إسلام ويب

شرح الحموية [16]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ممن نقل عنهم الإثبات لصفات الله تعالى: أبو بكر بن الطيب الباقلاني -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين للأشعري- فقد ذكر في كتبه كلاماً أثبت فيه لله تعالى الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، كاليد والوجه والعلو والاستواء، ونحوها، وممن نقل عنه ذلك: أبو المعالي الجويني -وهو من أصحاب الأشعري- فقد ذكر أن ما يدين الله به هو اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع، وإجماع الأمة، ثم ذكر بطلان التأويل وأنه ليس منهجاً للسلف ولا للأئمة.

    1.   

    قول القاضي الباقلاني في إثبات الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه:

    فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] وقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا; لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان ؟. قيل له: معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وقال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها; ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان; ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. وقال أيضا في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: هي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.

    وقال في كتاب التمهيد كلاماً أكثر من هذا - لكن ليست النسخة حاضرة عندي - وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام.

    وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء; ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسنا للظن بهم دون غيرهم ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم; فلو أتى بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم. ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم; فلو أنهم أخذوا بالهدى: الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة; ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق: ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91] فإن اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا. قال الله تعالى لهم قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91]أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون ولكن إنما تتبعون أهواءكم فهذا حال من لم يقبل الحق لا من طائفته ولا من غيرها مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان.].

    القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، له تصانيف، منها كتاب الإبانة والرسالة الحرة المعروفة بـالإنصاف، ومنها -وهو من أشهر كتبه- التمهيد ، وهو أخص من نظم المذهب الأشعري على طريقة كلامية تامة، لكنه من فضلاء الأشعرية، وإذا قيل من فضلاء الأشعرية فباعتبار متأخريهم، فإن الباقلاني كان يثبت الصفات الخبرية في الجملة فضلاً عن كثير من الموافقة لأهل السنة في مسائل أخرى.

    ولهذا اعتبر أفضل أصحاب أبي الحسن الأشعري، حيث إن أبا الحسن الأشعري يعتبر هو أفضل أصحاب المذهب باعتبار أصحابه، ثم تأتي درجة الباقلاني ومن شاكله، فهؤلاء هم الطبقة الثانية، وهم أقرب إلى الأشعري ، وإن كان الأشعري أقرب منهم إلى السنة والجماعة، ثم تأتي درجة أبي بكر بن فورك وأمثاله، فهؤلاء دون الباقلاني لكنهم أفضل من أبي المعالي وأمثاله، ثم تأتي طبقة أبي المعالي والبغدادي وأبي حامد الغزالي في الجملة، وإن كان للغزالي اختصاص بما له من التصوف، فهذه أيضاً طبقة، ثم تأتي الطبقة المتأخرة وهي طبقة أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن الآمدي ، فهؤلاء طبقة أيضاً.

    وهذا الباب لا يمكن أن يكون مطرداً في الأعيان، بل تارةً يكون كذلك وتارة لا يكون، ولهذا نجد أن الآمدي في بعض المسائل أفضل من أبي المعالي ، وأبو المعالي في بعض المسائل أفضل من الآمدي والرازي ، والآمدي في الجملة أفضل من الرازي ، فإن الرازي من أشد من ضل في هذا المذهب.

    1.   

    قول الجويني في الصفات

    [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه الرسالة النظامية].

    تأثر الجويني بالمعتزلة وميله بالمذهب الأشعري بسبب ذلك

    أبو المعالي الجويني متكلم أشعري من فقهاء الشافعية، وهو ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة متقدميهم إلى الطريقة الثانية المتأثرة كثيراً بمذهب المعتزلة؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام : إن أبا المعالي الجويني شرب كتب الجبائي -يعني: أبا هاشم الجبائي - فأثرت فيه . ولهذا مال بالمذهب ميلاً واضحاً، سواء من جهة ما يثبت من الصفات، حيث قصر الصفات المثبتة على السبع، أو من جهة طريقة الاستدلال، أو من جهة الجزم ببعض المسائل حتى في مسائل القدر والتعليل ومسائل أخرى، فإنه استطال بهذا المذهب وتأثر بمذهب المعتزلة.

    وإذا قلنا: تأثر بمذهب المعتزلة؛ فإن تأثره على طريقتين -وهذا معنىً ينبغي ملاحظته-:

    الأولى: تأثر فوافق المعتزلة في بعض المسائل، كموافقته لهم في عدم ثبوت ما عدا الصفات السبع، وبخاصة نفي الصفات الخبرية.

