فهذه المحاضرة عنوانها (عشرون طريقة للرياء) ومعاذ الله أن يكون ذلك معناه فتح الباب للرياء, فإن الرياء مذموم شرعاً وطبعاً، وإنما المقصود التحذير منها, والإشارة بأصابع التخويف والزجر عنها.
وهذه المحاضرة تنعقد في ليلة العاشر من شهر ربيع الأول (1414هـ) في الجامع الكبير بمدينة تبوك عمرها الله تعالى بالطاعة والإيمان.
أيها الإخوة: الرحمن -جلَّ وعلا- خلق الإنسان وميزه عن سائر المخلوقات, ميزه أولاً بسلاح الجسم وحسنه، كما قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4] فأنت لا ترى في سائر المخلوقات المرئية للعين ما يباري الإنسان أو يماثله في كمال الجسم، واستقامته، وتناسقه، وحسن أعضائه، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى.
ثم إنه ميزه بميزة أخرى، وخاصية ثانية أعظم من ذلك وأكبر, ألا وهي العقل والتفكير والإنسانية، التي تميز بها عن البهائم والحيوانات والجمادات وسائر المخلوقات، ولذلك قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ [الانفطار:6] فالإنسان المخاطب ليس هو الجسم فحسب, بل هو العقل والروح والنفس قبل ذلك, بدليل أنه لا يدخل في الخطاب المجانين مثلاً، لأنه رفع عنهم قلم التكليف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود وغيره وهو صحيح: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ, والمجنون حتى يفيق}.
ولهذا كان العقلاء يعلمون أن أعظم ما امتنَّ الله تعالى به عليهم هو نعمة العقل والإنسانية، وأن الله - تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات يخاطبهم ويناديهم ويأمرهم وينهاهم، فأعظم منّة على الإنسانية؛ أن يختار الله من بينها رسلاً، كما قال -جل وعلا- لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164].
ومما زادني شرفاً وتيهــا وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا< |
إذاً علاقة الرجل بزوجته وهو يؤدي عملاً -كما يقولون- بيولوجياً فطرياً غريزة ركبت في العبد، لكنه إذا أراد بذلك عمل الخير، وتحرَّى بذلك الاحتساب وابتعد عن الحرام، كان له بذلك أجر، فأشار ذلك إلى أن كل عملٍ يعمله العبد من الطاعات أو المباحات، إذا أراد به ما عند الله تعالى؛ فإنه يؤجر على ذلك, حتى ما يضعه في فيِّ امرأته، فالطعام الذي يكدح من أجل أن يحضره لزوجته وأطفاله يؤجر عليه، بل قال بعض الشرَّاح في معنى الحديث: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته} أي: أن الرجل إذا تلطَّف إلى زوجته وأطعمها بيده, أو سقاها بيده, كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة أم المؤمنين زوجه عائشة رضي الله عنها، أنه بذلك يؤجر عند الله تعالى.
إذاً البدن متميز عند الإنسان عن الحيوان، وكل جارحة أو عضو في البدن له عبادة مطلوبة، فمثلاً: العين عبادتها النظر، قال تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا [الأنعام:11]. وهكذا.., فالنظر سواءً كان نظراً في ملكوت السماوات والأرض، أو قراءة في علم, أو تأملاً في بديع صنع الله تعالى, أو نظراً للمسلمين بما ينفعهم هذا من عبادة العين.
والأذن من عبادتها أن يسمع العبد ما يرضي الله تعالى، من قرآن أو ذكر أو علم أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقال سبحانه في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} أي: فلا يسمع إلا ما يرضيني, ولا يرى إلا ما يرضيني، ولهذا جاء في رواية أخرى قال الله تعالى: {فبي يسمع وبي يبصر}.
وهكذا اليد عبادتها العطاء والبذل للمعروف والصدقة، ومن عبادتها أيضاً: تغيير المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان} كما في صحيح مسلم.
ومن عبادة اليد: السلام والمصافحة على أخيك المسلم, وأن تتحاب قلوبكما، فيكون في المصافحة صفاء القلوب، وسلامة النفوس.
ومن عبادة اليد: المجاهدة في سبيل الله تعالى، في مدافعة الكفار ومقاتلتهم دون حوزات الإسلام وبلاده وأهله وعقائده, إلى غير ذلك من ألوان العبادات التي يعملها العبد بيده.
وهكذا المرأة المؤمنة، عبادتها بيدها هي كما سبق، ويدخل في ذلك -أيضاً- ما تعانيه من الأعمال في منـزلها مما يعتبر طاعة وقربة لله تعالى، وهو مرضاة لزوجها.
عبادة الرجل: المشي إلى الجمع والجماعات والصلوات، كما قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] خطواتهم على الأرض, ولهذا لما همَّ بنو سلمة أن يسكنوا قرب المسجد؛ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام:{دياركم تكتب آثاركم} الزموا دياركم وابقوا فيها فإن آثاركم وخطواتكم إلى المساجد مكتوبة عند الله تعالى، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وكذلك قال سبحانه وتعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] فالمشي في الأرض والتأمل والاعتبار كل ذلك من عبادة الرجل والقدم.
وضد ذلك المعاصي, فإن معصية العين تسريح النظر إلى الحرام، كالصور والأشكال والمناظر.
ومعصية الأذن سماع الحرام، من غيبة أو نميمة أو شتم أو غناء, أو ما أشبه ذلك, مما يسخط الله تعالى.
ومعصية اليد أخذ الحرام، السرقة مثلاً، أو الأذى والاعتداء على المسلم.
ومعصية الرجل المشيْ إلى الحرام، في بيتٍ أو في سوقٍ أو في محل، أو في بلد قريب أو بعيد، فكل ذلك من معاصي الأعضاء، ولهذا قال القائل:
لعمـرك ما مديت كفّى لريبة ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي |
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي |
فهو يفتخر بأنه قد حفظ جوارحه عن المعاصي، ما مد يده إلى معصية، ولا مشت به رجله إلى غير مرضاة الله جل وتعالى.
وكذلك الحال في اللسان، وهو من أعظم الجوارح, وعبادته: ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, والمعصية فيه ما يدخل في الغيبة، والنميمة، والقيل والقال, ونقل الكلام، والسب، والشتم، والاستهزاء بالمؤمنين إلى غير ذلك.
ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات عند الله تعالى، لأنها جمعت كل ألوان عبادات الجوارح, ففيها عبادة العين في النظر إلى موضع السجود، وفيها عبادة الأذن في سماع تلاوة الإمام والإنصات له, كما قال الله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] وقال عليه الصلاة والسلام: {وإذا قرأ -أي: الإمام- فأنصتوا}.
وفيها عبادة اليد: بحركة اليدين أثناء التكبير, والركوع والسجود وغير ذلك, ووضع اليد على الصدر، أو على الركبة، أو على الفخذ, وفيها عبادة اللسان: بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن, والتسبيح والتهليل والتكبير، وفيها عبادة الرجل: في الوقوف والقيام, وأثناء السجود وغير ذلك؛ وفيها عبادة سائر البدن، ولهذا إذا سجد المرء فإنه يؤمر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في سجوده، أن يباعد بطنه عن فخذيه، ويباعد فخذيه عن ساقيه، وينصب قدميه, ويباعد عضديه عن جنبيه، حتى يأخذ كل عضو حقه من الطاعة والعبادة والسجود لله تعالى.
وفي حديث ابن عباس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أسجد على سبعة أعظم} وذكر الجبهة والأنف فهذه عبادة للوجه والركبتين واليدين وأطراف القدمين، وهكذا الحال في الركوع والقيام, فإن البدن كله أثناء الصلاة يخبت لله تعالى ويعبده.
ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات، وأشرفها، وأنفسها، وأكثرها تقرباً إلى المولى جل وعلا.
والعجيب أنه مع هذه الفضيلة الظاهرة للصلاة, إلا أن الله تعالى توعد بعض المصلين، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] فدَّل ذلك على أن العبرة ليست بالحركات الظاهرة فحسب, فهؤلاء القوم موصوفون بأنهم مصلون، ومع ذلك توعدوا بالويل، وهو العذاب والهلاك والنكال لهم, وما ذلك إلا لأنهم صلوا بأجسادهم وما صلوا بقلوبهم.
