[ وقوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) حديث حسن، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ].
قسم ردوها، فهؤلاء الكلام معهم مفروغ منه؛ لأن من فعل ذلك عرف.
وقسم تأولوها تأويلات تخرجها إلى التحريف والإلحاد، وليس تأويل القابل لها، المؤمن بها، وهؤلاء يلتحقون بالقسم الأول، وقد يكونون أشر من القسم الأول؛ لأنه قد يخفى أمرهم على بعض الناس، فيكون ضررهم أعظم.
قسم ثالث: هم الذين قبلوها قبول انقياد واستسلام، وتصديق وإيمان، وهؤلاء هم الذين انتفعوا بها، فانتفعوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقاً، والقسمان الأولان لا يخرجان من الدين الإسلامي، ولا يقال: إنهما كفار خرجوا من الدين الإسلامي، ولكنهم من أهل الوعيد، الذين توعدهم الله جل وعلا، فإن شاء أمضى وعيده، وإن شاء فعل ما يشاء؛ لأن العباد كلهم عباده، يتصرف فيهم كيف يشاء جل وعلا وسبق أن ذكر المؤلف حديث النزول، وقد أوجد حوله كثير من الناس إشكالات كثيرة، والسبب في الإشكالات عدم الإيمان به على الوجه المطلوب؛ لأنه صفة من صفات الله، إن كان فعلاً فهو من صفات الأفعال التي تتعلق بمشيئته.
وصفات الله حقائقها لا تحتملها عقول البشر، ولهذا يكتفى بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقف عند ذلك فقط، ولا يبحث عما وراءه هذه قاعدة.
إذاً: القادعة الأولى: أن أفعاله وصفاته ليست كأفعال الناس، وليست كصفات الناس.
القاعدة الثانية: أنه على كل شيء قدير. فعلى هذا؛ فالإشكال الذي يورد على بعض الصفات إذا لم تستطع أن تستوعبه بعقلك، فعليك أن تستحضر عظمة الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] فإذا كانت الأرض والمخلوقات كلها يطويها بيده تعالى وتقدس، فكيف يتصور أن شيئاً من المخلوقات تظله أو تقله؟!
فالصواب في هذا أن نزوله يليق به، وأنه ينزل وهو على عرشه بائن من خلقه، وأن نزوله يكون آخر الليل لكل قوم، وهو وإن تعدد بالنسبة لهم فهو غير متعدد بالنسبة لله جل وعلا، فنزوله كسماعه دعاء الداعين في آن واحد، لا يختلط عليه دعاء هذا بدعاء هذا، ولا يشغله دعاء هذا عن دعاء هذا، وكذلك محاسبته لخلقه يوم القيامة في آن واحد، وكل رجل يناقشه ويحاسبه على كثرتهم، من أولهم إلى آخرهم، ويرى الإنسان أنه هو وحده الذي يحاسب، والخلق كلهم يحاسبون في وقت واحد، فصفاته لا تشبه صفات الخلق، وأفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فعلى هذا كل إيراد يورد على ذلك باطل، ولا يلتفت إليه، ونكتفي بهذا عما عساه أن يثار من إشكالات أو تساؤلات حول ذلك؛ لأن هذه القاعدة يرجع إليها في كل ما قد يثيره بعض الذين لم يثبتوا صفات الله جل وعلا على ما يليق به.
وهنا قاعدة أخرى بالنسبة لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أنه يجب على كل مسلم أن يعلم علماً يقينياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بالله جل وعلا، وأتقاهم لله تعالى، وأنه أقدر الخلق على البيان والإيضاح، وأنه أنصح الخلق للخلق صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قال قولاً وجب قبوله بلا تردد، ولا يلتفت إلى قول المؤولين الذين يظنون به الظنون السيئة، شعروا أو لم يشعروا، حيث ظنوا أن ظاهر قوله يدل على التجسيم والتشبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الظن أيضاً ظنوه في رب العالمين، فإذا تحلى الإنسان بهذا، وعلم ذلك علماً يقينياً؛ علم أنه حق، فإن فهم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما قاله ربه فليحمد الله، فإنها نعمة أنعم الله جل وعلا بها عليه فلابد أن يشكرها، وإن لم يتبين له ذلك فعليه أن يتهم رأيه وفهمه، ولا يتهم ربه، ولا يتهم رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه القاعدة في كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن رب العالمين جل وعلا.