    الثانية: وهي تظهر للمتأمل في كتب الجويني كالشامل والإرشاد واللمع ، وهي أنه بالغ في الرد على المعتزلة حتى انتقل إلى قول مباين لهم مباينةً شديدة، لكنه ضمن هذه المباينة تباعد عن مذهب أهل السنة، أي: أنه قصد البعد عن المعتزلة فتضمن هذا القصد عنده بعداً أيضاً عن أهل السنة، وهذا هو الذي وقع فيه أبو منصور الماتريدي الحنفي في كتابه التوحيد، فقد كان أخص مقصوده العناية بالرد على المعتزلة وبخاصة الرد على أبي القاسم البلخي الكعبي من المعتزلة، لكنه بالغ في الرد كما وقع للجويني .

    وحينما نقول: بالغ في الرد؛ لا يعني أنه ظلم المعتزلة، لكنه تكلف في طريقة الرد حتى التزم مقالات تخالف حتى ما عرف في مذهب أهل السنة، بل تخالف ما عرف في مذهب الأشعري نفسه؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن طريقة الجويني تقارب طريقة الماتريدي .

    ومن هنا يتبين أن الماتريدية ليسوا كالأشاعرة، فإن الأشاعرة خير من الماتريدية وبخاصة الأشاعرة الأوائل الذين يسميهم شيخ الإسلام فضلاء الأشاعرة ، ويقصد بهم: الأشعري وأئمة أصحابه.

    إذاً: الماتريدي يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، مع أنه معاصر لـأبي الحسن الأشعري ، لكنه أقرب ما يكون إلى طريقة الجويني وأمثاله من متأخرة الأشاعرة، بل الجويني فيما يظهر أقرب من الماتريدي إلى الحق، فإن الماتريدي فيه نزعة فلسفية واضحة، وفيه تقصد في البعد عن مذهب السلف.

    وحينما أقول: تقصد. فليس المقصود نية، لكنه يطعن في المعروف من مذهب أهل السنة بنفس الطريقة التي كان عليها أئمة المعتزلة الكبار، كقوله: هذا مذهب النوابت والمشبهة والمجسمة.. إلخ، وفضلاء الأشاعرة كـأبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب لا يقاربون الماتريدي فضلاً عن بعض غلاة الماتريدية، وإن كان في الماتريدية من هو خير من أبي منصور الماتريدي ، وأقرب إلى السنة والجماعة.

    أما الأشاعرة فإذا كانت المقارنة بين الأشعرية المتكلمين الذين عرفوا بالعلم الكلامي واختصوا به فليس فيهم من هو خير من أبي الحسن الأشعري وأقرب منه إلى السنة والجماعة، أما إذا كانت بين الأشعرية الذين أضيفوا إلى الأشعرية وهم فقهاء أو لهم اشتغال بالحديث فهذا مقام آخر.

    [اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن].

    وهذه طريقة المتكلمين، وهي طريقة الجويني الأولى.

    [وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب].

    تقدم أنه لا يصح حمل ما وقع من أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة من المجملات على أنه تصريح بالرجوع عن مفصلات الغلط، وهذه هي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فهو يقول: إن الأشعري يقول في الإيمان: إنه التصديق . ثم قال في بعض المواضع: وإن كان تارةً هو وبعض فضلاء أصحابه يقولون: إنه قول وعمل وقد نص على هذا الأشعري في مقالات الإسلاميين لما ذكر قول أهل السنة فقال: ويرون أن الإيمان قول وعمل ، ثم قال: وبكل ما قالوا نقول .

    لكن شيخ الإسلام يقول: إن الأشعري وإن أطلق هذا الحرف عن أهل السنة ضمن مجموع كلامه إلا أنه يتأوله .

    كذلك لما ذكر الجويني مذهب السلف هنا، قال: ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل -هذا حق- وإجراء الظواهر على مواردها -وهذا أيضاً حق- وتفويض معانيها إلى الرب . فقوله: وتفويض معانيها إلى الرب مناقض للحرف الذي قبله، وهو قول الجويني أن طريقة السلف هي: إجراء الظواهر على مواردها ، فكيف يقول: ويفوضون؛ والإجراء على الظاهر يستلزم الإيمان بأصل المعنى.

    كذلك ما الموجب لعدم فهم المعنى حينما يقال: السلف يفوضون المعاني إلى الرب؟ هل الخطاب ليس عربياً؟

    هل الخطاب من حيث هو ليس مفهوماً؟

    الجواب: لا، الخطاب مفهوم، إذاً لماذا فوضوا؟

    إنما قال الجويني وأمثاله من المتكلمين أن السلف فوضوا؛ لأنه هو وأمثاله يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، أي: أنه لا يمكن أن تثبت، فبقي: هل السلف يحددون التأويل أو لا يحددونه.. هذا محل النزاع، وهذا وهم.

