إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [11]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع السؤال بـ(أين الله؟) للتعليم، كما سأل النبي عليه الصلاة والسلام الجارية فقالت: في السماء، فأقرها، وقد تواترت الأدلة على إثبات أن الله في السماء، ومنها: دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)، ومع علو الله تعالى فإنه سبحانه مع الخلق جميعاً بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته.

    1.   

    الله في السماء

    يقول المصنف رحمه الله تعالى:

    [وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية : (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت) ، حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه.

    وقوله صلى الله عليه وسلم : (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين وأغنني من الفقر) رواه مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً ، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه ].

    علو الله جل وعلا على خلقه ثابت بأدلة الوحي، وبأدلة العقل، وبأدلة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ونفي العلو شذوذ جاء به أهل البدع، شذوذ عن الإيمان الذي ركزه الله جل وعلا في قلوب عباده بأنه فوقهم تعالى وتقدس.

    أما مخالفته للوحي فأمر ظاهر لا كلام فيه، ولا يجادل في ذلك إلا ضال في دينه، أو جاهل لا يعرف شيئاً من الحق، وقوله للجارية : (أين الله؟) ، هذا من تمام الأدلة التي ذكرها، والأدلة كثيرة، حتى أوصلها بعض العلماء إلى ألف دليل، كلها تدل على علو الله، وهذا لأنواعها وليس لأفرادها، أما أفرادها فكثيرة جداً، فحصرها صعب، ومعلوم أنه يكفي المؤمن لاتباع الحق ولو دليل واحد، ولكن كثرة الأدلة وتضافرها تدل على قوة ذلك.

    جواز السؤال عن الله بأين

    حديث الجارية رواه مسلم ، ورواه غيره، وهو حديث ثابت في الصحيح، وهو يدل على جواز السؤال عن الله بأين، وأهل البدع يشنعون على أهل السنة ويسمونهم الأينية، يعني: أنهم يثبتون الأين لله بالسؤال عنه، فينبغي أن يسألوا من الذي أثبت هذا؟ هل هم أهل السنة من ذات أنفسهم أو أنهم يقتدون بسيدهم وبنبيهم صلى الله عليه وسلم؟

    لا شك أن الذي يرد هذا يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أن علو الله ثابت في الفطر، فهذه الجارية بفطرتها أخبرت بما انطوى عليه قلبها من الإيمان والفطرة التي فطر الله عليها عباده، فهذا علم يثبت في النفس وتميل إليه وتريده كما أنها تريد اللبن، فإن المولود وقت وضعه يطلب اللبن بفطرته، فكذلك الفطرة على وجود الله وأنه فوق، وهذه الفطرة قد يغيرها المربي. (قالت: في السماء) سبق أن (في) بمعنى (على) يعني: على السماء، وهذا أمر واضح، وإن قدر أن (في) على بابها فيكون المقصود بالسماء: العلو، والمعنى: أن الله في العلو.

    وقوله: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله )، وفي رواية أنها أشارت إلى السماء أيضاً وقالت: (أنت رسول من في السماء) ، فالله جل وعلا في السماء، وهذا أمر ثابت بالعقل والفطرة والشرع: ثم قال صلى الله عليه وسلم : (اعتقها فإنها مؤمنة) ، وفي هذا دليل على أن الإيمان شرط في العتق؛ لأنه قال: (اعتقها فإنها مؤمنة) فجاء الحكم مرتباً على ما سبق بالفاء، وهذا يدل على أن هذا علته، ولو تخلف ذلك تخلف الحكم؛ ولهذا قال: (فإنها مؤمنة) ، فالذي يثبت أن ربه في السماء يحكم بأنه مؤمن. وفي هذا دليل على أن الواجب على العبد معرفة الله جل وعلا بالفطرة وبالوحي، وليس كما يقول أهل الضلال أنه يعرفه بالشك أو النظر أو القصد للنظر، ثلاثة أقوال عندهم، وهي أقوال باطلة، بل قال بعض العلماء: إنها كفر، لماذا؟ لأن هذه الأمور لا يعرفها سادات الخلق من الصحابة وأتباعهم، وإنما جاء بها الجهمية وأضرابهم من معتزلة وأصحاب الكلام، والمشكلة أن هذا بقي عند الأشاعرة كما هو موجود في كتبهم، وحاول كثير من أئمتهم إبطال هذه الدعوة فقال: هذه مسألة بقيت في المذهب عن المتكلمين، وليست هذه فقط التي بقيت في مذهب الأشاعرة من المتكلمين، بل بقيت مسائل كثيرة جداً، ولكن أنكرت هذه لظهور بطلانها ووضوحه.