فأجسامهم في المساجد بين الصفوف, ووجوههم إلى القبلة, ولكن قلوبهم إلى غير القبلة، فقلوبهم إلى غير الله تعالى، قلوبهم إلى فلان الذي عنده مال ينتظرون أن يثق بهم إن صلوا فيأتمنهم على هذا المال, أو قلوبهم عند فلان الذي عنده فتاة يرغبون في التزوج منها, فيصلون حتى يطمئن إليهم ويمنحهم هذه الأمانة ويأتمنهم عليها، قلوبهم عند ذلك المسئول الذي يريدون أن يثق بهم فيعطيهم وظيفة أو رتبة أو ترفيعاً أو علاوة, فلهذا وجوههم إلى القبلة لكن قلوبهم إلى غيرها، ولهذا فإن الله تعالى توعدهم بالويل، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:5] لم؟! لأنهم كما قال الله تعالى في الموضع الثاني: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].
وهذا الأمر يقودنا إلى أعظم العبادات وأهمها وأكبرها, ألا وهي عبادة الباطن, عبادة القلب والسر, قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم:30] فالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه، وإرادة وجهه في الأعمال، هو أعظم العبادات على الإطلاق.
من المعلوم أن العقل منحهٌ وعطيةٌ من الله تعالى للإنسان، وبناءً عليه كُلِّف العبد بسائر أنواع التكاليف, وصار إنساناً محترماً مطالباً مختاراً -كما هو معروف- مميزاً على سائر الحيوانات، فصلاح العقل وصلاح القلب وتزيينه، هو بمحبة الله تعالى ومراقبته، التي هي ميزة للمؤمنين عن الفجار والمنافقين، فبعض الناس مثلاً ربما ميّز ظاهره وزينه, بحسن الملابس، والعناية بالصحة, وبالمحافظة على الرشاقة والجمال -كما يقال- بتدريبات يومية يؤديها صباحاً أو مساءً, بعضهم إذا زادت عنده نسبة التضخم، فإنه يعمل ما يسمونه (بالرجيم) وهو نوع من الحمية التي يمتنع بها عن بعض الأطعمة, حتى يعود وزنه إلى حجمه الطبيعي، ولا يلام -على كل حال- على مجرد هذه الأشياء, إنما المقصود أن العبد يحرص على تزيين ظاهره بهذا الشكل, وعلى كسب رضا الآخرين وإعجابهم، فإذا أبدوا ارتياحاً لهذا، وقالوا: ما شاء الله! فلان أو حتى فلانة تتميز بالرشاقة والجمال واعتدال القوام, وأنها ليست زائدة ولا ناقصة, ولا طويلة طولاً مفرطاً, ولا قصيرة قصراً مفرطاً إلى غير ذلك, فإن الإنسان يسر ويبهج لأنه كسب رضا الناس وثناءهم ومديحهم.
فكما أنه يفعل ذلك فهو مطالب -أيضاً- بأن يزين باطنه بمحبة الآخرين, وحسن الظن بهم، وأن يفرح لهم بما يصيبهم من خير, وأن لا يكون في قلبه على أحد منهم حقد أو حسد, أو أن يكون أنانياً أو كذاباً أو مغروراً, أو ما شابه ذلك.
فكما يزين ظاهره ينبغي أن يزين باطنه, وكما أنه يكره أن يراه الناس على حال يذمونه عليها, فإنه ينبغي أن يدرك أن فساد الباطن أعظم من ذلك بكثير، ولهذا قال القائل:
لا يعجبن نظيماً حسن بدلته وهل يروق دفيناً جودة الكفن |
ماذا ينفع الميت أن يكون كفنه حسناً، فإنه ينـزع نزعاً سريعاً، فكذلك لو كان الإنسان مثلاً سيء الباطن، حقوداً حسوداً أنانياً كذاباً فاسد الطبع, فإنه لا ينفعه أن يكون حسن الظاهر, وكما قيل أيضاً:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح فاستكمل فضائلهــا فأنت بالروح لا بالجسم إنسان< |
إن الإنسان لم يصبح إنساناً مكرماً مختاراً بقوته مثلاً، ولو كان ذلك كذلك لكان الفيل أقوى منه، ولم يصبح إنساناً بجماله وحسن ثيابه, ولو كان ذلك لكان الطاوس أجمل وأحسن مظهراً منه.
ولم يكن إنساناً -مثلاً- بعظمه وضخامته، وقوة جسمه وفخامة هيئته وجثته, وإلا لكان البعير أكبر وأضخم منه، وكما قال أحد الشعراء الجاهليين:
ترى الرجل الضعيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور |
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير |
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير |
بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات تزور |
فالعبرة ليست بالكثرة ولا بالقوة, ولا بحسن الظاهر, وإنما العبرة بالعقل والقلب، العبرة بباطن الإنسان لا بظاهره، ولو كانت قوة الإنسان وحسنه وفخره بقوته الجنسية وقدرته على السباق, لكانت بعض الطيور حتى العصافير أقدر على هذا الأمر منه، كما يقول علماء الحيوان والطيور.
إنما قوة الإنسان في إيمانه وعقله، ولو كانت قوة الإنسان في ماله لكانت الجبال أكثر منه قيمة, لأن فيها معادن الذهب والفضة وغير ذلك, ولكانت آبار النفط والبترول أعظم ثمناً وقيمةً من هذا الإنسان المكرم المختار, لأن فيها الذهب والدينار والدولار.
إن قيمة الإنسان هي في باطنه، في عقله وقلبه، ولقد كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه دقيقاً نحيفاً، ومع ذلك لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان الأمة كلها لرجح إيمانه عليهم، وكان عبد الله بن مسعود، وهو من السابقين الأولين، ومن المقربين إلى سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومن أقرب الناس إلى الله تعالى زلفى، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: [[لقد علم المحبوبون من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن
هذا الصنف من الناس يزينون ظاهرهم بالثياب واعتدال القوام والصحة والعافية, ولكنهم يغفلون عن بواطنهم، وهناك صنف آخر قد يزين ظاهره ببعض الأعمال الصالحة التي يراها الناس, ثم لا يخل بهذه الأعمال قط؛ لأن الناس قد اعتادوا أن يروها منه، فلو أخل بذلك لقال الناس عنه: فلان قد ضعف، أو رقَّ دينه، أو قلَّ إيمانه, أو تراجع, أو انحرف, وربما نال الناس من عرضه، أو انكسر جاهه عندهم, لأن جاهه مبني على أنه إمام, أو عالم, أو داعية, أو فقيه, أو مفتٍ, أو شيء من هذا القبيل, فلو أخلَّ ببعض الأصول التي اعتادوها منه ظاهراً, لخاف أن يتناول الناس عرضه، فيحافظ على هذه الأشياء الظاهرة أتم المحافظة؛ لئلا ينكسر جاهه عند الناس، ولكنه لا يعتني بذلك من باب الموافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو الحرص على طاعة الله جل وعلا.
أما باطنه فقد يكون مهدوماً, فربما كان ذا عقل دنيوي ضيق، لا يفكر في الآخرة ولا في الاستعداد لها، ولا يفكر في أمر الأمة ومصائبها ومشكلاتها، وطرق الخلاص منها وسبل العلاج, ولا يفكر في أمر الدعوة إلى الله تعالى والسعي في أسبابها, فأفكاره محدودة قصيرة, وطاقته العقلية ربما كانت مهدورة بغير طائل, أو هو ذو قلب لا يحمل المشاعر النبيلة العظيمة التي يجب أن تكون فيه, كمحبة الله تعالى، أو محبة عباده الصالحين، أو خوف الله, أو رجاء ثوابه, أو سوى ذلك من المشاعر المشروعة في دين الله تعالى؛ فهو يحب وكل إنسان من طبيعته أن يحب, وكل إنسان من طبيعته أن يبغض، إذ كل إنسان هو ذو قلب، والقلب هو محل الحب والبغض، والرضا والسخط، والفرح والحزن وما أشبه ذلك من المشاعر, فهو يحب, ولكنه يحب ويبغض في غير الله تعالى، فقد يحب أعداء الله تعالى, وقد يبغض أولياءه كما هو شأن المنافقين الذين يجعلون همهم وشأنهم وكيدهم مع اليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، ويبغض الإسلام وأهله والصالحين.