ثم إن التكلف، وبحث الأمور، وطلب غرائب اللغة، حتى يحمل عليها كلام سيد الخلق الذي أعطي البيان والإيضاح والنصح؛ ليس من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، بل هو يخدش في معنى الشهادة، فعلى الإنسان إذا كان بهذه المثابة أن يصحح شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فعلى هذا أقول: إذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر ولو لم يكن موجوداً في القرآن فإنه يجب علينا قبوله، ويجب تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الظن السيء، ويجب أن نعلم أنه من الوحي الذي أوحاه الله إليه، فنؤمن به كما آمنا بقول ربنا جل وعلا، وقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم فرح رب العالمين لنا تقريباً لأفهامنا بأقصى ما يمكن تصوره من الفرح، فقال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم ضلت راحلته في أرض مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فيئس من وجودها، فأتى حيث فقدها ووضع رأسه ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فأخذ بخطامها، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح). هذا الحديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدة طرق، ورواه ما يقرب من ثمانية عشر صحابياً، فهذا فرح ليس لأنه جل وعلا محتاج إلى توبة عبده أو طاعته؛ كلا، هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولكن هذا من كرمه وجوده ورحمته جل وعلا، ورحمته وسعت كل شيء، فهو يفرح بتوبة عبده التائب، وهو الغني تعالى وتقدس، فيجب أن يثبت ذلك كما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك الضحك، فقد صحت فيه أحاديث كثيرة ومتعددة، فهي صفة فعل كالفرح والنزول، وكل هذه صفات أفعال تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها، وهذه هي التي تسمى: الصفات الخبرية، ومعروف أن الأشاعرة الذين هم أقرب الطوائف إلى أهل السنة يؤولون هذه؛ لأنهم لا يجرءون على رد الأحاديث الصحيحة الثابتة، ويجعلون التأويل عندهم واجباً متعيناً لابد منه؛ لأن الظاهر عندهم غير مراد، بل هو باطل، والسبب في هذا أنهم اعتقدوا أن ظاهرها ما يعرفونه من أنفسهم تعالى الله وتقدس. وضحكه جل وعلا صفة كمال، وله الكمال المطلق غير أنه جل وعلا لا يشاركه المخلوق في صفاته، وإن حصل الاشتراك في المسمى، بل وقد يكون في المعنى، ولابد أن يكون الاشتراك في الاسم والمعنى، ولكن إذا أضيف هذا الفعل أو هذه الصفة زال الاشتراك نهائياً، فيصبح ما يخص المخلوق لا يشاركه الرب جل وعلا فيه، وما يخص الرب جل وعلا لا يشاركه المخلوق فيه، ولولا هذا الاشتراك في الاسم والمعنى لم يفهم الخطاب، وهذا شيء لابد منه غير أنه عند الإضافة والتخصيص يزول الاشتراك نهائياً.
وقوله: ( إنه حديث حسن ) ، يعني: أن الحديث إذا كان حسناً فهو من أقسام الصحيح، فيجب أن تثبت به العقائد، خلاف ما يقوله أهل البدع من التفرقة بين الفروع والأصول، ويقولون: الفروع تثبت بأخبار الآحاد، أما الأصول فلابد أن تكون بخبر متواتر، ولا تثبت بخبر الآحاد، وهذا شيء اخترعوه من عندهم، وهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدعوته وإبلاغه، والأمر في هذا واضح وظاهر، ولم يزل العلماء يردون عليهم في ذلك ويستدلون بالأدلة الكثيرة. والحديث الحسن من أقسام الصحيح التي تثبت به العقائد، وإن كان حديثاً فرداً، كما تثبت به الأحكام، ولا فرق بين العقائد والأحكام في ذلك، فإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث وجب قبوله، ووجب العمل بمقتضاه.
أولاً: هذا يدلنا على أن قول النار فيما ذكره الله جل وعلا: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] استفهام لطلب الزيادة، وهذا الحديث يدل على ذلك.