    إذاً: يظهر من هذا أن الجويني يتناقض.

    وبهذا لا يمكن القول: إن الجويني بقوله هذا: وإجراء الظواهر على مواردها رجع إلى مذهب أهل السنة، إلا إن قصد الرجوع الانتمائي، وهذا لا يهوّن شأنه، فإنه من مقاصد العمل الكبرى، وهو قصد اتباع مذهب السلف، فلا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين من ضل عن مذهب السلف وهو يقصد اتباعه، وبين من ضل عنه وهو يدري أنه ضل.

    لكن من حيث الحقائق العلمية: الانتساب ليس هو إصابة المذهب، فلابد عند النظر في مقالات المتأخرين من التفريق بين الجهتين؛ ومن الأمثلة على هذا ما تقدم، وهو أن الأشعري من حين ترك الاعتزال إلى آخر أمره لم يتقلد إلا مذهب أهل السنة، ولم يتقلد مذهب ابن كلاب ألبتة، وليس هناك نقل واحد للأشعري في أي كتاب له يصرح فيه أنه يقول بقول عبد الله بن سعيد بن كلاب.

    أما كونه متأثراً به فهذا صحيح، ولهذا نجد أن البغدادي يقول: وقال شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب . ثم يقول: وقال شيخنا أبو الحسن الأشعري . فالأشعرية فضلاً عن الأشعري يعلمون أنهم متأثرون بـابن كلاب، لكن أن الأشعري التزم طريقته كانتماء مذهبي.. فلا، أما كحقيقة علمية في مسائل الصفات فقد وافق الأشعري ابن كلاب؛ والدليل على هذا: أن الأشعري في مقالات الإسلاميين فرق بين مقالة ابن كلاب ومقالة أهل السنة والحديث، فقال: ذكر جملة قول أهل السنة والحديث ، وقال: ذكر قول عبد الله بن سعيد بن قطان يعني: ابن كلاب، وذكر في موضع آخر جملة قول أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ فهو يفرق بين المقالتين وإن كان يتوهم -أعني: الأشعري - أن ابن كلاب يوافق أهل السنة في الجملة إلا في مسائل يسيرة.

    رأي الجويني في اتباع السلف وطريقة الخلف

    [فقال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج صحب رسول الله على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها - فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما: لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل: كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى; فليجر آية الاستواء والمجيء. وقوله خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه].

    هذا ثناء عام على مذهب الصحابة، لكن غلط الجويني ليس من هذا الوجه؛ فإن ثناءه على مذهب الصحابة والسلف حق على ظاهره، لكن خطأه من قوله: إن السلف والصحابة -وهم أئمة السلف- درجوا على ترك التعرض لمعانيها، أي: أنهم كانوا مفوضة، فهذا القول غلط، فإنه لم يكن عليه أحد لا من الصحابة ولا من أئمة السلف.

    ومن هنا يتبين أن أشد أسباب الوهم عند جمهور متكلمة الصفاتية، وطوائف من فقهاء المذاهب الأربعة -حتى من الحنابلة- وبعض الصوفية، وبعض المشتغلين بشروح الأحاديث من الحفاظ المتأخرين: أنهم ظنوا أن باب الصفات لا يصح فيه إلا القول بالتأويل، وفي الجملة يعلمون أن ذلك لا يصار إليه باطراد لاختصاص المعتزلة بالاطراد فيه، فربما تأول متكلمة الصفاتية بعض المسائل دون بعض، أو القول فيما لا يمكن إثباته على التفصيل؛ ويجعلونه مذهب السلف، مع أن مذهب السلف ليس هذا ولا هذا.

    ففي الرسالة النظامية رجع الجويني عن كثير من جزمه الأول وطريقة التأويل التي تقلدها، لكنه وإن انتسب لأهل السنة إلا أنه لم يحقق مذهبهم في الصفات، ولهذا نقول: إن الجويني رجع إلى التفويض.

    أما في القدر فقد ذم الجويني في رسالته النظامية مذهب أصحابه الأشاعرة، والذي كان يقرره في كتبه الأولى، وهو أن للعبد قدرة مسلوبة التأثير، وترك ما كان يعتقده قبل في الشامل والإرشاد ، وطعن على المذهب طعناً شديداً.

    ثم قصد إلى مذهب يظنه مذهب أهل السنة، فقال بمسائل مفصلة في القدر. وهذا الرجوع من الجويني ظاهر وجيد، لكن هل أصاب الجويني في مسألة أفعال العباد ومشيئتهم، وما يتعلق بمشيئة الله لأفعال العباد.. إلخ قول أهل السنة المحض أم لا؟

    نقول: أما في مسألة القدر -وبخاصة في مسألة أفعال العباد في الرسالة النظامية - فقد أصاب كثيراً من قول السلف الذي يخالف الأشاعرة، لكنه بقي عليه أثر من مذهبه في تفاصيل بعض المسائل التي تبنى على مسألة أفعال العباد، ودخل عليه أثر من كلام المعتزلة في هذه المسألة، وأثر من كلام المتفلسفة؛ ولهذا يمكن أن نقول: إن مادة الجويني في مسألة أفعال العباد في الرسالة النظامية متأثرة بمادة سنية، ومادة اعتزالية، ومادة أصحابه الأشعرية، ومادة فلسفية. أما المادة الفلسفية فليست غرواً، فقد صرح بها حتى بعض الأشاعرة، فقالوا: إنه مال إلى طريقة الحكماء في آخر أمره . يعنون: طريقة المتفلسفة، وحينما نقول: إن فيه مادة فلسفية؛ لا نقوله تبعاً للشهرستاني وأمثاله الذين وصفوه بهذا الوصف؛ فقد بالغ الشهرستاني في وصف مذهب الجويني الأخير بأنه موافق للحكماء، مع أنه لم يكن بنفس الدرجة التي وصفه بها.

    وكذلك يقال فيما ذكره الرازي عندما أضاف الجويني إلى طريقة الحكماء، وهذا إنما يتحصل بالنظر في كلام الجويني ومعرفة ما يقرره الفلاسفة في هذا الباب: باب الأسباب والتسلسل في التأثيرات، ونزول الأعلى إلى الأسفل.. وهلم جرا، أصابه أثر من هذا واضح، وإن كان ظاهر جمله الأساسية في تقريره للقدر في الرسالة النظامية سنياً، لكن من حيث الحقائق العلمية: فإن بعض الحقيقة سنية، وبعضها اعتزالية، وبعضها أثر من المتفلسفة، وبعضها بقية بقيت من مذهبه الأول.

    1.   

    تعليق للمصنف على ما تقدم نقله من نقولات

    [قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب: ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، فكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً -أو قال: فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم. قالوا: وكيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً. أو قال كلاماً هذا معناه.].

    هذا البيان -بيان المصنف- هو تعليق مجمل على نقولاته، مبيناً فيه أنه ليس كل من نقل عنه من المتكلمين وغيرهم -كالصوفية وبعض الفقهاء- يعتبر موافقاً له في سائر ما قاله، أو أن هؤلاء الذين نقل عنهم يوافقون أئمة السلف في سائر الموارد، وإنما من باب أن الحق يؤخذ من كل من جاء به.

    والحقيقة: أن المصنف هنا لم يكن غرضه أن بعض كلام هؤلاء فيه من معاني الحق أو تقريره ما لم يقع ذكره في كلام السلف، إنما قصد إلى هذه النقولات عن بعض أعيان المتكلمين من جهة إقامة الحجة على أتباعهم أو من يوافقهم من أصحابهم الذين غلطوا عليهم وعلى السلف سواءً بسواء؛ والغالب أنه يقصد به المتأخرون من الأشاعرة، ولهذا نقل عن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب .

    وقد تقدم أنه لا يمكن أن تختص طائفة من الطوائف بشيء من الحق لا يقع ذكره في كلام السلف، وقول المصنف: ولو إن كان الحق يقبل من كل من جاء به.. هذا لا إشكال فيه، لكن يفهم على وجهه وهو: أنه لا يمكن لطائفة من الطوائف المخالفة للسلف أن تختص بشيء من الحق في باب الدلائل أو باب المسائل.

    وإذا قيل: اختصاص؛ أي أنهم يختصون بتحقيقه والعلم به وتقريره؛ ولهذا يقول المصنف رحمه الله مبيناً حقيقة العقلية الصحيحة التي تقع في كلام المتكلمين في بعض الموارد: والفاضل من أدلتهم التي يذكرونها ترى أن الكتاب والسنة جاء به على أتم وجه . فيكون أصله مأخوذاً من أدلة الكتاب وأدلة السنة، أو يقع في كلام السلف رحمهم الله ما هو من جنسه.

    إذاً: هم لا يختصون بشيء من الدلائل أو المسائل.

    [فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة من يعرض من الشبه، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرده من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبت شيئاً من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل به المقصود.

    وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منها كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته].

    ولهذا كان العذر في هذا الباب إنما يختص بمن حقق قصد الاتباع والاجتهاد، فهذا إذا أخطأ كان خطأه مغفوراً له، لكن لا بد من اجتماع هذه الشروط، وهو: أن يكون قاصداً الحق مجتهداً في طلبه. وهي القاعدة التي سبق ذكرها في كلام المصنف: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأه فإن خطأه مغفور له.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755967570