إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [26]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالوسطية وحث عليها، وهي المنهج الحق الذي يجب اتباعه، ولذلك فأهل السنة وسط بين الفرق والمذاهب، فهم وسط في الإيمان بين المرجئة والخوارج، فلا يكفرون العاصي ولا يجعلونه كامل الإيمان، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته.

    1.   

    الإيمان بين أهل السنة والمرجئة

    يقول المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر؛ كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، وقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9-10].

    تعريف الإيمان عند أهل السنة

    أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).

    ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم ].

    ينتقل المصنف رحمه الله إلى مسألة الإيمان، فيقول: (ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل).

    قوله: (أن الدين والإيمان): المعروف أن العطف يقتضي المغايرة، فالإيمان يكون غير الدين، فالدين المقصود به الشيء الذي يدان به، أي: أمر الله ونهيه، وأمر الله ونهيه يجوز أن يفعل ويجوز أن يترك، أما الإيمان فهو الذي يتعلق بالمخلوق، والذي يوجد من المؤمن، هذا هو الفرق.

    والدين أمرٌ ونهي وعقيدة (نية) وكذلك الإيمان، وقد قالوا: إن الإيمان في اللغة التصديق، ونازع في هذا بعض العلماء، وقالوا: إنه تصديق خاص.

    وأما في الشرع: فهو قول وعمل وعقيدة، وهذا تعريفه عند أهل السنة، والقول يشمل قول القلب، وقول اللسان؛ ولهذا اقتصر بعض أهل السنة على أنه قول وعمل فقط.

    وبعضهم جعله مركباً من ثلاثة أشياء، ولا خلاف في هذا؛ لأن الذي اقتصر على شيئين، فقال: قول وعمل، يقصد بالقول قول القلب وقول اللسان، والعمل: عمل الجوارح، وعمل القلب هو الخشية والخوف والرجاء، والإنابة وما أشبه ذلك.

    ومعلوم أن الإيمان يتكون من أعمال القلب، ومن أعمال الجوارح.

    وقول اللسان ظاهر، وهو النطق بالشهادتين، والذكر والتلاوة، وجميع الأعمال التي تؤدى باللسان، وكذلك عمل الجوارح ظاهر كالصلاة والحج والجهاد وإماطة الأذى عن الطريق وما أشبه ذلك من الأعمال التي يأمر الله جل وعلا بها، فهي كلها داخلة في الإيمان.

    إذاً: الإيمان عند أهل السنة مركب من ثلاثة أشياء: من قول القلب وعمل الجوارح، وقول اللسان، وقول اللسان داخل في عمل الجوارح؛ لأنه جارحة.

    تعريف الإيمان عند المرجئة والجهمية

    وأما أهل البدع: -المرجئة والجهمية - فقالوا: إن الإيمان هو المعرفة، أو هو العلم، وقصروه على هذا؛ ولهذا كفرهم العلماء بهذا القول؛ لأن العلم لا يقتضي الإيمان، فإبليس عنده علم، ويعلم أن الله ربه، وأن الأوامر جاءت من الله، ومع ذلك فهو كافر، بل هو رأس الكافرين وإمامهم، وكذلك سائر الكفرة إلا قليلاً؛ لأن الله جل وعلا أيد رسله بالمعجزات، والبينات الباهرة، وإنما يكون كفرهم عن الجحود بعد العلم، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنهم فيقول: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، فإنه صادق وهم يعرفون صدقه، ومع ذلك فهم كفرة، ومن أكبر المعاندين والكافرين.

    أما فرعون فقد جاء في كتاب الله جل وعلا ما يدل على أنه مستيقن بأن موسى صادق، وأنه جاء بالحق، يقول الله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا [الإسراء:101].

    ماذا قال موسى؟ ..لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] (لقد علمت) أي: تيقنت هذا، وفي آية أخرى: أخبر الله جل وعلا أنها: استيقنتها أنفسهم. أي: علموها يقيناً.

    إذاً: القول بأن الإيمان هو العلم قول ظاهر البطلان.

    الإيمان يزيد وينقص

    الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق، وهم طوائف من المرجئة؛ قالوا: إن الكفر هو التكذيب وهو شيء واحد، والإيمان هو التصديق وهو شيء واحد، فأهله فيه سواء لا يتفاوتون، فجعلوا كفر فرعون مثل كفر سائر الكفرة وأدناهم، وجعلوا آحاد الناس من المؤمنين مثل أعلاهم إيماناً، وهذا من أبطل الباطل، فهم ضُلّال في ذلك.

    وفي الواقع فهذه من المسائل التي تشعبت فروعها، وكثر الخلاف فيها، فإن الحق فيها مع أهل السنة؛ لأنهم يتقيدون بنصوص الكتاب والسنة، والمبتدعة أهل قياس وشبهات وأهل هوى وضلال.

    ولهذا نص أهل السنة على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولهذا قال المصنف رحمه الله: (وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).

    والطاعة عمل، والمعصية عمل، فهو يزيد بالعمل وينقص بالعمل، فإذا كان العمل طاعة زاد به، وإذا كان معصية نقص به؛ والأدلة على هذا واضحة وجلية.

    وقد جاء في آيات كثيرة النص على زيادة الإيمان، كقوله جل وعلا: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، وكقوله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] إلى آخرها.

    وكذلك ذكر جل وعلا أنها إذا أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً [التوبة:124]، يقول جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، فالزيادة فيها نصوص كثيرة، والصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا، ولهذا جاء أن حبيب بن عمير قال لصاحب له: (تعال نؤمن ساعة، وقال: إنا إذا ذكرنا الله زاد إيماننا، وإذا غفلنا نقص إيماننا).

    والذين قالوا هذا القول وعرفوه من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هم يتقيدون بالحق، وهو ما أتى به النص ووافقه العقل، والوضع، وطابقه الحال، والإنسان يجد من نفسه أحياناً أن حالته أحسن من أحيان أخرى، فيزداد إيمانه، والله جل وعلا قسم أهل الإيمان إلى ثلاثة أقسام، فجعل بعضهم سابقين، وبعضهم مقتصدين، وبعضهم ظالمين، فقال جل وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، وهؤلاء هم أهل الجنة.

    فجعل قسماً منهم ظالماً لنفسه، وفُسر الظالم بأنه الذي يرتكب بعض المناهي ويترك بعض الواجبات.

    والمقتصد: بأنه الذي يأتي بما وجب عليه، ويترك ما حرم عليه، ويفعل المباح ويتناول المكروه.

    وفسر السابقون بالخيرات: بأنهم الذين يتقربون إلى الله جل وعلا بالنوافل بعد أداء الفرائض، ويتقربون إليه باجتناب المكروهات بعد اجتناب المحرمات، وهؤلاء هم الذين يكونون في أعلى الدرجات في الجنة، وعلى هذا الأساس تفاوتت درجاتهم في الجنة، ولو كانوا فيه سواء -حسب زعمهم- لكانت درجاتهم سواء وكانت الدرجة واحدة.

    قول المرجئة: (لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة)

    أما قول المرجئة: (إنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة)، فهو قول فاسد لا قيمة له؛ ولا يعتبر به، لأنه لا يستند إلى دليل شرعي، ولا عقلي، ولا وضعي، وإنما هو قول مبنيٌ على خيالات وشبهات وهوى، فلا يلتفت إليه.

    إذاً: فالكفر يتفاوت، وبعض الكفر أعظم من بعض؛ ولهذا صارت جهنم دركات والمنافقون في الدرك الأسفل منها، فهي دركات وطبقات وكل طبقة فوق الأخرى، كما أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن..)، ومعلوم أن السارق والزاني والمنتهب إذا لم يستحل ذلك فهو مؤمن؛ أي: معه مطلق الإيمان، فهو لم يخرج من الإيمان إلى الكفر.

    والأصل في هذا أن الإنسان إذا آمن بالله جل وعلا يبقى معه الإيمان حتى يأتي بشيء يخرجه منه، مثل الشرك أو التكذيب، أو جحود الحلال، أو تحليل الحرام .. أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك خرج من الإيمان.

    إذاً: (الإيمان يزيد وينقص) وزيادته تكون بالعمل وبالتصديق وليس بالعمل فقط، أي: أن الزيادة تكون في الجوارح وفي القلب، والنقص كذلك، أما كونها في الجوارح فأمر ظاهر، فإذا ترك الإنسان العمل يكون إيمانه ناقصاً، وأما النقصان فهو أيضاً ظاهر؛ لأن إيمان بعض الناس ويقينه وتصديقه ليس كبعض، فبعض الناس عنده مجرد إيمان وتصديق، ولو شكك لشك، فإذا عوفي وسلم من الشكوك والريب ومات على ذلك، كانت نعمة عليه، وهو من أهل الجنة إن شاء الله.

    أما إذا وجدت فتن وأمور تشككه وتخرجه عن اليقين ربما خرج عن الإيمان، وصار كافراً، وكذلك بعض الناس، وبعض المؤمنين، لو أمر بالجهاد لم يجاهد، ولا يستطيع أن يجاهد، فيخاف من الموت أو يحب الدنيا، ومع ذلك فهو مؤمن، ولكن إيمانه ضعيف، بينما منهم من يسارع إلى ذلك، ويحب هذا ويرغب فيه كثيراً.

    فهل يعقل أن يكون هذا مثل هذا؟

    إذاً: التصديق نفسه يزيد وينقص، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه.

    1.   

    موقف أهل السنة من الفاسق وموقف غيرهم

    أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة

    ثم يقول المصنف: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي):

    (أهل القبلة) المقصود بهم: المسلمون الذين يستقبلون الكعبة. أي: يلتزمون بظواهر الدين الإسلامي، ويؤدون الصلاة، وإن كان في الباطن عندهم نقوص كثيرة، فمثلاً: إذا أتى الإنسان بالمعصية وإن كانت كبيرة، فلا يجوز أن نخرجه من دائرة الإيمان، ولكن لا يجوز أن نقول له: مؤمن مطلقاً بدون قيد فنقول: هذا مؤمن -يعني: نطلق عليه الإيمان بلا قيد- بل لا بد أن يقيد إيمانه الذي يوصف به بأنه ناقص، أو بأنه مؤمن عاصٍ، ولابد أن يقال: هذا مؤمن، ولكن إيمانه ناقص؛ لأنه مرتكب للكبائر.

    يدل على هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..)، فالذي نفي عنه ليس أصل الإيمان، وإنما نفي عنه كماله، فالكمال هو الذي يمنع صاحبه من ارتكاب الزنا والسرقة وشرب الخمر.. وهذا هو الذي نفي عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما رجم الزاني صلى عليه، وكذلك شارب الخمر نهى أن يسب وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، وبدليل قوله جل وعلا في القاتل الذي يقتل المسلم: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178].

    (من أخيه): الضمير هنا يعود على القاتل، فجعل القاتل أخاً للمقتول، ومعلوم أن الأخوة هنا هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب.

    وقال جل وعلا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، فوصفهم بالإيمان مع وجود القتال، فدل على أن الإيمان لا يسلب من المقتتلين، ولا يخرجون باقتتالهم عن الإيمان، وكذلك سائر المعاصي، والأدلة على هذا كثيرة، ولكن مقصود المصنف رحمه الله: أن يبطل قول الخوارج الضُلّال مع قول المعتزلة، فإن الخلاف في هذا معهم.

    أما المرجئة فعندهم أن المعاصي لا تضر، فالزاني والسارق وشارب الخمر عندهم كامل الإيمان، ليس عنده نقص، وهذا ضلال بين، ويقابلهم: الخوارج، فعندهم مثل هؤلاء كفار، خرجوا من الدين الإسلامي ودخلوا في الكفر، وهم خالدون في النار، لا يخرجون، ولا تنفعهم شفاعة ولا ينفعهم عمل، وهذا ضلال بين، فلهذا قال: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة).

    الإيمان عند المعتزلة والخوارج وموقفهم من العصاة

    أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، وإنما يكفر الإنسان بالكفر الذي يكون شركاً أو جحوداً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو تركاً للعمل كلية كترك الصلاة... وما أشبه ذلك، وعدم الالتزام بالدين.

    وتعريف الإيمان عند الخوارج هو تعريف أهل السنة، ولكنهم يزيدون (الإتيان بجميع الواجبات، واجتناب جميع المحرمات) وعندهم لابد أن يأتي بجميع ما وجب، ولا يخل منه بشيء، ويترك جميع ما حرم عليه، فإن أخل بذلك فليس بمؤمن.

    والمعتزلة يتفقون معهم في هذا، ولكنهم اختلفوا معهم في التسمية، وفي في الدنيا ولكن في الآخرة اتفقوا معهم، فعندهم الحكم في الدنيا، أنه لا يحكم عليه بالكفر، أما التسمية فإنه لا يسمى عندهم كافراً، ولكن أيضاً لا يسمى مؤمناً، ولكنه يكون بين الكفر والإيمان، وهذا شيء اختصوا به من بين الناس، والعجيب أنهم جعلوه ركناً من أركان الدين الإسلامي عندهم، وهو ما يسمى (المنزلة بين المنزلتين)، وهذا من البدع والضلال.

    أما في الآخرة فيتفقون مع إخوانهم الخوارج بأنهم لا يخرجون من النار؛ ولهذا قال: (كما يفعله الخوارج) بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، وعرفنا وجه ثبوت الأخوة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، وقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9-10].

    والاستدلال بهذه الآية من وجهين:

    الوجه الأول: قوله: (اقتتلوا) أثبت لهم الإيمان مع وجود القتال.

    والوجه الثاني: قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وأمر بالإصلاح بين هؤلاء المقتتلين، وهذا أمر شرعي يجب أن يمتثل، فهو دليل على أنهم لم يخرجوا عن الدين الإسلامي، وهو من الأدلة التي تبطل مذهب الخوارج، ومذهب المعتزلة.

    أهل السنة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام

    ثم قال: (ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام):

    الملي: الذي التزم الملة الإسلامية في الجملة -وليس بالجملة- يعني أنه يترك منها شيئاً، والفسق هو الخروج عن الطاعة.

    والفاسق: هو الخارج عن الطاعة، والفسق يكون عملياً ويكون اعتقادياً كما هو معروف، فاعتقاد خلاف ما جاء به الشرع فسق، وعمل المعاصي فسق، وأهل البدع فسقة من هذا القبيل، أي: من جهة كونهم اعتقدوا خلاف الحق، وعملوا شيئاً لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم:

    فقوله: (لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية).

    أي: لا يسلبونه الإيمان بالكلية، والإسلام: هو الالتزام الظاهري، أما الإيمان فيكون في القلب، ويتبعه عمل الجوارح، فما كان في القلب يظهر على عمل الجوارح، ومعلوم أن الدين الإسلامي قد قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أقسام، وجعله ثلاث مراتب كما في حديث جبريل، وهي: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أخص من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام، فكل محسن مؤمن ومسلم، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم ولا عكس، فقد يوجد الإسلام بلا إيمان.

    والمقصود: الإيمان الذي يكون بالعمل -عمل القلب واللسان- أما مجرد التصديق فلا بد منه، ولا يمكن أن يوجد إسلام بلا إيمان، الذي هو مجرد التصديق.

    1.   

    التفريق بين الإسلام والإيمان عند أهل السنة

    وإذا انفرد أحد الاسمين -الإسلام والإيمان- دخل فيه الآخر، أما إذا اجتمعا فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وقد جاء أن أركان الإيمان ستة: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره) ومن أخل بركن منها، فإن إيمانه مختل، ولكنه لا يخرج بذلك من دائرة الإيمان إلا أن يكون أخل بالإيمان بالله، فإنه لا يكون مؤمناً، وكل الأركان تتبع ذلك.

    أما إذا اختل شيء من هذه الأركان، بأن صار إيمانه بالملائكة مدخولاً، ولا يؤمن بها على الوصف الذي وصف الله جل وعلا، أو كان الإيمان بالرسل عنده ناقصاً، والإيمان باليوم الآخر مجملاً فقط، وكذلك الإيمان بالقدر، فإنه لا يكون مؤمناً كاملاً وإنما يكون عاصياً بقدر ما ترك، مع أن التفصيل في هذا واضح وجلي، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بينا ذلك.

    أما الإسلام فهو الذي ينتقل به الكافر من دينه إليه، وهو الشهادة: بـ(أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، فهو مجرد قول، فإذا قال الإنسان: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) حكم بأنه مسلم، ولكن لا بد أن يكون عنده إيمان بالله، وأن الله أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا إله إلا الله، وأنه هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد وحده ولا يعبد معه إله غيره.

    يعني: أنه تضمن إيماناً ولا بد، أما أن يوجد إسلام بلا إيمان فهذا لا وجود له.

    أما الجواب على نفي الإيمان عن بعض الناس، كما ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يقسم مالاً، وسعد بن أبي وقاص حاضر، فأعطى رجلاً وترك آخر، فقال له سعد : يا رسول الله: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلم؟ ثم أعطى غيره، يقول: فغلبني ما أعرف منه، فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلم؟ )، ثلاث مرات يقول: أراه مؤمناً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: أو مسلم؟ وهذا في ضمنه الإنكار على سعد أن يقول: إنه مؤمن، وإنما أمره أن يقول: مسلم.

    إذاً: الإيمان أخص من الإسلام.

    بعد ذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عندما يعطي إنساناً ويترك غيره الذي هو أحب إليه منه إنما يكله إلى ما عنده من الدين، وإنما يعطي ضعاف الدين والإيمان.

    وهذا معناه: أنه أنكر عليه إطلاق الإيمان عليه جزماً، وأمره أن يقول بالشيء الذي يكون متيقناً وهو الإسلام.

    وكذلك قول الله جل وعلا: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] يعني: أن الإيمان ما دخل في قلوبكم بعد، ولكن معكم شيء من الإيمان؛ لأنهم ليسوا منافقين، وإنما معهم شيء من الإيمان يصح به إسلامهم، وهو تصديق بالله جل وعلا وبرسوله، وأنه هو المعبود وحده.

    قوله: (ولا يخلدونه في النار) يعني: الفاسق الملي لا يخلدونه في النار لمجرد المعاصي، أو بمجرد الفسوق، وإنما يقولون: يجوز أن يدخل النار ولكنه يخرج منها ومآله إلى الجنة ما دام أنه مات مسلماً، فمعه أصل الإيمان، فلابد أن يكون مآله إلى الجنة وإن عذب في النار، ويوكلون ذلك إلى الله، إن شاء عفا عنه بلا عذاب، وإن شاء عذبه.

    1.   

    الأسئلة

    ترك العمل بحجة أن الإيمان بالقلب

    السؤال: انتشر على ألسنة كثير من الناس عندما تنصحه على أمر ما قوله: (الإيمان في القلب)، فهل هؤلاء يكونون من المرجئة؟

    الجواب: إذا أُمر بأمر من الأمور الواجبة أو نهي عن أمر محرم، فقال: (الإيمان بالقلب)، فهذا هو قول المرجئة، أي: أن العمل ليس له عبرة فيعتبر، وهذا معنى قول المرجئة: إن الإيمان كامل في القلب، والعمل لا تأثير له فيه، وإنما يجب على الإنسان إذا أمر بأمر أن يسمع ويطيع، وإذا نهي عن شيء أن يمتثل ويشكر الذي أمره، أو الذي نهاه.

    وهذا قول خطأ، والإنسان في قوله هذا يكون عاصياً؛ وكأنه يقول: أنا ما خرجت عن الإيمان، فالإيمان معي؛ لأنه في القلب.

    نعم الإيمان في القلب، ولكن إذا كان في القلب فإنه يبعث على العمل، ويمنع من الوقوع في المخالفة، ولابد أن الإنسان المؤمن يكون خائفاً من ربه جل وعلا أن لا يقبل أعماله الصالحة، فكيف إذا وقع في منكر؟! هذا أعظم والواجب أن يكون الإنسان أكثر خوفاً، وإذا نهي عن ذلك أن يمتثل ويبتعد عن النهي.

    الإيمان قول وعمل

    السؤال: من المعلوم أن الإيمان قول وعمل. أي: قول القلب وعمل القلب، وقول اللسان وعمل اللسان والجوارح، فهل إذا انتفت إحدى هذه الأركان كان الإنسان كافراً؟

    الجواب: نعم؛ لأن الإيمان مركب من هذه الأجزاء الثلاثة، فلا بد من اجتماعها عند أهل السنة، فإذا فقد واحد منها يكون الإيمان غير صحيح، وعلى هذا كفّر كثير من العلماء المرجئة الذين أخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا إن حقيقة الإيمان العلم أو التصديق، كما هو عند الجهمية، ولهذا قالوا: إنهم أجهل الناس بالله؛ حيث وصفوه بما تعالى وتقدس عنه.

    ومعلوم أن ترك الصلاة كفر، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله -وهذه في ضمنها التصديق- وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، وهذه كلها أعمال، فإذا قالوا: إن الإيمان مجرد التصديق فمعناه أنهم يرون أن الإنسان إذا ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج أنه غير معرض لعقاب ولا أنه خارج عن الدين الإسلامي، بل يرون أنه مؤمن كامل الإيمان.

    الخلاف مع مرجئة الفقهاء

    السؤال: هل صح عن أبي حنيفة رحمه الله قوله في تعريف الإيمان: (إنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان فقط)، وما المراد بقولهم: مرجئة الفقهاء؟

    الجواب: هذا روي عن أبي حنيفة واشتهر أن هذا قوله، ولكن ليس مجرد هذا فقط، فإنه قال: إن مسمى الإيمان قول اللسان واعتقاد القلب، أما الأعمال الأخرى فهي من مقتضيات الإيمان، أو قال: (من واجبات الإيمان) أي: أنه لا بد منها، فلابد من العمل، ولا بد من الصلاة ولا بد من الزكاة، ففارق بذلك قول المرجئة ؛ ولهذا قالوا: هؤلاء من أهل السنة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان بين الخلاف بينه وبين القائلين بهذا، وبين أن الخلاف في مسمى الإيمان خلاف لفظي، وليس خلافاً معنوياً؛ لأنه يتفق معهم بأن تارك الأعمال مرتكب للمعصية، وأنه مستحق للعذاب والعقاب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755995172