أو قد يحب ما يضله ويفسد عليه باطنه, كمحبة الصور الجميلة, صور النساء الجميلات, أو صور الغلمان الحسان، صورة رآها في شاشة أو شاهدها في مجلة, أو اطلع عليها، أو صورة إنسان بصر به في الطريق عياناً فأعجبه، وعلَّق قلبه بحبه, فأصبح هّمه بالليل والنهار التفكير بهذه الصورة التي ارتسمت في خياله، وتعلقت في قلبه، فهو يصحو وينام عليها، ويصلي ويسلم وهو لا يذكر سواها, فتستذل هذه الصورة قلبه وباطنه، ويتعلق بها أعظم من تعلق العابد بمعبوده, كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان |
وربما ذهب إلى الحج فوقف مع الناس بـعرفة والمشاعر, ورمى الجمار، وطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهلّت دموعه وصاح وناح، لا خوفاً من الله تعالى، ولا تأثراً بما يشاهد، ولكن شوقاً إلى محبوب حيل بينه وبينه، وربما كل صورة تذكره بصورة محبوبه، فكل صورة امرأة يراها تذكره بمحبوبه، أو كل صوت يسمعه يذكره، أو كل اسم ينادى به يذكره باسم من يحب, كما قال أحد المفتونين بالصور:
وداعٍ دعا إذ نحن بالـخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد وما يدري |
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـليلى طائراً كان في صدري |
وأصبح الكثيرون اليوم من الشباب ذكوراً وإناثاً، يرون أن فوات ذلك يعني فوات شيء عظيم؛ لأن أجهزة الإعلام التي تصبحهم وتمسيهم، والأفلام التي يشاهدونها بالفيديو، والمسلسلات التي يرونها في التلفاز، أو الأغاني التي تصدح وتملأ آذانهم وقلوبهم, أو الروايات الغرامية التي تباع في المكتبات والأسواق أو غير ذلك، كل هذه المعاني فضلاً عن الشلل والأصدقاء الذين جلّ حديثهم العلاقة مع فلانة أو فلان, وتبادل الأحاديث الغرامية، وكلمات الحب، أو المشاعر التي يبالغون في تضخيمها وتعاطيها؛ حتى يغروا بذلك غيرهم أو يُغرُوهم بالتعلق بمثل هذه الأمور, حتى أصبح هذا الأمر مصيبة عامة طامة لدى الكثير من الشباب, وربما تعلقت الفتاة بفتاة مثلها، فأصبحت تحاكيها وتركض وراءها, وتقلدها بحركاتها وسكناتها ولبسها وأعمالها وأقوالها وتسريحة شعرها, وكل أمورها، ولا تصبر عنها طرفة عين أو لحظةً من نهار.
وربما تعلق الفتى بشاب مثله، فأصبح يركض وراءه، يركب معه في السيارة، أو يُركبه في سيارته، ويقدمه على أهله ووالديه, ويحتفل به أعظم احتفال، ولا يصبر عنه، فإذا غاب أو سافر أصابه القلق والجزع والتوتر حتى يظفر به, وربما أعلم أن بعض الشباب يسافر مسافات بعيدة من أجل حبيبه ومعشوقه، وربما طلبت أمه أو أبوه أن يذهب لقضاء حاجة من البقالة على مسافة بضعة أمتار فلا يجيب ولا يفعل ذلك، فكل هذا من تعلق القلب بغير الله، وصرف هذه المشاعر المستودعة فيه إلى بعض المخلوقين الذين لا يضرون ولا ينفعون, بل محبتهم على هذا الوجه محبة ضارة يُعذَّبون بها في الدنيا، بأن يحول الله تعالى بينهم وبين من يحبون, فيعذبهم بمن يحبون في الدنيا, أما في الآخرة فإنهم يحال بينهم وبينهم، وتنقلب محبتهم عداوة, قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67], وقال سبحانه ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25].
وقد يترتب على هذا اللون من المحبة، أن يكره الواحد منهم ما يحبه الله, أو يحب ما يكرهه الله، أو يعترض على الله تعالى في شرعه, أو يعترض على الله تعالى في قضائه وقدره, كما كان أحدهم يتمنى حصول المعصية والفجور لا لنفسه فقط, بل لنفسه ولغيره من الناس، قال قائلهم:
فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان |
فيقضي حبيب من حبيب لبابة ويرعاهما ربي فلا يريان |
فانظر كيف تمنى أن يتاح الفساد, وأن تتاح الصلة بين كل عاشقين أو حبيبين على طاعة الله تعالى أو على معصيته، فلا يراهما أحد ولا يشي بهما أحد, وهذا محبة لما يبغضه الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
ومثل ذلك أيضاً: التسخط من القضاء والقدر, كما قال أحدهم وقد حيل بينه وبين من يحب:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا |
هذا اعترض على الله عز وجل، ومضادة له في حكمه القدري الكوني, وهو من عدم الرضا بالله تعالى رباً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سعد: {من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجبت له الجنة أو غفر له}.
ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى:
لقد سئم الهوى في البيد قيس وملّ من الشكاية والعذاب |
يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب |
فلهذا قال الله تعالى عن الكافرين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] فانظر كيف أصبح القلب هو المحور أو الدينمو أو الأصل الذي تنبثق منه كل الأمور، فأي قيمة لعبد ربما يعمل بعض الأعمال الظاهرة، لكنه يبغضها في قلبه؟! وربما يترك بعض المعاصي, ولكنه يحبها في قلبه ويتمناها ويفرح بحصولها، فإن ذلك -وإن كان العبد إذا أطاع الله تعالى فهو مأجور على كل حال- لكن هذا لا يزال يتمادى بالعبد حتى يفعل المعصية ويترك الطاعة.
ومثل هذا الإنسان الذي أحب ما كره الله, وكره ما أحب الله, من المقطوع به يقيناً أن جوارحه سوف تكون تبعاً لقلبه وما علقه من الحب لغير الله, أو من الخوف من مخلوق، الخوف من الناس، أو من مرض، أو من فقر، أو من موت، أن يخاف من سلطان أن يضره، أن يخاف من بعض رجال السلطان أو أعوانه أن يمسوه بسوء، ومثله -أيضاً- الطمع والرجاء في المخلوقين لتحصيل منفعة دنيوية بسببهم, أو علاوة أو وظيفة، أو دفع مفسدة عن نفسه أو أهله أو ماله, فإن القلب إذا تعلق بهذه الأشياء وتأله بها فإنه الملك، يملي على الجوارح ماذا يجب عليها أن تعمل، فتكون الجوارح تبعاً له، فإذا استعبد القلب بمثل هذه الأمور حباً أو خوفاً أو رجاءً، صارت الجوارح كلها تبعاً له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب} فالقلب يملي والجوارح تكتب.
واعتبر الله تعالى أن من لا يعمر قلبه بالمشاعر النبيلة من محبة الله, ومحبة الصالحين, ومحبة الخير, والخوف من الله تعالى ورجائه، وهذه المعاني الكبيرة العظيمة في القلوب؛ أن من خلا قلبه من ذلك فهو ميت, وإن شئت قلت: لا قلب له، فالمضغة موجودة لكنها خالية خاوية، قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ [فاطر:22] أي: المؤمن والكافر والعاصي والمتقي، وقال سبحانه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل البيت الذي يقرأ فيه القرآن والذي لا يقرأ فيه القرآن مثل الحي والميت} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37] فما الحيلة في من لا قلب له؟ وما الحيلة في من ليست عنده مشاعر؟ فهو لا يشعر بحب الله تعالى ولا بحب الصالحين، ولا يخاف الله ولا يرجوه، ولا يطمع فيما عنده, ولا يسأله أو يدعوه دعاء المخبت الأواه المنيب.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً |
إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ومن أقام على عذرٍ كمن راحا |
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة أقوام لم يعملوا خيراً قط؛ حيل بينهم وبين ذلك, أسلم ولم يسجد لله سجدة, ثم قتل بعد ذلك فدخل الجنة, وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لأصحابه: [[خبروني عن رجل دخل الجنة لم يسجد لله سجدة، فإذا عجزوا قال لهم: إنه
بعض الناس يظن أن هذا عذب لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهذا من الجهل العظيم، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشرائع التي يؤجر عليها العبد إذا نوى واحتسب، وإنما عوقب هذا الإنسان؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف، ولهذا قال: ولا آتيه، أي: المعروف، وقال: وآتيه، أي: المنكر.
إذاً هذا الرجل قد أصلح الظاهر وأفسد الباطن, فمثلاً وظيفته قد تقتضي أن يأمر وينهى، ولكنه يخالف إلى ما ينهاهم عنه, أو مركزه الاجتماعي يقتضي أن ينكر على الناس ما يراه من المنكرات، ولهذا كان عقابه، أما لو أنه أمر ونهى بصدق، لكان أمره ونهيه خيراً وبراً، حتى ولو ترك المعروف وفعل المنكر، فإنه يعاقب على ترك المعروف وفعل المنكر, ولكنه لا يعاقب على الأمر والنهي.
