إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    رعاية الشريعة لوشائج الأخوة من ناحيتي العدم والوجود

    النهي عن الحسد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) رواه مسلم .

    هذا الحديث الجليل جمع عدة خصال يبين فيها صلى الله عليه وسلم كثيراً من حقوق المسلمين لبعضهم على بعض، ويعالج شخصية المسلم في نفسه وفي تصرفه.

    ويبدأ صلى الله عليه وسلم بأولى خطايا الخليقة، ألا وهي الحسد، فيقول: (لا تحاسدوا).

    ويقول العلماء: الحسد قسمان: حسد مذموم، وحسد ممدوح ويسمى الغبطة، والحسد المذموم: هو تمني زوال نعمة الله عن عبده، والغبطة: أن يتمنى الإنسان من نعمة الله مثل ما أنعم على فلان دون أن يتمنى زوال تلك النعمة، وهو الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).

    وكون الإنسان يعطى الحكمة ليقضي بها بين الناس، أو المال ينفقه في سبيل الله ليس فيه مضرة على أحد، ولكن الحسد المذموم -الذي هو أول خطيئة وقعت- هو أن تستكثر النعمة على العبد وتزدريه أمامها، وتستصغره بالنسبة إليها، وتستكثرها عليه، وتتمنى زوالها عنه.

    ومن هنا قالوا لما خلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم بيديه كرمه وأسجد له الملائكة، وكان إبليس في صف الملائكة، ولا نقول: كان من الملائكة.

    وكان من عمّار الأرض في عالم الجن أو الحن أو البن -عالم قبل الإنس-، وقاتل في سبيل الله، ويقولون: لم يبق شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، فرفعه الله إلى مصاف الملائكة، ولكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- أعجِب بنفسه، فلما رأى خلق آدم، وأن أصله من طين، ونظر فإذا المولى سبحانه لم يقل له كبقية الكائنات (كن) فكان، ولكن خلقه بيده، وصوّر حلقته بيده، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر: ثلاثة خلقها الله بيده، خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وخط الألواح لموسى بيده.

    فلما رأى إبليس تلك النعم العظمى استعظمها على هذا الذي خلِق من حمأ مسنون، ولذا لما أُمر بالسجود امتنع، وقال كما حكى الله تعالى عنه: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، يقول علماء الأصول: هذا أول قياس فاسد ويسمونه فساد الاعتبار، والقياس الفاسد الاعتبار هو القياس في مقابل النص، فالمولى يقول له: اسجد. فيذهب إلى القياس فيرى أن أصله من نار، وأصل آدم من طين، ويخطئ في النتيجة، فجعل النار خيراً من الطين، وامتنع اعتزازاً بأصله واحتقاراً لأصل غيره، فما لك وللأصل، وما لك وللمقايسة، إن قال: (اسجد)، فاسجد ولكن -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه- أخطأ في المقدمة وفي النتيجة.

    فمَن الذي قال: إن النار خير من الطين؟ فالنار محرِقة مدمِّرة، والطين مثمر منيبت، فعندما تأتي بالنواة وتلقيها في النار فإنها تضيع وتحترق، وعندما تأتي بالنواة وتلقيها في الطين تصير نخلة ولها طلع هضيم، فأيهما أفضل وأخير؟ لكن الضلال -عياذاً بالله- والكبر والازدراء يعمي البصيرة، فلما استعظم النعمة على آدم احتقر آدم، فتكبر فكان جزاؤه -عياذاً بالله- الطرد المؤبد، وهكذا المعصية تجر إلى معصية أخرى، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله، وكما يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات) أي: أنهن عناوين، والشيء يدل على غيره.

    وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا)، وإذا جئنا نحتكم إلى العقل فإنه إذا أعطى الله شخصاً مائة والثاني تسعين فليس للثاني أن يعترض، فهل الذي أعطى صاحبك مائة أنقص من حقك -يا صاحب التسعين- شيئاً؟ وهل أخذ من حقك وأعطاه، أم أنه أعطاه من واسع فضله؟ فإن كان هناك شيء من حقك فخذه، وإذا كان تفضلاً من الله فأعطى وزاد فلا يقال: لِم لَم يكن الحد الأدنى للجميع عشرة؟ فهذا تحكم على الله.

    فالحاسد يحارب الله، والحاسد معترض على قسمة الله، والله يقول: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف:32]، وانظر في الفرائض، فالبنت لها النصف، والأخت الشقيقة لها النصف فهل لك أن تقول: يا رب! لماذا أعطيت هذا؟ ولماذا أعطيت هذا؟ وإن كان هناك وراء ذلك كله حكم باهرة، لكنه عطاء الله، وليس لك أن تتحكم في عطاء غيرك.

