إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [17]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أجمع أهل السنة والجماعة -ووافقهم جمهور الطوائف- على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وإن ارتكب بعضهم كبائر الذنوب فإنه يسمى مسلماً، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج والمعتزلة. ويعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

    1.   

    أسماء أهل الكبائر عند أهل السنة

    قال المصنف رحمه الله: [ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] .

    ذكر المصنف مسألة الأسماء، ونعني بها اسم أهل الكبائر والمخالفين من أهل الظلم والفسوق والعصيان والمخالفين للسنة والشريعة، هل يسمون مؤمنين أو مسلمين، أو كفاراً، أو فاسقين؟

    والأحكام: أي حكم هؤلاء في الآخرة.

    فابتدأ المصنف بمسألة الأسماء، فقال: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، ثم يذكر بعد ذلك الإيمان، فيقول: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)، ثم يذكر بعد ذلك حكم أهل الكبائر في الآخرة، وهذا لا إشكال فيه، لكن كان الأصل في الترتيب أن يبدأ بمسألة الإيمان، ثم مسألة الأسماء والأحكام لأنها نتيجة لها.

    وقوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا) مراده بأهل القبلة أهل الإسلام، وهم من يستقبل القبلة ويصلي إليها.

    وقوله: (مسلمين مؤمنين)، شرط لهذه التسمية أن يتحقق عندهم أصل الإيمان، ولهذا قال: (ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدِّقين).

    وهذه جملة مجملة، وتُفسَّر بأن أبا جعفر رحمه الله يقصد أنهم محققون لأصل الإيمان، ومن حقق أصل الإيمان فإنه يستحق عنده هذه التسمية، مع أنه قد يكون في هذا التفسير بعض التردد؛ لأن من المعلوم أن أبا جعفر وأمثاله لا يكفِّرون بالعمل المأمور به على الأعيان كمسألة الصلاة، بل لهم قول حتى في جنس العمل الظاهر كما سيأتي تفصيله.

    لكن إذا فسر مراده بقوله: (ما داموا) أي: محققين لأصل الإيمان، فهذا معنىً مناسب، ثم يرجع إلى تسميته، وهو قوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) فإنه إذا كان كذلك، فإن هذه التسمية عنده تكون مستحقةً لكل مسلم، سواء كان براً أو فاجراً، وسواء كان من الظالمين لأنفسهم أم من المقتصدين أم من السابقين بالخيرات، ومعنى هذا أن أهل الكبائر عنده يُسمون مسلمين ويُسمون مؤمنين.

    أما أن سائر أهل الإسلام سواء كانوا أبراراً أو فجاراً، من أهل الكبائر أو غيرها، يُسمون مسلمين، فهذا بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا الخوارج والمعتزلة.

    وأما جمهور طوائف الأمة -فضلاً عن إجماع أهل السنة والجماعة المحكم- فهم على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وكل واحد بعينه مهما كانت كبائره فإنه يسمى مسلماً، فاسم الإسلام لا إشكال فيه بوجه، ولا يُنازع في إطلاقه على أهل الكبائر بأعيانهم إلا متأثر بالخوارج.

    فقول من يقول: نقول عنهم مسلمين على الإطلاق لكن لا نسمي أعيانهم مسلمين، فهذا من أثر الخوارج.

    وإذا قلنا: إنهم يُسمون مسلمين بالأعيان فلا يعني هذا أنه لا يصح فيهم إلا هذا الاسم.

    وأما قول أبي جعفر : (مؤمنين) فإن هذا فرع عن رأيه في مسمى الإيمان؛ فإنه لما كان العمل عنده ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، صار أهل الكبائر الذين يقصرون في العمل مؤمنين عنده بناءً على أصله.

    ولهذا نقول: هذه النتيجة -وهي قوله: (مؤمنين)- مناسبة لقوله في مسمى الإيمان.

    وإذا قلت على طريقة السلف: إن الإيمان قول وعمل، فإن اسم الإيمان لا يكون مقامه في أهل الكبائر كمقام اسم الإسلام، وهذا ليس معناه أن أهل الكبائر لا يسمون مؤمنين بحال، وإنما معناه أنه لا يطلق عليهم هذا الاسم في سائر الموارد، وهذه مسألة وقع فيها تنازع بين أهل السنة -وإن كان أصلها مجمعاً عليه بينهم-: هل يسمى أهل الكبائر مؤمنين أو لا يسمون؟

    - فمنهم من قال: إنهم يسمون مسلمين ومؤمنين.