أما قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] فإن المعنى: أن الله تعالى عاتبهم ووبخهم وعاقبهم, لأنهم يتركون الحق وهم يعلمون، ويعرضون عنه، بخلاف الذي يفعل ذلك عن جهل, فإنه إذا علِّم امتثل, ولهذا ينبغي أن يُعلم أنه حق على الناس أن يأمروا بالمعروف ولو لم يفعلوه، وأن ينهوا عن المنكر ولو فعلوه.
ولو لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد |
ولا أحد معصوم أن يقع في خطأ، وإنما الواجب على الإنسان أربعة أمور:-
أولها: فعل المعروف.
الثاني: الأمر به.
الثالث: ترك المنكر.
الرابع: النهي عنه.
فإخلاله بواحدة من هذه المقامات الأربعة لا يبيح له أن يخل بغيرها, فواجب حتى على من يتعاطون الكؤوس ويشربون الخمر؛ أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك، وحتى الذين اجتمعوا على الفاحشة والمعصية، واجب أن يذكر بعضهم بعضاً بالله تعالى, ويحثه على ترك المعصية، والذين يتعاطون كل المحرمات حقٌ عليهم أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك.
إذاً الرياء في الأقوال والأعمال، هو أحد الأدواء القاتلة التي بها استحق هؤلاء النار والوعيد, فيكون ظاهر الإنسان العمل الصالح, أما باطنه فقد استقر على مراقبة المخلوقين، ورضي بثوابهم من ثواب الله تعالى, فيكفيه ما يناله من الناس من الحمد والثناء والإعجاب، وهذا نوع من النفاق كان السلف يتقونه ويخافونه, كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[والذي نفسي بيده ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن]] أي: الرياء والنفاق، فإنهم كانوا يخشون أن ترد أعمالهم، كما قال الله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] قال البخاري رحمه الله: (باب مخافة الإنسان أن يحبط عمله وهو لا يشعر) ثم ذكر حديث ثابت بن قيس بن شماس الذي ربط نفسه في بيته، وغاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً وهو يبكي ويصيح، ويقول: [[حبط عملي أنا من أهل النار]]حتى علم بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: {أخبروه أنه من أهل الجنة}.
ومداخل الرياء على النفس كثيرة جداً،, أذكر لكم في هذه العجالة أهمها، وسوف تبلغ -إن شاء الله- عشرين كما وعدت لكم في العنوان (عشرون طريقة للرياء).
وربما أظهر العمل ففعله أمام الناس حتى يروه ويحمدوه عليه, ولهذا كان الأصل في العبادة أن يسرها الإنسان, لأن ذلك أقرب للإخلاص وأبعد عن الرياء, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه قال: {أيها الناس، صلوا في بيوتكم, فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} ولهذا كانت السنة في النوافل أن يصليها الإنسان في بيته سراً، لأن ذلك فيه طرد للشيطان، وفيه إبعاد للبيوت أن تكون شبه القبور لا يصلى فيها، وفيه تدريب للأهل والأولاد على الصلاة، وفيه بعد عن الرياء: {أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} فجميع النوافل الأفضل أن يصليها الإنسان في بيته, اللهم إلا النوافل التي تشاع فيها الجماعة، كصلاة الكسوف مثلاً، أو الخسوف، أو الاستسقاء, أو العيدين عند من يقول باستحبابهما, أو صلاة التراويح, أو ما شابه ذلك.
وكذلك الصدقة، قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فالأصل في الصدقة الإسرار، ولا يظهرها إلا إذا أمن على نفسه الرياء، ورأى أن في إظهارها خيراً، إما أن فيه مصلحة لحث الناس على ذلك, أو إحياء السنة, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك من المقاصد الشرعية, أما إظهار العمل لغير ذلك فهو خلاف المشروع.
صلى رجل من الأعراب إلى جوار الأصمعي، فحسن صلاته وزينها, وأطال فيها الركوع والسجود, فلما سلّم، جاء إليه الإمام الأصمعي رحمه الله وقال له: ما شاء الله تبارك الله! ما أحسن صلاتك يا هذا! قال: نعم, فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم.
ومثل ذلك من يتصدق أو يقدم عمل خير ليكتب اسمه في الجريدة أنه محسن كبير، أو متصدق عظيم, أو أنه تبرع بكذا أو فعل كذا, أو ليسجل في التقرير الرسمي.
والمقصود أن هذه الأشياء قد تكون خيراً إذا نوى الإنسان فيها عمل خير، كحث الناس على الصدقة, أو دعوتهم إليها، أو التنافس في المعروف, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك، وقد تكون ضد ذلك إذا قصد بها الرياء، والعبرة بعمل القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14].
والدعاوى ما لم يقيم عليها بينات أصحابها أدعياء |
ما مر هذا الإنسان يوماً من الأيام من عند حلقة أحد العلماء, أو سلم عليه في طريق عابر, أو صافحه أو قبَّل رأسه, فإذا جلس قال: أنا لازمت الشيخ الفلاني، وأخذت عنه من العلوم كذا وكذا، وكنت من أخلص تلاميذه، وكان يؤثرني على غيري, ويقدمني ويأذن لي في كل وقت وظرف.
أعرف شخصاً يدعي أنه يحفظ القرآن بالقراءات السبع، ويقول: تعلمت العلم على يد شيخي فلان وفلان! ويذكر أئمة العلم والفتيا والدعوة في هذا الزمان، والذي أعرفه من حاله أنه كذاب كبير, لا يجيد قراءة القرآن نظراً فضلاً عن أن يحفظه، فضلاً عن أن يكون عارفاً بالقراءات أو غيرها.
فإن استقر الرياء في قلبه وعمل عملاً زائداً من أجل الناس, فإن كان هذا العمل يتجزأ، كأن تصدق بمائتين، الأولى لوجه الله، والثانية لوجه زيد أو غيره.
فالمائة الأولى بلغت محلها، والثانية لا يؤجر عليها بل يأثم, وإن كان العمل لا يتجزأ كالصلاة -مثلاً- فإنه لا يؤجر عليها, بل تذهب بسبب الرياء.
إن مقام الإخلاص الكامل هو مراقبة الله تعالى، والإعراض والانقطاع عن المخلوقين بالكلية، فلا يعمل من أجلهم، ولا يترك من أجلهم، وقد جاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- قولاً شديداً فيمن يترك العمل من أجل الناس، وقد يكون من أسباب ذلك أحياناً -وهو كثير- أن بعض الناس يتقدم للمسجد، فإذا رآه الناس خجل وخاف من الرياء, فأصبح لا يأتي إلا متأخراً، وربما تفوته الصلاة ثم يعتاد ذلك, فيصبح التبكير إلى المسجد من أثقل شيء عليه, وبعضهم يقرأ القرآن ويحفظه، فإذا رآه الناس أو أصبحوا يستمعون لقراءته أو يدعون إليه؛ خاف من الرياء فترك قراءة القرآن.
وربما يكون خطيباً أو مقرئاً للقرآن, أو معلماً، أو مدرساً، أو داعية، فيترك ذلك خوف الرياء، وهذا من الخطأ العظيم، فإن العبد ينبغي أن ينقطع عن المخلوقين، فلا يترك شيئاً لأجلهم، كما لا يجوز له أن يعمل شيئاً من أجلهم.
وربما كان من أسباب ذلك: أن العمل الذي عمله عظم في عينه، قام رجل فخطب الجمعة، أو تكلم بعد الصلاة بكلمات يسيرات، أمر فيها بالمعروف أو نهى فيها عن المنكر, فخيل إليه حينئذٍ أن هذا العمل الذي قام به عمل عظيم جليل فيه صلاح الأمة، وأن الناس تحدثوا بكلامه، وذهبوا به وطاروا به كل مطار، وأنه أصبح حديث المجالس, فلذلك دخله شيء من العجب، خاف من أثره أن يتحول إلى رياء، وما ذلك إلا لأنه لم يتعود على مثل هذه الأعمال الصالحة، ولذا الإنسان الذي من عادته أن يصلي مع الجماعة, لا يرى في صلاة الجماعة رياء ولا مظنة رياء, لكن الجديد الذي يصلي لأول مره وقبل ذلك كان متخلفاً، يخشى على نفسه من الرياء، فإذا اعتاد زال خوف الرياء من قلبه, وهكذا سائر الأعمال الصالحة إذا تعودت عليها شعرت بأنها أعمال عادية كل الناس يعملونها, وأنها ليست أعمالاً عظيمة، ولا تستحق أن تخاف بسببها على نفسك الرياء، وبعض الناس يتركون الأعمال الصالحة بسبب أن الناس تكلموا فيهم وأثنوا عليهم بذلك، والواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم {تلك عاجل بشرى المؤمن}.