    فلو قدم عشرة أشخاص أضيافاً على إنسان، فأعطى أحدهم طاقية، وأعطى الثاني عمامة، وأعطى الثالث غير ذلك، فهل لأحدهم أن يقول: لماذا لم تعطني مثل فلان؟ فالله تعالى أعلم بما يصلح العبد، وفي الحديث: (وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)، فهو بصير بعباده، والعطاء كله من الله، والإمام علي رضي الله تعالى عنه يقول: (لو نظر الناس في أعطياتهم، ونظروا بعقل وتدبر لوجدوها متساوية متعادلة)، فربما أعطي شخص ألف الدنانير، وأعطي غيره عشرة دنانير فقط، وفي باب الصحة أعطى صاحب الألف دينار عشرة في المائة من الصحة، وأعطى صاحب العشرة تسعين في المائة، فأعطى، وساوى في مجموع المال والصحة. والعقل والذكاء والعلم والتوفيق كلها أعطيات، فلو جمعت ما أعطاك الله في صحة البدن، وفي عقلك، وفي ذكائك وفي ارتياحك النفسي وطمأنينتك في حياتك خرجت بنتيجة متعادلة، فينقص هذا ويزيد ذاك والناس كلهم عند الله سواء، وكلهم عباد الله، وهو أدرى بأعطياتهم.

    وليس لك حق في أن تعترض على عطاء الله لغيرك، والواجب عليك أن ترضى بما أعطاك، فإذا رضيت بما أعطاك لا تتطلع إلى ما أعطى غيرك، ولعله لو زادك كانت الزيادة تطغيك وتهلكك، فإنسان حُرم الولد، فعاش حَجِلاً من الناس لا يدري لو جاء له ولد ماذا يفعل معه؟ فيمكن أن يتمنى على الله أنه لم يأت هذا الولد، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].

    فالخضر عليه السلام قتل الغلام مخافة على أبويه، قال تعالى عنه: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، فقتله ليَسْلَم الأبوان من شره.

    وكذلك قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7].

    فاحمد ربك أنه جنب عنك الطغيان، ومهما أوتي العبد فما عساه يكون حاله ومآله، وتأمل مصير فرعون وهامان وقارون، بل وأهل الدنيا كلهم، فماذا أخذوا منها؟ وأين ذهبوا؟!

    فإذا تحاسد الناس تقاطعوا وتخاصموا، وانقطعت الصلات بينهم، ولكن إذا تحابوا وتقاربوا وتراضوا وتعاطفوا كانت المجتمعات كلها أمة واحدة، فالداء الذي قتل الأمم هو الحسد.

    ولذا بعض الناس يقول: الحاسد عينه تتقلب في نعم الله، وقلبه يتوقد ناراً.

    وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه فقال: (يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة)، فإذا رجل يخرج حاملاً نعليه في يديه تقطر لحيته ماءً من وضوئه، وفي اليوم الثاني في نفس المجلس قال صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فإذا الرجل الذي جاء بالأمس هو الذي جاء.

    فقال عبد الله بن عمرو: إن هذا ليس من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الملازمين له، وليس له شأن يميزه عن غيره، فيجب أن أرى السر الذي جعله من أهل الجنة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فتبعه حتى عرف بيته، فجاءه بعد العشاء وطرق الباب، وقال له: بيني وبين أبي ما قد يكون بين الولد وأبيه، ولا أريد أن أبيت عنده، وأريد أن أكون ضيفك الليلة.

    وأراد أن ينظر إلى ما يكون من عمله في الليل، فكان أن تعشى الرجل وتعشى معه ضيفه، وناما إلى أذان الفجر، فقام وتوضأ فأوتر وصلى ركعتي الفجر، وذهب وصلى الفجر.

    فقال: ما هناك شيء جديد، ولعله في تعب، أو لعله يستحيي مني، إلا أنه فعل في الليلة الثانية والثالثة ما فعل في الأولى، فقال عبد الله : يا فلان! أصدقك الحديث، أنه ليس بيني وبين أبي شيء، ولكن وقع كذا وكذا، فأخبرني ما هي خبيئة السر التي لك عند الله؟ قال: يا ابن أخي! ليس عندي إلا ما رأيت، وليس لي شيءٌ خاص أخفيته عنك، فهذه حياتي. فذهب ولم يظفر بشيء، وبعدما ذهب ناداه فقال: إن يكن من شيء -أي: إن كان هناك شيء يميزني- فإنا نبيت وليس في قلوبنا غلٌ لأحد.