    - ومنهم من قال: إنهم يسمون مؤمنين على الإطلاق دون التعيين.

    وهذه أقوال يذكرها بعض أهل السنة والجماعة من أصحاب الأئمة.

    والذي تدل عليه آثار السلف وجواباتهم في هذه المسألة، بل الذي دل عليه القرآن والسنة، أن اسم الإيمان في حق أهل الكبائر تارة يذكر مطلقاً بدون قيد، وتارة يذكر مقيداً، وتارة لا يذكر.

    وإذا كان لا يذكر فإما أن يكون منتقلاً عنه وإما أن يكون منفياً.

    إطلاق اسم الإيمان على أهل الكبائر وأحواله

    وعليه فيكون لإطلاق الإيمان في حق أهل الكبائر أربعة أحوال:

    الحال الأولى: أن يذكر مطلقاً، أي: بدون قيد، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] في الكفارة، فإن قوله: (مؤمنة) يدخل فيه الفاسق، بمعنى أنه لو أعتق فاسقاً فإن عتقه صحيح بالإجماع، وهو المذكور في مثل قوله صلى الله عليه وسلم للجارية في حديث معاوية بن الحكم : (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) .

    الحال الثانية: ألا يذكر مطلقاً بل يذكر مقيداً، كما إذا سئل عن حكم الفاسق واسمه وقدره من الإيمان، فإنه يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمى مؤمناً بالتقييد.

    الحال الثالثة: ألا يذكر على الإطلاق، إما انتقالاً إلى غيره أونفياً له عنه، فانتقاله إلى غيره هو المذكور في حديث سعد رضي الله عنه، في الصحيحين قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً، فقلت: يا رسول الله، أعط فلاناً فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم) ، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بحق هذا الرجل إلى اسم الإسلام، فهذا انتقال عن اسم الإيمان إلى اسم الإسلام، مع أن الرجل لا شك أنه ممن يؤمن بالله ورسوله، ولا شك أنه ممن يؤمن بأن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية: إنها مؤمنة، لما أخبرت بهذين الأمرين، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقر سعداً لما قال هذا عن الرجل، قيل: لأن المقام والحال مختلف، فـسعد إنما ذكر ذلك على جهة المدح والثناء، وإذا قصد مقام المدح والثناء فإنه لا يسمى بالإيمان إلا من استفاض هذا الأمر فيه، وإنما يستعمل في الإطلاق وبين عامة المسلمين اسم الإسلام.

    وأما في حديث معاوية وفي قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فإن المقام مقام عتق، وفي مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والمواريث وغيرها فإن الفساق يسمون مؤمنين.

    فإذا قيل: قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فلو كان فاسقاً؟ قيل: الفاسق مؤمن في هذا المقام؛ لأن معه أصل الإيمان، وقد ينفى الإيمان عن شخص في مقام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، فحال الزنا لا يسمى مؤمناً، بل يسمى زانياً، أو يسمى فاسقاً، مع أنه في مقام العتق لو أعتق الزاني فإنه يقال: أعتق مؤمناً.

    فاسم الإيمان لا يقع على وجه واحد، ولهذا في الأحكام الدنيوية والمخاطبة بالشريعة فإن سائر أهل القبلة من العصاة والفساق وغيرهم يدخلون في اسم الإيمان، ولهذا جاءت في القرآن خطابات كثيرة: (يا أيها الذين آمنوا)، ولا شك أنه يُخاطب بها سائر أهل الإسلام، حتى الفاسق منهم فإنه داخل في هذا، وكذلك يسوغ للخطيب في الجمعة أن يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولو كان من بين يديه من هو من أهل الفسق.

    ففي مقامات المخاطبة بأحكام الشريعة وفي مقامات أحكام الدنيا كالعتق والمواريث ونحوها فإنهم يسمون مؤمنين، ويدخلون في هذا الاسم، وعليه فأهل الكبائر المجاهرون بها والمظهرون لها يُسمون فساقاً، وهذا مجمع عليه بين السلف.

    فأصحاب الكبائر تارة يسمون مؤمنين، وتارة مسلمين، وتارة فساقاً.

    فإن قيل: ما الأصل في أهل الكبائر؟ هل هم فساق أم مؤمنون أم مسلمون؟ يقال: إن الأصل فيهم أنهم مسلمون، فلا يكون الاسم المطلق لهم في سائر الأحوال والموارد هو الفسق فإن هذا شبهٌ بالمعتزلة، وكونه شبهاً بالمعتزلة ليس من جهة كون مرتكب الكبيرة لا يسمى فاسقاً، فإنه يسمى فاسقاً بإجماع السلف وبصريح الكتاب والسنة، ولكن لا يلتزم معه هذا الاسم في سائر الموارد، بل يكون هذا الاسم مناسباً لبعض أحواله، كما أن اسم الإيمان قد يناسب بعض أحواله، ويكون الاسم المطلق له هو اسم الإسلام فإنه الأصل فيه.

    ومعلوم أن حسنة التوحيد والإيمان الذي عنده، أعظم مما معه من الكبائر، فهي أولى بالاختصاص به.

    هذا هو محصل قول أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء.

    قول الخوارج والمعتزلة في أهل الكبائر

    جمهور الخوارج يقولون: إن أهل الكبائر كفار كفر ملة، وقال عبد الله بن إباض وأصحابه الأباضية: إنهم كفار كفر نعمة، ويقول: إنهم مخلدون في النار. وهذا تناقض، فإنهم إن كانوا مخلدين في النار لزم أن يكونوا كفاراً كفر ملة.

    وقالت المعتزلة: إنهم ليسوا كفاراً وليسوا مؤمنين أو مسلمين، بل هم فساق، ويريدون بالفسق هنا الفسق المطلق الذي لا يصاحبه من الإيمان شيء، وعن هذا قيل: إن من التزم في أهل الكبائر اسم الفسق في سائر الموارد ففيه شبه بالمعتزلة، والمراد بذلك من نفي اسم الإسلام أو اسم الإيمان في بعض موارده عنهم، فإنهم خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102] .. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة:106] .

    قول المرجئة في أهل الكبائر

    والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون، وجمهور المرجئة مع قولهم بأنهم مؤمنون يقولون: إنهم مؤمنون بإيمانهم فاسقون بكبائرهم، وهذه الجملة وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تميز مذهب السلف عن مذهب أكثر المرجئة، فالأشعرية في كتبهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويكون التحصيل للتمييز هو في الجملة الأخرى التي يستعملها من يستعملها من أهل السنة والجماعة، وهي قولهم: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فجملة النقص في إيمانه هي المحصلة للتمييز بين قول السلف وقول جماهير المرجئة، وإلا فالقول بأنه مؤمن مع فسقه يقر به جماهير المرجئة.

    1.   

    النهي عن الكلام في الله بغير علم

    قال المصنف رحمه الله: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن] .

    قوله: (ولا نخوض في الله) أي: لا نخوض في ذلك جهلاً، والجهل خلاف العلم، أي: فيما لم يعلم من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالخوض إنما يطلق على القول بغير علم، وإما إذا تكلم الإنسان بعلم فإن كلامه لا يسمى خوضاً، إلا إذا كان في السياق تقييد، وأما إذا ذكر الخوض مطلقاً فإنه نوع من الذم لحال المتكلم أو حال القائل.

    ولهذا قال أبو جعفر : (ولا نخوض في الله) أي: لا نتكلم في هذا الباب بجهل، كالكلام في كيفية ذاته، أو في كيفية صفاته، وهي التي قال فيها مالك وأمثاله: الكيف مجهول، وقال بعض السلف كـالزهري ومكحول : أمروها كما جاءت، وقال الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والثوري : أمروها كما جاءت بلا كيف، فهذا من ترك الخوض في الله، أي: فيما لم نعلمه، بل فيما لا يمكن أن نعلمه، فإنه سبحانه وتعالى لا يُحاط به علماً.

    النهي عن المماراة والجدال

    وقوله: (ولا نماري في دين الله) اتفق أهل الإسلام على أن المماراة في الدين مما أُنكر في حكم الله سبحانه وتعالى وشرعه، ولكن مع هذا فإنه يقع بين أهل الإسلام إما في المقولات: سواء في الاعتقاد، أو في بعض مسائل الفقه والفروع، أو في بعض أحوالهم المتعلقة بأحوال الدعوة وغيرها، فتقع أنواع كثيرة من المراء في دين الله.

    وينبغي لكل طالب علم أو يتفقه في الدين، ومن معاني الفقه في الدين أن يكون على علم بالحكمة الشرعية التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمى الله ما آتى نبيه حكمة، فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] قال بعض السلف: هي النبوة، وقال بعضهم: إنها السنة، وقيل: المعنيان صحيحان، فإن سنته مبنية على الحكمة، ومن أخص أوجه الحكمة فيها أنه لا يصح أن تكون هذه السنة سبباً للتفريق بين من صحت أصولهم واستقامت عقائدهم، فيفترقون لموجب من المقالات اليسيرة، وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله مع أنه من أفقه الناس في هذا الباب من الأصول، يقول: (وإنه لما اختلفت الأشعرية والحنبلية كنت من أعظم الناس تأليفاً، قصداً لجمع قلوب المسلمين، وأن تفريقهم إنما يحصل به قوة لعدوهم)، هذا مع أنه كان يتكلم عن قوم يراهم من أهل البدع، ولا يرى أنهم من أصحاب السنة القائمين بها المحققين لها، ولما تكلم عن الأشعرية في بعض كتبه -مع أنه ذكر رداً واسعاً عليهم وألحق كثيراً من مقالاتهم بأصول الجهمية- قال: (ومع هذا كله فإذا كان الأشعرية في بلد ليس فيه إلا معتزلة، فهم القائمون بالسنة في هذا البلد).

    ولما تكلم عن المعتزلة ذكر أن أقوالهم كفر بإجماع السلف، ثم قال: (ومع هذا فإنهم يحمدون بما يدعون إلى الإسلام على مذهبهم، فإن من أسلم على طريقة المعتزلة خير ممن بقي على الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى).

    فهذه أمور من الفقه لا بد لطالب العلم أن يفقهها، وإذا كانت هذه المسألة التي بين يديك وعنها حصل النزاع والافتراق، واجبة في شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا شك أن الاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى والاجتماع عليه أوجب منها في شرع الله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] .

    ولهذا كان من فقه شيخ الإسلام أن قال: وهذه المسألة -وذكر مسألة من المسائل- إنما تركت القول فيها مع إحكامه، لما استلزم القول فيها طرفاً من التفريق بين المسلمين، قال: وأوجب منها الاعتصام بحبل الله والاجتماع عليه، فتركنا ما كان دونه في الوجوب لما هو أوجب.

    ضرورة معاملة الخطأ بقدره وعدم التجاوز

    فالفقه مطلوب لهذه المسائل؛ لأننا نجد نزاعاً، لا نقول بين أهل السنة وأهل البدع، فهذا شأن وسنة مضى عليها السلف، وهي سنة فاضلة شرعية- وإنما المقصود أننا نرى كثيراً من الاختلاف بين أهل السنة أنفسهم، وكثير من هذا الاختلاف لا يكون من باب اختلاف الأقوال، فإن اختلاف الأقوال حاصل، ولكن المشكلة هي اختلاف القلوب، ومن اختلاف القلوب الفرح بغلط من يغلط، فإذا غلط غالط تجد من التتبع لهذا الغلط والاستطالة والاستفاضة فيه شيئاً غريباً مع أن الخطأ إذا وجد من بعض العارفين ومن لهم مقام في السنة والجماعة والعلم والديانة فإنه ينبغي الترفق فيه، وأن يبين على قدر من الحكمة.

    ولا شك أن مثل هذا الذي يقع من الاستطالة هو في كثير من الأحوال فرع عن قلة الفقه، فإن من صريح الفقه عند علماء الإسلام أن الإنكار للخطأ من فروض الكفايات، فإذا تحقق الإنكار وزال الخطأ، فإن الازدياد من الإنكار لا يكون محكماً.