ومن ذلك: أن الإنسان قد يخفي العبادة ظاهراً, لكنه يسعى إلى أن يعلمها الناس بأسلوب لطيف خفي غير مدرك, كمن يسبح سراً، أو يستغفر سراً لكنه يصفر بحرف السين حتى يسمعه الناس، فهو قد أخفى العبادة وفي نفس الوقت حاول أن يسمعه مَنْ حوله, حتى يقولوا: ما شاء الله فلان عابد، لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله تعالى, ومع ذلك فهو بعيد عن الرياء لأنه يخفي العبادة، وإنما لاحظنا ذلك من حركة شفتيه أو وصوصة لسانه, أو من تحرك يده بالذكر أو ما أشبه ذلك.
وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فقد يفعل الإنسان هذا من غير قصد الرياء فلا يضره ذلك, وبعضهم قد يتصدق باسم فاعل خير، ثم يدس بين الناس من يشيع أن فاعل الخير هو فلان بن فلان؛ ليجمع بين الصدقة والتظاهر بالإخلاص وكره الرياء، والله تعالى يقول: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14].
وبعضهم إذا قرب إليه طعام، قال: أنا صائم! وذاك لصوم نفل، وأشد من ذلك أن بعضهم إذا قرب إليه طعام قال: اليوم خميس, وكأنه بذلك يشير، ويقول للناس: أنا أصوم في كل يوم خميس! فلماذا لم تعلموا هذه العادة مني؟ ولماذا تقربون لي الطعام، وأنتم تعلمون أن من عادتي صيام يوم الخميس؟ والنبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أنه إن كان مفطراً فليأكل, وإن كان صائماً فليدع لهم بالبر والبركة فيقول: بارك الله لكم في طعامكم وفي شرابكم، وفيما رزقكم، وما أشبه ذلك.
ومن هذا أن يتظاهر الإنسان بالتواضع, وعيب النفس ولومها وسبها وتوبيخها؛ فيقوم بكل مناسبة ينسب لنفسه النقص والعيب: أنا مسكين! الله المستعان ما عملنا شيئاً، وقصده إظهار التواضع، وربما سب نفسه عن اعتقاد في نفسه أنه لا يرى نفسه شيئاً، أو عن غير اعتقاد، لكن ليظهر التواضع, فيأتيه الشيطان ويقول له: أبشر قد نجوت من الرياء، وإنما سحبه الشيطان إلى الرياء على وجهه، بإظهار التواضع وذم النفس وعيبها، فلا تسب نفسك ولا تمدح نفسك أيضاً.
ومن ذلك أن الشيطان يأتيه من قبل عيب الآخرين، لأنه إذا عاب فلاناً فمعنى ذلك أنه نجا وسلم من هذا العيب الذي اتهم به غيره, فيقول: فلان والعياذ بالله لا يقوم الليل أبداً, وفلان ما رأيته صائماً أبداً, وفلان لا تجود يده بالخير على الرغم أنه أكثر مالاً مني, ومراده أن يقول: أنا لست كمثلهم، فلي حظ من صلاة وصيام وصدقة، ولو عقل لقال:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل |
ولقال كما قال الشافعي:
لسانك لا تذكر به عورة امرىءٍ فكلك عورات وللناس ألسن |
وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل يا عين للناس أعين< |
ومن ذلك: أنه حينما يأخذ الناس على الإنسان نظرة معينة، أنه من أهل الخير والصلاح, فإن النفس تحب كسب الجاه عند هؤلاء الناس عن هذا الطريق, ويخشى الإنسان أن تنكسر منـزلته لو فرط في شيء, فيجاريهم ويباريهم في أشياء يفعلها أو يظهرها لهم, لا تديناً! لكن ليحافظ على مقامه عندهم، وربما تكلم ووعظ وهو لا يريد ذلك, ولم يجد له مناسبة ولا تنشط نفسه إليه، ولكنهم تطلعوا لذلك وخشي أن تنكسر منـزلته أن يكون حضر مجلساً فلم يتكلم فيه, أو ينهى عن شيء وليس مقصوده النهي عن المنكر؛ لكن مقصوده أن يقول للناس: أنا دائماً وأبداً كما تظنون محتسب، في شخصية دينية تجعلني لا أترك شيئاً يمر إلا بينته، والأمر كما ذكرت: إنما الأعمال بالنيات، فقد يكون أراد وجه الله تعالى فيؤجر على ذلك, وقد يكون أراد حفظ جاهه عند الناس فليس له إلا ما نوى.
ومراده أن يقول: إني كنت يقظاً، ولهذا بعض السلف لما قال: [[أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ استدرك، وقال لجلسائه: أما إني لم أكن في صلاة, ولكني لدغت]] فهو أراد نفي ما قد يتبادر إليهم أنه كان يصلي, فقال: إني لدغت، فكان هذا هو السبب في عدم نومي.
فبعض الناس يقول: فلان أذن البارحة قبل الموعد، ومراده أن يقول: إني كنت مستيقظاً آنذاك.
وهذا إن كان قصده الرياء فعمله حابط، وإن لم يكن قصده الرياء -فكما ذكرت- أقل ذلك أن ينتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فيقل الثواب وينقص الأجر.
ويبدأ يسرد بعض الأشياء التي تحفّظها, وما مراده إلا أن يقول للناس: إنه عالم ليشار إليه بالبنان، ثم يتكلم بما لا يعرفه من حوله من هذه الأمور، وربما تشدق ببعض العبارات التي لا تصلح إلا لأهل العلم, فربما قال: أنا أرى كذا وكذا... وعندي أن الأمر كيت وكيت، وأنا أقول هكذا، والذي يغلب على ظني، والذي يظهر لي، والذي يخطر ببالي، وقلت, وما أشبه ذلك من العبارات التي هي شأن أهل العلم والتحقيق والنظر, وليست شأن الضعفاء والمبتدئين، ولهذا قال أحدهم:
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند |
والعالم الحق لا ينظر إلى نفسه ولا يأبه بها.
والثاني: متصدق، والثالث: مجاهد، وكلهم فعلوا ذلك في غير مرضات الله تعالى.
ثم إن مثل هذا الإنسان الذي جعل له جاهاً أو منـزلة علمية, قد يسأل عن مسألة فلا يعرفها ولا يدركها, فيخشى إن قال: الله أعلم أو لا أدري؛ سقطت مكانته أو هيبته عند الناس, وظنوا به الظنون وأعرضوا عنه، فيقول العوام: كيف ما تدري وأنت عالم؟ هذا مكان ليس مكان لا أدري, هذا مكان العلم.
لهذا بعض أهل العلم عندما صعد المنبر فسئل, قال: لا أدري، قال أحد الحضور: هذا ليس مقام لا أدري, هذا مقام العلماء.
قال: إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء، وقال الإمام مالك رحمه الله: (إذ ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) فبعض الناس يخشى، إن قال: لا أدري أن يسقط من أعين الناس؛ فيفتي بغير علم.
أحد العلماء سألته امرأة! فقالت له: يا فلان -وكان محدِّثاً ليس له بصر بالفقه- قالت له: يا فلان رحمك الله عندي دجاجة سقطت في بئر, فما الحكم فيها؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون, كيف سقطت الدجاجة في البئر؟! قالت: سقطت، قال: لماذا لم تضعِ على البئر شيئاً؟! قالت: يا فلان رحمك الله ما وضعت.
وإنما مراده أن يتلهى ويتسلى ويتهرب من قول لا أدري، وهو لا يستطيع أن يفتي, فقال بعض الحضور يا فلانة، إن كان الماء قد تغير بهذه الدجاجة فهو نجس، وإن كان لم يتغير فهو طاهر.
فالجهاد باب عظيم من أبواب الجنة، ولكن مع ذلك الجهاد له ضوابطه وأسبابه وأعماله, فالمجاهد ينبغي أن يتعلم آداب الجهاد حتى يعلم كيف يجاهد؟ وأين يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ وتحت أي راية يجاهد؟
من ذلك أن المجاهد لابد أن يجاهد نفسه على صلاح النية, فكم من قتيل بين الصفين الله تعالى أعلم بنيته، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
وقد قتل رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {هو في النار، هو في النار} ثم ذكر أنه رآه يعذب في بردة غلها، وآخر كان منافقاً قاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما اشتدت جراحه اتكأ على السيف، وطعن به بطنه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره, فمات منتحراً -والعياذ بالله تعالى- وقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء بأنهم من أهل النار.
إذاً لا بد من تصحيح النية, ولا بد من العلم والمعرفة, ومع ذلك لا بد من إذن الأبوين.
كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، يقولون لي: نريد الذهاب إلى الجهاد، أين؟ أمس كانوا يذهبون إلى أفغانستان, ونِعمَ ما فعلوا, فقد سطروا أعظم آيات البطولة والرجولة والفداء والاستعلاء على الدنيا، ورأينا الشباب الذين غرقوا في الملذات والترف، وتوقعنا أنه لا تقوم لهم قائمة, إذا هم ينتزعون أنفسهم انتزاعاً، ويذهبون من النعيم والسرور والراحة والدعة, بل من أماكن اللهو واللغو واللعب مع أقرانهم وزملائهم، حتى يبحثوا عن الموت في سبيل الله تعالى على ثرى أفغانستان أو جبالها وترابها ووديانها, ولهم في ذلك أقاصيص وبطولات امتلأت بها بطون الكتب والأشرطة.
المهم أنهم أمس كانوا يجاهدون في أفغانستان, أما اليوم فمجموعات من الشباب المجاهدين في البوسنة والهرسك, أو في طاجكستان، أو في غيرها من بلاد الإسلام, التي ترفع فيها راية الجهاد, ونِعمَ ذلك.
فإنه مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الجهاد قائم إلى قيام الساعة} على رغم كل الظروف والتخلف الذي يمر بالأمة, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه، وإذا استنفرتم فانفروا}.
ولكن ينبغي أن يعلم أن الجهاد لا بد فيه من إذن الأبوين، فبعضهم قد يخرج للجهاد دون إذن الأبوين: {فقد جاء رجل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: إيمان بالله ورسوله, قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين, قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله تعالى, وجاء رجل من اليمن فقال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن مجاهداً وتركت أبويّ يبكيان, قال: {ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما، ارجع ففيهما فجاهد}.
وأخرج عمر رضي الله عنه رجلاً في الغزو، فجاءه أبوه يشتكي ذهاب ولده، ويشتكي عمر رضي الله عنه، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالته بكى، وأرسل إلى الجيش أن يعود فلان إلى أبيه، فلازمه حتى مات، فبعضهم قد يأتيه الشيطان من جهة هذا الأمر الذي هو خلاف الشريعة، فيزين له -مثلاً- فريضة من الفرائض ولو كان غيرها ألزم منها وأوجب، فيغريه بذلك حتى يتركه، وربما قال له: إن هذا الأمر فرض عين، وهي من المسائل العويصة التي لا يستطيع أن يفتي فيها إلا أئمة أهل العلم، وربما عاب من لا يفعل ذلك ولا يعمله وعده من القاعدين.
أبا خالد انفر فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد |
أتزعم أن المؤمنين على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحد |
وربما تحدث عن مشاهد فقال: رأيت كذا، وفعلت كذا, وحصل لي من الكرامات كيت وكيت.., وربما ادَّعى بعضهم ما ليس له، وقد رأيت أحدهم وقد ربط يده وزعم أنه أصيب في أحد المعارك، ولما تحققت منه تبين لي أنه كان يتشبع بما لم يعط، ويدعي ما لم يحدث له.
تحدث بعضهم فقال: خرجنا مع الجماعة إلى قتال الروم، فقام رجل من الروم قوي شديد بأسه، لا يعرض له شيء من المسلمين إلا ضربه بسيفه, حتى خافه المسلمون خوفاً شديداً، فتصدى له رجل من بين المسلمين ملثم، فعرض له فضربه حتى قطعه، ثم انصرف إلى المعسكر. وهو ملثم, قال: فأقبلت عليه ففتحت لثامه لأنظر من هو، فإذا هو الإمام الجهبذ الفقيه المحدث المتصدق عبد الله بن المبارك، فغضب لذلك غضباً شديداً, وقال: حتى أنت يا فلان تشنع علينا -أي: تشهر بنا وتفضحنا بأعمالنا- فانظر كيف سعى إلى التستر بعمله وعدم إظهاره، ثم انظر كيف قدر واستطاع أن يجمع بين الأعمال الصالحة كلها، من العلم والفقه والجهاد والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
بل الذي يليق بالداعية أن يحرص على أن يكون حسن الثياب, حسن الهيئة, حسن الشعر, حسن المظهر، طيب الرائحة, ويعتني بتسريح شعرة وتصفيفه وتزيينه بما لا يضيع وقته، أو يفضي به إلى الانشغال بذلك والانهماك به, ولكنه يحفظ له هيئته وحسنه وبعده عن كل الأشياء التي يعاب بها.
ومن أعظم ذلك إغراؤه بعض الناس بالعبادة لئلا يكون منافقاً، فمثلاً: شاب أعزب -والغريب أنه جاءني سؤال الآن في هذا الموضوع بالذات- شاب أعزب عنده محافظة على الصلوات، وصحبة أخيار وبر، وربما كان قارئاً للقرآن، أو معلماً أو داعية, ولكنه يمارس بعض المعاصي سراً، كالعادة السرية أو النظر؛ أو ما أشبه ذلك من الذنوب التي يرجى له أن يتوب منها, وأن يقلع عنها عاجلاً غير آجل, فلا يزال الشيطان به حتى يقول له: أنت منافق, لأنك تتظاهر بشيء وأنت في الباطن شيء آخر، وبدلاً من أن يقنع نفسه بترك المعصية والإقلاع عنها حتى يتمحض بالخير؛ فإن الشيطان يغريه بترك أعمال الخير، وترك مجالسة الصالحين, أو الصلاة, أو التعليم, أو الإمامة, بأن يقول: لا يليق بك أن تجمع بين هذا العمل الصالح في الظاهر, وذاك العمل الخبيث في الباطن، ولو علم الناس ما تعاني وتفعل وأنت في خلوتك وسرك؛ لبصقوا عليك وابتعدوا عنك وأعرضوا، فلا يزال الشيطان به حتى يترك الأعمال الصالحة، مع أن الله يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
إنما الناس هم الذين زهدوا فيَّ.
الجواب: هذا ليس تناقضاً ولا مجال للإختلاف بينهم، فإن الأمر بالمعروف واجب على كل إنسان, والنهي عن المنكر واجب علينا جميعاً, وهل تعتقد أن أحداً يعاقبه الله تعالى لماذا تأمر بالمعروف؟
أو تعتقد أن الله تعالى يعاقب إنساناً لماذا تنهى عن المنكر؟!
إنما العقاب لماذا تفعل المنكر, ولماذا تترك المعروف مع أنك تعرف، والدليل عليك أنك كنت تأمر وتنهى, فالناس ظنوا أن هذا الإنسان سوف يكون في الدرجات العلا من الجنة, لأنهم ربما استفادوا منه وتركوا بعض المعاصي، أو فعلوا بعض الطاعات, ففوجئوا بأنه معهم في النار، هذا غريب، لم؟!
قال: لأني كنت آمركم بالمعروف لكن ما كنت أفعله, وكنت أنهاكم ولكن ما كنت أنتهي، هذا هو العبرة.
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالرقية، بل أمر بها وقال عليه الصلاة والسلام: {اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً} وهو في صحيح مسلم، وفي صحيح مسلم أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: {من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل} فالقراءة على المريض المصروع بالجن أو بالعين, أو بالسحر مشروعة، ومن فعل ذلك فله عند الله أجر عظيم، وهذا من الرقية الشرعية التي يستغني بها الناس عن الذهاب إلى السحرة والكهنة والعرافين والمنجمين، الذين يأخذون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم، ويستعينون بالجن على التعرف في أحوال المريض، إذا جاء المريض لمن يدَّعي العلاج والطب قال له هذا المتطبب: أنت شأنك كذا, واسم زوجتك كذا, وعملك كذا، ويوم كذا كنت في كذا.., فتحس بكذا...
لأن هذه المعلومات قدمها له قرينه من الجن، فإذا رأى المريض أن هذا المتطبب يعرف هذه الأسرار؛ وثق به وأسرع إليه, وصدق كل ما يقول، حتى لو ادَّعى عليه دعوى أنك مسحور من قبل شخص شأنه كذا.., وصفته كذا.., يأتي بعموميات قد تصدق على كل إنسان، أو أن بك عين أو جن, أو ما أشبه ذلك، فصدق هذا، وكان سبباً في الفراق بينه وبين زوجته, أو مفارقة أصدقائه, أو العداوة بينه وبين أقربائه, أو جيرانه, وأخذ أمواله وأفسد عليه دينه، وربما أغراه بأن يذبح للجن والعياذ بالله أو يتقرب إليهم بالقرابين، أو يفعل معهم الفواحش, وربما ارتكب الشرك كالذبح للجن، أو التقرب إليهم بالعبادات التي لا تفعل إلا لله تعالى، وهذا من أعظم الأمور التي ينبغي أن يوعَّى الناس بها، ويُبيَّن لهم أن هؤلاء القوم لا ينفعون، بل يضرون، وأنهم أكلة ومرتزقة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم ولا ينفعونهم بشيء، وإنما الضار والنافع هو الله تعالى.
فمن أصيب بشيء من ذلك فعليه أولاً بكثرة الدعاء، والإنكسار لله تعالى، واختيار أوقات الدعاء التي يستجاب فيها الدعاء, كالدعاء بين الآذان والإقامة, والدعاء في الثلث الأخير من الليل, والدعاء في أدبار الصلوات المكتوبات، والدعاء في أثناء الصلاة في الركوع والسجود، وكذلك الدعاء يوم الجمعة بعد دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وفي آخر ساعة من الجمعة, وتحرِّي أيضاً الأحوال الفاضلة, كتحري نـزول المطر مثلاً، والانكسار لله والخضوع له، وأن تدعو الله بالأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا تتعدى.
وأن تقدم بين يدي الدعاء الصدقة والقربان، والخروج من الذنوب والمعاصي, فحينئذٍ يستجيب الله لك كما قال سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
ومن ذلك: أنه لا بأس أن يذهب فيسائل بعض القراء الموثوقين، المعروفين بالصلاح والتقوى والورع, ممن يقرأ على المريض شيئاً من القرآن, أو من الأدعية المشروعة وينفث عليه، فيكون سبباً في ذهاب الجن أو السحر, أو أن العين عن الإنسان, أو يخف ذلك عنه مع الوقت.
ومن ذلك: أن يقرأ الإنسان على نفسه آية الكرسي، وبعض السور القصار كسورة الإخلاص والمعوذتين وينفث، ويحافظ على الورد صباحاً ومساءً، فإن ذلك ينفعه بإذن الله تعالى.
ومن ذلك: فعل الأسباب المادية المباحة، كأن يظن الإنسان بشخص -مثلاً- أنه وقعت منه العين، فيأتي بشيء منه يغسل ثيابه أو يغتسل له, أو ما أشبه ذلك، ويصب على بدنه، أو يظن أن فلاناً وضع له سحراً, فيبعث إليه من يحاول أن يغريه بأن يبين له مكان السحر وما أشبه ذلك, حتى يزول عنه -بإذن الله تعالى- كما حصل بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام, فإنه سحره لبيد بن الأعصم كما في الصحيح، وجاء الملكان فأخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بالذي فعل السحر, وهو لبيد بن الأعصم، وأين مكان السحر وهو بئر معروفه وهي بئر ذرمان في المدينة، وأن السحر كان في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد حاجة لإخراج السحر وإتلافه، لأنه قال: {أمَّا أنا فشفاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شراً}.
أما الذهاب إلى السحرة والعرافين والمنجمين، وتوسع الناس فيه على نحو ما يجري الآن؛ فهو من أعظم المخاطر, فإن معظم الناس يصاب بمرض عضوي في بدنه، أو مرض نفسي, أو توتر, أو قلق, أو ما أشبه ذلك, فلا يعرفون أبداً إلا أن يذهبوا للسحرة والكهنة في هذه البلاد وفي بلاد أخرى, فيعطونهم أموالهم ويصدقونهم فيما يقولون، وقد جاء في ذلك الوعيد الشديد، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وفي الحديث الآخر: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم}.
الجواب: كلا هذا ليس بصحيح, وإن كان الرياء من الشرك، يصير الرياء شركاً، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه الشرك الأصغر, سئل عنه فقال: الرياء.
الجواب: هذا من أعظم الذنوب، ويخشى أن يكون مقراً بهذا الأمر أو راضياً به, لأن العار في بقاء ذلك واستمراره، وليس في قيام الدعوة في أوساط قومه أو قبيلته، وأمرهم بالمعروف أو نهيهم عن المنكر, بل عليك أن تكون داعية في وسط قومك إلى إزالة هذا الشرك، وأن تنشر من الكتب والأشرطة والدعوات والمنشورات، التي تبين ذلك وتزيله.
الجواب: لقد بينت -لك يا أخي- أثناء الكلام أن ذلك من أعظم مداخل الشيطان, لأنه لو فتح هذا الباب على الناس ما عمل أحد طاعة، لأن الشيطان مسلط على كل الناس، وليس عليك أنت فحسب، فما من إنسان يعمل طاعة إلا ويأتيه الشيطان من أبواب عدة؛ منها: أن يقعده عن هذه الطاعة ويثقلها عليه, ومنها: أن يغريه إذا فعلها أن يكون مرائياً أثناء فعلها, أو ما أشبه ذلك، فعليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعتصم بهذا الدعاء: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وتستمر في هذه الأعمال، ومع الوقت يزول عنك هذا بإذن الله تعالى.
الجواب: لا تركز على كلمة واحدة وتغفل عن كلمات, فإن الأمر لا يستدعي وسوسة, ولا تنطعاً، بل عليك أن تعمل لله تعالى وتترك الناس، فلا تأبه بهم, وتجاهد نفسك في ذلك حتى تموت: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وأعظم ما أحذرك منه أشد التحذير؛ أن تترك العمل الصالح خوف الرياء.
الجواب: التفصيل سبق, عليك أن تسعى إلى إخفاء أعمالك الخاصة من العبادات, إلا إذا أمنت على نفسك الرياء، ورأيت في إظهارها خيراً أن يقتدي بك الناس من أهلك أو طلابك أو غيرهم, أو رأيت في ذلك مناسبة ومنابذة للعدو، وبياناً لقوة شأن الإسلام, أو رأيت في ذلك حثاً للآخرين على أن يعملوا مثل عملك.
وهل تدخل الملائكة غرفته؟
الجواب: إذا كانت هذه الغرفة تخلو من المنكرات؛ فيرجى أن تدخلها الملائكة، وعلى هذا الإنسان أن يحرص على أن يقيم أوثق الروابط مع أهله مع أمه وأبيه وأخواته وإخوانه، بحسن المعاملة، وطيب الحديث، والهشاشة والبشاشة ولين الكلام، وخدمتهم فيما يستطيع من أمر الدنيا والدين, ومع ذلك عليه أن يبذل وسعه في دعوتهم.
فاجعل في البيت مكتبة صوتية فيها بعض الأشرطة المختارة الجذابة، ومكتبة فيها بعض الكتب والقصص البسيطة والأناشيد، والوعظ والإرشاد، والأحاديث والآيات التي تعجب أهلك كباراً وصغاراً، واجعل للبيت برنامجاً، درساً في الأسبوع تجمع فيه الصغار على آية من كتاب الله, أو حديثاً عن رسوله، أو مسابقة، أو تدريباً على عبادة من العبادات، أو تعليماً لعقيدة من العقائد, أو حكم من الأحكام, أو أبياتاً من الشعر الحكيم يحفظونها أو ما أشبه ذلك، حتى تؤثر فيهم مع الوقت وعليك ألاَّ تيأس.
بعض الشباب يقولون: فعلنا فلم يستجب لنا ولكن يا أخي، أين أنت من نوح عليه السلام؟!
ألف سنة إلا خمسين عاماً، أنت كم دعوت، أسبوعاً شهراً سنةً؟
اصبر فما لم يأتِ في هذا العام قد يأتي بعد عامٍ أو عامين, ولو أن كل شابٍ جعل من نفسه داعية في بيته, لاستطعنا أن نوصل الدعوة إلى كل الدنيا.
الجواب: هذا من أخطر الأشياء التي يقع فيها بعض الشباب, فأنت تجده مع الناس كالريح الهادئة, كالهواء العليل حين يدخل في النفوس ويحبه الجميع، أخلاقه طيبة, كلماته هادئة, وديع، خدوم صبور مبتسم, أما مع أهله فهو ينقلب إلى وحش ضار، أو إمبراطور يأمر وينهى في البيت؛ فهو على أمه وأبيه، وعلى زوجته وعلى أطفاله شديد عسر، وهذا خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم, فإن الأهل والأقارب أحق ببر الإنسان أدناه فأدناه، وقرابته وأهل بيته أحق بحسن صحبته, وحسن خلقه, وطيب كلامه, ولين حديثه, وعليه أن يستغفر الله تعالى, وألاَّ يتعمل ويتزين للناس بحسن الخلق, ويكون مع أهله على النقيض من ذلك.