    فمن يقدر على هذ!؟ فهذه صفة أهل الجنة، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [الحجر:47]، فوجود الغل يتنافى مع الأخوة، فالأخوة رقيقة شفافة لطيفة هادئة، لا تناسب ولا تجانس الغل ولا الحقد ولا الحسد.

    فهي مثل المسك الطيب لا يتجانس مع الروائح الكريهة أبداً، فهذا الرجل في الدنيا يعيش بقلب رجل من أهل الجنة، ولذا يبشره صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو حي يمشي على قدميه.

    فإذا رجعتم إلى بيوتكم، وأخذتم مضاجعكم، وأغمضتم الأعين فمن كان سليم الصدر فليحمد الله، ومن حدثته نفسه بشيء فليجلس وليتساءل: ماذا سأصنع؟ وما الذي سيعود علي؟ ولينتهر نفسه وليقل لها: أرقتيني وأتعبتيني فدعيني أنام. لأن صاحب الحسد والحقد على الناس إنما يتعب نفسه، فخصمك وعدوك وقرينك في محله لا يدري عنك، وقد يكون هادئ البال في أحسن نوم، وأنت تحرق نفسك في فراشك، وهذا لا يجدي شيئاً.

    ولكن قد يكون الحسد من جبلة النفس، فالإنسان لا يحب أن يرى من هو خير منه، ويريد أن يكون أحسن الناس، لكن إذا لم تصل إلى مستواهم فهل تحسدهم؟ فقاوم تلك الرغبة في نفسك، وحولها إلى المنافسة الحسنة، والله سبحانه وتعالى يرضيك ويطمئن نفسك.

    فقوله: (لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، وهذا هو المبدأ، فإذا سلم القلب من الحسد كان صالحاً لكل خير.

    تحريم التناجش في البيع والشراء

    يعقب النهي عن الحسد قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا)، والتناجش أو النجش نتيجة للحسد، والناجش: السائم في السلعة بدون رغبة في شرائها. كما إذا جاء إنسان إلى سلعة في السوق تباع بالمزاد العلني، فعرضت بخمسة، ثم صارت بستة، ثم بسبعة، فيأتي إنسان صديق للبائع أو خصم للمشتري -ومن هنا ينشأ النجش-، فيأتي وقد وقفت البيعة على سبعة فيقول: أشتريها بثمانية. وإذا كانت بتسعة يقول: بأحد عشر. فيدخل ويزيد، وغرضه بهذه الزيادة أحد أمرين: إما زيادة الثمن منفعة للبائع، وإما ارتفاع السعر تغريراً للمشتري، ولا تخرج عن هذين الأمرين، فعنصر الحسد موجود، والرغبة في المضرة موجودة، ومحاولة زيادة الثمن على المشتري موجودة، ولماذا تغرر به وتزيد عليه؟ إنه الحسد، حيث يحسده على شرائها.

    وهنا يقول العلماء: لو وقع النجش في سلعة واشترى المشتري على اعتبار أن المتزايدين كلهم يرغبون في شراء السلعة وأن المزاد صحيح، ثم علم أن هناك من كان ينجش معه، فالجمهور على أنه بالخيار كل، فإن شاء أمضى البيع على ما رست عليه السلعة، وإن شاء ردها، وإن شاء أخذ فرق النجش من السعر الأصلي.

    وهذا في باب المعاملات وباب البيوع، فليحذر أولئك الذين يريدون أن ينفعوا أشخاصاً على حساب الآخرين، فإن كان لك رغبة في الشراء مثل غيرك فاشتر، وإلا فارتك المساومة.

    النهي عن التباغض والتدابر

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تباغضوا).

    فبدأ بالحسد، والحسد جر إلى تكليف المحسود بغرامة، وليس الحسد في النفس فقط، ولكنه تعدى إلى الضرر، فهو يجر إلى التلف وإلى الغرامة، وعندما تغرِّم إنساناً شيئاً في غير محله أيحبك أم يبغضك؟

    فالحسد هو أصل الخطأ في التباغض، فكم أدى إلى أن يبغض الناس بعضهم، وإذا كان الناس يعيشون متحاسدين متباغضين يبغض بعضهم بعضاً، فأية حياة هذه؟

    فقوله: (ولا تباغضوا) أي: لا يبغض بعضكم بعضاً.