    ونجد أنه يستفاض في إنكار خطأ غاية إنكاره أن يكون من فروض الكفايات، مع أن ثمة فروضاً من الأعيان وفروضاً من الكفايات ما قام بها قائم، وبقيت معطلة، ومع ذلك لا يتحرك المتحرك إليها، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكثير من النفوس عند مقام الرد فيها قدر من القوة والعلو، أي: يحصل عندها نوع من الزيادة، لأن الزيادة أحياناً لا يملكها هو.

    وهذا الباب من أهم الأبواب التي ينبغي أن يتفقه فيها طلاب العلم خاصة والناس عامة، وقد كان علماء السلف رضي الله تعالى عنهم أصدق الأمة قلوباً وأكثرها ائتلافاً وبهم تجتمع الأمة، وأما أن يكون العلم موجباً للتفريق واختلاف القلوب وتنافر النفوس، فلا شك أن هذا من خلق أهل الكتاب دخل على قوم من هذه الأمة، وهذا هو الذي أفسد ملتهم وشغلهم عن عبادات ربهم.

    وقد تجد بعض طلاب العلم قد يشتغلون بأمور يصرفون فيها الأوقات الكثيرة، وليست هي من أصول التوحيد، فإن أعظم غلط تقع فيه الأمة اليوم هو الغلط في توحيد العبادة، فإن الشرك والبدع المخالفة لتوحيد العبادة ما أكثرها في بلاد الإسلام، فأين القيام بهذه الأصول المحكمة؟

    وكثير من المسلمين مقصرون في الصلاة، ومقصرون في أصول الواجبات، بل حتى العبادة المختصة بالمتكلم نفسه، فلأن يشتغل بمحكم العبادات كذكر الله والصلاة والصيام والطواف بالبيت وغير ذلك من الشرائع المحكمة، خير له من أن يشتغل بكلام قد تزين له نفسه أنه من الانتصار لدين الله، ولا شك أن الرد وبيان الحق سنة مضى عليها السلف، لكن السلف كانوا يفعلونها على قدر من العلم والفقه والورع؛ بل وقدر من العقل، فمقام الرد لا ينتصب له إلا عاقل عالم ورع، فمن تحققت فيه هذه الشروط الثلاثة فليكن كذلك، ومن كان كذلك لم يقع منه غلط غالباً، فمثلاً: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان من أكثر الناس تعقباً للأغلاط، فلا يسمع بغلط أو بمنكر إلا ويكتب في هذا المنكر، ومع ذلك ما سبق أن عرف عنه رحمه الله شيء من الاستطالة، ولا حصل برده فتنة وأذية للناس.

    ومن فقه شيخ الإسلام رحمه الله أنه يقول في قوله تعالى: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86] قال: (من صدق الإيمان أن يتمنى العبد ألا يكون فتنة لقوم ظالمين، فضلاً عن أن يكون فتنة لقوم مؤمنين)، ومن الفتنة أن يقول قولاً لا معنى له أو لا أهمية له أو لا لزوم له، فيشتغل به كثير من العامة الذين يغلب عليهم الاشتغال بذلك، كالمبتدئين في طلب العلم من الشباب الذي هو في أول درجاته، فيصرف الأوقات التي لو صرفها في حفظ كتاب الله أو في حفظ شيء من السنة أو في حفظ كتاب في التوحيد وأصول العلم لكان أهدى وأنفع.

    1.   

    عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن

    قال المصنف رحمه الله: [ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين] .

    قال: (ولا نجادل في القرآن)، الجدل في القرآن يكون في مدلوله أو في حروفه، والواجب هو الإيمان والتسليم بأنه كلام الله سبحانه وتعالى حروفه ومعانيه، وأن الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن فيه بيان كل شيء، وأن الحق معتبر به، إلى غير ذلك من المعاني والمقاصد المعروفة.

    القرآن كلام الله غير مخلوق

    قال رحمه الله: [نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين] .

    قوله: (ولا نقول بخلقه)، أي: كما قالت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والخوارج الذين قالوا بخلق القرآن، وهذه بدعة أجمع السلف على بطلانها، وصريح الكتاب والسنة يرد هذه البدعة.