الجواب: يا أخي، الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود يشكو إليه بعض الأنصار أنهم ضربوه، لماذا؟ لأنه حلف بالذي فضَّل موسى على العالمين, فقام إليه رجل من المسلمين وضربه, أتقول هذا وأنت بين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {لا تفضلوا بين الأنبياء، فإني أكون أول من يفيق يوم القيامة؛ فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الصور؟؟} فالمقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التفضيل بين الأنبياء على جهة تنقص بعضهم من بعض, وإلا فإن الله تعالى يقول: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:25] وقال عليه السلام: {لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وهكذا ينبغي أن يقال فيما يتعلق بتفضيل بعض العلماء على بعض, أو بعض الدعاة على بعض, لا يجوز أن يكون هذا مدعاة إلى التغاير والتباعد, واختلاف القلوب والتعصب، هذا يتعصب لهذا وهذا يتعصب ضده، ثم تقوم مناظرات ومجادلات ومقالات وكلام.
يا أخي! اشتغل بالعمل النافع -جزاك الله خيراً- دع عنك أهل العلم، ودع عنك أهل الدعوة, ودع عنك أهل الخير، دعهم لربهم الذي خلقهم فهو يتولَّى حسابهم, واشتغل بنفسك، قم بعمل ينفعك عند الله تعالى، دعوة، أو طلب علم أو جهاد أو خير أو بر أو معروف، فإن قلت: لا, قلنا لك على أقل تقدير قم بعمل ينفعك في دنياك، تجارة أو زراعة أو إدارة أو تعلم دنيوي, أو ما أشبه ذلك، ولا تكل لا هذا ولا ذاك، ما عملت لدينك ولا عملت لدنياك.
الجواب: مسألة تعدد الزوجات قضية ينبغي أن نتحدث عنها بشيء من التفصيل, لأن المستمعين من الطرفين الرجال والنساء؛ فنحن ينبغي أن نقول الحق دون أن نداهن طرفاً على حساب الطرف الآخر, لكن ينبغي أيضاً أن يقال الحق كله لا يقال بعضه.
ولذلك أشير للإخوة إذا وقع في كلامي تقصير، على أنني ربما تكلمت عن هذا في مناسبات عديدة في مجموعة من الأشرطة المتعلقة بالرجل والمرأة, والعلاقات الزوجية، وأحكام الطلاق, وما أشبه ذلك، وهي موجودة ومتداولة، فعلى كل حال أقول:
أولاً: إذا كان الإنسان يعيش مع أهله في سعادة وارتياح، وليس هناك ما يدعوه إلى تعدد الزوجات، فلماذا يتزوج بأخرى؟
لماذا يسارع في ذلك؟!
أقول هذا ليس تنفيراً عن أمر أباحه الله عز وجل، ولكن لأنني أرى أن بعض الشباب قد يتعجلون في هذا الأمر وظروفهم المادية والنفسية والبيتية والاجتماعية, لا تسمح بذلك. هذا جانب.
ثانياً: إن الذي يريد أن يتزوج بأخرى -غالباً- سوف تكون شروطه أقل, لأنه يقول: أنا معي زوجة، فأعلم أن الفتاة الجميلة -مثلاً- لن تقبلني، وأن الصغيرة لن تقبلني، إذاً هو سوف يتنازل عن بعض الشروط, ويتزوج بمن تكون أوصافها في نظره أقل، وهذه مقاييس كثير من الناس، مقاييش شكلية، وإلا فالواجب أن ننظر إلى مجمل المقاييس الشكلية والمعنوية: الأخلاق والدين والعلم والعقل وغير ذلك.
المهم أن بعض هؤلاء ينظرون هذه النظرة، فإذا تزوج الأخرى لم تعجبه, لأن الأولى أفضل منها, أو أجمل منها, أو أحسن منها, وربما عاش معها فترة أول الزواج لأنها جديدة, وكل جديد له لذة, ثم أعرض عنها وطلقها، وكانت بعد ذلك مشكلة ترتب عليها ضياع ماله عليه، وارتكاب الديون على ظهره, أنه ربما حطَّم مستقبل هذه المرأة، ربما حملت منه وأنجبت، وترتب على ذلك مشاكل عديدة كان في غنى عنها, لو أنه درس قرار الزواج الثاني دراسة وافية.
إذاً أنا لا أقول: لا تتزوج، فالله تعالى يقول وقوله الحق: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3].
لكنني أقول بوضوح: ادْرِس قرار الزوجة الثانية دراسة متأنية قبل أن تقدم عليه، وإذا كنت درست قرار الزواج من الأولى شهراً, فادرس قرار الزواج من الثانية سنة، ولا يضرك أن تتأخر, فأنت لا زلت شاباً في مقتبل العمر.
ثانياً: إذا تزوجت بالأخرى فعليك بالعدل مع الزوجتين, فلا تنس الأولى أو أولادها, أو تأخذ من حقها, أو تنشغل بالثانية، أو حتى تنشغل بالأولى وأولادها, وأنك تسعى إلى تطييب خاطرها وتقصر في حق الثانية.
ثالثاً: على الإنسان إذا هم بالزواج وصدق عزمه في ذلك, ألا يميت زوجته الأولى مرات ومرات, كلما دخل عليها قال: يا فلانة! أريد أن أتزوج, أنا خطبت, أنا فعلت, أنا قلت, إن كان ولا بد فمرة واحدة, ولا داعي لأن يصفق قلبها صباحاً ومساءً بهذا الخبر الذي بالتأكيد لن يكون ساراً لها.
الجواب: أولاً: أدعو الله لك بكل وسيلة مقربة مباحة لديه؛ أن يكفيني وإياك شر المعاصي كلها ظاهرها وباطنها, وأن يرزقني وإياك الإقلاع عن الذنوب كلها, وأن يعينك على التخلص من هذه الآفة السيئة, وسائر المدخنين من الحاضرين خاصة ومن المسلمين عامة, ثم إن للتخلص من التدخين أسباباً كثيرة:
منها: صحبة الأخيار, ومنها: الانشغال بالأعمال الصالحة, ومنها: التقليل من كمية التدخين شيئاً فشيئاً حتى يُتخلص منه, ومنها: أن تستفيد من مناسبة رمضان في ترك ذلك، ومنها: ألا يجالس المدخنين ولا يقترب منهم، ومنها: أن يراجع العيادات المختصة بذلك، فقد تقدم له بعض النصائح، وبعض الأشياء التي تعينه عليه.
الجواب: يا أخي أنت كما قال القائل:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة |
فأبشر بخير كثير, لأن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أنت مع من أحببت قال قال: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و
وقائل: هل عمـل صالــح أعددته ينفع عند الكرب |
فقلت: حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب |
عليك بصحبة الأخيار, وعليك أن تكثر من حضور المجالس, وعليك أن تزين نفسك أبداً بالطاعات، ولا تتهاون بشيء من الذنوب والمعاصي مهما قلَّ.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى |
الجواب: أسأل الله أن يرزقني وإياك وسائر المجاهدين الشهادة في سبيله، اللهم ارزقنا جميعاً الشهادة في سبيلك محسنين غير مسيئين إنك على كل شيء قدير, اللهم اجعلنا ممن يخصص لهم اثنتان وسبعون من الحور العين، اللهم اجعلنا ممن يحلَّى على رؤوسهم تاج الوقار؛ الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، اللهم اجعلنا ممن يشفَّع في سبعين من أهله, اللهم اجعلنا ممن يغفر له مع أول قطرة من دمه، اللهم اجعلنا ممن يأمن من عذاب القبر، يوم يحشر الناس في قبورهم.
عليك أن تسعى إلى سماح أهلك بكل وسيلة، بالأسلوب الطيب، والكلمة، والمحاولة، والصبر، فإذا عجزت فابعث إليهم بعض الأحباب الأخيار، أو طلبة العلم يحاولون إقناعهم، وأن يكون جهادك مؤقتاً لفترة محدودة ثم تعود إليهم بعد ذلك، ولا بأس أن تقرأ عليهم بعض ما ورد من النصوص في فضل الشهادة والجهاد, وأنهم هم المستفيدون منك حياً وميتاً إن شاء الله تعالى فإن مت فأنت شفيع إن شاء الله تعالى، لهم يوم القيامة كما جاء في الحديث، وإن حييت فأنت ابنهم البار، وعليك أن تسعى في ذلك وتدعو الله تعالى حتى تتيسر لك الأبواب، وإن صدقت الله تعالى صدقك الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {من سأل الله الشهادة صادقاً، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات علـى فراشه}.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر