ فَعَلْتَ[يونس:106] يعني: دعوت غير الله فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس:106]، وسبق أن معنى الظلم هنا: وضع العبادة في غير موضعها، وأن الظلم هنا هو الشرك.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين]

    إرضاءً لغيره من الخلق، ولو إرضاءً لإبليس صار من الظالمين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة: تفسير الآية التي بعدها]

    قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[يونس:107] والآية التي بعدها: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ[العنكبوت:17]، فبين سبحانه أن الذين يُعبدون من دون الله لا يملكون شيئاً، حتى من الشيء الظاهر (الرزق) الذي يأكله الإنسان أو يلبسه أو يتموله لا يملكون منه شيئاً.

    ثم قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ[العنكبوت:17]، فجعل الرزق بيد الله جلَّ وعلا فقط، وأنه لا يُطلب من غيره، وتقديم المعمول الذي هو الظرف والذي يعمل فيه الفعل -فابتغوا- يدل على الاختصاص، وأن طلب الرزق خاص بالله جلَّ وعلا، وأنه عبادة، ولهذا عطف عليه قوله: (واعبدوه)، وهذا أيضاً من عطف العام على الخاص.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفراً]

    يعني: دعوة غير الله لا تنفع في الدنيا، وهي تضر في الآخرة؛ لأن هذا الفعل كفر.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة: تفسير الآية الثالثة]

    وهي قوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلَّا من الله كما أن الجنة لا تُطلب إلَّا منه].

    لقوله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ[العنكبوت:17]، فيجب أن يكون طلب الرزق من الله وحده، مؤدياً للسبب غير معتمد عليه؛ لأن الذي جعل السبب هو الله ولا يجوز أن يُعتمد عليه، وفي المقابل لا ينبغي أن يُعطل السبب؛ بل يُفعل؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً؛ ولكن لو شاء لم يترتب المسبَّب على السبب جلَّ وعلا، فيجب أن يكون تعلق المسلم بالله وحده، مع فعل الأسباب.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [التاسعة: تفسير الآية الرابعة.

    العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.

    الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.

    يعني: أن المدعو غافل عن دعاء الداعي، ولا يدري عن ذلك شيئاً.

    الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له]

    يعني: يوم القيامة، الداعي والمدعو كلاهما يلعن أحدهما الآخر؛ كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً[العنكبوت:25]، ويقول الله جلَّ وعلا في الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:165-166]، تبرأ كل واحد من الآخر: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا[البقرة:167] يعني: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم، ولجعلنا العبادة والحب والتعلق بالله وحده، ولكن من أين الكرة؟!

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو]

    وهي قوله جلَّ وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ...[الأحقاف:5]، ثم قال: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف:6] فبين أن الدعاء عبادة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.

    الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس]

    يعني: سبب كونه أضل الناس أنه دعا غير الله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ ...[الأحقاف:5].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة]

    وهي: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل:62].

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة عشرة: الأمر العجيب: وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجب المضطر إلَّا الله؛ ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين]:

    وقد حصل لهم هذا الاعتقاد بالتجربة والواقع الذي شاهدوه ووقعوا فيه، وهو الذي اقتنعوا به وعلموه، ولكن إذا جاء الرخاء وذهبت الشدة عادوا لشركهم، ويوجد الآن ممن يدعي الإسلام من تجاوز هذا الفعل الذي كان المشركون يفعلونه؛ فإذا وقع في الشدة أخلص الدعوة لغير الله، وأخلص اللجوء إلى المقبور، فصار يتضرع ويبكي بكاءً لا يحصل له في المساجد ولا عند الكعبة، فإن حصل له مقصوده قدراً أضاف ذلك إلى الميت، وجعل ذلك دعوة يدعو بها غيره إلى التعلق به، أما إذا تخلف المقصود؛ فإنه يعود باللوم على نفسه. فيقول: لم أكن مخلصاً في دعوته، أو أني قد فرطت أو قصرت في حقه؛ ولهذا ما أجابني. وهذا شرك ما وصل إليه شرك أبي جهل وأبي لهب، وهو شرك عظيم، ومع ذلك يقع فيه كثير ممن يقول: (لا إله إلَّا الله) ويصلون ويصومون، ويكون قد أتى بالمتناقضات .. مناقضات العقول .. ومناقضات الشرع والوضع؛ لأنه -في الواقع- ما استعمل عقله، أما أولئك فعندهم عقل استعملوه، وعلموا أن هذه المدعوات لا تكشف الكربات، ولا تغيث اللهفات، فتبرءوا منها وتركوها في وقت الحاجة وإزالة الشدة التي يقعون فيها، وأخبر ربنا جلَّ وعلا كثيراً عنهم أنهم إذا ركبوا في البحر: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[العنكبوت:65]، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك. ولهذا يقال: أولئك أصح عقولاً من هؤلاء، وأخف شركاً من هؤلاء، وإن كان هؤلاء يصلون ويصومون.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله]

    هذا مأخوذ من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله جلَّ وعلا) فهو من باب سد الذرائع، وحماية الشيء يكون بمنع الشيء الذي يجوز، لئلا يُدخل مع هذا الجائز إلى ما لا يجوز.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755924913