    وإذا ما تباغض الناس فهل يتصافحون ويتعانقون أم يتدابرون؟

    ولهذا قال: (ولا تدابروا)، والتدابر: أن يعطي كل واحد ظهره للآخر، فبدلاً من أن يقبل عليه بوجهه يوليه ظهره، ويدبر عنه، والتدابر هذا نتيجة البغض، والبغض جاء من الغرامة التي كانت في النجش، والنجش وسببه الحسد؛ فرجعت هذه الخطايا كلها إلى الحسد.

    وقوله هنا: (ولا تباغضوا) لكون هذا العمل كأنه يهدم كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام جاء ليؤلف بين الناس، فأذهب الحواجز التي تفرق بين غني وفقير، وأمير ومأمور، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما سيأتي: (وكونوا عباد الله إخواناً)، فحقيقة الإسلام، وحقيقة الرسالات في الأمم كلها المؤاخاة بين بني الإنسان؛ لأنهم في الأصل إخوة أبوهم واحد وأمهم واحدة.

    ولكن الحسد الذي يتعدى إلى الضرر يأتي بالتباغض والتدابر، وإذا وقع التدابر وقع التباغض.

    وهل قوله: (ولا تباغضوا)، يتضمن النهي عن النجش وعن هذه الأمور؟

    والجواب: أن كل ما فيه إيجاد التباغض بين أفراد الأمة يجب على الإنسان أن يتجنبه، إن لم يكن تديناً فمن باب المروءة.

    فعلامَ تبغض إنساناً مثلك فإن أخذ لك حقاً فإما أن تعفو وتصفح وتغفر، وإما أن تأخذ حقك بالمساواة، وبلا تباغض.

    النهي عن أن يبيع المسلم على بيع أخيه

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم بعضكم على بيع بعض)، وكأنا رجعنا إلى السوق مرة أخرى، فهناك نهي عن النجش، وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وهنا نهي لعامة التجار إذ قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض)، وجاءت منهيات أخرى تضم إلى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) حيث ورد:( ولا يسم المسلم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته)، فلا ينبغي لإنسان أن يبيع على بيع أخيه، ولا يساوم على سومه ليشتري على شراء أخيه ولا يخطب امرأة على خطبة أخيه؛ حفاظاً على التآخي، ومنعاً للتشاحن والتباغض.

    وبيعك على بيع أخيك يصوره العلماء بعدة صور:

    منها: تاجران متجاوران، أو شخصان متقاربان علم أحدهما أن صاحبه باع سلعة لفلان، وفلان المشتري ذهب ليشاور، أو ليأتي بالنقد، أو كان بينهما موعد بعد يومين أو ثلاثة، فيذهب التاجر الآخر إلى المشتري فيقول له: كيف فعلت؟ فيقول: اشتريت من فلان سلعة، فيقول: بكم؟ فيقول: بعشرين. فيقول: هي عندي بثمانية عشر. أو يقول: باعك سلعة مغشوشة، وأنا عندي سلعة جيدة أبيعكها بعشرين ولا أزيد عليك.

    فما الذي يحمله على هذا البيع المتذرع به؟ هل رغبة في نفع نفسه فقط، أم لإيقاع المضرة بغيره؟ فإن كان فيه نفع لك فإنك أوقعت المضرة بغيرك إذا علم صاحبك بهذا، ومن هنا يأتي التباغض والتدابر، وتقطع الأرحام، وتتباغض النفوس.

    ويقولون: يكون هذا ممنوعاً إذا اتفق المتساومان، أما لو كانت السلعة في السوق، وإنسان يسوم بخمسة، وآخر بستة فلا نقول له: لا تساوم على سومه، ولا تتقدم عليه؛ لأنها معروضة في المزاد للجميع، وليس هناك اتفاق من البائع مع أحد، فهي في سلم السوم، وما دام أنه ليس هناك نجش فلا مانع أن تساوم، لكن إذا انقطع السوم، أو كانت في محل بدون مزايدة، واشترى شخص السلعة واتفق معه، فلا يجوز لك أن تأتي من الخلف لتفسد البيع عليه، فتقول له: أنا آتيك بأحسن منها.

    وسواءٌ أكانت عنده سلعة أم كان دلالاً في السوق، فلا يفسد على الناس البيع الذي وقع.

    ومن صور السوم على سوم المسلم: أن المشتري يذهب بعد الاتفاق على السلعة للاستشارة، أو ليحضر المال، وهناك شخص واقف عند المكان يسمع، فيسأل صاحب السلعة: لماذا لم يأخذ المبتاع السلعة؟ فيقول له: اتفقنا وذهب ليأتي بالمال، فيقول له: الفلوس حاضرة، فخذها وأعطني السلعة.