    والأشعري وابن كلاب وأصحابهم يقولون: إن القرآن ليس مخلوقاً، ويقولون: إنه كلام الله، ولكن مرادهم بذلك أنه عبارة عن كلام الله، وإلا فإن الكلام عند ابن كلاب والأشعري معنى واحد قائم في النفس، والمقصود من هذا أن ما يقع في كتب الأشاعرة من أن القرآن كلام الله مرادهم بذلك أنه عبارة أو حكاية عن كلام الله، وليس معنى هذا أنهم يجعلون الحرف والصوت المسموع من كلامه سبحانه وتعالى، بل هم لا يجعلون كلامه بحرف وصوت مسموع.

    مسألة اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق أم لا

    وأما مسألة اللفظ بالقرآن، هل يقال: إنه مخلوق أو ليس مخلوقاً؟

    فإن هذه جملة أحدثتها الجهمية وتكلمت بها، وكان من طريقة المحققين من أعيان السلف كالإمام أحمد رحمه الله النهى عن هذه الجملة مطلقاً، وكان يقول كما في رواية أبي طالب : (من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع)، وهذه الرواية وإن تكلم فيها بعض المتأخرين إلا أنها صواب وثابتة عن الإمام أحمد ، وكان متقدمو الحنابلة الكبار يصححونها، وانتصر لها وصححها من متأخريهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وليس فيها ما هو منكر بل هي على قاعدة الأئمة في هذا الباب.

    ومراد الإمام أحمد رحمه الله أن الإطلاق إثباتاً أو نفياً كله غلط، فلا يقال: إن اللفظ مخلوق، ولا غير مخلوق، بل يقول: إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وإنه ليس مخلوقاً، ويقول: وإن أفعال العباد مخلوقة.

    وقال بعض أئمة السنة المتقدمين: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، وأرادوا بذلك: اللفظ الذي هو فعل العبد، ومعلوم بالإجماع أن فعل العبد مخلوق، وقد تردد شيخ الإسلام في ثبوت ذلك عن البخاري ، مع أنه في ظاهر كتابه (خلق أفعال العباد) كأنه على هذا القول.

    وقال بعضهم: إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً، وأرادوا: القرآن نفسه، فمراد محمد بن يحيى الذهلي بقوله: (إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً)، مراد صحيح.

    وهذه المسألة ليس لها كبير قدر، سواء صح ما نقل عن البخاري أو لم يصح، وقد قاله بعض المتقدمين، ومرادهم بذلك أن أفعال العباد مخلوقة.

    فهذا مراد وهذا مراد، فليس من الفقه أن يقال عمن قال: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، إنه مبتدع ابتداعاً مطلقاً، وإنما يقال: القول بدعة، وكذلك الذهلي لما قال: اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً، لا يقال كذلك: إن الذهلي مبتدع، بل يقال: القول بدعة، وإن كان ابن القيم رحمه الله ذكر كلام الإمام أحمد والذهلي والبخاري ، وقال: وأحسنه قول أبي عبد الله البخاري ، وهذا ليس كذلك، بل أحسنه قول الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن يترك هذا الباب ويعبر بالعبارات الشرعية المحكمة.

    قول جماعة المسلمين أن القرآن كلام الله

    وقوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) فإن المسلمين قد استقر عندهم أن هذا القرآن كلام الله، ولهذا حتى المعتزلة تقول: إنه كلام الله، ولكن تقول: إن كلامه مخلوق، ولا شك أن هذا من التناقض، فإنه إن كان كلاماً له فهو صفة من صفاته، وأما قياسه على قولهم: ناقة الله وأرض الله وسماء الله وعبد الله، من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فهذا لا شك أنه جهل باللغة وجهل حتى على قياس العقل، فإنك إن قلت: أرض الله فإن الأرض ليست صفة له، بل هي مفعول له، وكذلك العبد والناقة فإنها مفعولات، وأما إذا قلت: علمه وكلامه وسمعه؛ فإن هذا من باب الصفات، ولهذا فإن الإمام أحمد في مناظراته قال لأئمة الجهمية: القرآن من علم الله، فهل علمه مخلوق؟ أي: أن الكلام تبع للعلم، فإنك إن تكلمت بكلام فإنما تكلمت بهذا الكلام لأنك تعلم ما تكلمت به، فإن قلتم: إن كلامه مخلوق لزم أن علمه مخلوق، فأراد ابن كلاب أن يدفع هذا الوجه، فقال: إن الكلام معنى واحد قائم بالنفس! وهذا جمع بين النقيضين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756343317