    وفي هذا الحديث -كما تقدم- جواز السؤال عن الله بأين هو؟ وقد سئل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأجاب كما روي أنه قيل له: أين كان ربنا قبل خلق العرش وقَبل خلق السموات والأرض ؟ قال: (كان في عمى، فوقه هواء وتحته هواء) ، وكلمة عمى هذه رويت بالمد والقصر، فإذا كانت بالمد (عماء) فقالوا: معناها السحاب الرقيق كما جاء ذلك في القرآن: هل يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ [البقرة:210] ، ويكون المقصود: أي: كان في ظلل من الغمام، وإذا كانت بالقصر (عمى) فمعنى ذلك أنه شيء لا يعلم، أي: أنه أمر لا يعلمه إلا هو جل وعلا، وليس في هذا متمسك لأهل الباطل الذين يقولون: كان الله ولا مكان ، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، تعالى الله وتقدس، فإن هذا من اختراعهم ومن بدعهم ، والذي يقول: إن هذا الكلام حديث فقد أبعد عن الصواب كثيراً، فليس ذلك حديثاً، وإنما هو قول أهل البدع. وفيه أنه يكتفى بالحكم بإيمان الإنسان أن يؤمن أن الله جل وعلا ربه، ومقتضى ذلك أنه معبوده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والصواب أن هذا هو أول ما يجب على الإنسان.

    التعبير عن الله بالجهة

    في حديث الجارية إثبات العلو لله جل وعلا كما هو ظاهر، وهذا هو المقصود من سياق الحديث، فالله فوق، وبعض الناس يقول: إن الله في جهة العلو، وكلمة (جهة) هذه لم تأت لا في الكتاب ولا في السنة، ولا يجوز التعبير بالشيء الذي لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتاب الله، وإنما الواجب أن يعبر بالألفاظ الشرعية، ومعلوم أن ما يوصف الله جل وعلا به يجب أن يكون بالنص لا بقياس ولا بعقل، وهذا معنى قول أهل السنة: صفات الله جل وعلا توقيفية، فإذا قال قائل: هل الله في جهة أو ليس في جهة؟ فقل: هذا القول بدعة، لا ينفى ولا يثبت، بل يستفسر ويعلم ما مراده، فإن كان مراده أن الله في جهة العلو، فنقول: هذا المعنى صواب، ولكن العبارة باطلة؛ لأنها بدعة، وكذلك إذا قال: إن الله ليس في جهة يتوقف فيه حتى يتبين مراده، فإن أراد بقوله: إن الله ليس في جهة، أي: أنه ليس هناك جهة تحويه تعالى وتقدس، ولا شيء يقله أو يظله ، فنقول: المعنى صواب وحق، ولكن العبارة باطلة، ويجب أن يعبر بالعبارة الشرعية وهي أن الله فوق، وأن الله هو العلي الأعلى، وما أشبه ذلك من العبارات التي جاءت في الكتاب والسنة، أما إذا أراد أمراً باطلاً فيرد لفظه ومعناه.

    1.   

    معية الله عز وجل

    قال: (وقوله: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما ما كنت) حديث حسن) هذا انتقال إلى صفة أخرى من صفات الله جل وعلا، وهي المعية، والشيخ رحمه الله ذكر المعية بعد العلو ليبين أن المعية لا تخالف العلو، بل توافق ذلك، فمعيته لا تنفي علوه، وعلوه لا ينفي معيته، وسبق أن المعية تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: معية عامة، ومقتضاها التخويف والاطلاع، وهذا ورد كثيراً في كتاب الله جل وعلا كقوله جل وعلا : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقوله: (يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وهو معهم).

    القسم الثاني: معية خاصة، ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ كقوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] ، وقوله جل وعلا في خطابه لموسى وأخيه هارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ، وقوله جل وعلا في إخباره عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو مع صاحبه أبي بكر في الغار : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] يعني: إنه معهما دون الكفار الذين هم بجوار الغار عند بابه، فالله معهما بحفظه واطلاعه على حالتهما ونصره وتأييده، وليست هذه المعية مقتضية للمخالطة والممازجة تعالى الله وتقدس، ولو كانت المعية تقتضي المخالطة لما أصبح لتقسيمها إلى عامة وخاصة أي فائدة.

    وقول العلماء عن المعية العامة: إن الله معهم بعلمه، لا يقصدون بهذا مجرد العلم فقط، وإنما ذكروا هذا لأنه ظاهر جداً، كل يعلمه ولا ينكره أحد، وإنما هو معهم بعلمه، وكذلك بنظره وإحاطته وقبضته، وهم لا يخرجون عن ذلك، وسبق أن المعية في لغة العرب معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، وكل من أضيفت إليه المعية تكون معيته على ما يليق بذلك المضاف، فقد يقول الإنسان مثلاً: مالي معي، ويكون لها معنى، ويقول: زوجتي معي، فيكون لها معنى، ويقول: صاحبي معي، فيكون له معنى، ويقول: متاعي معي، وهكذا، فإذا أضيفت إلى الله يجب أن تكون على ما يليق به جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] أي: معه على الإيمان، وقتال الكفار، والامتثال لأمر الله، والقيام بما أوجبه عليهم، وليس المعنى أنهم معه أي: مختلطين به، ممازجين للحمه ودمه. هذا لا يقوله من يعرف اللغة، وبهذا يتبين أن الذين يقولون: إن المعية تدل على الاختلاط والكون مع الناس في الأرض -تعالى الله وتقدس- ضلال بين.