    فإذا كان مالك حاضراً فسمت على سوم أخيك الذي ذهب، وأغريت البائع بأن يدفع إليك السلعة لكون الذي ذهب لا يعرف هل يأتي أم لا، أو إذا كانا اتفقا على عشرين بعشر، فتقول له: خذ واحداً وعشرين وأعطني فهذا سوم على سومه.

    النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة أخيه

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته).

    إذا تقدم شخص إلى أسرة وخطب امرأة، وأصبحوا يتفاوضون ويتفاهمون في كيفية الزواج ومقدار الصداق، وكانوا قد اطمأنوا إليه فإنه يكون قد ركن بعضهم إلى بعض.

    وقد يأتي شخص يرى نفسه فوق ذاك الخاطب الأول، ويعلم من نفسه أنهم يطمعون فيه، فيأتي ويخطبها، وحينئذٍ فأقل شيء يقولونه أن يقولوا: لو تقدمت قبله، ليتك تقدمت من زمان، فبنتنا ضاع نصيبها مع هذا. فيفسد عليهم رضاهم بالخاطب الأول، فإذا ضعُفَت نفوسهم وقالوا: قبلناك يأتي الأول فيقولون له: لقد تأخرت، فيقول: نحن متفقون، فدعونا نتفاهم. فيقولون: لا. وحقيقة أمرهم أن المال جاء من جهة، والطمع والفساد جاءا من جهة أخرى.

    وهنا يقول الحنابلة: إن كانوا قد ركنوا إليه، وجاء خاطب وخطب فقبلوه فُسِخ العقد؛ لأنه معتدٍ، ولا يحق له أن يدخل عليها، ولو دخل عليها يفسخ هذا النكاح عند الحنابلة.

    وهذا من المزاحمة المذمومة وشح النفس.

    فإذا حسنت المعاملات، انقضى خطر الحسد، ومنع التناجش، وإذا لم يكن هناك بيع الآخرين، ولا تدابر فإنه سيصبح المجتمع بغير حسد، ولا بغض، ولا تدابر، ولن تجد إنساناً يتمنى مضرة لأخيه، وسيصبحون عباداً لله إخواناً.

    ومن عمل شيئاً من تلك المسميات فبعيد أن يكون من عباد الله المتآخين، وإنما يكون منتهكاً حرمة الأخوة بين الناس التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا).

    لو نظرنا وتأملنا فما أطيب كلمة (إخوان)، فأنت أخي، وأنا أخ لك، والله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة)، أما الأحساب والأنساب والمراكز والمواقف والعطاءات والأشكال فكلها نسبية، فإذا كان إنسان في أعلى نسب في الأمة، فهل كان له كسب وعمل حتى صار نسيباً؟

    فالله سبحانه وتعالى أراد لك أن تأتي من أبوين شريفين نسيبين نسباً عالياً، وأنت حينما حُملت في البطن ونزلت إلى الدنيا ليس لك فضل في كونك حسيباً.

    وفرق بين النسب والحسب، فالنسب: هو صفة الأبوين، وما ينتميان إليه من هذه القبيلة أو تلك والحسب: هو ما يوجد لأسلافه من أمجاد مكتسبة يحسبها ويقول: كان أبي كذا. وكان جدي كذا. وخالي عالم، وابن عمي صفته كذا. وأمي من كذا. ويحسب أشياء مما يتفاخر بها الناس من المكتسبات.

    فكونك نسيباً لا فضل لك فيه، إنما هو شرف حصلت عليه فضلاً من الله، وكذلك كونك حسيباً، فماذا فعلت أنت حتى تشرف بفعلك؟ أتتشرف بفعل غيرك؟ فغيرك قد حسبوا، وأصبحوا من أهل الحسب الرفيع والفخار الكبير. كبعض الناس الآن، حيث يتشدق قائلاً: كانت لنا الدنيا وكنا قادة.

    فهؤلاء يقال لهم: وماذا فعلتم أنتم؟ هدمتم ذاك الحسب، وضيعتم ذاك الحسب، فاعملوا كما عمل أولئك.

    وتجد صاحب المال الكثير يتعالى على الفقير المسكين، فهو مال وعرض، وظل زائل يأتي ويذهب، كما قيل:

    وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

    وقيل:

    وما تدري إذا يممت أرضاً بأي الأرض يدركك المبيت

    وكم من غني يصبح لا شيء عنده، وكم من فقير تفتح له الدنيا زهرتها؛ لأنه ليس لها قيمة، فهل هذا يطغيه أو يلهيه أو يشغله؟ فكل هذه الأشياء لا ينبغي أن تفرق بين بني الإنسان.

    1.   

    الأمر بالتآخي

    قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً).

    قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا) يوجه فيه إلى الناس الكينونة، كأنهم باستطاعتهم أن يصبحوا إخواناً، وهل هذا على ظاهره في هذا المقام؟

    إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن أخوة المسلمين فيما بينهم لها أصلان: أصلٌ منحة وهبة من الله تعالى، وأصل أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.

    أما الأصل هو الذي هو هبة من الله فإنه سبحانه يذَّكر عباده ويمتن عليهم به فيقول: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

    وهي نعمة الإسلام، فلقد رأينا في مطلع فجر الإسلام الأجناس المختلفة من الأقطار المتباعدة تتآخي تحت ظل دوحة الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم في مكة يأتيه صهيب الرومي، ويأتيه بلال الحبشي ، وفي المدينة يأتيه سلمان الفارسي ، وكل أولئك إخوة في الله الذي جمع العرب مع العجم.

    يقول الشاعر:

    أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم

    فحينما اختلف سلمان المهاجرون والأنصار في غزوة الخندق كان المهاجرون يقولون: سلمان منا، جاء مهاجراً من بلاد فارس. والأنصار يقولون: سلمان منا كان موجوداً حين قدم علينا رسول الله، فهو فارسي يتنافس فيه المهاجرون والأنصار، ويقضي فيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا أهل البيت)، ولم يكن هاشمياً أو قرشياً فكان من آل البيت أعلى قمة نسب في العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (..فأنا خيار من خيار)، وذلك بالإيمان، قال تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

    تلك الأخوة كانت أقوى وأعز من أخوة النسب والدم، حتى إنهم كانوا يتوارثون بها، وظهرت آثارها عملياً في ثلاثة مواطن يعجز خطيب أو كاتب أو شاعر أو أديب أو معبر بأي أسلوب أن يصور حقيقة المعنى. ففي غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة يأتي المشركون وكان فيهم ابن أبي بكر الصديق، ولم يكن أسلم بعد، ونظام القتال أوله المبارزة، فيخرج الابن ويقول: من يبارز؟ فينهض أبو بكر ليبارز ولده، فيمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أبق على نفسك يا أبا بكر، فهذا أب يبارز ابنه، فهو قاتل أو مقتول، فإن قَتل قَتل مَن؟ وإن قُتل قُتل بيد من؟ فهما مصيبتان.

    فـأبو بكر إذا قتل قتل بيد ولده، فذلك أشد على نفسه من أن يقتل على يد أبي جهل أو غيره.

    وفي غزوة المريسيع حدث أن غلاماً لـعمر وغلاماً لأنصاري ازدحما عند الماء فضرب غلام عمر غلام عبد الله بن أُبي أو الأنصاري، فصاح أحدهما: ياللمهاجرين، وصاح الآخر: ياللأنصار؟ ودبت فيهم نحوه سابقة، فبلغت تلك المقالة عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين فقال: أو قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

    فبلغت المقالة رسول الله فشغل الناس بالسير في القيلولة حتى وصل باب المدينة، وهناك أنكر مقالته التي قالها واعتذر وكذب الخبر، وجاء الوحي وكذبه، قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فأتى عبد الله بن أبي إلى أبيه عند أبواب المدينة واستل سيفه وأمسك زمام ناقة أبيه، وقال: والله لن تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله.

    ويقولون: كان من أبر الشباب بأبيه. فأين ذهبت الرابطة النسبية؟ وأين ذهبت الأبوة والبنوة والبر؟ قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، فتلك الأخوة التي هي نعمة من الله أقوى تلاحماً وترابطاً من البنوة والأبوة في النسب.

    فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عبد الله مع أبيه أرسل إليه أن: دعه يدخل. فدخل بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وبعد فترة تنافل الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي ، فيأتي ولده ويقول: يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل فلان -وما قال أبي، فإن كنت فاعلاً لا محالة فمرني آتيك برأسه؛ إني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا أستطيع أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله فأهلك؛ لأني قتلت مسلماً بكافر.

    فانظر إلى أي حد بلغ هذا، فهو مستعد أن يتولى قتل أبيه حرصاً على المسلمين؛ لأنه -من باب الحمية- لا يقوى على أن يرى قاتل أبيه، ولو كان أبوه كافراً وقاتله مسلماً، فيندفع وراء تلك الغريزة فيقتل قاتل أبيه، وبما أن قاتل أبيه مسلم، فحينئذٍ يكون قد قتل مسلماً بكافر، وهذه مصيبة لا يرضاها، بل هي الهلاك..

    فقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، هو العنصر العملي الذي كلفنا به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الحجرات قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12]، وقال تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، وإذا أخذت من أول السورة بعد آدابها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الإصلاح بين الطوائف المسلمين في قوله تعالى: وَإِنْ طَائفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10].

    والآية تزيل عوامل البغضاء والقتل، بداية من سوء الظن بأخيك، ثم الانتقال إلى عدم التجسس وراءه، ثم الانتقال إلى ألاَّ تتبع التجسس بالغيبة، إلى آخر ما أتى في السورة.

    ومما يهمنا هنا فعله صلى الله عليه وسلم في غرس المحبة، حيث يقول: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا)، فالجنة لا يدخل فيها إلا المتحابون، أما المتباغضون فليس لهم محل؛ لأن الجنة لا تصلح للتباغض، وهي أطهر من أن تسع متباغضين، والمولى سبحانه -كما جاء في الأحاديث- في بعض ليالي السنة المفضلة يطلع على أهل الأرض فيغفر لهم جميعاً إلا المتخاصمَين، فيقول: (أرجئوهما حتى يصطلحا)، فكيف نتباغض؟ وكيف نكون متباغضين في الجنة؟

    ثم قال صلى الله عليه وسلم (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ -فهي وسيلة المحبة التي يمكن أن تكتسبوها أنتم- أفشوا السلام بينكم)، وجاء الحديث الآخر: (تهادوا تحابوا)، والهدية تسل الضغينة من الصدر، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى أن تتعاطف مع أخيك أن تبدأه بالسلام، وأن تبادله الهدايا، وجاء الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست)، فإذا أديت حق أخيك وأدى حقك، عندها تكونان متحابين، وهذه الخصال الست هي قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه).

    فإذا لقيته سلم عليه وقل: (السلام عليكم)، وإن دعاك لوليمة فأجبه، وإذا طلب منك النصح فانصح له، وإن غاب عنك أو مرض فعده، وإذا قضى نحبه ومات فشيعه. فإذا وفى كل إنسان حق أخيه عليه كان الناس عباد الله إخواناً.

    وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا)، قد يقول قائل: على أي شيء هذه الأخوة؟ فيقال: مبدأ الإسلام المؤاخاة، فالمسلم -حقيقة- أخو المسلم، ولا يقال: كيف يكونان أخوين وأحدهما عربي والآخر عجمي، وهذا من الشرق وهذا من الغرب، فمن أين جاءت الأخوة؟ فأخوة النسب لا كسب لك فيها، فأخوك شقيقك لا تستطيع أن تلغي أخوته، وهي مفروضة عليك شئت أم أبيت، ولكن الأخوة التي لك هي أن تتخذ كل من قال: (لا إله إلا الله) أخاً، وهذه الكلمة هي النسب الأعلى، فالمسلم أخو المسلم، سواءٌ أكان إخباراً بالواقع أم أمراً في صورة الإخبار، كما قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233]، فهو إخبار بالإرضاع، أو تكليف بأن يرضعن.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم)، ومقتضى تلك الأخوة ليس ادعاءً، وليس -كما يقول بعض الناس- إشارة في إثبات الهوية أو في جواز السفر، فليس الإسلام بالبطاقة كما يعبر بعض الناس، وإنما هو عمل، وما دام المسلم أخا المسلم فمقتضى الأخوة وثمنها ألا يظلمه، فظلمك أخاك عجب، وإذا ظلمت أخاك فمن ستنصف؟ ولذلك قال: (لا يظلمه)، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله) وفرق بين الظلم والخذلان، فالظلم: أن يصدر منك ما يؤذيه، والخذلان: أن تترك غيرك يظلمه وأنت تنظر، وهذا ليس من صفة المسلم، ولا من مقتضيات الإخاء، فالأخ حقيقة هو الذي يناصر أخاه، وقد جاء في الأثر: (ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من حقه وينتهك فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته...) فيأتيك وقت تحتاج فيه إلى النصرة فلا تجد؛ لأنك فرطت في نصرة أخيك.

    وجاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: يا رسول! الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره)؛ لأنك تنصره على نفسه.

    النهي عن غش المسلم واحتقاره

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه).

    يقولون: يكفي الإنسان دناءة أن يحدث إنساناً بحديث يظنه صادقاً فيه والمتحدث يعلم كذبه، وأعتقد أن هذا منتهى ما يمكن أن ينزل إليه الإنسان، فشخص يأتمنك ويأخذ كلامك مأخذ الصدق كيف يسوغ لك أن تكذب عليه؟

    وإذا أخذنا بهذه فقط -أي: (لا يكذبه)- وعملنا بها صلح المجتمع كله.

    فعند الحسد لا تحسده، والناجش يقال له: إذا كنت تسوم سوماً صحيحاً فافعل، وإلا فلا تناجش، ولا تبغض أخاك.

    ففي المعاملات، وفي المواعيد، وفي العهود، وفي كل ما يمكن في حياة الإنسان إذا استمسك الجميع بقوله (لا يكذبه) كان الجميع على صفاء وعلى صراط مستقيم.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره)، وهذا عود على بدء، وهذا من أساليب القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنه إذا طال المقام يعاد للتذكير بما تقدم.

    ففي سورة البقرة يقول تعالى في أولها: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2-3]، وفي آخر سورة البقرة يقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.. [البقرة:285]،فبدأت السورة بالإيمان، وانتهت ورجعت إلى الإيمان.

    فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكذبه)، سلم الجميع. (ولا يحقره)، يرجع إلى أول شيء وهو الحسد، وسبب الحسد أنك احتقرت الإنسان على ما أعطاه الله من نعم، فاستكثرتها عليه، ولو أنك لم تحتقره لما استكثرت النعمة عليه.

    ولو كان شخصاً كبيراً وعظيماً ذا شأن لاستقللت النعمة عليه، ولقلت: هو يحتاج إلى زيادة، لكن احتقرته بالنسبة لما أعطاه الله؛

    لأن منشأ الحسد أن تحقر المحسود، ثم تتكبر وتتعاظم عليه.

    ومن هنا كانت نتائج تلك الأخوة بين المتآخيين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه)، فالإنسان لا يظلم نفسه، فكذلك لا يظلم أخاه.

    ومن فضائل تلك الأخوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها من دواعي ومن أسباب إكرام الله للمتآخين يوم القيامة بأن يظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله) وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

    ومن العجيب أيضاً أن تلك الأخوة في الله تصحب هؤلاء المتآخين إلى الجنة بكل رحابة صدر وسلامة، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، والأخوة في الله لا يستطيع إنسان أن يعطيه حقها، ويترتب على ذلك -كما أشرنا- ألا يظلمه، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً).

    فقال: (يا عبادي!) ولم يقل (يا مسلمون) أو: (يا مؤمنون). فالله سبحانه وتعالى حرم الظلم على العباد ولو كانوا كافرين، ولا ينبغي للإنسان أن يظلم غيره، بل يقول العلماء: لا تظلم أحداً ولو حيواناً، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن المرأة البغي التي سقت الكلب لما اشتد به العطش، فشكر الله لها فغفر الله لها ذنوبها.

    ولما سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر)، ولا يجوز أن تحمل الدابة فوق طاقتها.

    فالظلم ممنوع، وكما جاء في الحديث: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، ولو كان المظلوم كافراً فأنت مخطئ، فقد جاء في الحديث: (واتق ودعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).

    والمشركون كانوا إذا جاءتهم الشدائد والعواصف في البحر وغيره يدعون الله وحده، كما جاء في قصة عكرمة لما هرب عام الفتح وركب في السفينة وهاج بهم البحر، فقال ربان السفينة: أيها الناس! سلوا الله وحده أن ينجيكم، والله لا ينجي من هذه إلا الله فقال عكرمة : إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا الله، لئن أنجيتني -يا رب- من هذه لآتين محمداً فأضع يدي في يده.

    فهو هارب من الإسلام، وهارب من قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، والمشركون يقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، فلمّا علم أنه ليس هناك عند الشدة إلا الله، قال: نرجع إليه وحده.

    وحصين لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء)، ومع هذا الكفر يحرم الله تعالى ظلمهم.

    فإذا كان هذا مع الحيوان ومع الكافر فكيف بالإنسان المسلم، وله عليك أخوة الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولا يخذله)، وخذلانه أن تراه في موقف يذل فيه، وتستطيع أن ترفع عنه الذلة وتتركه.

    ولذلك يقولون: زكاة الجاه كزكاة المال، فزكاة الجاه والمنصب أن تتدخل لنصرة أخيك المسلم إذا استطعت أن تنصره، فلا تسلمه لعدوه، ولا تخذله حينما يستنصر بك وأنت قادر على نصرته؛ لأنه من حق الأخوة، وإذا تركته يُخذل وأنت ترى بعينك فإنه أيضاً سيتركك إذا أوذيت، فتقف معه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756293903