إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة أنهم لا ينفون صفة من صفات الله التي وردت في القرآن، ومنهجهم في ذلك أنهم يثبتونها من باب التسليم لله عز وجل والامتثال له، مع إثباتهم لها من باب أن المعاني التي دلت عليها مما يحكم العقل بوجوبه في حق الله تعالى، وأنها تعد من الكمال.

    1.   

    وجه إثبات الصفات عند أهل السنة

    قال المصنف رحمه الله: [ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلام عن مواضعه] .

    (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه) أي: أن أهل السنة والجماعة لا ينفون صفةً من الصفات قد نطق القرآن بها.

    فإن قيل: هل عدم نفيهم لصفة من صفات الله التي نطق القرآن بها هو من باب التسليم المحض، أم أنه من باب التسليم والتحقيق العقلي؟

    فالجواب: أن ذلك من باب التسليم ومن باب التحقيق العقلي.

    والمراد من ذلك: أنه لا يفهم أن أهل السنة -كما يرميهم مخالفوهم- أثبتوا هذه الأسماء مع أن ظاهرها التشبيه، أو أثبتوا هذه الصفات مع أن ظاهرها التشبيه، أو على طريقة بعض المخالفين تستلزم التشبيه؛ فيدَّعون أن السلف أثبتوها من باب التسليم المحض ومن باب الديانة المحضة.

    بل الصواب: أن السلف أثبتوا الأسماء والصفات تسليماً لله سبحانه وتعالى وامتثالاً، وأثبتوا هذه الأسماء والصفات من باب التحقيق العقلي.

    ومعنى قولنا: (من باب التحقيق العقلي) أن المعاني التي دلت عليها هذه النصوص يحكم العقل بوجوبها في حق الله سبحانه وتعالى، وأنها في حكم العقل تعد من الكمال.

    فإن المذهب عند السلف وإن كان يبنى على التسليم، إلا أنه يقال: ما من صفة من صفات الله نطق القرآن بها وذكرت مضافةً إلى الله إلا علم بحكم العقل أنها صفة كمال تليق بالله سبحانه وتعالى.

    1.   

    أقسام الصفات من حيث حكم العقل بها

    تنقسم الصفات المذكورة في القرآن إلى قسمين -وهذا تقسيم اصطلاحي-:

    الأول: صفات تعرف بحكم العقل قبل ورود الشرع، ولهذا يُصدِّق بها جمهور من يقر بالربوبية ولو كانوا من المشركين عبدة الأوثان، كاتصاف الله سبحانه وتعالى بالعلم، فإن المشركين في جاهليتهم كانوا يؤمنون بأن الله عليم، وكاتصاف الله سبحانه وتعالى بالقدرة، فإن المشركين -فضلاً عن المسلمين- يقرون بذلك، ولا شك أن الإقرار بعلم الرب سبحانه وتعالى وقدرته وعزته وما يتعلق بهذا النوع من الصفات هو إقرار يُعلم بالفطرة، فإن الله فطر الخلق على ربوبيته، ومن أخص معاني ربوبيته أنه بكل شيء عليم.

    أليس الرب سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]؟ فهذه الفطرة محصلها أن الخلق قد أقروا لله سبحانه وتعالى بالربوبية، ومن أخص معاني ربوبيته أنه قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير ... إلى غير ذلك.

    ولا يقل قائل: هذا توحيد الربوبية، وكلامنا في توحيد الأسماء والصفات! لأننا نقول: إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، إنما هو اصطلاح، وإلا فإن المشهور عند المقسمين من العلماء الذين تقدم شأنهم شيئاً ما أن التوحيد ينقسم إلى توحيد العلم والخبر، وإلى توحيد الإرادة والقصد والطلب وما يتعلق بذلك، باعتبار أن الأسماء والصفات باب من أبواب الربوبية، ولكن خصها بعض أهل العلم بالذكر باعتبار أن مادتها وقع فيها نزاع بين أهل القبلة، بخلاف بعض معاني الربوبية الأخرى، وكل هذا مما يُستعمل عند أهل العلم، ولا إشكال في ذلك.