    وفي هذا الحديث دليل على تفاضل الإيمان، وأن بعضه أفضل من بعض، ودليل على أن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وأنها أيضاً تتفاضل؛ ولهذا قال: (أفضل الإيمان أن تعلم) والعلم هذا من عمل القلوب، وهذا مقام الإحسان، وهو أفضل المقامات، وهو أن يؤدي الإنسان جميع ما يؤديه، وينتهي عما ينتهي عنه وهو على هذه الصفة: عالم بأن الله معه ينظر إليه، ويسمع كلامه، ويعلم ما في خلجات نفسه، وينظر إلى حركاته، فإذا تيقن ذلك فإنه يستحي من الله جل وعلا، ولا يقدم على المنهي، ولا يحجم عن الواجب الذي أوجبه الله عليه. ثم هذا العلم قد قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجتين، إحداهما أعلى من الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) ، هذه الدرجة العليا كأنك تراه، أي: تشاهده أمامك، ومعلوم أنه إذا كان يراه فإنه لن يدخر وسعاً في إحسان العمل، وأدائه على الوجه الأكمل، ولن يدخر وسعاً في الانتهاء عن المنهي والابتعاد عنه، فإن لم يستطع ذلك، ولم يصل إلى هذا، فينتقل إلى درجة أقل من هذه فقال: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) يعني: أن تنتقل إلى العلم بأنه يراك، فتعلم أنه يراقبك ويراك، وهذه أيضاً من درجات الإحسان، وهي من أفضل الأعمال، ولكن الدرجة التي قبلها أعلى.

    وقوله: (حيثما كنت) يعني: في أي وقت كنت، وعلى أي حال كنت، فهي عامة في الأوقات وفي الحالات، يعني: دوام ذلك، وليس معنى هذا أن هذا يلم به الإنسان مرة ويفقده أخرى، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أفضل الإيمان استدامة الإنسان على هذه الحال، والإنسان قد تختلف أحواله في الإيمان، فمرة يزداد إيماناً وعلماً، ويحس بذلك في نفسه، ومرة يضعف إيمانه إذا غفل، واقتراف المعاصي يضعف إيمانه، وإذا ذكر الله واستحضره بقلبه وعمل الطاعات يزداد إيماناً على إيمانه السابق.

    1.   

    حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه ...)

    قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه.

    يبصق ويبزق لغتان، ولكن لغة الزاي أشهر، وهذه قليلة، وكلاهما صحيح، ولغة ثابتة. وقوله: (قبل وجهه) يعني: أمامه، وهذا فيه تحريم البصاق أمام الإنسان، وكذلك عن يمينه، وهذا مطلق ليس في الصلاة فقط، بل حتى وإن كان خارج الصلاة؛ ولهذا قال: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) وإذا كان في الصلاة يجوز له ذلك إذا لم يكن يصلي في المسجد؛ لأن هذا خصص بالحديث الذي فيه: (البصاق في المسجد خطيئة) ، فلا يجوز أن يفعل الإنسان الخطيئة، قال: (وكفارتها دفنها) ؛ ولهذا جاء الإرشاد إلى أن يبصق في ردائه، فإذا بدره البزاق يضعه في ردائه ثم يفركه، وهذا دليل على أن البزاق طاهر ليس بنجس ولكنه مستقذر، وجاء في صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة : (أن رجلاً كان يصلي بقوم فبصق أمامه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يكون إماماً، وأمرهم أن يتخذوا إماماً غيره، وقال له: إنك آذيت الله وآذيت رسوله) ، وهذه الأذية ليست لمجرد أدب، ولهذا قلنا: هذا يدل على التحريم، فالله جل وعلا أذيته أمر عظيم، وكذلك أذية رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (فإن الله قبل وجهه) قال الشيخ رحمه الله: هذا يجب أن يكون على ظاهره، فالله قبل وجهه وهو فوق عرشه، ومثل هذا قد يثبت للمخلوق، فمثلاً إذا قدر أن الإنسان يناجي السماء، فإن السماء تكون قبل وجهه وهي فوقه، والله أكبر من كل شيء، ولا يجوز أن يؤول هذا، ومن الغريب أن بعض المعتزلة استدل بهذا الحديث على مذهبه الباطل، وهذا من الغرائب فإنهم لا يستدلون بالحديث مهما كان، ولكن أهل الهوى إذا صار لهم متمسك في شيء مما يريدونه استدلوا به، وإلا قالوا: هو خبر آحاد، فهذا الرجل قال: حديث (لا يبزق قبل وجهه ولا عن يمينه) يدل على أن الله في كل مكان. وليس معنى ذلك أنه يكون مرئياً؛ ومن أهل البدع من يقول: إن الله لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا كذا ولا كذا.. إلى آخره، ومقصودهم بهذا الكلام نفي أن الله جل وعلا فوق، وأنه ليس في السماء، وليس مستوياً على عرشه، ووجه استدلاله بهذا جعل الأمام مثل العلو، فدل على أنه لا فوق ولا أمام، وكذلك يكون في بقية الجهات، يعني: لا خلف، ولا يمين، ولا شمال، ولا تحت، كما أنه لا فوق ولا أمام، وهذا استدلال عجيب. فهو استدلال بما هو دليل عليه، لكن هكذا إذا أراد المبطل أن يثبت باطله، ونظير ذلك أن بعض عظمائهم وكبرائهم استدل بدليل قريب من هذا على نفي العلو، فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فجعل الضمير يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما وجه الاستدلال بهذا على نفي العلو؟ فشرط عليهم أن يدفعوا له مالاً حتى يخبرهم بوجه ذلك؛ لأنه قد أضافه غيره فلم يجد ما يقدمه له، فأعطوه مقصوده فقال: وجه ذلك أن يونس بن متى عليه السلام لما التقمه الحوت قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء السابعة صار أعلى مقاماً، لكن في هذا المقام هو ويونس سواء؛ لأنه قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ، فهما في القرب من الله سواء، الذي في بطن الحوت في ظلمات البحار وقاع البحار والذي فوق السموات السبع سواء، هذا وجه الاستدلال. وهو استدلال أعور، بل ليس له نظر أصلاً، وهكذا كلام أهل البدع، ولكن وجه الغرابة أنهم يردون نصوص الأحاديث، ثم إذا كان لهم فيها شيء يتعلقون به قالوا: إنه دليل لنا.

