إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [21]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب على الداعية إلى الله أن يبدأ بالأهم فالأهم، وأهم شيء هو التوحيد، فهو أصل الأصول، فعلى من يدعو إلى الله أن يصحح توحيده وعقيدته أولاً، ثم يدعو الناس إلى التوحيد ثانياً، فالتوحيد هو لبُّ دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

    1.   

    وجوب الدعوة إلى التوحيد

    قال المصنف رحمه الله: [ باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ].

    قوله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله] يعني الدعاء إلى توحيد الله جل وعلا، والمصنف لما ذكر وجوب هذا الأمر على المسلمين عموماً، وأنه يجب على كل مكلف أن يعبد ربه وحده، وأن يجتنب الشرك -وهذا واجب عيني يتعين على كل فرد من المسلمين ذكورهم وإناثهم- ذكر فضل من حقق هذا، وأن من حقق التوحيد يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم ذكر الخوف من كون الإنسان إذا فعل ذلك وعلم أنه ينبغي له أن يخاف أن يناله الشيطان في شيء ينقص توحيده أو يدخل عليه ما يضعف إيمانه.

    ثم بعد هذا يقول: إذا تحلى الإنسان بهذا الأمور فهو الكامل في أمور التوحيد؛ لأنه عرف وعمل وحقق وخاف، والإنسان إذا خاف من شيء اجتنب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك المخوف، وإذا وصل إلى هذا الحد فهو قد تمسك بالتوحيد.

    وبقي أنه لا يجوز أن يقصُر هذا على نفسه، بل يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو إليه؛ لأن السعادة التي ذكرها الله جل وعلا للذين ذكرهم في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] ذكر فيها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى الخير، فهم يعرفون المعروف ويدعون إليه، ويعرفون المنكر ويدعون إلى تركه وينهون عنه.

    ثم يصبرون على ما ينالهم في طريق الدعوة؛ لأن الذي يدعو لابد أن يؤذى سواء بالكلام أو بالفعل، بل قد يضرب وقد يسجن، وقد يهدد بالقتل وقد يقتل، فعليه أن يصبر؛ لأن هذا هو الطريق إلى الله، وهو طريق الرسل ، وليس معنى هذا: أن هذا يجب على طائفة معينة، بل يجب على كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، ولكن بحسب حالهم، كما قال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فلا يقال للإنسان الذي لا يستطيع أن يدعو: يجب عليك أن تدعو. ولكن الذي عرف وعمل يجب عليه أن يدعو على قدر المستطاع، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (بلغوا عني ولو آية)، فلا يكون الإنسان قاصراً الخير على نفسه، بل يجب أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب إلى أن يُوصِل الخير إلى عباد الله، ولا يحصره على قوم معينين.

    فمن هنا أتى المصنف بهذا الباب، فقال: [باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]، وقصده بالدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله الدعاء إلى الإسلام، والدعاء إلى التوحيد؛ لأن الإسلام مبناه على هذه الكلمة -شهادة أن لا إله إلا الله-، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كلهم كانوا يدعون إلى هذه الكلمة، بل أول ما يبدءون به هو هذه الكلمة، وهذا هو الذي يجب على الداعي، وهو أن يدعو الإنسان إلى تصحيح عقيدته أولاً، وإلى تصحيح العلم الذي ينطوي عليه قلبه، بأن يعتقد الحق ويعلمه، ثم يبعث الجوارح للعمل بهذا العلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، كما قال الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً.

    فيجب على الداعي أن يبدأ بالأهم فالأهم، والأهم هو: الأصل الذي يبنى عليه غيره، والذي يبنى عليه غيره هو التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله، وقد اتفق العلماء على أنه لا يعتبر الإنسان مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد أن ينطق بها، أما لو علم بقلبه أن الإسلام هو الدين الصحيح وأحبه في قلبه ورأى أنه هو الحق ولكنه لم ينطق بالشهادتين فهو كافر، وإذا مات على ذلك فهو في النار، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فلابد من القول.

    ويبني على هذه الشهادة سائر الأعمال، فإذا كان الإنسان -مثلاً- مخلاً بمعنى هذه الشهادة، كأن يتوسل بالصالحين، أو يدعو أصحاب القبور ويرى أنهم يشفعون له، وأنهم يسمعون دعاءه ويستجيبون له فلا يصح أن تذهب إليه وتقول: صل الصلوات. أو: قم الليل وتصدق وصم. لأن صلاته وصومه وصدقته باطلة وهو يدعو غير الله، فلابد أن يخلص أولاً عقيدته، وأن تكون خالصة لله، ويعلم أنه لا يجوز أن يُصرف من الدعاء شيء لغير الله جل وعلا، بل يكون الدعاء خالصاً لله جل وعلا، فالدعاء الغيبي النفعي أو الخوف الغيبي لا يكون لغير لله جل وعلا، فإذا لم يكن مخلصاً فهو ما عرف التوحيد كما ينبغي، فيجب أن يدعى إليه أولاً، كما سيأتي في الأحاديث التي تنص على هذا .

    شروط الدعوة إلى الله

    ثم الدعوة إلى الله جل وعلا لها شروط ثلاثة لابد منها:

    الشرط الأول: أن تكون الدعوة مراداً بها وجه الله جل وعلا، ولا يُراد بها الظهور أمام الناس ليقال: هذا داعية ناجح، وهذا متكلم فصيح وبليغ، وهذا يعرف من العلم ما لا يعرفه غيره، فإنه إذا أراد شيئاً من ذلك فعمله لنفسه، وهو يدعو الناس إلى نفسه في الواقع، وإن أظهر أنه يدعو إلى الله فهو كاذب في دعوته، بل هو يدعو إلى عبادة نفسه وأن الناس يعظمونه، وهو بهذا يدعو إلى شهواته ومراده، فلابد أن يكون الداعي مريداً بدعوته وجه الله لا يريد جزاءً غير ذلك من عرض الدنيا ولا من ثناء الناس ومحبتهم له وقربهم إليه، فلا يجوز أن يريد شيئاً من ذلك، فإن أراد شيئاً من ذلك فهو لا يدعو إلى الله وإنما إلى غير الله.

    الشرط الثاني: أن يكون الداعي متبعاً في ذلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يدعو على حسب أوضاع يضعها هو أو جماعته ، أي: لا يضع قوانين أو أنظمة أو قواعد يقعدها بعقله ونظره ويسميها (منهج الدعوة)، فإن هذا باطل، بل الدعوة يجب أن تكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يُترسَّم طريقه، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنوات يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأول ما دعا يبدأ الناس إلى ذلك، ودعوته صلى الله عليه وسلم محفوظة، فكل ما قاله وما قيل له أو جله، ما ذهب عن الأمة منه شيء، بل حُفِظ والحمد لله، فعلى الداعية أن يعرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يترسم طريقه .

    الشرط الثالث: أن يكون الداعي على بصيرة بدعوته، بأن يكون على علم، ويدعو على علم، ويعرف ماذا يدعو إليه، وماذا يجب أن يترك ويجتنب، وإن لم يكن كذلك صارت دعوته تفسد أكثر مما تصلح .

    الواجبات على الداعية في دعوته

    هناك واجبات على الداعية منها:

    أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يدعو الناس بالعنف والكلام البذيء والكلام المنفر، أو التحكم بالناس، أو استنقاصهم وما أشبه ذلك، بل يجب أن يكون عنده بصيرة في ذلك، وعنده رفق بالناس، والإنسان -مثلاً- قد يفعل أفعالاً قد أقام عليها أكثر عمره، فإذا جئت إليه من أول وهلة قلت له: هذا حرام وهذا لا يجوز أن تقيم عليه. أو: أنت لم تفعل شيئاً وما أشبه ذلك فقد يستصعب هذا القول، بل يجب أن يأخذه الداعية بالرفق شيئاً فشيئاً، حتى يحبب إليه الطاعة وطريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن يعرفه الأصل الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم يعلمه الواجبات .

    أن يكون حليماً، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فإذا وقع له كلام يخدش شعوره أو يسيء إليه، ولا يعجل، يحلم ويصبر، ولو كانت دعوته لله فلا يستعجل على الناس، ولا يغضب عليهم؛ لأن الأذى الذي يسمعه من الناس أو يناله منهم يحتسبه عند الله، ويرجو أن الله يثيبه عليه.

    ويكون كذلك رحيماً، فمن الواجبات أن يكون رحيماً، فهو عندما يدعو الناس يدعوهم شفقة عليهم من أن يدخلوا النار، ثم هذا لا يدعوه إلى أنه يود العصاة ويحبهم، بل يبغضهم في الله جل وعلا، ولكن في دعوته إياهم يرحمهم؛ لأنه يعرف أن الناس لا يستطيعون مقاومة النار ومقاومة عذاب الله جلا وعلا، فهو يرحمهم خوفاً عليهم من أن يقعوا في عذاب الله، ويبين لهم الحق من خلال هذه الأمور.

    وأصل الدعوة في هذا ما سيأتينا في الآية التي سيذكرها المؤلف، وهي قول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    هذا هو الأصل الذي ينبغي للداعية أن يتبناه دائماً، وهو ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول: قل هذه سبيلي ، فهذه الإشارة هي إلى دعوته صلى الله عليه وسلم التي يدعوا الناس إليها، أي: هذه الدعوة التي أدعو الناس إليها هي سبيلي التي أرسلت من أجلها، وهذا الطريق هو الذي أحيا عليه، وأموت عليه، فأعمل له ما حييت، ولا أنافس أهل الدنيا في دنياهم، أو أطلب ملك الدنيا أو غيرها، وإنما أحيا لدعوة لله جل وعلا.

    أقسام الناس المدعوين

    ويلزم أن يكون الداعية حاصلاً على القوة؛ حتى يمكن أن يدعو بطريقة ناجحة، وذلك أن الناس الذين يدعون يكونون ثلاثة أقسام غالباً:

    قسم يكون جاهلاً بالحق ولو تبين له لاتبعه، فهذا دعوته فقط لبيان الحق، فيبين له ويزاح عنه ما يعترض سبيل الحق إذا كان عنده شبهه فقط .

    وقسم آخر قد تلبَّس بأمور يصعب عليه تركها من دنيا أو رئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يُدعى بالحكمة والموعظة، بالترهيب والترغيب، فيؤتى له بالترهيب والترغيب، أي: بالنصوص التي تتوعد المعرض والذي يفعل المعاصي وهذا القسم يكفيه ذلك .

    قسم ثالث لا يكون عنده عناد، ولكن عنده تكبر وعنده إباء عن قبول الحق، فمثل هذا يحتاج إلى قوة، فأن أفادت معه المجادلة وبيان الحكمة وبيان العظات والزواجر والوعيد فهذا هو المطلوب، وإن لم يفد معه ذلك ينتقل معه إلى السلاح فيقاتل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في بعض الآيات في القرآن الحديد مقروناً بالكتاب؛ ليبين أن الذي يعرض عن الكتاب ولا يقبله يصار معه إلى الحديد وإلى القوة قوة السلاح، فالذي يقف بوجه الدعوة ويصد عنها ويتكبر ويتجبر ، ليس أمام أهل الدعوة الذين يدعون إلى الله معه إلا استعمال القوة، فلهذا الداعي الناجح يجب أن يكون متصفاً بهذه الأمور، وإلا فتكون الدعوة ناقصة قاصرة، أن يكون عنده العلم، وعنده الحلم، وعنده المقدرة على إبطال الشبهة وإيصال العلم إلى من عنده شبهة، وإزاحة ما أمامه من غشاوة، ثم كذلك يكون عنده قوة إذا أرادوا أن يبطلوا دعوته أو يقاتلوه أو يصدوه عن دعوته، فيقاومهم كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

    بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم

    الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ دعوته كان مثل ما قال صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وذلك أن الإسلام بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وواحد كيف يعمل أمام أمة كافرة كلها لا تعرف شيئاً من الحق، بل هي على الباطل وعلى الكفر والشرك والظلم؟! وإن كان عندهم عقول في الواقع، والإنسان الذي يتأمل بعقله يعلم أنهم ليسوا على شيء.

    كما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة قال: (كنت في الجاهلية أرى أن الناس ليسوا على شيء وهم يعبدون الأصنام والشجر والحجر)، فهو رجل في البادية ما عنده علم ولا تعلم، ومع ذلك يقول: ( كنت أرى أن الناس ليسوا على شيء)؛ لأن عقله وفطرته دلته على ذلك، قال: (فكنت أتخبر الأخبار وأسأل الناس الذين يأتون من هنا وهنا، وآتي موارد الماء وأسألهم: هل من خبر؟ هل من علم؟ وكل من سألت لم يخبرني بشيء، وفي يوم من الأيام جاء قوم من قبل مكة فقلت لهم: هل من خبر؟ قالوا: نعم. رجل يخبر خبر السماء. قال: فقعدت على راحلتي) يعني أنه ما استراح لما هم عليه، بل هو قلق مما هم فيه، فالله فطر الناس على كونهم يعبدونه.

    قال: (فقعد ت على راحلتي- أي: ركب راحلته -وذهبت إلى مكة، فلما جئت إلى مكة إلى هذا الذي يخبر خبر السماء: وسألت عنه فإذا الناس عليه جرآء) أي: كل واحد عليه جريء يعني أنهم يؤذونه ويشتمونه ويتكلمون فيه.

    يقول: (فخفت وتلطفت -أي: صار لا يسأل، وإنما يتحسس يبحث عنه وهو مختف صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلت عليه فوجدته مختفياً في بيت، فقلت: ما أنت؟ قال: (أنا نبي. قلت: وما نبي -أي: أنه لا يعرف كلمة نبي-؟ فقال: أرسلني الله. فقلت: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بأن يُعبد الله وحده، وبمحق الأصنام والأزلام. فقلت: ومن معك على هذا؟ فقال: معي حرٌ وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ، فقلت له: إني متبعك..) فرجع إلى قومه حتى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة فجاء إليه.

    قال: فقلت له: أتعرفني؟ فقال: (نعم، أنت الذي أتيتني بمكة)، وذكر بقية الحديث.

    والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه وحده على الإسلام، فهل يسوغ أنه يؤمر بالقتال أو يؤمر بالقوة؟! لو قاومهم بالقوة لقضوا عليه، ولقتلوه عند أول وهلة، مع أنه واثق بوعد الله جل وعلا له تمام الثقة، ولهذا توعدهم وهو وحده، وقال: والله! إن لم تؤمنوا بي فسوف ينصرني الله جل وعلا عليكم، وأقتل رجالكم وآخذ أموالكم. وهل يمكن أن يقول هذا عاقل وهو غير واثق؟! بل هو وحده، وليس معه جنود ولا دولة تحميه، ولكن كان معه الله جل وعلا، وهو الذي يحميه، ولكن المقصود: أن الإنسان إذا جاء وحده بهذا الأمر وصدع به بدون خوف فإنه يدل على أنه نبي من عند الله، كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53] يقولون: لماذا نترك عبادة الآلهة والأصنام وغيرها والأشجار وغيرها؟ ألأنك قلت لنا: هذا شرك، اعبدوا الله؟ لا نتركها عن قولك.

    ثم قالوا في مجادلتهم إياه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، أي: هذا قولنا: إن آلهتنا أصابتك بجنون فأصبحت تخالفنا كلنا وتأتي بشيء غريب عند ذلك قال لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]، يعني: اجتمعوا أنتم كلكم مع آلهتكم فافعلوا ما تستطيعون فعله نحوي من قتل أو سجن أو تعذيب، لن تصلوا إلي، لهذا فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:55]، تحداهم جميعاً مع أنهم عاد الذين أوتوا من القوة ومن الجبروت ومن عظم الأجسام ما ذكره الله عنهم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً.

    وكذلك الله جل وعلا أمر رسوله أن يقول لمشركي قريش هذا. ويتحداهم بذلك، وكل رسول يتحدى قومه بأن يكيدوه ولا ينظرونه، أما كونهم حاولوا قتله فنعم، ولكن هذا هي سنة الله، ولما جاءهم بالدعوة تبين لهم الحق كلهم إلا إنسان معرض، والمعرض لا عبرة به، أما الذي يتأمل قوله ويتأمل ما جاء به، فلابد أن يتبين له الحق.

    ولهذا يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه -و المسور بن مخرمة خاله أبو جهل -: قلت لخالي: يا خال! أكنتم تتهمون محمداً قبل أن يقول مقالته بالكذب؟ فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنا نسميه وهو شاب الأمين، ووالله ما جربنا عليه كذبة واحدة، ولم يكن عندما خطه الشيب ليكذب على الله جل وعلا يقول المسور : فقلت: يا خال! ولمَ لا تتبعونه؟ فقال أبو جهل : إننا وبنو هاشم تسابقنا، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأجاروا فأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي. متى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. يعني: ما منعه إلا الحسد والكبر، وكل من لم يسلم كان على هذه الطريقة.

    ذكر ابن إسحاق رحمه الله في السيرة والبيهقي في الدلائل وغيرهما من العلماء عن عدد من كبراء قريش مثل: أبي جهل ، والأخنس بن شريق ، وأبي سفيان ، وغيرهم ممن سماهم ابن إسحاق من كبراء قريش، قال: كانوا إذا جنّهم الليل ذهبوا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يكون في مكان لا يدري عنه الثاني في ظلمة الليل، فيبقون يستمعون له إلى الصباح، وفي أول مرة استمعوا له حتى أصبحوا فرجعوا فالتقوا في الطريق فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: لو رآكم سفهاؤكم لتسارعوا إلى اتباعه فلا تعودوا إلى مثلها. وفي الليلة الثانية عادوا، وكل واحد يقول: لعل الآخر لا يعود. فالتقوا ثم تلاوموا، ثم عادوا في الليلة الثالثة، ثم تلاوموا كذلك، ثم عادوا في الليلة الرابعة، وبعد ذلك تماسكوا. وقالوا: لا نبرح من هنا حتى نتعاهد على ألا نعود. فتعاهدوا وتعاقدوا على أنهم لا يأتون مرة أخرى يستمعون إليه خوفاً من أن يراهم الناس الذين ليسوا رؤساء فيقتدون بهؤلاء ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مشى بعضهم إلى بعض فقال كل واحد للآخر: ما ترى؟ فيقول: والله إني لأسمع شيئاً أعرفه، ووالله إنه لحق فيعترفون أنه حق، وفي النهاية قالوا: لن نتبعه فلم يتبعوه لأنه ليس من قومهم، وقد كانوا يتنافسون الشرف فأبوا اتباعه.

    والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ما يقرب من اثنتي عشرة سنة وهو يدعو إلى توحيد الله جل وعلا، وهو يتحمل الأذى ويصبر على ما يناله، ولم يؤمر بالقتال، بل يقول الله جل وعلا له: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:5] يأمره بالصبر، ويأمره بالتحمل والدفع بالتي هي أحسن، حتى هاجر إلى المدينة وصار له قوة وأنصار ودولة، وصار له رجال يدافعون عن الحق معهم قوة عند ذلك أمره الله بالقتال.

    وهكذا ينبغي للداعية أن يكون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يذهب إلى قومٍ يتحداهم ويهددهم ويتوعدهم وهو لا يستطيع أن يملك شيئاً، بل يجب أن يترسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في المنهج، وكذلك فيما يدعو إليه في القول والعمل، فإن فعل ذلك فهو في الواقع ناجح.

    وليس مهمة الداعية أن الناس يستجيبون له، فالاستجابة إلى الله، وإنما مهمته أن يبين الحق، فإن قُبل حمد الله على ذلك، وإن لم يُقبل الحق منه صبر واحتسب وعلم أن العباد عباد الله هم ملك الله يتصرف فيهم، فهو يتصرف في الجميع جل وعلا كيف يشاء .

    1.   

    السبيل في الدعوة إلى الله تعالى

    قال الشارح رحمه الله: [ وقوله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] يأمره جل وعلا بأن يبين طريقته التي أرسله الله بها، وأن يبلغها الناس، وأن يبين: هذه سبيل الدعوة التي أدعو بها إلى عبادة الله وحده، إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله].

    قل: هذه سبيلي التي أحيا من أجلها، وأموت عليها، وهي أنه يدعو إلى الله على بصيرة، والبصيرة هي العلم اليقيني الذي تكون نسبة العلم فيها للقلب كنسبة المرئي للبصر، هذا معناها، وهذه البصيرة التي يقول العلماء: اختص بها الصحابة فالصحابة كان علمهم علم بصيرة على بصيرة، حتى صارت المعلومات في قلوبهم كالمشاهدات التي نشاهدها بأبصارنا، فقوله: ادعو إلى الله على بصيرة يعني: على علمٍ يقيني بأن الله جل وعلا سيؤيدني وينصرني وأرجع إليه ويثيبني على ذلك.

    وقوله: أنا ومن اتبعني يعني: أتباعي كذلك يدعون إلى الله على بصيرة. فكل من كان اتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر تكون دعوته إلى الله بهذه الصفة أعظم.

    وقوله:وسبحان الله يعني: تنزيهاً لله وإبعاداً له أن يشرك به وهذا يدل على أن الداعية يجب أن يبدأ بما هو تنزيه لله جل وعلا، وهو الدعوة إلى ترك الشرك، ولا يكون ذلك إلا بتوحيد الله جل وعلا.

    وقوله: أدعو إلى الله يؤخذ من هذه الكلمة -أدعو إلى الله- أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون لدنيا، ولا لملك، ولا لأرض، ولا لمنفعة دنيوية، وإنما تكون لله جل وعلا، أما إن استعملت الدعوة لشيء من هذه الأمور وهذه الأغراض فإنها تكون فاسدة في الواقع، ولا تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا سيذكر لنا الشيخ رحمه الله من الفوائد على هذه الجملة قوله: [فيه تنبيه على الإخلاص في الدعوة] لأن كثيراً من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه، فيكون عنده غرض معين.

    ثم إن صاحب الدعوة إلى الحق لابد أن يعتريه ما يعتريه من الأذى، وربما النفي، وربما السجن، وربما القتل، كما أخبر الله جل وعلا عن الرسل أن أممهم قالت لهم: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم:13] يعني: ترجعون إلى الكفر والشرك وإلا نفيناكم وأخرجناكم.

    وكذلك ذكر الله جل وعلا عن خليله إبراهيم أن قومه لما لم يكن لهم حجة عليهم المضائق فاضطرهم إلى أن يقفوا بدون حجة وبدون أن يعارضوا دعوته بشيء لجأوا إلى القوة كعادة المحاربين دائماً، فجمعوا له حطباً كثيراً وأججوا النار وألقوه فيها، ليس ذلك إلا لأنه قام بالحق ودعاهم إليه وأبطل حججهم، وبين أنهم ليسوا على شيء، فأرادوا أن ينتقموا منه بقوتهم.

    وكذلك فرعون لعنه الله لما جاءه موسى أصبح يموه على الناس، ثم حاول أن يقتل موسى ويقتل أتباعه ويترك النساء اللآتي لا يقاتلن، وهذا أكثر الله جل وعلا من ذكره في قصص الأنبياء ليكون أسوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيلاقي الأمور والشدائد في ذلك.

    ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يكون له فيه تسلية، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]، ويقول جل وعلا:مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]

    فهكذا ينبغي للداعي الذي يدعو إلى الله، أن يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرس ما ذكره الله جل وعلا عن الأنبياء والأصفياء من القصص مع أممهم، فيتخذ ذلك نبراساً له وطريقاً، ويعلم أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر دائماً، وأن الداعي لا يمكن أن يواجه بكل قبول وبكل تسليم، بل لابد أن يكون له من يعارضه ومن يرد عليه ومن يؤذيه، ولاسيما إذا كانت النفوس قد أُشربت حب الفساد والشهوات، فإن الداعي إلى الله يريد أن ينقلهم من حالة إلى أخرى، وهذا صعب على كثيرٍ من الناس.

    والإنسان لا يريد أن يكون مهزوماً دائماً في الحجة وفي النهج وفي الظاهر، وإن كان على باطل، بل يريد أن يبرر نفسه ويبرر ما هو عليه، ولهذا قال الذين خالفوا الرسل لرسولهم -كما حكى الله عنهم-: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] ويقول بعضهم وهو ينتقد الرسول الذي أرسل إليه -كما حكى الله عنه-: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27]

    وكم نسمع الآن من كثيرٍ من الناس من يقول: هؤلاء المتخلفون، وهؤلاء المتزمتون. يعني أن الأمور تشابهت، وكأن بعضهم يوصي بعضاً، كما قال الله جل وعلا: أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53] يعني: بهذه التي يقولونها للأنبياء، ويكذبون الرسل بها: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53] أي: بل كل قوم له وارد.

    والمقصود أن الله جل وعلا ذكر هذه الآية لتكون متمسكاً للداعي الذي يدعو إلى الله، ليكون صابراً محتسباً ينتظر أجره من الله، ولا ينظر إلى وجوه الناس، ولا إلى قولهم، وإنما يقوم لله جل وعلا، مقتفياً أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ذكر ابن القيم أن الآية فيها تقديران:

    أحدهما: أن تكون الواو في قوله: (أنا ومن اتبعني) عاطفة على الضمير البارز الظاهر.

    الثاني: أن تكون عاطفة على الضمير المستتر المرفوع في قوله (أدعوا).

    فإذا كانت عاطفة على الضمير البارز فمعنى ذلك أن أتباعه أهل الدعوة هم أهل البصائر، فقوله تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة أنا) يعني: أنا على بصيرة في دعوتي، وكذلك أتباعي هم على بصيرة في دعوتهم .

    وإذا كانت الواو عاطفة على الضمير المستتر المرفوع فالمعنى أن أتباعه هم أهل الدعوة، فأهل الدعوة التي تكون لله جل وعلا خالصة وصادقة هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبق أن الداعي إلى الله جل وعلا يحتاج إلى أمور، كما أن الدعوة إلى الله لها شروط منها:

    الأول: أن تكون الدعوة خالصة لله. يدعو إلى الله جل وعلا ولا ينتظر شيئاً آخر غير إثابة الله له .

    الثاني: أن تكون الدعوة على منهج رسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فلا تكون بالبدع والآراء والمناهج التي يستحدثها الناس .

    الثالث: أن يكون الداعي ذو علم وبصيرة، فلا يكون جاهلاً، فإن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل لابد أن يكون عالماً بما يدعو إليه، عارفاً بالأمور التي يجب أن ينهى الناس عنها، فيعرف أنها لا تجوز وأنها محرمة بالأدلة الشرعية، لا بالآراء والأنظار والقياسات .

    ثم هو كذلك يحتاج إلى أن يكون حليماً على من يجهل عليه، فإذا جهل عليه أحد يحلم عنه، وإذا آذاه أحد يعفو ويصفح عنه، وإذا أساء إليه أحد يحسن إليه، فإنه إذا فعل هذا قبلت دعوته غالباً، وكذلك هو بحاجة إلى أن يكون رحيماً؛ الناس لأن دعوته تكون لإنقاذ الناس من عذاب الله، يرحمهم أن يقعوا في عذاب الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يمثل به لنفسه وللأمة: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فصارت الفراش والجنادب تتهافت فيها، وهو يحول بينها وبين أن تقع في النار، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون النار) يعني: بفعل المعاصي. فلابد أن يكون الداعي رحيماً الراعي بهم، يرحمهم أن يقعوا في النار، ويبين لهم أن الله غني عنهم وعن طاعتهم، وإنما يطيعون لأنفسهم؛ لأن الناس كلهم -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: (غادٍ ورائح، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فالخلق واحد منهم يموت أول النهار والآخر يموت آخر النهار، فلابد من الموت، فإذا مات، فإما ِأن يكون قد عمل بطاعة الله وأمسك نفسه عن معاصيه فيكون بذلك قد اشترى نفسه بطاعة الله وتقواه وسيلقاه الله جل وعلا بما يسره، أو يكون قد أتبع نفسه شهواتها وأتبع قلبه هواه، فيكون عندما يلاقي الله كالعبد الآبق المجرم، فيؤخذ ويغل ويوضع في أعظم عذاب، والناس كلهم ما أحقرهم إذا عصوا الله فالله جل وعلا لا ينتفع بطاعة الطائعين كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين، ولكن الطاعة لأنفسهم والمعصية عليها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

    المهم أن ينظر الداعي إلى هذا المعنى، ثم يجب أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يكون عنده عنف وشدة، فإن الله جل وعلا يقول لنبيه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] يعني: لتفرقوا وتركوك، فإذا كان الله جل وعلا يقول لنبيه هذا فكيف بآحاد الناس؟! فيجب أن يكون الإنسان رفيقاً بالناس ويحبب إليهم الخير ويكره إليهم الشر، ويأتيهم بالطرق التي يألفونها في اتباع الخير، أما إذا كان شديداً وقاسياً فالغالب أنهم ينصرفون عنه ويعرضون عنه ولا يستفيدون من دعوته، ويكون قد جنى على الدعوة ولم يجن لها.

    وكثيراً من الدعاة يفسد أكثر مما يصلح، فالواجب أن يكون الإنسان متحلياً بما دلت عليه هذه الآية، يدعو إلى الله باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وبدراسة سيرته ونهجه، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان يأتي إلى الرجل المشرك ويقول له: يا أبا فلان! يدعوه بكنيته، ثم يقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فيعرض عليه عرضاً هكذا: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى كلّمه، وإن قال: لا أعرض عنه وتركه، فهو لم يبعث مسيطراً على الناس، وإنما عليه البلاغ فقط، وعلى الله الهداية، وهكذا ينبغي لأتباعه الدعاة، ثم إذا خالفه من خالفه فلا يكن عنده التضجر وضيق النفس، وربما يدعو على الناس أو يلعنهم، بل يترك الأمر لله جل وعلا .

    فعليه أن يدعو إلى الحق ويبينه فإن اسُتجيب له حمد الله، وإن لم يُستجب له فالأمر إلى الله جل وعلا، وليس عليه هداية الناس، والله جل وعلا يقول لنبيه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، فليعلم الإنسان هذه الأمور، ويتبع فيها طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد ما دلت عليه هذه الآية (قل هذه سبيلي )، وسبيله التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه هي الدعوة إلى التوحيد وإلى كل خير، وكذلك الإعراض عن الشرك ومنابذته والابتعاد عنه ومعاداته هو وأهله، وألا يكون معهم، ولهذا قال: وما أنا من المشركين ، ومعنى قوله: وما أنا من المشركين يعني: لا في الدار، ولا في الرأي، ولا في الجلوس ولا في المأكل، ولا في شيء مما يجتمعون عليه.

    فقال: قل هذه سبيلي يعني: طريقتي التي أحيا عليها وأموت عليها، وهي كوني أدعو إلى الله، لا إلى دنيا ولا إلى ملك، وإنما إلى الله.

    والدعوة إلى الله هي تحبيب عباد الله إلى عبادته، وتحذيرهم عن مخالفة عبادته، هذا هو جماعها.

    وقوله: أدعو إلى الله أي: على وفق ما أوحاه الله إليه. على بصيرة على علم من الله أوحاه إليه. وهذا الذي أوحاه إليه هو الذي يجب أن يدعو به أتباعه، ولهذا قال: أنا على ذلك ومن اتبعني ، فمن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن يكون على نهجه في الدعوة إلى الله جل وعلا.

    وقوله: وسبحان الله مناسبة ذلك أن كثيراً من الناس يقع في تنقص الله جل وعلا؛ لأن الذي يعبد غير الله يتنقص الله، وتنقص الله مسبة له، فلهذا قال: سبحان الله أي: أنا أدعو إلى الله، فإذا لم تستجب دعوتي فأنا أنزه ربي وأقول: سبحان الله أن يكون له شريك في العبادة والخلق، كما أنه لا شريك له في الملك والتصرف ولهذا قال: وما أنا من المشركين يعني: أنا بعيدٌ عن الشرك لا في العمل ولا في الموافقة ولا في الدار، فلن أكون معهم، بل أبتعد عن الشرك وأهله، وهذا الذي ينبغي للداعية أن يكون عليه.

    1.   

    أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله جل وعلا

    قال الشارح رحمه الله: [ قال المصنف رحمه الله تعالى : فيه مسائل، ومنها: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ].

    هذا مأخوذ من قوله: أي: أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله.

    ويقول: إن كثيراً من الدعاة وإن أظهر أنه يدعو إلى الحق فإنه في الواقع يدعو إلى نفسه، وهذا أمر قد تنطوي عليه النية فلا يُدرى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب ولكن الأمور غالباً تظهر، فالأمور التي تكون باعثة على العمل قد تظهر من فلتات اللسان ومن تصرف الإنسان، ولهذا يظهر الرياء ومداراة الناس وغيرها.

    فكثير من الناس إذا سمع أو رأى من هذه طريقته قال: هذا مراءٍ، أو :هذا يدعو إلى غير الله، وهذا مما ظهر له، وإن كان الإنسان يتخيل أن هذا يخفى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب الإنسان على نيته، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يريد الظهور على الناس بأن يكون رأساً فيهم يشار إليه، أو يقال: إنه عالم. أو: إنه يحسن الكلام أو يحسن الدعوة وما أشبه ذلك من الثناء إن كان يريد ذلك فبئس ما أراد، وهو يدعو إلى نفسه، وهي دعوة فاشلة، والغالب أنه لا ينتفع بدعوته، وقد ينتفع به غيره، كما جاء في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يؤتى به فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ألم تكن تأمرنا المعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)، فهذا هو أشقى الناس بدعوته.

    لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: (أشقى الخلق رجلان:

    أحدهما: رجلٌ جمع مالاً فشقي به وسعد به غيره، فيرى الذي سعد بماله يوم القيامة فيتحسر ويقول: كيف سعد بمالي وأنا شقيت به؟!

    والآخر: رجل تعلم علماً فانتفع به غيره وشقي هو به).

    فلا يجوز للإنسان أن يكون هو أشقى الخلق بدعوته أو بعلمه.

    والإنسان قد لا يملك الهداية، فعليه أن يعود إلى الله جل وعلا، ويتعلق برجائه ودعائه دائماً، ويبتهل وينطرح بين يديه أن لا يكله إلى نفسه، فإن نفس الإنسان ضعيفة، كما قال جل وعلا في آخر سورة الحشر: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:15-17]، فالشيطان الذي جاء بصورة ناصح للإنسان، لما كفر وتورط بكفره تبرأ منه، ويقول الله جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17]، وليس المراد من هذه الآية نزول المطر ونبات الأرض، بل الآية أعم من ذلك، فالله جل وعلا يحيي بالعلم الميت بالجهل والكفر بعد ما كان ميتاً، كما أنه يميت من كان حياً بالعلم والتقى، فقد يتبدل علمه ويكون غير نافع، فيصبح عاصياً لله جل وعلا.

    والمقصود أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله، وليست الدعوة فقط، بل كل الأعمال التي يراد بها الآخرة يجب أن تكون خالصة لله، فلا يراد بها أمر آخر، لا زيادة مال، ولا رفعة على الناس، ولا جاه، ولا غير ذلك.

    فإن جاء الاشتراك في العمل الذي يرجى به الثواب فإن هذا الاشتراك بهذه النية يبطل ذلك العمل، وهنا يقول: فيه التنبيه على أن الدعوة يجب أن تكون لله جل وعلا خالصة، فإن كثيراً ممن يدعو إلى الحق في الظاهر يدعو إلى نفسه في الواقع، كأن يدعو إلى أن يكون له أنصار وأتباع كثيرون، وكأن يدعو -مثلاً- ليكون منافساً لمن يراه داعياً فقط، وليكون كلامه أحسن من كلام غيره ويستطيع أن يرد عليه، وما أشبه ذلك من الأغراض السيئة.

    1.   

    البصيرة في الدعوة واجبة

    [ ومنها أن البصيرة من الفرائض ].

    يعني قوله: ((على بصيرة أنا)) فأخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ثم عطف على ذلك أتباعه، فدل على أن البصيرة متعينة، فيجب على الداعية أن يكون على بصيرة، ولهذا قلنا: إن من شروط الداعية أن يكون على علم، وأن يكون عالماً بما يدعو، وهنا يقول: إن البصيرة من الفرائض. أي: من الفرائض في الداعي الذي يدعو إلى الله، وإذا ترك الفريضة فهو آثم.

    1.   

    تنزيه الله عز وجل من دلائل حسن التوحيد

    [ ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى من المسبة ].

    هذا مأخوذ من قوله: وسبحان الله ، ولهذا كثيراً ما يأتي تنزيه الله مقروناً بما يتعالى ويتقدس عنه مما يفعله المشركون، كما قال تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:43]، وقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]، أي: عن وصفهم أن الله له شريك. ولو لم يقولوا هذا الكلام ففعله كذلك، فهذا دليل على أن التسبيح هنا المقصود به تنزيه الرب جل وعلا عما يفعله كثير من الخلق مما يتعبدون به، حيث إنهم يتجهون إما إلى حجر أو إلى شجر أو إلى وثن من الأوثان أو إلى غير ذلك، وهذا مسبة وتنقص لله جل وعلا، لهذا أخبر جل وعلا أنهم لم يقدروا الله حق قدره فقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]بعد قوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، ثم قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يعني: الذين وقعوا في الشرك ما قدروا الله وما عرفوا قدره، وما عرفوا عظمته، فجعلوا له شريكاً في الحق، والشريك في الحق يعني: في حقه الذي أوجبه على الخلق ولهذا يحتج الله جل وعلا عليهم بذلك.

    1.   

    وجوب الابتعاد عن المشركين

    [ ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى .

    ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك أ. هـ. ].

    هذا مأخوذ من قوله: ((وما أنا من المشركين)) ، يقول: إنه ينبغي للمسلم أن يكون بعيداً عن المشركين، لا في الدار والمسكن، ولا في الاجتماع، ولا في الرأي، فضلاً عن الدين والعقيدة، فإن هذا شيء معروف أنه كفر.

    1.   

    مراتب الدعوة

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال العلامة ابن القيم في معنى قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال ].

    الحكمة هي العلم، فليس هناك حكمة إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبين للمدعو الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا بين له فإنه يكتفي بذلك ويتبعه؛ لأنه يطلبه ولكنه يجهله، فهذا الذي يريد الحق وهو يجهل الحق إذا تبين له أن هذا وحي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤثر غيره عليه، بل يتبعه.

    [وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب ، وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن. انتهى ].

    القسم الثاني: أن يكون المدعو مريداً للحق ولكنه مشتغلاً بغيره لدنيا يحبها أو لرئاسة يؤثرها أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، فهذا يحتاج إلى أن يدعى بالترهيب والترغيب، ويذكر له الأمور التي تترتب على إيثار الدنيا على الآخرة، فإذا ذكر له ذلك فالغالب أنه يرجع ولا يحتاج إلى قتال.

    القسم الثالث: أن يكون المدعو معانداً، فيكون واقفاً في طريق الدعوة ويكون مجادلاً وعنده شبهة، وإذا أقيمت عليه الحجج لا يقتنع بها، بل لا يقبلها، بل يردها، ومثل هذا إذا أقيمت عليه الحجج فردها ووقف في وجهها فإن أمكن أن ينتقل معه إلى القتال فعل ذلك، وذا لم يمكن يصبر الداعية ويحتسب، كما كان الله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتحمل والصبر، وهذا لما كان في مكة، أما لما انتقل إلى المدينة وصار له دار إسلام وله أنصار وله قوة أُمر بقتال من لا يقبل الحق ومن يقف في وجهه معترضاً وصاداً وراداً يقاتل، فإذا أمكن أن الإنسان يفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أخيراً فعل ذلك.

    1.   

    معنى حديث: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله-، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، أخرجاه ].

    هذا الحديث في الصحيحين، وهو عن ابن عباس في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وبعثه صلوات الله وسلامه عليه كان في السنة العاشرة كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في كتاب المغازي، ولم يكن معاذاً وحده، بل بعث معاذاً وأبا موسى وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولكن كل واحد بعثه إلى جهة من اليمن، وبعثه داعياً ونائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم والقضاء، ولهذا قال: لما بعث معاذاً وكلمة البعث جاءت ويراد بها أمور في اللغة، فقد يراد بها بعث البعير، أي: إثارته. وكذلك (بعث الصيد): إذا أثاره ليصطاده، وقد يراد به إحياء الموتى، كما قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7]، و(الله يبعث من في القبور) يعني: إخراجهم أحياءً بعدما صاروا رفاتاً وتراباً ويراد به الإرسال إلى جهة من الجهات، فيقال: بَعث فلان فلاناً ومنه أن الله بعث رسله، أي: أرسلهم، وهذا مثل قوله هنا: (لما بعث معاذاً ) أي: لما أرسله إلى اليمن رسولاً له فـ معاذ هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه وينوب عنه في الحكم والدعوة إلى الله.

    ثم أرشده إلى ما ينوب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) ، وقد عرفنا أنه بعثه في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع في تلك السنة.

    ولهذا جاء في هذا الحديث في بعض الروايات أنه لما خرج معه يودعه -و معاذ راكب والنبي صلوات الله وسلامه عليه يمشي- قال معاذ : يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: (لستَ بنازل ولستُ براكب. ثم قال له: لعلك لن تراني بعد اليوم)، فعند ذلك بكى معاذ رضي الله عنه، وعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرب أجله، فقال له: (لا تبك) ، ثم أوصاه.

    ومعاذ رضي الله عنه من سادات الصحابة وكبرائهم وعلمائهم،

    وقد جاء في سنن النسائي وسنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك)، فهو ممن يحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على غيرهم، وقال له في حديث آخر: (إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (يحشر معاذ أمام العلماء برتوة يوم القيامة).

    والرتوة: قيل: إنها المكان المرتفع فهو في مرتفع عليهم، وقيل: إنها رمية حجر، أي: يتقدم العلماء. ولهذا جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: (إن معاذاً أمة قانت لله)، فقيل له: إن إبراهيم كان أمةً قانتاً فقال: (كنا نشبه معاذاً بإبراهيم) ، وهو أنموذج من النماذج الكثيرة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فلما أرسله إلى اليمن بقي فيها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع في خلافة أبي بكر لما استخلف، ثم ذهب إلى الشام للقتال في سبيل الله، فمات في الشام في الوباء الذي حدث فيه والذي سمي (طاعون عمواس)، مات هو وولده عبد الرحمن ، وكان ولده من أحب الناس إليه، ولما سارع بعض الناس ليفر قال: مالكم؟ أتفرون من قدر الله؟! هذه رحمة يرسلها الله جل وعلا على عباده يرحم بها من يشاء، ثم قال: اللهم اجعل لي من رحمتك نصيباً، اللهم اجعل لآل معاذ من رحمتك نصيباً. فأصيب ولده فمات، وكان ممن يلازمه ومن الذين يأخذون عنه العلم، ثم أصيب هو رضي الله عنه.

    ولما قربت وفاته صار يسأل من عنده ويقول له: انظر هل أصبحنا؟ فقال: لا، ثم سأله مرة أخرى، ثم سأله ثالثة، فقال: نعم، فقال: أجلسني. فأخذ بيده وأجلسه فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إنك تعلم أني لا أحب البقاء في الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب).

    والمقصود أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال: في السنة العاشرة. ومنهم من قال: في السنة التاسعة. كـالواقدي ، وكذلك ابن سعد ، والصواب أنه في السنة العاشرة .

    ثم قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) المقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهذا هو الذي تعورف عليه، وهم أهل كتاب، أي: أهل كتاب سماوي جاء من السماء، وإن كان وقع فيه من التحريف والتبديل، ولكن عندهم علم، وهذا يدلنا على أن دعوة العالم للذين عندهم علم لا تكون كدعوة الجهال الذين ليس عندهم علم، والسبب في هذا أن الذي عنده علم يكون عنده حجج وعنده شبه فيحتاج إلى المجادلة وإلى كشف الشبه عنه، ولهذا ذكر ذلك له ليتهيأ ويستعد.

    ومعلوم أن أهل الكتاب ليسوا كالوثنيين العرب الذين في اليمن، وإن كان أكثر من كان في اليمن هم من الوثنيين العرب، وأهل الكتاب أقل منهم، وسواء أكانوا يهوداً أم نصارى، والنصارى جاؤوا من الحبشة، واليهود قيل: إنهم ذهبوا من المدينة إلى اليمن وبقوا هناك وتكاثروا، ولا تزال بقاياهم إلى اليوم في اليمن.

    والمقصود أنه قال: (فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) ، وهذا يدلنا على أن الذي يجب على الداعية أن يصحح العقائد أولاً، فلا يذهب إلى الناس ويقول: صلوا وزكوا وحسنوا أخلاقكم واتصلوا بالله بالتهجد وغير ذلك وعقائدهم خاربة؛ لأن أي عمل يعملونه إذا كانت العقيدة ليست صحيحة فلن يفيد، بل العمل عمل فاسد، ومعلوم أن الذي يريد أن يبني بيتاً يبدأ أولاً بالأساس ويقويه ويجعله متيناً ثابتاً قابلاً لما يوضع عليه، فإذا كان الأساس غير صحيح فإنه ينهار البناء ويفسد، والذي ليس عنده عقيدة ليس عنده أساس، فبناؤه مثل الذي يبني على الماء، والبناء على الماء لا يثبت أبداً، ولهذا ذكر الله جل وعلا لنا هذا عن جميع الرسل، وأن كل رسول كان يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فكان أول ما يقول لهم: (اعبدوا الله)، وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو ا لا إله إلا الله)، وقبل أن يؤمر بالقتال كان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)هكذا كان يقول لقريش، ويقول: (بعثني ربي بأن يعبد وحده ولا يشرك به شيء)، وكان يمشي بهذا على الناس في موسم الحج؛ لأن العرب وإن كانوا مشركين، فقد كانوا يأتون إلى الحج في الموسم، وكانوا قبائل كل قبيلة تكون في مكان منحازة عن القبيلة الأخرى، فكان يمشي على القبائل قبيلة قبيلة ويقول: (من رجل يأويني إلى قومه حتى أبلغ رسالة ربي -وفي رواية: كلام ربي-؟ وإذا سئل فقيل له: ما هي الرسالة يقول: جئت بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء)، فهذا الذي يجب على الداعية أن يعتني به كثيراً، فهذا هو أول ما يبدأ به إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالاً لأمر الله جل وعلا في قوله قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فهذه هي دعوته صلوات الله وسلامه عليه .

    ثم إذا الإنسان ترسم هذا الطريق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسير عليه فإنه يكون على بصيرة من ذلك، بخلاف الذي يبتدع طرقاً ويأتي بها ويسميها (منهج الدعوة) أو ما أشبه ذلك، فإن هذا غالباً يكون غير مجد، وإذا نفع نفعاً ما فيكون نفعه في شيء معين.

    والمهم أن الداعية يجب أن يدعوا إلى التوحيد والإخلاص وترك الشرك، والأمور التي تقدح في عبادة الله جلا وعلا يبينها للناس ويوضحها وينهاهم عنها بالعلم والبيان الذي يُقتنع به، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية يقول: (إلى أن يوحدوا الله -أو إلى أن يعبدوا الله-) ، وهذا أراد به أن يبين فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يجعل العمل لله وحده، ولا يكون العمل لأحد غيره.

    ثم بعد ذلك قال: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) ، فرتب دعوتهم لإقامة الصلاة وأداء فرض الله فيها على إجابتهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فدل على أنهم إذا لم يستجيبوا إلى ذلك لا يدعون إلى الصلاة، وهكذا ما بعدها: (فإن هم أجابوك إلى ذلك) أي: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقد عرفنا ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معناها أن يعبد الله وحده، وأن يكون الإنسان متألهاً بقلبه وحبه وتعظيمه لله وحده، لا يحب حب الذل والخضوع والتعظيم إلا الله، ولا يتجه بالدعاء والرجاء والخوف والإنابة إلا إلى الله وحده، فهكذا جميع العبادة داخلة في هذه الكلمة (لا إله إلا الله).

    أما شهادة أن محمداً رسول الله فهي مستلزمة لشهادة أن لا إله إلا الله، فلو شهد الإنسان أن لا إله إلا الله وهو لا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة فإنه يكون كافراً، وإن مات على ذلك فهو في النار، وإن عمل أي عمل من الأعمال الكثيرة التي رأى أنها جميلة، فلابد أن يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم لابد أن يستسلم وينقاد للدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقبله، فلا يكون قابلاً لبعضه ورادّاً لبعضه، ولهذا صارت هذه المسائل الثلاث لازمة لكل فرد من أفراد الأمة، وعنها يُسأل الإنسان إذا دفن في قبره، فيقال له: من ربك؟ ومعنى من ربك في هذا: من إلهك الذي تألهه وتحبه وتعبده تعظيماً ورجاءً؟

    ويسأل: بأي شيء تعبد؟ وما هي العبادات التي تتعبد بها؟ ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟

    فأصل الدين الإسلامي مبني على هذه الثلاثة الأمور: كون المعبود المألوه هو الله وحده، وكون التأله والتعبد يكون بالدين الإسلامي، وكون الدين الإسلامي متوقفاً على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به.

    وهذه المسائل الثلاث التي يسأل عنها الإنسان في القبر يجب أن يكون الإنسان فاهماً لها عاملاً بها، ولا يجوز أن يكون جاهلاً بها، ولهذا جاء في حديث سؤال القبر أن الإنسان إن كان موقناً فإنه يجيب بلا تلعثم ولا تردد، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي السؤال مرة أخرى، فيقال له: وما يدريك -أي: ما دليلك على ما تقول-؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به واتبعته وصدقته.

    أما إذا كان الإنسان مرتاباً أو مقلداً التقليد الذي يكون بلا علم فإنه ربما تلعثم وربما تردد، وربما قال: هاه هاه لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ولا ينفعه قوله الذي سمعه من الناس واتبعهم عليه، عند ذلك يقال له: لا دريت ولا تليت. ومعنى (لا دريت): لا علمت ولا قمت بالواجب الذي يجب عليك من الإيمان بالله والتعرف على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وأما قوله: (ولا تليت)، فمعناه: أنك ما قرأت كتاب الله على طريق التأمل والتفهم وإن كان قرأ فهو بلا تفهم ولا معرفة، فيكون مثل الذي يهذي بكلام لا يدري ما هو، فهو لا ينفعه، عند ذلك يُعذب ويُضرب بمطارق من حديد، ويلتهب عليه قبره ناراً، نسأل الله العافية.

    فالمقصود أن معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يشمل الدين كله، وهو الذي يسأل عنه الإنسان في قبره، فيجب أن يكون الإنسان مستعداً للسؤال لعله ينجح ويسلم من العذاب.

    ثم قال له: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم)، إذا جاء الكلام مرتباً على ما قبله بالفاء فإنه يدل على أن ما قبله شرط فيه وعلة له، فالمعنى: إن أُجبت إلى شهادة أن لا إله إلا الله فانتقل بعد ذلك إلى أن تعلمهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، وإن لم يجيبوك إلى ذلك فاتركهم ولا تعلمهم بذلك. هذا معناه، والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012177