    وتحصل من هذا أن باب الربوبية من أخص أبوابه باب الأسماء والصفات.

    القسم الثاني: صفات لا تُعلم إلا بعد ورود الشرع، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)يقال: إن هذه الصفة علمت بالسمع، وأما العقل فإنه لا يدل عليها ابتداءً.

    لكن مع قولنا: إن ثمة جملةً من الصفات لا يدل عليها العقل ابتداءً، ولم تُعرف إلا بخبر الرسل ونزول الكتب؛ فإن هذا النوع من الصفات المعلوم بالسمع وحده فضلاً عن الذي يُعلم بالعقل ابتداءً، يقضي العقل بتصديقه، فإنه لائق بالله سبحانه وتعالى.

    ومن هنا عُلم أن سائر الأسماء والصفات مبنية على التسليم وعلى حكم العقل، سواء كان هذا الحكم حكماً قبلياً قضى به العقل قبل ورود الشرع، أم كان حكماً تقريرياً.

    وقد يقول قائل: لماذا لا نقف ونقول: إنه مبني على الكتاب والسنة؟

    نقول: إنما نذكر مسألة العقل؛ لأن المخالفين عامة مخالفتهم زعموها من موجب العقل، فلا بد أن نبين أن العقل موافق للنقل.

    1.   

    معنى الإلحاد في أسماء الله

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يمثلون صفات الله] .

    (ولا يلحدون في أسماء الله وآياته) الإلحاد من جهة أصل اللغة: هو الميل، وما ذكر منه في كتاب الله فإنه في حق قوم من المشركين؛ ولهذا ترى أن شيخ الإسلام يستعمل طريقة يحتاج الاستعمال لها إلى كثير من النظر والتأمل، وحين يقال: يحتاج الاستعمال لها إلى كثير من النظر والتأمل، لا يعني هذا التغليط لها، وإنما يعني هذا أنها لا تستعمل إلا بقدر مناسب، فإن شيخ الإسلام كثيراً ما يسوق الآيات التي ذكرها الله في شأن الكفار -إما من مشركي العرب أو من اليهود والنصارى- أو الآيات التي ذكرها الله عن المنافقين، فيذكرها شيخ الإسلام في كثير من كتبه في مورد ذم المخالفين للسلف من أهل البدعة، ومثل هذا ينبغي أن يتبين مراده منه.

    فيقال: إن سائر ما يذكره المصنف في كتبه من هذه الآيات التي نزلت في حق قوم من الكفار لم يرد بها مسألة الأسماء والأحكام، بمعنى: أن هؤلاء يأخذون حكم الكفار، ولم يرد بها إلا مسألة المشابهة في الأفعال أو المشابهة في الأقوال؛ فإنه لا شك أن بعض المسلمين قد يقع منهم مشابهة في الأقوال أو في الأحوال والأعمال لقوم من الكفار، وبهذا يكون ذكر مشابهتهم لقوم من المشركين أو اليهود أو غيرهم ليس مشكلاً، لكن لا ينبغي أن يفهم أنه يعطي حكم المسلمين من أهل البدع حكم الكافرين من عبدة الأوثان أو غيرهم.

    وذكره لمسألة الإلحاد يقصد به مسألة التعطيل، فإن عدم التحقيق لإثبات الأسماء والصفات هو نوع من الميل عن الحق في آيات الله وأسمائه وصفاته، ومن هنا سمي قول المعطلة إلحاداً من هذا الوجه، وإن كان المتبادر في اصطلاح المتأخرين أن الإلحاد إذا ذكر يقصد به الزندقة المحضة، وهذا ليس مراداً في مثل هذا المورد.

    قوله: (ولا يمثلون صفاته) أي: أن أهل السنة والجماعة لا ينفون شيئاً من الصفات، ولا يحرفونها بما يسمى تأويلاً، بل يثبتونها على موردها القرآني أو النبوي، وكما أنهم لا يعطلونها بالتأويل والتحريف والإلحاد -الذي هو الميل بها عن حقها الذي قصد بالخطاب- فإنه لا يمثلون صفاته بصفات خلقه، أي: لا يجعلون شيئاً من الصفات مشابهاً لصفات المخلوقين.

    1.   

    الاشتراك بين الخالق والمخلوق في الاسم أو الصفة إنما هو اشتراك في الاسم المطلق

    هنا مسألة في مسألة التشبيه لا بد من التحقيق فيها، فإنك إذا نظرت في كتاب الله سبحانه وتعالى وجدت أن بعض الصفات -بل وبعض الأسماء- التي أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه تضاف إلى الخلق.

    فمثلاً: قال الله عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]وقال عن الإنسان: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]فترى أن السياقين فيهما قدر من الاشتراك، وقال عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]ولما ذكر عبده المخلوق قال: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] وقال عن نفسه سبحانه وتعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43]وقال عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]فسمى نفسه رحيماً، وسمى نبيه رحيماً بالمؤمنين.

    بل إن هذا قد يقع في آية واحدة، فإن الله يقول: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]والصفة المشتركة هنا هي صفة الرضا.

    وقال عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ [الحشر:23]وقال عن عبده: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:50]وسمى نفسه العزيز، وقال في كتابه: قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]إلى غير ذلك.

    فهناك قدر مشترك في ذكر الأسماء والصفات، وهذا صريح في كتاب الله، فضلاً عن غيره.

    فهذا الذي في القرآن من هذا الاشتراك هو اشتراك في الاسم المطلق، والعقائد -والمعاني جملةً سواء كانت في باب الخبر أو باب الطلب- لا تؤخذ من الألفاظ المجردة، أي: المقطوعة عن الإضافة والتخصيص، سواء كانت اسماً أو فعلاً ليس له مقارن من القول أو الحال، وإنما تؤخذ المعاني من الجمل المركبة، والجمل عند العرب هي ما كوِّن من المبتدأ والخبر أو كوِّن من الفعل والفعال، هذه هي الجمل التي تحصل المعاني، وأما ما قصر عن ذلك فإن الكلام لا يكون عندها مفيداً، فإنك إذا ذكرت مبتدأً ولم تذكر خبره، والسياق والحال لا يدلان على خبره، فإنك لم تذكر شيئاً مفيداً، ولا يمكن أن يستفاد من تلك الكلمة معنى.

    فالاشتراك المذكور في مثل الآيات السالفة إنما وقع في اللفظ المطلق، لا في السياق المركب، فإن الذي يريد أن يذكر هذا الاشتراك سيقول: إن صفة الرضا أضيفت إلى الله وأضيفت إلى المخلوق، وإن السمع أضيف إلى الله وأضيف إلى المخلوق .. وهلم جراً من الصفات.

    وقد عني الإمام ابن تيمية بتقرير ذلك في كتبه ولخصه في الرسالة التدمرية، فذكر أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل بعد الإضافة والتخصيص عقلاً؛ لأن الاسم المطلق لا وجود له في الخارج، وإنما توجد حقيقته في الخارج بعد إضافته أو تخصيصه، فإذا ما أضيف أو خصص تعلق به معناه في الخارج والوجود.

    فهذه الأسماء وإن اشتركت بعضها بين الخالق والمخلوق، إلا أن ما يليق بالله أضيف إليه، وما يليق بالمخلوق أضيف إليه، فما كان مضافاً إلى الله فإن معناه يكون مناسباً للموصوف به، وما أضيف إلى المخلوق فإن معناه يكون مناسباً للموصوف به.

    فالتشبيه والتمثيل الذي نفته النصوص في مثل قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]هو الاشتراك فيما كان من المعاني مضافاً مخصصاً، أما الاسم المطلق فإن النصوص لم تنفه.

    ولو قال قائل: ألا يكون كمال التحقيق لتنزيه الله عن التشبيه والتمثيل أن ننفي مشابهة الباري لخلقه في الاسم المطلق والاسم المقيد؟

    قلنا: التشبيه الذي نفته النصوص هو ما كان من الأسماء مضافاً مخصصاً أو مقيداً .. إلى غير ذلك، وأما الاشتراك في الاسم المطلق فإن هذا الاشتراك ليس هو المنفي في النصوص، وتسميته تشبيهاً فيه نظر؛ لأن التشبيه مبني على القياس، وليس في الاسم المطلق مقيس ومقيس عليه؛ لأن الاسم المطلق لم يضف إلى أحد بعينه.

    والتحقيق أن هذا لا يمكن أن يسمى تشبيهاً؛ لأن التشبيه يستلزم وجود المشبه والمشبه به، والاسم حال إطلاقه وتجريده عن الإضافة والتخصيص لا يمكن أن يتحصل منه مشبه أو مشبه به، إنما المشبه والمشبه به وجوده وثبوته فرع عن إضافة الاسم، إذا قلت: هذا باب زيد وهذا باب عمر، فهنا لك أن تقول: إن باب زيد مشابه لباب عمر .. فهنا أثبتنا تشبيهاً، لكن إذا ما قلنا: (باب). فلا يمكن لقائل أن يقول: إن هذا اللفظ تضمن تشبيهاً، فإن قال: تضمن تشبيهاً، فإنا نقول له: أين المشبه وأين المشبه به؟

    فحين يقول: باب زيد وباب عمر. يكون ثمة مشبه ومشبه به، أما إذا قال: (باب) فإننا نقول: إنه لفظ مشترك.

    ومعنى كونه مشتركاً: أنه يمكن أن يذكر على غير مورد وعلى غير سياق وعلى غير دلالة.

    إذاً: التشبيه الذي نفته النصوص ليس هو الاشتراك في الاسم المطلق .. وذلك لأسباب عقلية شرعية، أهمها: أن الاسم المطلق يمتنع ثبوت المشبه والمشبه معه، ومن هنا امتنع أن يسمى وروده تشبيهاً.

    فلو قال قائل: أليس النفي حتى في الاسم المطلق أبلغ في تنزيه الله عن خلقه؟

    قلنا: ليس النفي في ذلك أبلغ؛ لأنه لولا هذا الاشتراك في الاسم المطلق لما تحصل العلم بأسماء الله وصفاته، ولذلك بعض المعطلة الذين بالغوا في مسألة تنزيه الله سبحانه وتعالى، لما وجدوا القرآن يذكر العلم مضافاً إلى الله ومضافاً إلى العبد، ويذكر الرحمة مضافةً إلى الله ومضافةً إلى العبد؛ قالوا: إن هذا من باب الاشتراك اللفظي. ومراد المناطقة بالاشتراك اللفظي أن اللفظ هو اللفظ، ولكن ليس هناك أدنى نسبة من المعنى بين المرادين، وقالوا: إن هذا من باب التنزيه.

    مثلاً: الكلام الذي أضيف إلى المخلوق: هو ما يعبر به من القول الذي هو بحرف وصوت.

    والكلام الذي أضيف إلى الله قطعوا عنه أدنى نسبة من المعنى تتعلق بالكلام الذي أضيف إلى المخلوق، وجعلوا الاشتراك اشتراكاً لفظياً.

    وهذا ليس من التنزيه، بل هو عند التحقيق من التعطيل؛ لأنه لو قيل في أسماء الله وصفاته: إن ما ذكر منها مضافاً إلى المخلوق هو من باب الاشتراك اللفظي الذي معناه أنه لا توجد أدنى نسبة مطلقة ولا مقيدة من المعنى بين المضافين، لاستحال أن يعلم ما يتعلق بربوبية الله؛ فإذا قال الله عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]لم نفقه معنى كونه سميعاً بصيراً.

    فإذا قيل في باب الأسماء والصفات: إن ما أضيف منها إلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي، قلنا: هذا ممتنع؛ لأنه يستلزم عدم فهم الخطاب القرآني المضاف إلى الله.

    ومن هنا أبطل شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة، وهي ما زعمه الرازي مذهباً لـأبي الحسن الأشعري ، وقال: إنه غلط على الأشعري في هذا المسلك، والأشعري وأئمة المتكلمين يعلمون فساد هذه الطريقة التي تقول: إن هذا من باب المشترك اللفظي.

    فإن قيل: إذاً ثمة نسبة، قلنا: إن هذه النسبة هي في المطلق، والمطلق ليس هو من باب التشبيه؛ لأنه لا يمكن أن يحصل منه مشبه ومشبه به، فهي نسبة كلية لا وجود لها في الخارج، بها يعلم ويفقه الخطاب؛ ولهذا جميع المسلمين ومن يعرف لغة العرب حتى من الكافرين إذا قرءوا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58] فقهوه، ولم يستلزم فقههم له أن الباري يكون مشابهاً ومماثلاً للمخلوقين، وذلك مما يدل على أن الإثبات مناسب للعقل والفطرة، ولو كان صاحبها ليس على دين المسلمين.

    ولهذا لم يعترض أحد ممن وصفهم القرآن بالسفه والجهل من مشركي العرب على آية من آيات الأسماء الصفات؛ مما يدل على أنها مناسبة لعقولهم، مع أنهم ما فتئوا يبطلون القرآن حتى قالوا: إنه سحر يؤثر، وحتى قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كاهن ومجنون .. إلى غير ذلك.

    فلو كان من قضاء العقل عندهم أن صفات الباري منتفية أو أن الإثبات يستلزم التشبيه، لاعترضوا على كتاب الله بذلك؛ كما اعترضوا في مسألة البعث؛ كما في مثل قول الله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78].

    1.   

    تنزيه الله عن السمي والكفء والند وعن أن يقاس بخلقه

    قال المصنف رحمه الله: [لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى] .

    (لا سمي له ولا كفء له ولا ند له) هذه الأسماء الثلاثة معناها متقارب، لكن كل اسم من هذه الأسماء له اختصاص بمورد أكثر من الآخر، ولكن ليس منها واحد يتضمن معنى يمتنع أن يكون مراداً في الآخر. والمصنف ليس من طريقته ذكر المترادفات في مثل هذه التقارير التي يقصد منها التحقيق، لكن ذكر المترادف أو المتضمن للآخر هو من باب التحقيق للمعنى، فهو لا سمي له ولا كفء له ولا ند له.

    وكل اسم يمكن أن يفسر بمعنى الآخر، وإن كان تفسيره بالمعنى الآخر لا يلزم أن يكون من باب المطابقة، فقد يكون من باب التضمن أو نحو ذلك.

    فينزه الباري عن السمي والكفء والمثل؛ لأن الله يقول: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]ويقول: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]ويقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]فنفي هذه الأسماء الثلاثة بيِّن.

    قول المصنف: (ولا يقاس بخلقه).

    وجه نفي المصنف للقياس

    قد يقول قائل: إن المصنف هنا نفى القياس، مع أنه لم يذكر في الكتاب أو السنة نفي القياس.

    فيقال كجواب مجمل: إن المصنف إنما نفى القياس المقيد، ولا شك أن هذا النفي على هذا التقييد نفي صحيح.

    وأما الجواب المفصل فنقول: إن متأخري أهل السنة يقولون: إن القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    الأول: قياس الشمول.

    الثاني: قياس التمثيل.

    الثالث: قياس الأولى.

    فقياس التمثيل: هو ما يعطى فيه الفرع حكم الأصل. فيقال عندهم: إن قياس التمثيل والشمول مما ينزه الباري عنه، فلا يستعمل في حق الله تعالى قياس الشمول ولا قياس التمثيل.

    وقياس الشمول: هو ما يستوي فيه جميع أفراده بمعنى العموم.

    وقياس التمثيل: هو ما يعطى حكم الأصل للفرع، وهو المستعمل في الجملة عند الفقهاء.

    قالوا: ولكن يستعمل في حق الله قياس الأولى، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60].

    وقبل أن نبين مراد أهل السنة بقياس الأولى، ونذكر القاعدة المشهورة التي ذكرها ابن تيمية وجماعة تحت مسألة قياس الأولى المضاف إلى الله، نقول: التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافاً إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه، فإنه فرع عن الإضافات والتخصيصات والتقييدات، أي: فرع عن الجمل؛ ومن هنا يقال: إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى.

    فإن قال قائل: قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]قيل: نعم، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لفظ القياس في مثل هذا المورد، والمثل الأعلى هو غير القياس وإن وافق جملةً مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فإننا نسميه المثل الأعلى، ولا يصح أن نسميه من باب القياس، ولا سيما إذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى.

    فمحصل هذا: أن لفظ القياس لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى ولا تقريره في مورد الأسماء والصفات ابتداءً، لكن إذا تُكلِّم مع المخالفين، فإنه لا بأس هنا أن يُتكلَّم مع أهل الاصطلاح من باب البيان باصطلاحهم، فيقال: إن ما ذكرتموه مسمى بقياس الأولى نثبته على أنه المثل الأعلى. وأما من فسر (المثل الأعلى) في الآية القرآنية بأنه: القياس الأعلى، فهذا ليس بصحيح، وإنما المثل بمعنى الوصف، وليس بمعنى القياس الأعلى أو القياس الأولى.

    ومن هنا لا ينبغي أن يذكر في تقرير معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون في حق الباري قياس الأولى؛ لأن هذا اللفظ فيه غلط من أصل اللغة، وإنما يقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب لا يقاس بخلقه. وأما ما يسميه هؤلاء بقياس الأولى فإن المناسب منه هو ما سماه القرآن بالمثل الأعلى.

    ولك أن تقول: إن المثل الأعلى المذكور في القرآن أخص مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فلما لم يكن بينهما تطابق امتنع أن يطلق هذا الاسم الشرعي على هذا الاسم الاصطلاحي، باعتبار أن الاسم الاصطلاحي أوسع في المراد من الاسم الشرعي.

    ولكن إذا ذكر القول مع المخالفين، قيل: ما يسمى بقياس الأولى هو من حيث معناه المناسب ثابت، ولكن اللفظ يُتردد فيه.

    وهنا قاعدة ينبغي لطالب العلم السلفي والسني -وللمسلم عموماً- أن يفقهها: وهي أن ما يصح في مورد الرد -سواء كان الرد على مخالف من المسلمين أو كان الرد على أحد من ملل الكفر- لا يستلزم أن يكون صحيحاً في مورد التقرير، فإن ذكر العقيدة إما أن يكون تقريراً ابتداءً للمسلمين، وإما أن يكون من باب الرد، فما صح في مقام الرد على المخالف لا يلزم بالضرورة أن يكون صحيحاً -أو على أقل تقدير مناسباً- لمقام التقرير.

    وهذا يبين: أن مقام التقرير أضيق من مقام الرد، فما يقع فيه كثيرون من نقل ما استعمله بعض أهل السنة في مقام الرد إلى مقام التقرير ليس مناسباً.

    ولهذا ما ذكرت مسألة القياس -قياس الأولى وما يتعلق بها- إلا في مقام الرد على المخالفين في مسألة القياس، أما في أصل تقرير السلف والمتقدمين فليس لهذا الاسم مورد من جهة التقرير، فينبغي دائماً أن تبنى العقيدة عند المسلمين على مقام التقرير القرآني أو النبوي، وأما مقام الرد فإنه يتوسع في شأنه عند الأئمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755791521