إسلام ويب

من يرد الله به خيراً يفقهه في الدينللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الفقه هو العلم. ولكن للتفقه طرق، وأساليب متعددة، ولكل طريقة مزايا، كما أنها قد تؤدي إلى شيء من السلبية، وهنا تجد كلاماً واضحاً، وإرشادات نافعة حول الفقه والتفقه.

    1.   

    قصور في الفهم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    أيها الإخوة: كثير من الشباب المتجه إلى الله تعالى في هذا العصر، أصبح هم طلب العلم الشرعي من أكبر الهموم لديهم، وأصبحوا يتطلعون إلى أن يعرفوا حكم الله ورسوله فيما ينـزل بهم من نوازل، ومنهم من يتطلع إلى أن يكون فقيهاً أو عالماً أو مفتياً، ينفع الله به الأمة ويجلو به الظلمة.

    ولذلك أصبحت كثيراً ما تسمع أسئلةً حول رغبة بعض الشباب عن جوانب من الخير، كالدعوة إلى الله تعالى، والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعبادة؛ بحجة الانقطاع إلى العلم والإقبال عليه، وهذا الفهم هو نابع من قصور في معرفة معنى العلم، في القرآن والسنة وعند السلف الصالح، فلم يكن معنى العلم عند سلف الأمة هو معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية معرفة مجردة فحسب، وإن كان هذا جزءاً من العلم، وكان مفهوم العلم عندهم مفهوماً واسعاً، يشمل المعرفة العقلية لهذه العلوم بألوانها، من معرفة الأحكام الشرعية والعقائد وغيرها، ثم يشمل تطبيق هذه العلوم في الواقع، وظهور آثار هذا العلم بأعمال القلوب، من الحب والخشية والإنابة والخوف ونحوها، وبأعمال اللسان، من الذكر والتسبيح والدعاء والتعليم ونحوها، وبأعمال الجوارح، كالعبادة والجهاد وسواه، فكان هذا المفهوم متكاملاً عند السلف الصالح.

    العلم ليس الفقه فحسب

    وهذا ما يجب أن ينتبه له الشاب، وهو أن العلم في الإسلام ليس مجرد معرفة الأحكام الفقهية التفصيلية، وما ورد من الحث على العلم فهو يشمل ألوان العلوم مع التطبيق العملي، أرأيت قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] هل المقصود بالفقه في هذه الآية لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] هو فقط معرفة الحلال والحرام؟

    كلا! لأن معرفة الحلال والحرام ليست هي التي يتم بها الإنذار، بل الإنذار يتم بالتخويف من الله تعالى والتذكير بأيامه، والوعد بالجنة والوعيد بالنار، وما أشبه ذلك، فهذا هو الذي يكون فيه الإنذار أكثر من غيره، وفي الآية قال الله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] فأنت -مثلاً- لو أتيت لإنسان غير مسلم وقلت له: إن حكم الإسلام كذا، وهذا حلال وهذا حرام، قد لا ينفعه ذلك، بل في غالب الأحيان لو أتيت لإنسان عاص، وقلت له: إن الحكم كذا والحكم كذا مجرداً، فقد يستجيب، والغالب أنه لا يستجيب، إلا إذا جعلت هذا الحكم ضمن مؤثرات عديدة، خوفته بالله وذكرته به، وبينت له مغبة عمله، وإلا فقد يكون عارفاً بالحكم -أصلاً- ومع ذلك يعاند ويعصي على بينة.

    وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له.

    وهكذا الحديث المتفق عليه، لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس قال: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} أي إذا حصَّلوا الفقه، الذي هو العلم بالله وشرعه، علماً يورث تأثر القلب وانصياع الجوارح للعمل، ولذلك فإننا ينبغي أن ننتبه لهذا المفهوم، وألاَّ يكون توجهنا ورغبتنا في العلم هي رغبة في كسب إقبال الناس، لأن الشاب حين يرى إقبال الناس على المفتي وكثرة حاجتهم إليه، يخطر في باله أن يكون كذلك ليصرف به وجوه الناس إليه، وهذا والعياذ بالله من المقاصد الخطرة في طلب العلم، التي بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أرادها فجزاؤه النار حيث قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلم هذا العلم ليباهي به السفهاء أو يماري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {من تعلم علماً مما يتبغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا لدنيا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} والحديث عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح.

    المقصود الأعظم من وجود الإنسان هو: العلم العمل

    أيها الإخوة: طلب العلم بألوانه والعمل به هو المقصود الأعظم من وجود الإنسان، بما في ذلك طلب الفقه، وأعني بالفقه المعنى الاصطلاحي، الذي يُعبر عنه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية أي: معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه، والمباح بأدلتها، فهذا هو المعنى الاصطلاحي للفقه، طلب هذا العلم وتحصيله بأدلته هو أيضاً من العلم، لا نقول: إنه العلم كله، ولكنه من العلم.

    1.   

    طرق تلقي الأحكام الشرعية

    حول هذا اللون من العلم أشير إلى بعض القضايا، وإن كان المجال لا يتسع لكل ما يتعلق بذلك، فأشير أولاً: إلى طرق التعلم أو الفقه في الدين، طرق معرفة الأحكام الشرعية، وهناك أكثر من طريقة لتلقي هذه الأحكام.

    البدء بالتفقه مذهبياً

    الطريقة الأولى من هذه الطرق: هي أن يبدأ الشاب أو طالب العلم، بالتفقه وفق مذهب من المذاهب المتبوعة، كالمذهب الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي، أو غيرها من المذاهب التي هي مذاهب لـأهل السنة والجماعة، فيأخذ الأحكام الشرعية أو يدرسها في كتاب من الكتب على مذهب من المذاهب.

    فمثلاً: في مثل بيئتنا ومجتمعنا، يتجه الطالب في بداية التفقه إلى دراسة الأحكام على ضوء مذهب الإمام أحمد، ويختار في ذلك كتاباً من الكتب المختصرة، أو المتوسطة، ككتاب الروض المربع -مثلا- أو كتاب منار السبيل، أو كتاب العدة للمقدسي، أو حتى كتاب الكافي لـابن قدامة، ويدرس الأحكام الشرعية التفصيلية في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها، وليس قراءة وإنما يدرس هذه الأشياء دراسة. وبذلك يكون حصل على رأي المذهب في هذه لمسائل التي درسها، على حسب ما ترجح لصاحب الكتاب أنه هو المذهب، وبذلك يكون لنفسه خلفية علمية شاملة في طريقة الاستنباط والأصول العامة، والقواعد التي بنى عليها الأصحاب اختياراتهم وآراءهم الفقهية.

    ثم بعد ذلك يبدأ في تمحيص المسائل بصفة تدريجية، سواءً بالتسلسل، أو كلما عرضت له مسألة واحتاجها درس هذه المسالة دراسة أوسع، دراسة مقارنة بمعنى أنه يدرس هذه المسألة بأدلتها ليتوصل فيها إلى القول الراجح، ولو كان هذا القول -مثلاً- قولاً ضعيفاً في المذهب، لكنه هو الراجح عند أكثر العلماء أو عند المحققين، أو لم يكن قولاً في المذهب لكنه قول آخر في مذاهب أخرى. وتكون هذه مرحلة ثانية، وهذه الطريقة لها فوائد وإيجابيات، ولها سلبيات.

    أ/ الإيجابيات لهذه الطريقة:

    فمن فوائد هذه الطريقة: أنها تكون لطالب العلم خلفية في معظم المسائل الفقهية وغالبها مما بحثها الفقهاء، وتجعله على اطلاع على أقوال أئمة المذهب في هذه المسائل، ثم إنها تجعل الشاب أمام قول محدد لا يحتاج إلى أن يتيه بين أقوال متباعدة أو متضاربة، وقد يقع عنده حيرة واضطراب، فهو أمام قول واحد -غالباً- أو أكثر من قول، لكنها في الغالب تعتمد على قول واحد، أو تنتهي إلى ترجيح قول واحد.

    ب/ سلبيات هذه الطريقة:

    ولهذه الطريقة في المقابل بعض السلبيات، من أبرز هذه السلبيات: أن طالب العلم حين يفتح بصره على كتاب من هذه الكتب، ثم يفهم جميع ما فيه، معتقداً أن هذا هو الفقه الذي يتعلمه، ويمتلئ قلبه وعقله به، ولو سئل لأجاب بما علم، وإذا عرضت له مشكلة عالجها على وفق ما فهم وهكذا، حتى يتعصب -أحياناً- لهذه المسائل، ولو علم أو ظهر له أن هناك دليلاً يرجح له خلاف ما درس؛ لما كان لديه قوة وشجاعة في الانصياع للدليل وترك ما علم، على حد قول الشاعر:-

    أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى     فصادف قلباً خالياً فتمكنا

    فهذه سلبية قد تقع للبعض وليس لكل طالب، فإن بعض الطلاب إذا كان لديه وعي وبصيرة ويقظة، فهذا أمر آخر لعله تأتي الإشارة إليه.

    و من سلبيات هذه الطريقة: أنها توجد عند طالب العلم شيئاً من الركون إلى ما درس، بمعنى أنه إذا قرأ رأي الأصحاب في هذه المسائل وهو أمر جاهز يسير نسبياً؛ ركن إليه وأصبح ليس لديه تطلع إلى مزيد من البحث والتحصيل، وتمحيص هذه المسائل والوصول إلى نتائج أصح، فيركن إلى ما علم.

    و من سلبيات هذه الطريقة: أنها تجعل المتفقهة سريع التنقل في الآراء، فإن سلم من التعصب فإنه سيكون سريع التنقل، لأنه اليوم يفتي بما درس، ثم غداً يبحث فيجد أن الأمر خلافه فيتغير رأيه في هذه المسألة.

    فهذه إيجابيات هذه الطريقة وهذه سلبياتها، وهي طريقة البدء أولاً بكتاب على ضوء مذهب معين أياً كان هذا المذهب، وقد مثلت بالمذهب الحنبلي، ويمكن أن يقال هذا في المذهب الشافعي -مثلاً- في دراسة المهذب أو غيره، وفي المالكي في دراسة الكافي أو غيره، وفي الحنفي في دراسة الدرّ المختار أو غيره، أو أي كتاب آخر يمكن أن يقال فيه ما يقال في هذا المذهب.

    ثم تأتي المرحلة الثانية في هذه الطريقة، وهي أن يبدأ لطالب بالتمحيص بعد أن يكون قد أنهى دراسة المسائل على ضوء مذهب معين.

    الدراسة اللامذهبية

    أما الطريقة الثانية: فهي أن يبدأ طالب العلم أو المتفقه بدراسة المسائل الفقهية أصلاً، ليس على وفق مذهب معين، بل يبدأ في الدراسة منذ أول تفقهه عاملًا على البحث عن الترجيح، وهذا قد يكون باعتماد كتب فقهية أو حديثية.

    ففيما يتعلق بالكتب الفقهية، هناك كتب مما يمكن أن يسمى بالفقه المقارن، بمعنى أن مؤلف هذا الكتاب يذكر القول وما يقابله، ويقارن بين الأقوال ويصل إلى نتيجة، دون أن يصل إلى مذهب معين، وقد لا يلتزم بالمقارنة؛ لكن يعتمد ذكر المسائل على القول الذي يعتقد أنه الراجح مع دليلها.

    ومن أمثلة هذه الكتب: كتاب فقه السنة لـسيد سابق، وهو يصلح أن يعتبر من الفقه المقارن إلى حد، ومن أمثلة الكتب التي تعتمد على ذكر القول الراجح بدليله -القول الراجح لدى المؤلف- كتاب الدرر البهية والدراري المضية للشوكاني، والروضة الندية لـصديق حسن خان، وإن كانت لا تستوعب جميع المسائل الفقهية.

    فقد يبدأ الطالب بقراءة هذه الكتب، أو يبدأ بقراءة كتب حديثية وليست فقهية، من الكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام.

    فإن العلماء منذ القديم عنوا بالتصنيف في أحاديث الأحكام، فصنف فيها -مثلاً- الإمام المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام- كتاباً سماه المنتقى من أحاديث المصطفى، وصنف الإمام المقدسي كتابعمدة الأحكام وصنف الحافظ ابن حجر كتاب بلوغ المرام. وهناك كتب أخرى غير هذه الكتب، ولكنها قد تكون أقل شهرة منها.

    وهذه الكتب التي جمعت أحاديث الأحكام، عُني العلماء -أيضاً- بشرحها، ومن أشهر شروح هذه الكتب، ولعله -والله أعلم- أفضل كتاب مطبوع في شرح أحاديث الأحكام، كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني، شرح فيه المنتقى لـابن تيمية الجد رحمه الله، وهناك شروح لكتب أخرى، كـسبل السلام والبدر التمام شرح بلوغ المرام، ولكتاب عمدة الأحكام عدد من الشروح القديمة والحديثة، من أبسطها وأوضحها: تيسير العلام للشيخ ابن بسام وغيره.

    أقول: قد يبدأ الطالب بقراءة هذه الشروح قراءة متأنية، ويتيح لنفسه فرصة معرفة الأقوال المتنوعة في المسألة والأدلة لكل فريق، وما رجحه المصنف أو يمكن أن يرجحه هو أو غيره، فهذه طريقة لا تعتمد مذهباً فقهياً لكنها تعتمد على المقارنة والبحث الراجح، وهذه الطريقة -أيضاً- كالأولى، لها إيجابيات ولها سلبيات.

    أ/ إيجابيات هذه الطريقة:

    فمن إيجابيات هذه الطريقة: تدريب الطالب على النظر المتوازن، فتعطيه فرصة النظر في الأقوال كلها، والترجيح بينها، نظرة فيها نوع من التوازن، وتقويم أدلة كل فريق.

    ومن إيجابيتها: أنها تربي في الشباب قدراً -إن صح التعبير- من الاستقلالية وعدم التعصب لشيخ معين، أو كتاب معين، أو مذهب معين، أو قول معين.

    ومن إيجابياتها: تدريب الطالب على المرونة في التفكير وسعة الأفق، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعرف إلا قولاً واحداً تجد أنه ينكر كل ماعداه، وليس لديه -أحياناً- استعداد أصلاً أن يناقش، لكن إذا عرف الطالب الأقوال، وأن كل قول له ما يؤيده من الأدلة، سواءً كانت قوية أو ضعيفة، فإن هذا يعطيه قدرة على تحمل الآراء الأخرى وتفهمها، والمرونة في التعامل مع من يقول بها، دون حرج أو تبرم أو ضيق.

    ومن إيجابياتها: كسب الوقت، لأن العمر قصير، والشاب إذا قرأ كتاباً مرة قراءة متأنية قد لا يعود إليه، خاصةً في هذا العصر الذي ضعفت فيه الهمم وانشغل الإنسان فيه بأشياء كثيرة جداً، قد يكون العلم الشرعي هو أحدها في بعض الأحيان.

    ب/ سلبيات هذه الطريقة:

    ولهذه الطريقة أيضاً سلبيات، من سلبياتها: أن الشاب إذا كان مبتدأً، غالباً يكون غير مؤهل لقراءة الأقوال المتعارضة والأدلة واختيار القول الراجح، لأن هذا يتطلب وجود خلفية علمية عنده، ووجود معرفة بالأصول بصفة عامة، ووجود إلمام مجمل بعدد من العلوم، وهذا قد لا يتيسر للطالب في بداية التفقه. فيكون اختيار الطالب حينئذٍ لقول من الأقوال ليس لقوة هذا القول، لكن لسبب آخر، أحياناً قد يكون لغرابته، لأن بعض الناس يولع بالغرائب، فالقول الشاذ يجد له أنصاراً في بعض الأحيان. وقد يكون قبول الشاب لقول من الأقوال ليس لأنه راجح وصواب، لكن لأن أحد العلماء أيد هذا القول وتحمس له وعرضه بصورة قوية، كما تجد -مثلاً- بعض الشباب حين يقرءون للإمام ابن حزم في المحلى أو غيره؛ فلأن الإمام أبا محمد -رحمه الله- يطرح آراءه بقوة وبحماس، ويرد على المخالفين بقوة أيضاً، وقد يقسو عليهم أو يشتد، فيصبح القارئ الذي لا زال في بداية الطلب أسيراً لهذا المصنف فيتقبل آراءه لهذا السبب.

    وقد يكون ترجيحه لقول من الأقوال اغتراراً ببعض الظواهر، مع الغفلة عن أمور أخرى قد تكون أقوى في الدلالة منها، فهذه سلبية.

    السلبية الثانية: أن الشاب في مثل هذه المرحلة إذا بدأ هذه البداية؛ قد يصبح لديه ولدى غيره من بني جنسه، نوعاً ممكن أن نسميه -تجوزاً- بالفوضى التشريعية، بمعنى: أن يصبح كثير من الشباب -وإن كانوا في مقتبل العمر وبداية الطريق- لديهم جرأة على الكلام عن الحلال والحرام، والخلاف والقيل والقال في هذه الأمور، وهذا يحدث نوعاً من الفوضى بينهم وفي المجتمع، خاصة لدى العامة الذين تعلموا أن يأخذوا الأحكام من العلماء المعروفين، ولا تتسع عقولهم. لأن المسألة فيها أقوال كثيرة، وفيها راجح ومرجوح وشيء من هذا القبيل، إنما تتسع نفوسهم لأن يقول لهم الشيخ بكل حزم وقوة: حلال أو حرام، افعل أو لا تفعل، فيمتثل وهو طيب الخاطر. ولذلك من مخاطر هذه الطريقة: أنها قد توجد عند الناس نوعاً من الفوضى والتوسع في هذا المجال، وعدم وجود ضوابط يركن إليها. فهذه بعض سلبيات هذه الطريقة، وهذه أيضاً بعض إيجابيتها.

    1.   

    المزاوجة بين الطريقتين

    قد يقول قائل: أنت الآن عرضت علينا طريقتين، وكل طريقة قلت لها إيجابيات وسلبيات، فما الجدوى؟ وما هو الحل؟

    أما الجدوى، فإنني أقول: إن كل طريقة من الطريقتين، لو سلكها إنسان عارفاً بإيجابيتها وسلبياتها ولديه تأهيل، فيمكن أن تكون طريقة صحيحة، بمعنى: أن الطالب الذي عنده قدر من التمكن، لو بدأ بدراسة الأقوال على ضوء مذهب معين بادئ ذي بدء، ثم انتقل بعد ذلك إلى التمحيص، أو أنه بعد أن صار عنده نوع من التمكن -أيضاً- بدأ بدراسة هذه المسائل بالطريقة المقارنة، كلا الأمرين حسن ولا بأس به، لأنه بالدرجة الأولى تعود السلبيات -غالباً- إلى الشخص وإمكانياته، فكل شخص له ما يناسبه، وكون الإنسان يدرك السلبيات والإيجابيات؛ هذا يعينه على أن يتقي السلبيات ويستفيد من الإيجابيات.

    أما الحل الذي قد يكون مناسباً ووسطاً: فهو أن يعمل طالب العلم على المزاوجة بين هاتين الطريقتين، بمعنى: أن يحرص الطالب في دراسة المسائل على أن يدرسها -مثلاً- دراسة من الكتب المقارنة، كـنيل الأوطار -كما مثلت- أو غيره، على أن يُعنى بكتب الفقه، بحيث يقرأ في كل مسألة ماذا قال الفقهاء فيها، يقرأ في كتاب المغني -مثلاً- أو حاشية ابن قاسم، أو الكافي أو أي كتاب آخر، ويعرف الأقوال ويطلع أيضاً على الكتب الأخرى، لأن هذا يوجد عنده نوعاً من الاعتدال.

    أصناف الشباب المتفقهين

    من الملاحظ في واقع الشباب المتفقهين أنهم على أصناف:

    الصنف الأول: منهم من يتفقه على مذهب معين، فتجد أنه يزدري ولا يقيم وزناً لمن يتفقهون تفقها مقارناً، أو يحرصون على معرفة القول بدليله أياً كان، لأنه يعتبر أن هؤلاء سيضيعون عمرهم بلا طائل، وأن الطريقة السليمة هي أن تتلقى المذهب عن الشيخ وينتهي الأمر.

    الصنف الثاني: أن بعض الشباب المتحمسين بالغوا في نبذ كتب المذاهب، واعتمدوا على الكتب الحديثية التي تعرض الأقوال بأدلتها، ولم يقيموا وزناً لكتب المذاهب، فصاروا يعتبرون أن من تفقهه على مذهب معين، أنه ما حصل على علم شرعي، وأنه مجرد مقلد، إلى آخر ما يمكن أن يقال، فهذان طرفان.

    الاعتدال مع الطرفين

    والتوسط أن يقال: إن عند كل طرف من الطرفين حق وخير، فالمذاهب الفقهية لا شك أن فيها خير كثير، وهي جهود أئمة علماء مجتهدين، أطبقت الأمة على فضلهم واتباعهم والاعتراف بهم، وشأن العامي -أياً كان العامي، ولو كان دكتوراً إذا كان عامياً في العلوم الشرعية- أن يقلد هؤلاء العلماء أحياءً كانوا أو أمواتاً. وكذلك الكتب المقارنة التي تذكر الأقوال بأدلتها، فيها خير كثير من جهة أن الحق -كما هو معروف ومتفق عليه عند جميع أهل الإسلام- ليس محصوراً في مذهب معين، لا الحنبلي ولا الحنفي ولا المالكي ولا الشافعي، بل كل مذهب من هذه المذاهب فيه أقوال راجحة، وأقوال مرجوحة. فالمزاوجة بين هاتين الطريقتين تجعل طالب العلم أقرب إلى الاعتدال والتوازن، والاطلاع على هذه الكتب وتلك والاستفادة مما في النوعين.

    1.   

    الوسائل المعينة على التفقه

    النقطة الثانية التي أحب أن أشير إليها هي: الوسائل التي يستعين بها الطالب على التفقه، وهي كثيرة، أذكر منها أربعاً:

    من وسائل التفقه: الحفظ

    الوسيلة الأولى منها هي: الحفظ.

    والحفظ كان السلف يعنون به عناية كبيرة منذ الصغر، حفظ القرآن الكريم، ثم حفظ السنة أو بعضها، وحفظ بعض المتون، ولا زال علمائنا حتى اليوم يعتبرون أن من أساسيات طالب العلم أن يكون لديه بعض المحفوظات من المتون المهمة، ولا يغني عن الحفظ وجود وسائل معاصرة وتسهيلات معينة، فإنه لا يغني عن الحفظ، صحيح أن الحفظ لم يعد بنفس الصورة، لكن لا لازال الحفظ مهماً وأساسياً لطالب العلم، فعلى طالب العلم أن يحفظ بعض المتون ولو صغرت، أحياناً قد تجد متناً أو منظومات في الفقه أو الحديث، هل تعلمون أن الصنعاني نظم بلوغ المرام، وهذا النظم قد يكون بذاك المتانة، لأن طبيعة نظم الأحاديث، يعني فيه شيء من العسر، لكن المقصود أن كل علم من العلوم فيه متون مختصرة منثورة أو منظومة، متن في المصطلح.. في الفرائض.. في اللغة العربية، هذه المتون ليست كبيرة ولا مكلفة، ولو استطاع كل طالب أن يحفظ في إجازة من الإجازات متن في الأصول أيضاً، يكون صفحات معدودة، لحصَّل من وراء ذلك خيراً كثيراً، وأصبح يثبت علمه، والواقع أن الأشياء التي يحفظها الإنسان في صغره تبقى معه، ولهذا فمن الخير توجيه طلاب العلم في صغر سنهم إلى حفظ بعض هذه المتون، بل إن العوام في مجتمعنا إلى وقت قريب، كان العامي يعتبر أن حفظ الأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة من الأمور المهمة، وكان عامة الناس في المسجد يجلسون إلى الإمام ويقرءون عليه هذه المتون، فالحفظ أمر مهم.

    من وسائل التفقه: القراءة

    والوسيلة الثانية: هي وسيلة القراءة، والطالب الذي لا يقرأ لا يحصل على علم، ولابد أن يكون للطالب طُولَعَة، يعني لديه نهم ورغبة شخصية في القراءة, بحيث أنه يستغل ويهتبل كل فرصة ممكنة له في القراءة، وليست القراءة قراءة الخطافين الذي يقرأ من كل كتاب عشر صفحات أو عشرين صفحة ثم يغادره إلى غيره، بل لابد أن تكون قراءة متأنية مركزة، وقد قيل: أن تقرأ كتاباً واحداً ثلاث مرات خير من أن تقرأ ثلاث كتب مرة واحدة، فمن المهم أن يكون لطالب العلم قراءة مستمرة، في كتب مختارة في أنواع العلوم.

    وفيما يتعلق بالقراءة: من المفيد أن يسجل طالب العلم الشوارد، التي يقف عليها أثناء قراءته، أثناء قراءتك لكتاب ما قد تجد فوائد ملتقطة هنا وهناك، ربما تتعب في البحث عنها فلا تجدها، وبالمصادفة وقفت عليها دون قصد في كتاب من الكتب، فحينئذ يحسن بك أن تعتمد التسجيل، فتجعل الصفحات الأولى من الكتاب -الصفحات البيضاء- مكان تسجل فيه الفوائد التي تلتقطها أثناء القراءة أين كانت، وترجع إليها بين حين وآخر، وقد جربت هذه الطريقة في عدد من الكتب فوجدتها في غاية النفع لطالب العلم.

    من وسائل التفقه: التتلمذ المباشر

    الوسيلة الثالثة: هي وسيلة التتلمذ المباشر: أعني ألا يعتمد الطالب على نفسه فقط، بل يحرص على أن يتتلمذ على الشيوخ، سواء من حلقات العلم أو من المحاضرات أو الأشرطة أو غيرها، ومن التتلمذ المهم أن يراجع الطالب الشيخ كلما أشكل عليه أمر، ويعرض عليه كل نتيجة توصل إليها، فلا يستبد بالآراء ويستقل بنفسه، فهو ضعيف مهما كان، ولا يمكن أن تهمل خبرة علماء قضوا أعمارهم في التحصيل والدرس والترجيح، وأدركوا من أسلوب التعامل مع النصوص ما لم يدرك الطالب المبتدئ.

    من وسائل التفقه: البحث

    الوسيلة الرابعة هي البحث: والبحث ضروري لكل طالب، فلا يكفي أن تقرأ، فلابد أن يتدرب الطالب على البحث بعد معرفة الشروط الأساسية للبحث، يحرص على أن يأخذ مسائل ويبحثها من خلال مراجع معتمدة بحثاً علمياً دقيقاً؛ ليتعلم أسلوب الكتابة والترجيح وكيفية الجمع بين الأقوال وصياغتها، ثم يجب أن يعرض هذا البحث الذي عمله على شيخ أو أستاذ يصححه له، ويراجعه، ويبين له الأخطاء، وليست مهمة هذا الشيخ أو الأستاذ أن يقول لك: هذا البحث ممتاز، وقد بلغ الغاية وإن وصلت فيه إلى ما لم تستطعه الأوائل، فهذا نوع من إثارة الغرور في نفس الطالب، لا يفعله الأستاذ الناصح، بل مهمة الأستاذ وإن أثني عليك وطيب خاطرك أن يبين لك في المقابل مثالب هذا البحث، ومآخذ هذا البحث وعيوبه، ويرشدك إلى ما هو الأفضل والأسلم فيه.

    1.   

    نقاط تتعارض مع التفقه السليم

    أخيراً: أشير إلى نقاط تتعارض مع التفقه السليم؛ الذي ينبغي أن يحرص عليه كل طالب علم، فهي سلبيات أو مثالب يحسن للطالب الناصح لنفسه أن يتجنبها، من ذلك:

    الاعتناء بالجزئيات مع التقصير في المهمات

    إن كثيراً من الطلاب في هذا العصر، وهذا أمر مشهود يعنون عناية بالغة جداً ببعض الجزئيات، ويشغلون أنفسهم وغيرهم ووقتهم وجهدهم فيها، وهذه الجزئيات فرق بين أن نقول للناس: هذه -كما يقول البعض- قشور، اتركوها، لا تشغلوا أنفسكم بها، فهذا لا نقوله، ومعاذ الله من ذلك، فليس في الدين قشر ولب، لكن أيضاً لابد أن نعرف أن الدين فيه أصول وفروع، وفيه أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وهناك أشياء كليه وجزئية، وفي أشياء تقدم على غيرها، فكون طالب العلم -مثلاً- بداية طلبه للعلم هو أن يشغل نفسه-مثلا- بالإصبع في الصلاة يعني في التشهد وبين السجدتين، كيف يحرك؟

    فتجد بعض طلاب العلم يحركونه باستمرار، ثم تجد آخرين لا يحركونه أبداً بل يتركونه، تجد نوعاً ثالثاً يرفعونه بصفة مستمرة ولا ينـزلونه أبداً، فئة رابعة يحركونه مع حنيه شيئاً ما، فئة خامسة -وهذا حدثني فيه أحد الإخوان أنه رأى أحد المبتدئين في العلم يفعله- يحرك إصبعه بصفة كأنه يرسم دائرة، وحين سأله عن حجته في هذا الفعل قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، فهو يظن أن التحليق أنه يرسم حلقة بإصبعه هكذا والواقع أن تحليق إصبعه، أنه كان يضع الإبهام مع الوسطى هكذا، هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا الشاب حين أرشده إلى الحق قبله منه، وهذا أمر حسن بلا شك، هذه المسألة لا باس أن يعرف الطالب فيها ما هو الحق، لكن أن يكتب عشرات البحوث في هذه المسألة ما بين كتب مطبوعة، وبحوث منشورة في عدد من المجلات الإسلامية، وبحوث لم تنشر، وربما تسيطر على وقت الشباب في عدة جلسات، في حين أنك قد تناقش بعض هؤلاء الإخوة في مسائل أصولية، وفي قضايا مهمة وكبرى فتجد أن كثيراً منهم لا يفقهون فيها شيئاً، هذا مثال.

    من الأمثلة جلسة الاستراحة كثيراً ما يشغل الشباب أنفسهم ببحث هذه المسألة، نظراً لكثرة الاختلاف فيها وشدته، ومن الأمثلة تقديم اليدين والركبتين في حالة السجود، هذه الأمثلة والمسائل نقول: لا شك أن فيها خطأ وصواب، وفيها راجح ومرجوح ولا بأس، بل ينبغي لطالب العلم أن يبحث عن الراجح بدليل هذا كله لا غبار عليه، لكن أن يصبح حظنا من الفقه هو أن نأخذ هذه المسائل التي هي معترك الأقران، ونشغل بها وقتنا وعمرنا وكتبنا ومجلاتنا ومجالسنا، فهذا ليس من الحكمة ولا من العدل، بل العدل يقتضي والحكمة أن تضع الأمور في مواضعها، وهذه الأمور الأمر فيها واسع، ولا ينبغي أن نشدد فيها على الناس، جلس الإنسان جلسة الاستراحة أو ما جلس فهو سنة، وإن ما جلس فهو ترك سنة، قد لا يعتقد أنها سنة، بل قد يعتقد أنها مكروهة كما هو مذهب بعض الفقهاء فتركها، فالأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي أن نضيق على الناس في هذه الأمور، ومن فوائد -كما ذكرت قبل قليل- من فوائد الإطلاع على الأقوال المختلفة أن يصبح لدى المتفقهة قدراً من المرونة في التعامل مع الناس، وتقدير آرائهم ومواقفهم المخالفة له.

    الولوع بالغرائب

    من العيوب والمثالب التي ينبغي أن يتقيها طالب العلم: ولع البعض بالغرائب.

    فبعض الشباب حين يبدأ في الطلب يصبح لديه رغبة في أن يكون عنده تميز يميزه عن الآخرين، أو اطلاع على مسألة ليست عند غيره، هذا أمر فطري عند كثير من الناس، ولذلك كان بعض طلاب الحديث -في الماضي- يولعون بالغرائب، يولعون بالأحاديث الغريبة التي لا توجد إلا عندهم ولو كانت ضعيفة أو موضوعة، المهم أن يكون الحديث غريباً غير موجود عند جميع الرواة. ولذلك كان أبو يوسف يقول: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.

    هذه الصورة قد توجد بأسلوب آخر عند بعض المبتدئين في التفقه، فيكون لديه رغبة في وجود مسائل فقهية ينفرد بها عن غيره في الاطلاع، وهذه المسائل قد يكون قال بها بعض العلماء لا شك، ولا يلزم أن يكون ابتكر هذا القول من عند نفسه، لكن العالم الذي قال بهذه المسألة معذور، لأنه عالم متبحر، ومن حقه حينئذٍ أن ينفرد بقول أو بمسألة أو مسألتين، من الطبيعي أن يكون للفقيه مسائل انفرد بها، وهذا يصنف فيه كتب أحياناً، ولو بحثت في العلماء المشهورين لوجدت كل عالم انفرد بمسائل، لكن الطالب المبتدئ ليس معذوراً أن يأخذ زلة هذا العالم فيتبناها، أو هذا القول الذي انفرد به. ومن ذلك أنك تجد -مثلاً- بعض الشباب، قد يسمعون قولاً لأحد العلماء في تحريم الذهب المحلق على النساء، مع أن هذا القول قد حكى عدد من العلماء، كـالبيهقي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم، الإجماع على خلافه، لكن لبعض العلماء قول آخر في ذلك، هذا العالم هو معذور في تبني هذا القول، لأنه يرى ذلك، لكن طالب العلم المبتدئ كونه يأخذ هذا القول ويتبناه ويدافع عنه وينشره غير معذور.

    وكذلك بعض طلاب العلم والمتفقهين قد يسمعون أن هناك قولاً بأن الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة لا يشرع ولا يجوز، أو أن الزيادة على خمس تسليمات في التراويح لا يجوز، فيأخذون هذه الأقوال مع أنها أقوال -في نظري- أقرب إلى الشذوذ، وأعود فأقول: العالم الذي قال بها هو معذور بذاته، لأنه عالم متبحر ومتمكن، ولديه علم واطلاع وتمحيص، وهو لم يأتِ ببدع من القول، لكن المبتدئ لا ينبغي له أن يكون حريصاً على تتبع الزلات، فقد قال بعض السلف: من حرص على تتبع زلات العلماء اجتمع فيه الشر كله. وهذا صحيح، فلو أن كل عالم أخذت منه زلاته لاجتمع فيك الشر كله.

    التجرؤ على العلماء

    أخيراً من المثالب التي ينبغي أن تتقى: أن بعض الشباب حين يطلع على الأقوال المختلفة والأدلة، ينظر إلى ظواهر بعض النصوص نظرة مباشرة وبسيطة فيخيل إليه أن من خالفوا ذلك الظاهر قد أخطأوا وانصرفوا عن دلالة هذا الحديث، فيتجرأ على العلماء سواء منهم العلماء السابقين أو اللاحقين، فتجده يستعمل أحياناً عبارات لا تتناسب مع مكانة هؤلاء العلماء، أخطأ فلان في هذه المسالة، قد يقول طالب مبتدئ أخطأ الإمام أحمد في هذه المسألة، أخطأ مالك -مثلاً- فيها، حتى لو أديت المعنى بغير هذا الأسلوب فالعبارة غير مناسبة، بل قد تجد بعض الطلاب المبتدئين يقول: وشذ فلان من العلماء في هذا القول، وهذا ليس مناسباً أن تنسب هذا إلى علماء أفذاذ أطبقت الأمة على تلقي علمهم والأخذ عنهم واتباعهم، فينبغي للطالب أن يحرص على معرفة أقدار هؤلاء العلماء، وتعظيمهم، والانتفاع بهم، وعلى أن يمكن ثقة الناس بهم، لا أن ينـزعها منهم، وهو في الواقع لن ينـزعها بل سوف ينـزع ثقة الناس منه هو، حين يتعرض لهؤلاء العلماء، لأننا نشهد لله أن هؤلاء العلماء الذين اتفقت الأمة على اتباعهم في الجملة كالأئمة الأربعة، والثوري والطبري والأوزاعي وأشباههم، أن هؤلاء العلماء ما كانوا يريدون إلا الحق، ويكفي أن تعرفوا القصة التي ذكرها الرازي وغيره عن الإمام الشافعي أنه ذكر حديثاً قال: ثم ذكر حديثاً في مسألة وكان عنده أحد تلاميذه فقال الشافعي: إن هذا الحديث صحيح فقال التلميذ: أتقول به يا إمام؟ أي: أتقول بمضمونه، فغضب الشافعي واحمر وجهه، ونفض يده على تلميذه، وقال: رأيتني خارجاً من كنيسة؟

    هل رأيت في وسطي زناراً؟

    يعني رأيت علىَّ علامات اليهود أو النصارى، حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ولا أقول به، والأمر أنهم كلهم يأخذون هذه الأحكام والآراء من الكتاب والسنة، لكن أبى الله أن تكون العصمة إلا لرسوله وأنبيائه، فعلينا أن نعرف لهم قدرهم ونبجلهم ونعظمهم ولا يلزم من ذلك، أن نأخذ أو نقلد إماماً منهم في كل مسألة إلا أن يكون الإنسان عامياً، فالعامي مذهبه مذهب مفتيه، ولا بأس أن يقلد أحد العلماء أمواتاً كانوا أو أحياءً هذا ما أردت بيانه، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والفقه في الدين، وأن يرزقنا العلم النافع والعلم الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه اللهم صلِّ وسلم على عبد ورسولك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من لم يتفقه في الدين

    السؤال: هل من لم يتفقه في الدين يعني أن الله يريد به شراً؟

    الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الفقه والمتفقهين في هذا الحديث: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومعنى ذلك: أن من أعرض عن الدين لا يعلمه، ولا يتعلمه فهو على شفا هلكة، لأن هذا من سمات الكافرين، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] فالإنسان المعرض عن الدين بالكلية، لا يتفقه لا بالعقائد، ولا في الأحكام، ولا فيما يحتاج إليه من أمور دنياه، لا شك أنه على شفا هلكة، كيف يعبد الله وهو لا يعرف الطريق إليه؟

    كيف يعبد الله ولا يعرفه، أيضاً هذا لا يمكن، هناك واجب عيني على كل إنسان وذلك يتمثل في معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومعرفة الأحكام التي يحتاج إليها في واقع حياته، هذا لا بد منه.

    الدعوة هل تشغل عن العلم

    السؤال: يتوهم بعض الشباب أن العمل للدعوة، يشغلهم عن طلب العلم الشرعي، فنرجو التوجيه حيال هذا الأمر؟

    الجواب:هذه الأمور كلها تتكامل، وينبغي للإنسان أن يقوم بهذه الأمور جنباً إلى جنب، ويحرص على التوازن فيها.

    التفقه فمن يشتغل بالعلوم الطبيعية

    السؤال: لقد ذكرت طريقة التفقه في الدين، وأرى أن الطريقة التي ذكرتها أنها تناسب كثيراً من تفرغ تفرغاً تاماً للعلم الشرعي، سواء بالالتحاق بالكليات الشرعية أو ملازمة العلماء، ولكن ما هي الطريقة المناسبة لمن يتجه في دراسته إلى العلوم الطبيعية؟ مع أنها تأخذ وقتاً طويلاً من وقت الإنسان؟

    الجواب: لا شك أن الحديث هو موجه الآن أصالةً لمن يريد أن يتفقه في الدين، وقضية التفرغ، قضية نسبية قد يكون متفرغاً، وقد يكون شخصاً ذا مواهب وقدرات غير عادية ولو لم يكن متفرغاً، لكن الإنسان المشغول بأمور أخرى وعلوم أخرى مما يحتاج المسلمون، أو من طلب المعاش، أو بنحو ذلك، هذا الإنسان عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه، عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه في مجال عمله، فإن كان طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك حرص على معرفة ما يحتاجه في عمله الذي يزاوله في واقع الحياة.

    الفتوى من غير أهلها

    السؤال: ما رأيك فيمن يفتي بمسألة واضحة جداً، ولكنه ليس من أهل الفتوى؟

    الجواب: الوضوح يختلف، إذا كانت المسألة واضحة يعرف هو دليلها، فينبغي أن ينبه عليها إذا وجد من يخطئ فيها، وعلى سبيل المثال وجوب صلاة الجماعة، كل إنسان في هذا المجتمع يعرف أن صلاة الجماعة واجبة، فلو وُجِدَ إنسان مقصر فيها، فليبين له أن صلاة الجماعة واجبه وتركها معصية، ويذكر له آية أو حديثاً وما أشبه ذلك فهو مطلوب منه، كذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينقل فتوى عن أحد العلماء، ففرق بين الإفتاء وبين نقل الفتوى، فقد ينقل إنسان عن فلان إذا كان ضبط الفتيا التي سمعها من هذا العالم، وهو يعرف الفروق وما يؤثر في الحكم ومالا يؤثر، ومتأكد منها، فلا بأس أن ينقلها لمن احتاج إليها، أما إن شك فيها، أو كان لا يعرف أحياناً الفروق بين المسائل -مثلاً- قد تشبه مسألة أخرى، فعليه حينئذٍ أن يقي نفسه ويتوقف سواء عن القول على رسول الله بغير علم، أو على التّقّول على أهل العلم بلا تثبيت.

    كتاب المازني في أصول الفقه

    السؤال: نرجو توضيح كتاب المازني في أصول الفقه للمبتدئ؟

    الجواب: في أصول الفقه كتب كثيرة جداً، منها كتاب للأشقر اسمه الواضح في أصول الفقه وهو كتاب أسلوبه بسيط ومفيد وهو للمبتدئين، كما ذكر مؤلفه، فهذا الكتاب نافع، هناك كتاب آخر أكثر دقة وأكثر اختصاراً، بل ويناسب أن يحفظه الطالب، هو كتاب الوصول إلى علم الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين، فهذا الكتاب مختصر ومفيد أيضاً، وهناك كتب أخرى -كما ذكرت- فيها جوانب طيبة وبحوث طيبة لكن لا تخلو من أخطاء، هناك كتاب لـعبد الوهاب خلاف اسمه علم أصول الفقه، فيه مباحث مفيدة ونافعة ومبسطة، ولكن فيه عيوب وأخطاء، وأنبه عليها حتى إذا قرأه الطالب انتبه لها: أن المؤلف -غفر الله لنا وله- كان يعقد باستمرار مقارنات بين الشريعة وبين القانون الوضعي المطبق، وقد يقول: إن الشريعة وافقت القانون أو ما أشبه ذلك، وهذا مما لا يسوغ ولا ينبغي، فنحن ينبغي أن نرفع الشريعة ونجلها التي هي شريعة رب العالمين، عن أن نقارنها بحثالات أذهان أولئك القوم.

    كيفية حب القراءة

    السؤال:ما هي الطريقة التي بها يمكن حب القراءة؟

    لأن البعض لديه رغبة أكيدة في العلم، إلا أنه يجد في نفسه مللاً بمزاولة القراءة، مع العلم أن لديه كثيراً من الكتب؟

    الجواب: كثرة الكتب لا تخرج عالماً، ولو كان العلم بالكتب لكان الوراقون وأصحاب المكتبات أعلم الناس، وحب الاطلاع والقراءة غريزة يمكن أن ينميها الإنسان، وعلى الإنسان أن يستعين بوسائل تعينه على القراءة، مثل أن يقرأ مع غيره، وأن يتابع مع شيخ، سواءً في حلقة الدرس أو من خلال أشرطة، وأن يحرص على البداءة بالكتب الواضحة، وهذه وسائل قد تعينه وغيرها أيضاً.

    الخلافات بين الفقهاء

    السؤال: نلاحظ خلافات بين العلماء بالمناهج الفقهية، فكيف يوفق المسلم بين هذه الأشياء؟

    الجواب: الاختلاف من شأن البشر، ولو شاء الله عز وجل لأنـزل شريعته وجعل ضمن البيان الذي كلف به الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الشريعة؛ أن يقوم بتفصيل كل ما يمكن أن يختلف الناس عليه على مر العصور، لكن حكمته سبحانه اقتضت غير ذلك، فأنـزل الوحي قرآناً وسنة، وجعل أهل العلم يستنبطون ويقتبسون من هذه النصوص، بما جدَّ ويَجِدّ من أحداث ووقائع، وبذلك يقع الاختلاف، في ثبوت النصوص أو عدم ثبوتها، ثم يقع الاختلاف في دلالتها على المقصود، وفي نسخها أو عدم نسخها، إلى غير ذلك، ولهذا أقول: من واجبنا أيها الشباب ألا نضيق ذرعاً باختلاف أهل العلم مادام في إطار الشرع، ولم يخرج عن أصول أهل السنة والجماعة إلى تفريط أو إفراط، يجب ألا نضيق ذرعاً بذلك، وإن اختلف العالم مع العالم فإن هذا اختلاف طبيعي، ومن الطريف أن بعض الشباب في إحدى الكليات كانوا يقولون: إن مدرس الفقه يأتينا في المحاضرات الأولى -مثلاً- فيشرح لنا أبواب المياه على ضوء المذهب، وقد يكون المدرس مالكياً أو حنفياً أو شافعياً فيرجح مذهبه فنخرج برأي، فيأتي في المحاضرة الثانية مدرس الحديث ويعرض لنا المسألة ويخرج لنا برأي آخر، ألا يوجد حل لهذا الاضطراب والتناقض الذي نعيشه؟

    فقلت لبعض الإخوة: دعوا مدرس الفقه ومدرس الحديث جانباً، وافترضوا جدلاً أن الذي يدرسكم الفقه -مثلاً- هو أبو حنيفة نفسه، وليس تابعاً من أتباعه، وأن الذي يدرسكم الحديث هو مالك أو أحمد رحمهما الله، وأن الذي يدرسكم الأصول هو الشافعي -مثلاً- جدلاً، ألا يقع الاختلاف؟

    سيقع، بل هو واقع.

    إذاً: لا ينبغي أن نضيق ذرعاً بوجود الاختلاف، بل الشيء الذي نحرص عليه هو أن نربي أنفسنا ونربي المجتمع كله على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء، وهذا ينبغي أن يركز عليه سواء من قبل العلماء أو من قبل طلاب العلم أو غيرهم؛ أن نربي الناس على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء؛ أن لا نضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، ولا نعارض هذه الأقوال بعضها ببعض، نعلِّم الناس أنك أنت أحد رجلين إما أن تكون طالب علم ولديك إمكانية الترجيح بين الأقوال فالمجال أمامك مفتوح، أو أن تكون عامياً فتختار من هؤلاء العلماء الأوثق لديك علماً وديناً وورعاً وتقلده وانتهى الأمر، ولا نسمح أن يكون الخلاف ميداناً للطعن في أهل العلم من قبل بعض أهل الفساق والسفهاء، بل ربما اتخذوه ذريعة والعياذ بالله إلى الطعن في الدين في بعض الأحيان، هذا الخلاف لابد منه ولا يلام العلماء في ذلك.

    من أسباب الخشوع في الصلاة

    السؤال: ما هي الأمور التي تؤدي إلى الشواغل في الصلاة؟

    الجواب:هذا السؤال أجبني عن الموضوع -على كل حال- لكن كل لأمور منها أمور داخلية وهو أن يحرص الإنسان على تفريغ قلبه من الشواغل والإقبال على الصلاة بقلبه، وهناك أمور خارجية، وهي أن يحرص الإنسان على إبعاد ما يشغله في الصلاة من صوت، أو منظر، أو شغل، أو كونه حاقناً، أو حاقباً، أو ما أشبه ذلك، حتى يتفرغ للصلاة ويقبل عليها، والله أعلم سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755830899