    1.   

    حديث: (اللهم رب السماوات السبع ...)

    قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع) ) (اللهم) يقول العلماء: إن الميم عوض عن ياء النداء؛ ولهذا لا تجتمع ياء النداء مع هذه الكلمة (اللهم)، وأما ما جاء في قول بعض العرب:

    إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهم

    فقالوا: هذا شاذ لا يقاس عليه. والرب هو المالك المتصرف، الذي أوجد الأشياء، وقام على مصالحها مما يدل على وجوده، وسبق أن الربوبية تكون عامة وتكون خاصة، وهذا توسل عام بأنه رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، وعطف الأرض على السماوات السبع بالإفراد، وقد جاء في بعض الأحاديث: (ورب الأراضين)، والذي جاء في القرآن ذكر السماء بالجمع إلا إذا أريد شيء آخر، والأرض لم تأت في القرآن مجموعة إلا في آية لما عطفها على السماوات قال: وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] يعني أنهن سبع، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أراضين) ، ويوجد أحاديث أخرى، وبهذا يثبت أن الأراضين سبع أيضاً مثل السماوات، أما كون السماوات سبع فهو ظاهر وجلي، وهي سبع طبقات، وقد تكاثرت النصوص في ذلك، فهي سماء فوق الأخرى، وسبق في الحديث: أن بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام أو ثلاثة وسبعون عاماً على حسب الروايات التي جاءت، وهذا الاختلاف في التقدير على اختلاف المسير، ولها كثافة، وثبت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أن السماء لها أبواب، وأنها تستفتح، وفي القرآن أخبر جل وعلا أن للسماء أبواباً، وأنها لا تفتح لأعمال الكفار، وبهذا ثبت أن السماء حقيقية، وأنها مادية، وأن لها أبواباً، وفيها سكن، وهي منفصلة بعضها عن بعض، وبين سماء وأخرى مسافة شاسعة جداً.

    معنى كون الأرض سبع أرضين

    هل الأرض سبع طبقات مثل السماء؟ ذكر القرطبي في تفسيره أن للعلماء في هذا قولين:

    أحدهما: أن المقصود بسبع أراضين أنها طبقات بدون فتوق.

    والثاني: أنها مفتوقة، كل طبقة بينها وبين الأخرى فتوق، يعني: فضاء، ورجح هذا القول، وذكر أدلته على ذلك من أقوال بعض السلف، وذكر قولاً ثالثاً، وهو قول مردود، وهو أن المقصود بسبع أراضين سبعة أقاليم ظاهرة، وهذا باطل، يبطله الحديث وغيره، وقوله تعالى: وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] فالمثلية لا تتأتى على ذلك؛ لأن الأقاليم طبقة واحدة كلها، والقول الذي اختاره القرطبي ليس هو الصواب، والصواب هو القول الأول والعلم عند الله جل وعلا، ، وما ذكره من أقوال السلف الظاهر أنه مأخوذ عن أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا يجوز الاعتماد عليهم في مثل هذه الأشياء، فالراجح أنها سبع طبقات ليس بينها فضاء، كل واحدة تحت الأخرى كما قال الله جل وعلا، ويكفينا هذا، أما ما ذكره الحافظ ابن كثير ورواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: لو أخبرتك لكفرت، وفي رواية أخرى أنه قال: في كل أرض من هذه الأراضين مثلما على وجه هذه الأرض، حتى ذكر في كل أرض نبي مثل النبي الذي جاء على وجه هذه الأرض، فهذا من الكذب، بل هذا من زنادقة أهل الكتاب الذي أرادوا به إفساد عقائد المسلمين، فإذا صح عن ابن عباس أنه قاله فقد نقله عن أمثال كعب الأحبار وغيره من الذين ينقلون عن كتب المتقدمين من اليهود وغيرهم الشيء الذي يكذبه ما عندنا من كتاب، وقد جاء شيء كثير عن وهب بن منبه رحمه الله وعن كعب الأحبار وغيره، وفي صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال منكراً على الذين يستمعون ويأخذون من أهل الكتاب: ما لكم تأخذون عنهم؟ فإن من أصدقهم كعب الأحبار ، وإننا لنبلوا عليه الكذب. هكذا ذكره البخاري في صحيحه: وإننا لنبلوا عليه الكذب. يعني: في الشيء الذي ينقله مثل قوله: قرأت سبعين كتاباً من الكتب التي أنزلها الله! من أين له سبعون كتاباً من الكتب التي أنزلها الله؟! وما أشبه ذلك من أشياء يكذبها الواقع.

    والمقصود أن قوله: (والأرض) ذكرها مفردة لهذه العلة، ويكون هذا هو سر ذكرها مفردة في كتاب الله جل وعلا، فإنها إذا عطفت على السماوات التي جاءت بالجمع تذكر مفردة، ولا بد أن اللفظ الذي يذكره الله جل وعلا يكون له معنى، فيجب أن يتفطن له، وكذلك إذا ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا قوله: (والأراضين) في الحديث الآخر: (اللهم رب السماوات السبع وما أظلت، ورب الشياطين وما أضلت، ورب الأراضين وما أقلت) ، فهذا لا ينافي هذا، فلكل كلام معنى.

    توسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله في هذا الدعاء

    قال: ( ورب العرش العظيم ) هذا من التوسل الخاص؛ لأن ربوبية الله للعرش غير ربوبيته للسماوات والأرض، فهي ربوبية خاصة، ثم قال: (ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى) ، وهذا عموم بعد خصوص، فالتوسل يكرر، ويذكر الشيء الذي يليق بالله جل وعلا، وقوله: (فالق) الفلق هو: الشق، والحب هو: ما يخرج من النبات يعني: أنه يفلقه للإنبات، والنوى هو: فصم التمر، فإنه يشبه الحصى، ومع ذلك يكون رقيقاً، وإذا أراد الله جل وعلا أن ينفلق عن نبات أخضر: يخرج ويشق الأرض، وهذا بقدرة الله، ولا أحد من الخلق يستطيع أن يفعل ذلك.

    ثم قال: (منزل التوراة والإنجيل والقرآن) هذا توسل آخر بأنه أنزل هذه الكتب التي فيها الهدى والنور، فيها هداية البشر إلى الحق، وفيها علاج مرض الشبهات، ومرض الشهوات لمن أراد الله جل وعلا، فهي تهدي إلى رب العالمين، ونص على هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها أعظم الكتب التي أنزلها الله جل وعلا، وآخرها هو أعظمها، وهو المهيمن عليها.

    الاستعاذة من شر النفس ومن شر كل دابة

    قوله: (أعوذ بك من شر نفسي) العياذ هو الالتجاء من المخوف، أن يلتجئ ويعتصم من شيء يخافه، واللياذ قد يكون بهذا المعنى، ولكن بعض العلماء ذكر أن اللياذ يكون في الخير، والعياذ يكون من الشر، واستدل على ذلك بقول المتنبي :

    يا من ألوذ به فيما أؤمله ويا من أعوذ به مما أحاذره

    لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

    وهذا يقوله في مخلوق نسأل الله العافية، وهذا لا يجوز أن يقال إلا في الله جل وعلا؛ لأنها من صفات الله وليست من صفات المخلوق، ولكن هكذا الشعراء يبالغون المبالغات التي قد تخرج بهم إلى الشرك نسأل الله العافية، وبهذا يتبين لنا الفرق بين العياذ واللياذ، وإن كان بعض العلماء لم يفرق بين هذا وهذا.

    قوله: ( من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ) المقصود بالدابة كل ما يدب على وجه الأرض، واصطلح على أن الدابة هي التي تمشي على أربع، وبعضهم عندهم اصطلاح أخص، فيطلقونها على الحمار، ولكن هذا اصطلاح فقط، وإلا فاللغة تدل على أن كل ما دب على وجه الأرض فهو دابة، والحديث هذا يدل على ذلك، ويدخل في هذا الجن والإنس والحيوانات وغيرها، قال: (أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) ، والناصية هي مقدم الرأس، ومعنى ذلك أنك تملكها وتتصرف فيها كيف تشاء، فهي بقبضتك، لا تتحرك إلا بمشيئتك، ولا يصدر منها شيء إلا بإرادتك.

    قوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء ...)

    قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء) هذا هو المقصود بالحديث، (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ومحل الشاهد قوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ، وهذا تفسير لهذه الأسماء الأربعة المتقابلة، ولا يجوز أن يعدل عن هذا التفسير ؛ لأن هذا تفسير المعصوم صلوات الله وسلامه عليه الذي لا ينطق عن الهوى، فتفسير قول الله جل وعلا: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] أنه الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن دون كل شيء، فهذه الأسماء الأربعة اثنان للأزلية والأبدية، واثنان للإحاطة، إحاطة العلو والظهور والبطون، وليس معنى ذلك أنه في كل مكان تعالى الله وتقدس، فهذا مثل كونه جل وعلا على العرش وهو معنا، وهذا هو المقصود من قوله: (ليس دونه شيء) ، فهو باطن ليس دونه شيء، فكل الخلق في قبضته، وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه، يتصرف فيه كيف يشاء، هذا معنى الباطن، وهذا الذي يجب أن يعلم.

    قوله: (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر)

    قوله: (اقض عني الدين) هذا هو الدعاء المقصود، والأول كله توسل وثناء على الله جل وعلا، والدعاء أتى بعد ذلك، (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر) وهذا يدلنا على خطر الدين، وينبغي للإنسان أن يهتم به؛ لأنه حق الغير، والعلماء يفسرون هذا بما هو أعم من الدين الخاص الذي هو دين الإنسان، فيعم كل حق، أي: اقض عني كل حق، فيدخل فيه حق الله جل وعلا وحق المخلوق.

    وقوله: (أغنني من الفقر) يدلنا على أن الفقر يستعاذ منه، وأن الغنى مطلوب، ولا ينافي هذا كون الرسول صلى الله عليه وسلم اختار أن يشبع يوماً ويجوع يوماً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا شبع حمد الله وأثنى عليه، وإذا جاع ذكر ربه وسأله، فإنه صلوات الله وسلامه عليه أكمل الخلق، ولكن ليس كل الناس هكذا، فالفقر قد يكون كفراً؛ لهذا جاء في الأثر: (كاد الفقر أن يكون كفراً) وذلك أن الإنسان إذا افتقر قد يبذل دينه لدنيا يريدها، والفقر في اصطلاح بعض الفقهاء أخص من المسكنة، فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ فلهذا يقول الفقهاء: الفقير من وجد نصف الكفاية أو أقل، والمسكين: من وجد نصف الكفاية فأكثر، واستدلوا على هذا بقوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:79] فسماهم مساكين ولهم سفينة، ولكن إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر.

    1.   

    حديث: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)

    قال رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً ، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه.]

    معنى (أربعوا) أي: أرفقوا بأنفسكم يعني: لا تكلفوا أنفسكم، ولا ترفعوا أصواتكم، فيشق ذلك عليكم، (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) .

    هذا الحديث يدل على المعية، وهذه المعية لا تنافي القرب، ولكن الفرق بين المعية والقرب سيأتي، ويدلنا هذا الحديث على أن الذكر برفع الصوت منهي عنه، فالذكر يكون مع خفض الصوت؛ وذلك لأن الله مع الإنسان يسمعه ولا يخفى عليه شيء، وقد قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف:55] يعني: بينك وبين نفسك، وهذا أفضل الذكر، إلا الأمور التي ورد أنها تستثنى من ذلك، مثل التلبية، فإنه جاء استحباب رفع الصوت بها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) ، والثج هو: نحر الدماء وإراقتها تقرباً إلى الله، والعج: رفع الصوت بالتلبية، وهذا يكون للرجال ، فهذا مستنثى لورود النص به، أما ما عدا ذلك فإن الذكر يكون إخفاؤه أفضل، ويجوز أن يكون جهراً، ولكنه يكره لهذا الأمر، والسبب في هذا أنه إذا كان بين الإنسان وبين نفسه فإنه أدعى إلى التفكر، وأدعى إلى الخشوع، وأدعى إلى الإخلاص، ومن الأمور المستثناة أيضاً ما ورد في حديث ابن عباس وغيره -وهو حديث صحيح- من رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة يرفعون أصواتهم بالذكر لاسيما بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر حتى يسمع ذلك من خارج المسجد، وحتى يكون للمسجد ارتجاج من أصواتهم، فهذا أيضاً يستثنى من ذلك.

    وقوله: (أيها الناس! ) خطاب عام ولكن يقصد به من يذكر الله جل وعلا.

    وقوله: (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ) الأصم: الذي لا يسمع، والغائب: لا يبصر، ومعنى ذلك أن الله سميع بصير، فالذي تدعونه سميعاً بصيراً، يسمعكم وإن أخفيتم الذكر، ويراكم ولا يخفى عن نظره شيء، لا في بواطنكم ولا في ظواهركم؛ لأن نظر الله جل وعلا لا يحجبه حائل؛ ولهذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) ، وبصره لا شيء يحول بينه وبين منتهاه أبداً، فبصره ينتهي إلى كل شيء، فهو بصير بكل شيء تعالى وتقدس.

    معنى قرب الله عز وجل من خلقه

    قوله: (لا تدعون أصم ولا غائباً) يدلنا على أنه ينفى عن الله جل وعلا صفات النقص، وأن صفات الله تنقسم إلى قسمين:

    صفات سلب، وصفات إثبات، فيسلب عنه كل نقص، ويثبت له كل كمال، وهذا بالإجمال.

    وقوله: (ولا غائباً ) يدل على القرب، ثم قال: (إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً) فأثبت ضد ما نفى، وقربه تعالى يكون على جهتين:

    الجهة الأولى: قرب من داعيه، وقد جاء ذلك في القرآن : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] .

    الجهة الثاني: قرب يكون بالإجابة يعني: بإنالة المطلوب، فلا تستبعد الإجابة، بل كن واثقاً بالله، فإن الإجابة قريبة؛ لأنها بيد الله جل وعلا، فهو قريب من ذلك. ولم يأت أن القرب يكون خاصاً وعاماً كما قال بعض العلماء: قرب الله ينقسم إلى قسمين: قرب عام، وقرب خاص، فالعام كقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] ، والخاص كقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] ، ولكن هذا فيه نظر والعلم عند الله تعالى؛ لأن قوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] جاء أيضاً بهذه الصيغة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] ، وهذه الجملة (ونحن أقرب إليه) وما أشبه ذلك من العبارات التي تدل على الجمع قال شيخ الإسلام : إن هذا يكون لمن له أعوان يطيعونه ويمتثلون أمره، ومعنى ذلك أن الملائكة التي تمتثل أمره وتتصرف بأمره هي القريبة، ويكون هذا ليس من هذا الباب، والله أعلم.

    والمقصود بهذا أن قربه لا ينافي علوه، فهو قريب وهو على عرشه كما سبق في حديث العباس لما ذكر المسافة التي بين السماء والأرض، ثم بين سماء وسماء ثم بين السماء السابعة والبحر، ثم بين البحر والعرش، ثم قال: (والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء مما تعملون)، فهو في علوه قريب، فعلوه لا ينافي دنوه، ودنوه لا ينافي علوه تعالى وتقدس، فيجب أن يجمع بين هذا وهذا على ما يليق بالله جل وعلا، ثم ليعلم أن قربه ونزوله وإتيانه إلى الأرض ليس كصفة المخلوقين، فقد يتصور الجاهل أن الشيء إذا كان فوق ثم نزل إلى تحت فإن العلو يخلو منه، ويكون خالياً منه، فالله تعالى صفاته خلاف صفات المخلوقين : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته.

    1.   

    الأسئلة

    معنى: (وكان الله غفوراً رحيماً) ونحوها من الآيات

    السؤال: يقول السائل: نقرأ في بعض الآيات: وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:96] ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [الأحزاب:25] وغيرها، فهل معنى (كان) هنا الاستمرارية؟ وهل هي صفة ذات أو صفة فعل جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: قد أجاب عن هذا ابن عباس رضي الله عنه فقال: كان ولا يزال. يعني: أنه مستمر على ذلك، وليس معنى ذلك أنه كان ثم انقطع، وهذا الكلام معروف في لغة العرب، والله يخاطبهم بلغتهم، فهي تدل على الدوام، كما أنها تدل على الأزلية، وكان قد تأتي بهذا المعنى.

    اختبار الناس في عقائدهم

    السؤال: هناك فئة من الناس يختبرون الناس في عقيدتهم، ويستدلون بحديث الجارية على جواز امتحان الناس في عقائدهم، هل هذا يصح أم لا؟

    الجواب: ما يمتحن المسلم الذي ظاهره الحق، وظاهره الخير، لا يمتحن المسلم بالسؤال، فإن الامتحان لا يجوز، ولما رجع البخاري رحمه الله إلى بلاده وهو يحمل العلم الكثير ، استفاد منه من استفاد، وقال شيخه الذهلي : انتهزوا الفرصة واستفيدوا من هذا الرجل. فاختلت حلقته، فإن الناس وجدوا عنده ما لا يجدون عند غيره، وعند ذلك بدأ بينهما ما يكون بين الناس، فأرسل إليه أسئلة فيها: كيف تقول في اللفظ؟ فعرف أن هذا امتحان فأنكر ذلك وقال: لا يجوز امتحان المسلم، وهذا الشاهد الذي نريده، فلا يمتحن المسلم، لكن إذا أظهر شيئاً من الخطأ يبين له أن هذا خطأ، أما أن يمتحنه ليرى هل هو يعرف هذا أو لا يعرف فلا، وقد يكون يجهل بعض الأشياء ولا يعتقد الباطل.

    تفسير المعية بالعلم ليس من التأويل الباطل

    السؤال: يقول السائل: ما توجيهكم على ما قاله الإمام الصنعاني : تفسير المعية بالعلم من التأويل الذي ليس من اعتقاد أهل السنة والجماعة؟

    الجواب: ليس الأمر كذلك، فهذا ليس من التأويل الباطل، فهذا تفسير مشهور عن السلف، فالمعية المقصود بها العلم، وليس المقصود مجرد العلم فقط؛ ولهذا قسموا المعية إلى قسمين كما ذكرنا، ولو كان قصدهم بالمعية العلم فقط لما صار لهذا التقسيم أي فائدة، وهم قالوا بذلك للرد على المبطلين الذين يقولون: إن الله في كل مكان، فأرادوا تنزيه الله جل وعلا عن أن يكون في الأمكنة السفلية، وأن يكون مختلطاً مع الخلق؛ ففسروها بالعلم لذلك؛ لأن القول بالحلول اشتهر في الحقيقة عند الجهمية ومن سلك مسلكهم.

    لا يجوز القول بأن الله معنا بذاته

    السؤال: هل قال أحد من السلف: إن الله معنا بذاته، ولا يلزم من هذه المعية الاختلاط، وهو مع ذلك على عرشه؟

    الجواب: ما أعرف أحداً قال بهذا، ولا يجوز أن يكون هذا القول صدر من السلف؛ لأن من قال: الله معنا بذاته، فمعنى ذلك أن ذاته حالة معنا تعالى الله وتقدس، بخلاف إذا ما قالوا: المعية حقيقة على ظاهرها، فإن هذا حق وصواب، قال قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله: المعية على ظاهرها، وهي معية حقيقية، وليس معنى هذا أنه معنا بذاته، بل بينهما فرق شاسع جداً، فالمعية الذاتية أن تكون الذات المقدسة حالة مع الخلق، ومختلطة معهم، تعالى الله وتقدس، وهذا كفر لا يقوله السلف ولا غيرهم ممن يعرف الحق ويتبعه، وإذا صدر ممن لا يفرق بين هذا وهذا فيجب أن يبين له ذلك.

    عموم حديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه)

    السؤال: يقول السائل: ما هو دليل إخراج الحديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه) من الخصوص إلى العموم خارج الصلاة؟

    الجواب: جاء في حديث آخر: (البصاق في المسجد خطيئة) ، فيكون هذا أخص، ويكون مقيداً للعام، وعند العلماء الخاص يقيد العام، فيتقيد به.

    ولا يجوز أن يبصق أمامه، وفي الحديث أن عن يمينه ملك، فتعليل النهي عن البصاق في اليمين لأجل ذلك، وهذا في صحيح البخاري، وأما البصق جهة اليسار وتحت القدم فأبيح، والحديث الذي في صحيح ابن حبان وابن خزيمة يدل على العموم في هذه الحال.

    لا يلزم من نزول الله إلى السماء الدنيا أن تحيط به مخلوقاته

    السؤال: هل يلزم من نزول الله تعالى إلى السماء أن تحيط به مخلوقاته؟ وما الرد على من قال بهذا؟

    الجواب: تعالى الله وتقدس، هذا كفر بالله جل وعلا، الإنسان إذا كان عنده جهل بذلك فعليه أن يستعين على فهم ذلك بقدرة الله جل وعلا وبعظمته، فإنه يقول جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، كل السماوات يطويها بيده كما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنه لهذه الآية أنه قال: يطوي السماوات والأرض كلها بيمينه، وتكون شماله فارغة، وفي رواية: ويده الأخرى فارغة ، وإنما يستعين بشماله من كانت يمينه مشغولة.

    فكل مخلوقاته في السماء والأرض ومن فيهما يقبضها بيد واحدة تعالى الله وتقدس، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود (أن حبراً من أحبار اليهود أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يضع السماوات على أصبع، والأراضين على أصبع، والشجر على أصبع، والجبال على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الدنيا! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقاً لما قال، وقرأ : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67])، وشرع لنا أن نقول: الله أكبر في كل خفض ورفع، لنعلم أنه أكبر من كل شيء تعالى وتقدس، ولا يكون شيء في نفس الإنسان مساوياً لله تعالى وتقدس، فالله جل وعلا لا يماثله شيء، ولا يكون في مخلوقه أكبر منه تعالى وتقدس، وكل المخلوقات بالنسبة إليه حقيرة ليست بشيء.

    حكم التوسل بصفات الله

    السؤال: يقول: هل يجوز التوسل بصفات الله كما يجوز التوسل بذاته وأسمائه والأعمال الصالحة كقول القائل: يا رحمة الله؟

    الجواب: التوسل بصفات الله من أفضل الأعمال، فهي كالتوسل بالذات ولكن ليس معنى ذلك أن الصفة تدعى ويقال: يا رحمة الله! يا عزة الله! يا قدرة الله! لا، بل يسأل الله بقدرته وبعزته وبرحمته التي وسعت كل شيء، هذا هو التوسل بها، أما الصفة نفسها فلا تدعى ولا تنادى؛ لأن الصفة لا تكون صفة قائمة بنفسها منفردة تجيب وتعطي وتمنع وتخفض، الصفة قائمة بالموصوف تعالى وتقدس لا تنفك عنه.

    الكلام على حديث الأوعال

    السؤال: حديث الأوعال هل هو صحيح أم لا؟

    الجواب: سبق الكلام على هذا، والشيخ حسنه وقال: حديث حسن، ومن أراد زيادة الكلام عليه فليرجع إلى كلام ابن القيم في تهذيب السنن، فإنه أطال عليه الكلام.

    الكلام على حديث: (كان الله ولا شيء معه)

    السؤال: هل ثبت قوله صلى الله عليه وسلم : (كان الله ولا شيء معه) ، وقوله: (كان في عمى) ؟

    الجواب: هذا الحديث فيه نظر، فهو ضعيف، أي قوله: (كان في عمى) ومع ذلك استدل به بعض العلماء، لكن إذا كان فيه معارضة وهو ضعيف ما ننظر إليه.

    قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولا تبصرون)

    السؤال: ذكرتم قول شيخ الإسلام : إن هذا فيمن له أعوان يعينونه، أو يطيعونه، فهل ثبت هذا؟

    الجواب: ثبت في قوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] ، وقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] ، فهذه الآية في الميت حين يحتضر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756217883