ثانياً: هذا القول يجرى على ظاهره، وأن جهنم تقول قولاً يسمع، وتتكلم، والله جل وعلا أخبر فيما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه وعد الجنة والنار كل واحدة منهما ملؤها، فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحاجت الجنة والنار -يعني: اختصمتا- فقالت الجنة: مالي يدخلني الضعفاء والمساكين؟! وقالت النار: أوثرت بالجبارين والمتكبرين! فقال الله جل وعلا للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها). فأما الجنة فإنها لا يزال فيها فضل مساكن بعد دخول أهلها فيها، فينشئ الله جل وعلا لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة، وأما النار فلا يزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ يعني: حتى ينتهي الخلق، ومعلوم أنها كما أخبر الله جل وعلا لا يلقى فيها إلا الجن والإنس كما قال جل وعلا: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119]، وهذا قسم منه جل وعلا، فهي تطلب الزيادة حتى يضع عليها رجله، وربك ليس ظلاماً للعبيد، أما ما جاء في الصحيحين من حديث أنس : (أن الله جل وعلا ينشئ للنار خلقاً، فيسكنهم في النار، فيملأ النار بهم)، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما: حديث مقلوب، يعني: أنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، وقد بين ذلك البخاري ، فإنه لما رواه أتبعه بالرواية الصحيحة التي تبين ذلك، والبخاري رحمه الله إذا غلط الراوي لا يتركه، لابد أن يبينه، بخلاف مسلم رحمه الله، فإنه يذكر السند والمتن على حسب ترتيبه الذي رسمه لنفسه، وتنتهي عهدته؛ ولهذا وجد في صحيح مسلم بعض الكلمات التي فيها خطأ واضح، وقد تكون مخالفة للقرآن، وإن كان السند صحيحاً، ولكن من المعلوم قطعاً أن الراوي وإن كان ثقة ثبتاً لا كلام فيه فإنه يجوز عليه الخطأ؛ لأنه غير معصوم، مثل ذلك الحديث الذي فيه: (وخلق التربة يوم السبت)، فهذا خطأ ظاهر؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وليس في سبعة أيام، وأخبرنا أن آخر الأيام التي تم الخلق فيها الجمعة، فإذا كان آخرها الجمعة فأولها الأحد، والسبت ليس فيه خلق، وهذا ثابت حتى عند أهل الكتاب ولا مرية فيه.
والمقصود أن هذا الحديث لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، وإنما هذا خطأ من الراوي، وقد بين العلماء ذلك، فالصواب أن الخلق الذي ينشؤه الله هو للجنة، كما ثبت ذلك في الروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما. وهذا الحديث حاول أهل التأويل تأويله كما فعلوا في غيره، وقد جاءوا في تأويله بشيء، يضحك العاقل، حيث لم يقبلوا أن يوصف الله جل وعلا بأن له رجلاً، وكلمة (قدمه ورجله) كلاهما سواء لا فرق بينهما، فمرة عبر الرسول صلى الله عليه وسلم برجله، ومرة بقدمه، والمعنى واحد، ومن الاعتراضات التي اعترضوا بها أنهم قالوا: هذا الحديث مخالف للقرآن، ما وجه المخالفة؟ قالوا: إن الله أخبر أن جهنم تمتلئ بالجنة والناس، وليس بقدمه أو رجله.
والجواب عن هذا: أنه ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فينزوي بعضها إلى بعض)، يعني: تتلاقى وتجتمع، فتمتلئ بما فيها، فتكون امتلأت من الجن والإنس، وليس بغيرهم. كذلك قالوا: إن هذا يقتضي التشبيه والتجسيم، ومعروف فيما سبق أن هذا باطل، فإذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف ربه جل وعلا بأن له قدماً وجب إثبات ذلك.
وقالوا: إن هذا فيه تشويه؛ لأنها رجل واحدة وقدم واحدة، فنقول: تعالى الله أن يكون كذلك، ولكن لا يلزم من التعبير المفرد أن يقصد ظاهر ذلك، وهذا جاء وروده كثيراً، وقد جاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي موضع القدمين.
وقالوا: إن المقصود بالرجل جماعة من الناس الجبابرة ومن غيرهم، يجمعون ويسمون رجلاً، مثل ما يقال لجماعة الجراد: رجل جراد وهذه سخافة، وما يستحق مثل هذا أن يتكلم عليه.
وقالوا: القدم: هو ما يقدمه إلى النار، وكل هذه محاولات لرد الحق، وهي في الواقع لا تضر الحق شيئاً، وإنما تضر أصحابها.
والمقصود: أن نعرف شيئاً من تأويلاتهم الباطلة التي يؤولون بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون:
أولاً: الاستفهام في قوله: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] لطلب الزيادة، وقد اختلف المفسرون في ذلك، وهذا هو أصح القولين فيه.
الثاني: أن جهنم تتكلم كلاماً حقيقياً، وقد جاء ذلك كثيراً في روايات غير ما ورد في الآية، كما في حديث المحاجة، وإذا جاء نص وجب حمله على الظاهر حتى يأتي دليل يدل على خلاف ذلك.
ثم إن وضع الرب جل وعلا رجله في النار من صفات الأفعال، والله جل وعلا يفعل ما يشاء، وهو جل وعلا على كل شيء قدير، فيجب أن نؤمن بذلك على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم،
قوله: (فينزوي بعضها إلى بعض)، الانزواء: هو الاجتماع، تجتمع وتتضايق على أهلها وتبقى مملوءة بمن ألقي فيها؛ لأن الكفرة والشياطين انتهوا عند ذلك، وهذا يدلنا على سعة النار وعظمها، ومعلوم أن أكثر الناس كفرة، نسأل الله العافية، وكذلك الجن أكثرهم كفرة، والمؤمنون منهم قلة، ومع ذلك ينتهي آخرهم وجهنم تطلب الزيادة، فهذا دليل على سعتها العظيمة، وقد جاء أن النار يلقى الحجر على شفيرها ويبقى سبعين عاماً لم يصل إلى قعرها، وهذا يدل أيضاً على أنها دركات تذهب إلى أسفل في العمق، وليست كالجنة في السعة، وعذاب أهل النار يختلف.
وقوله: (فتقول: قط قط)، هذا اسم فعل، يعني: قد امتلأت فليس فيّ اتساع لغير من وضعوا فيّ، فهذا الذي وعدها الله جل وعلا به ستتكلم به، وهذا أيضاً من الأدلة على أنها تنطق وتتكلم كلاماً حقيقياً، كما تكلمت الجنة، وإذا أراد الله جل وعلا للشيء -وإن كان ليس له عقل وليس له لسان ولا لهاة، ولا حنجرة، ولا غير ذلك- أن يتكلم تكلم، فهو إذا أراد أنطق كل شيء: قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، هكذا تقول الجلود والأسماع والأبصار. كذلك جاء أنه جل وعلا يسبح له من في السموات والأرض، ولكن نحن لا نفقه تسبيحهم، والصواب أن هذا على ظاهره حقيقةً، فلا يؤول.
هذا الحديث في صحيح البخاري بهذا اللفظ، وكذلك في غيره، والمقصود به إثبات الكلام لله جل وعلا، وأن كلامه يكون بحرف وصوت، وصرح به هنا وإن كان النداء في لغة العرب لا يكون إلا بحرف وصوت؛ لأن النداء هو كلام من بعد؛ ولهذا خص العرب له حروفاً معينة، التي تقتضي مد الصوت كالياء والهمزة والواو؛ لأن مد الصوت يقتضي ذلك، وهذا أمر متفق عليه عند أهل اللغة ولا إشكال فيه، فيكون ذكر الصوت هنا من باب الإيضاح والتأكيد فقط، فينادي بصوت، وكونه ينادي آدم عليه السلام؛ لأن آدم هو أبو البشر، وتمام الحديث: (فيقول آدم: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) يعني: من ذريته، فيكون واحد فقط من الألف من أهل الجنة، والباقي كلهم من أهل النار، وهذا مما يؤكد أن أكثر الناس كفار، وأن كثرتهم ليست متوازية مع أهل الجنة وأهل الخير، وإن كان أهل الجنة كثير، ولكن هؤلاء أكثر، عند ذلك قال الصحابة: وأينا ذلك الواحد؟ -يعني: اشتد هذا عليهم- فقال: (أبشروا، ما أنتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو قال: كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض)، وفي رواية أنه قال: (فإن من يأجوج ومأجوج ألف، ومنكم واحد)، وهذا يدلنا على أن يأجوج ومأجوج يشمل الكفرة، فهم داخلون فيهم، والخطاب للصحابة رضوان الله عليهم، ولكن المؤمنون الذين يتبعونهم تبع لهم في ذلك بلا إشكال.
وقوله: (لبيك) هذه الكلمة جاءت على التثنية، ومعنى لبيك: أنا مجيب لك مرة بعد أخرى، أو أنا مقيم على طاعتك، أو أنا محب لك حباً يلازمني، عابد لك عبادة ملتزم بها. (وسعديك) يعني: إسعاداً لك بعد إسعاد، كما في التلبية.
والمناسبة أن آدم هو أبو البشر فكلف أن يخرج بعث النار، والله جل وعلا إذا أمره بهذا، فإنما ذلك لأنه أبوهم، ومن وراء ذلك الأمور التي يشاؤها الله جل وعلا بتكليف ملائكته الذين يسحبونهم ويجرونهم، ويدعونهم إلى جهنم دعاً، مثل الذي يسوق الغنم بقوة، فلله ملائكة موكلون بذلك، وهذه أمور هائلة، ومن هنا يقول في هذا الموطن: (فذلك حين تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد)، هذه المناظر هائلة ومخيفة جداً؛ لأن النار ليست سهلة نسأل الله السلامة!
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا يتكلم بصوت يسمع، والكلام صفة كمال، فالذي يتكلم أكمل من الذي لا يتكلم، ولكن كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق؛ ولهذا قال في حديث أنس : (فينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، قال البخاري: هذا صفة كلام الله، فهو لا يشبه كلام الخلق؛ لأن كلام الخلق لا يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، ثم إن كلامه جل وعلا لا يلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن ذكرنا أنها من شبهات وتغبير أهل البدع في وجه الحق، وأنه لا يضر الحق شيئاً، وهذا فقط من باب تضافر الأدلة، وقد جاء ذلك في كتاب الله في آيات متعددة تقرب من إحدى عشرة آية، فيها ذكر النداء لله جل وعلا، وأن الله ينادي.
[ وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ].
هذا أيضاً من الأحاديث التي فيها إثبات الكلام لله جل وعلا، ولكن هذا الكلام عام، وهو كلام عند المحاسبة، ولهذا قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) يعني: عند المحاسبة، فيناقشه الحساب، ويحاسبه عن أعماله، فإذا أراد الله تعذيبه ناقشه الحساب، فمن نوقش الحساب عذب، ولهذا جاء في تمام هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، ثم أشاح يوجهه)، وقال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فهذا يدل على أن هذا التكليم عند المحاسبة. أما ما جاء في بعض خلقه أنه لا يكلمهم، فيحمل نفي الكلام في ذلك على أنه كلام الرحمة والنعيم، وهذا يكون لأهل الجنة فقط، أما أهل النار فلا يكلمون، وهذا لا ينافي قوله جل وعلا لأهل النار: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، وكذلك في غير هذه الآية، وقد أخبر جل وعلا أنه يخاطبهم ولكن خطاب تقريع وتعذيب، وهذا يكون كلام محاسبة؛ لأنه جاء عاماً، فهو دليل على أنه جل وعلا يتكلم إذا شاء وقد سبق ذلك.
الجواب: هذا التضعيف لا ينفي صفة العجب، فقد صححه الشيخ وقال: إنه حسن.
الجواب: هذا عجيب! أولاً نقول: من أين لك أنه ما ثبت آية ولا حديث أن الجن لا يدخلون الجنة، توجد آيات وأحاديث، الله جل وعلا قال في سورة الرحمن : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، وقال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، فالسورة من أولها إلى آخرها خطاب للثقلين الجن والإنس، وهناك آيات كثيرة تدل على هذا، أما الأحاديث فهي أكثر.
فالواجب على الإنسان أن يقول: ما أعلم، ولا يقول: لا يثبت شيء؛ لأن قوله: لم يثبت في هذا شيء صعب؛ لأن هذا معناه أنه لم يأت شيء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: ذكرنا الأثر الذي ورد عن السلف، وهو عن ابن عباس وغيره أن الكرسي موضع القدمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر