إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [2]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الذكر.. أنواعه وأقسامه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فقد ورد في دبر الصلوات أذكار عديدة لا يتعارض بعضها مع بعض، كما أن بعض الصلوات خصت بأذكار مختصة بها، فمما جاء في دبر كل صلاة: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من الجنة إلا الموت) .

    وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (يا معاذ ! إني أحبك، فقال معاذ : والذي بعثك بالحق يا رسول الله! إني لأحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيك أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .

    وجاء في خصوص المغرب والصبح: (اللهم أجرني من النار سبع مرات) ، وجاء في خصوص التسبيح والتحميد والتكبير المذكور هنا: (من قالها غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر).

    فضل الذكر وبم يكون؟

    وباب الأذكار -كما يقول النووي وغيره- باب واسع، والذي يهمنا في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الفقراء إلى ما يدركوا به الأغنياء من ذكر الله، وفي هذا تنبيه لفضل الذكر والدعاء، وخاصة عقب الصلوات، وبعض العلماء قال: الذكر أعم العمومات في العبادة، بل إن الذكر عبادة جميع الكائنات من إنس وجن وملك وجماد ونبات وحيوان وطير: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وهو عبادة غير مؤقتة، وجميع العبادات تكاد تكون مؤقتة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، والصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، والزكاة عند رأس الحول، أما الذكر فقد بيّن سبحانه صفة عباده المؤمنين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] ، وقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] .

    وذكر الله سبحانه تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالقلب، وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإذا نظرنا إلى علاقة ذكر الله بآياته سبحانه نجد ما يلفت النظر في تلك الآية الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ)، يقول علماء الأصول: إن خطاب الله للعباد ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليف، وخطاب وضع، فخطاب التكليف هو الذي فيه أمر بفعل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97].. لا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32].. لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33].. كل هذه من باب خطاب التكليف أمراً أو نهياً.

    أما خطاب الوضع: فهو بيان إما لشرط أو لسبب أو لزمن، لإيقاع ذلك الواجب الذي كلف به العباد، فمثلاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] متى نصوم؟ شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185]، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ [آل عمران:97] متى نحج؟ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:110] متى نقيمها؟ (( لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، وقوله تعالى: َأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فكأن الصلاة ما أقيمت إلا لذكر الله، وكذلك قال في الحج بعد قضاء المناسك: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

    التفكر في الكون من ذكر لله

    العبادات كلها إنما وجدت لذكر الله، فنجد خطاب الوضع في تحديد أوقات الصلوات يربطنا بالقدرة الإلهية، ويربط العبد بربه في حياته، ورزقه، ومماته، وكل شئونه، وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة التي تثير النظر والتفكير والتذكر بآيات القدرة الباهرة، وعند كل آية تستخلص منك ذكراً لله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، والحال أن الصلاة تقام لذكر الله، ودلوك الشمس على التحقيق هو زوالها عن كبد السماء، (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الغسق الظلام، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الفجر: انفجار نور النهار من ظلام الليل، فهذه الحركة الكونية آية، تبدأ الشمس من مشرقها والظل في مغربها، فإذا استوت في كبد السماء زالت إلى المغرب، وهي تسير بسير لطيف لا يدركه البصر، وهذه آية من المولى سبحانه، فيتحول الظل من غرب إلى شرق، ولا تزال تأخذ في الدنو إلى مغيبها حتى تتضيف إلى الغروب فيعتريها الاصفرار والاحمرار، ثم تغيب جارّة معها ضوء النهار عن الكون ويعقبها غسق الليل، فتتغير حركة الكون من سعي وحياة إلى سكون وهدوء: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10-11]، ويتغير حال الكون من ضوء ساطع إلى ليل غاسق، من الذي أذهب الشمس؟ ومن الذي حركها؟ ومن الذي كسا هذا العالم كله بهذا الظلام؟ ومن الذي يعيدها مرة أخرى من المشرق؟ ومن الذي يجعل الضوء ينفجر من ظلام الليل، ويبدأ الضوء شيئاً فشيئاً حتى تشرق الشمس وينتشر الضوء فيعم العالم كله؟

    هذا المسجد كم فيه من مئات اللمبات! وهل تغني عن الشمس؟! انظر إلى ضحى النهار في هذا المكان الذي أنت فيه، مع أن الشمس خارج المسجد، كم فيه من قوة الإضاءة! والعالم كله بجباله وبحاره وصحاريه ووديانه كلها يغمرها هذا الضوء، فإذا غربت الشمس انحسر هذا الضوء، وجاء مكانه الظلام، آيات، فهذا ذكر بالقلب وهذا ذكر باللسان، فإذا كنت في فلاة من الأرض، وكنت في وضح النهار ورأيت الشمس قد بدأت، ثم إذا بها تصل إلى منتصف السماء وأنت لا ترى حركتها، كعقرب الساعة في يدك يتحرك ويدور وأنت لا ترى حركته؛ لأنها حركة لطيفة تدق عن إدراك البصر، وهكذا الشمس فإذا بها في برهة ولحظة تتحول إلى جهة الغرب، ويتحول وضع النهار كله، فإذا رأيت هذه الآية استعجبت وأكبرت خالق هذا الكون! فإذا تأملتها وتابعت النظر معها، حتى إذا تضيفت للمغيب واختفى ذاك الضوء الأبيض الساطع، وتلون بقريب من الصفرة، ثم إذا بقرص الشمس يميل إلى الاحمرار، ثم إذا بها تغيب في الأفق، أنت بفكرك تسبح وتتساءل: من وراء هذه الحركة؟ وإذا كنت في استغراق الفكر في هذه الحالة تستيقظ على نداء المؤذن: الله أكبر.

    يقول لي بعض الدعاة إلى الله: إنه كان يعرف شخصاً من كبار الشخصيات المسيحية، وكان متعصباً للمسيحية، وكان كاتباً وشاعراً أديباً، وفي ذات ليلة جلس في الشرفة يتابع النجوم، وينظر إليها نظرة أديب أو شاعر ذا خيال مجنح، فإذا به يستغرق في تلك النظرة ويسبح بفكره في هذا الكون، وبينما هو في عمق تفكيره انبثق ضوء الفجر، وإذا به يصحو ويفيق على كلمة المؤذن: الله أكبر، فينطقها مع المؤذن: الله أكبر الله أكبر، حتى أتى إلى الشهادتين فنطق: أشهد أن محمداً رسول الله، فظل يومه مبهوتاً ومدهوشاً، ثم جاء المساء وجلس في مكانه، ورأى الشمس تتضيف إلى المغيب، فأخذ يسبح ويتفكر في ماضٍ عجيب ومستقبل غريب، وبينما هو في هذا التفكير العميق يستيقظ على صوت المؤذن للمغرب: الله أكبر الله أكبر، فيتابعه في الأذان، وينزل حالاً إلى المسجد، ويعلن إسلامه!

    الذكر غذاء للروح

    قال الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، حقاً إن ذكر الله هو غذاء العبد، وخاصة لطالب العلم، ويذكرون عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه كان يصلي الصبح ويجلس في مكانه يذكر الله حتى تشرق الشمس ويصلي ركعتين وينصرف، فقالوا له في ذلك مع علمه وبحثه واشتغاله فيقول: هذه الجلسة هي غذائي طول يومي! وكان أحمد رحمه الله يقول: عجبت لطالب علم لا ورد له في الليل! ويكفي قوله سبحانه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:5-7].

    ثم إننا نجد أن الإسلام بتعاليمه ومنهجه ينظم ذكر الله عند المؤمن في كل حركاته، ويجعل حياته فعلاً تحت هذا المنهج الإلهي الكريم.

    إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الأمم الماضية؛ نجد أن اليهود قد غلبت عليهم المادة، وغفلوا عن ذكر الله حتى كانوا كما قال الله: قسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] ، ونجد النصارى قد اخترعوا رهبانية ابتدعوها، لكن لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها، ولا أن يؤدوا واجبها؛ لأنها زادت عن حد طاقة الإنسان، فكل منهما فشل في طريقه، ثم جاء الإسلام فراعى ظروف الإنسان من مادة وروح، فتأتي في سورة الجمعة في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والسعي إلى ذكر الله هو غذاء الروح، والبيع هو مادة الحياة في الكسب المادي، فأنت تعمل، فحينما ينادى للصلاة أجبت داعي الله، وجئت لذكر الله، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، يبتغي من فضل الله، ولا يجلس بمسبحته في مكانه، ولا يجلس في وادٍ يذكر الله فقط، بل ينتشر في الأرض ليطلب ويبتغي من فضل الله بأسباب الرزق والمعيشة، ومع ذلك فهو يذكر الله بلسانه، وبقلبه، وبمعاملته، فإذا انتشروا في الأرض، ورجع الزارع إلى مزرعته، فحرث الأرض ووضع البذر، وقال: باسم الله اللهم! أنبتها وارزقني ثمرتها، وإذا رجع التاجر إلى متجره، وجاء يتعامل مع الناس، وأخذ الكيل والوزن تذكر قوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2]، وهكذا إذا جاء بسلعة تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وإذا رجع إلى مصنعه تذكر كيف يتقن الصنعة ويتجنب الغش، وهكذا يكون ذاكراً لله بأقواله وأفعاله، ولا يمنعه الذكر أن يسعى في الأرض ويأكل من رزق الله.

    الذكر وظيفة الكون

    أيها الإخوة! ذكر الله وظيفة الكون كله، وقد ذكروا، عن سعيد بن المسيب : أنه كان يقوم الليل، وكثيراً ما يقرأ سورة ص، فقيل له في ذلك، فقال: روي (أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل، وقرأ سورة ص وسجد، وعنده شجرة فرآها تسجد بسجوده، وتقول: اللهم اجعلها لي عندك ذخراً، وأعطني بها أجراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على ذلك) ، والله يقول : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6] .

    إذاً: الكون كله مسخر لذكر الله سبحانه وتعالى، وقد أشرنا إلى عموم الآية الكريمة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وأشرنا إلى قضية الهدهد، وكيف أنه ذكر عن بلقيس وقومها أنهم يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24]، والحيوانات تؤمن بالبعث، كما ذكر مالك حديثاً في الموطأ في فضل يوم الجمعة: (فيها خلق آدم، وفيها سكن الجنة، وفيها أسجد الله له الملائكة، وفيها أهبط إلى الأرض، وفيها تاب الله عليه، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يسأل الله حاجته إلا أعطاه إياها، وفيها تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة حتى مشرق الشمس فرقاً من الساعة) ، الدواب تؤمن بالله، وتدرك الحساب، وتؤمن بالبعث، وتعلم أن القيامة ستقوم يوم الجمعة، وتميّز بين الجمعة وبين الخميس والسبت، و(تصيخ بسمعها فرقاً من الساعة) أي: من النفخ في الصور لقيام الساعة.

    والآيات والأحاديث في هذا الباب واسعة جداً، وأوصي كل طالب علم وكل مسلم أن يعتني بذكر الله؛ لأن ذكر الله سبحانه هو الذي يحيي موت القلوب: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، وأي سعادة للإنسان إلا بطمأنينة قلبه؟! والله! لو جمع له ملك العالم كله، وجمع له أضعاف ما كان لقارون من مال، وما كان لملوك الأرض من عز، وقلبه مضطرب وهو قلق، والله! لا قيمة له في هذا كله، وإذا كان يجد القوت الضروري والكساء العادي والمأوى في أي مأوى، وهو قرير العين، مطمئن النفس؛ لكان أسعد خلق الله، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، ويكفي في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنها غذاء فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

    شمول الذكر لكل العبادات

    إن الباب هذا باب واسع، وأوصي بالعناية بكتب الأذكار الواردة، التي هي مأمونة من الوضع أو مأمونة من الغلو، وأحسن ما وضع في ذلك كتاب الأذكار للإمام النووي ؛ فقد رتبه ونظمه، وجاء بالأذكار الواردة المؤقتة في الصباح والمساء وبعد الصلاة وعند لباس الثوب والنوم واليقظة وتناول الطعام وخلع الثياب.. وكل حركات الإنسان وردت السنة فيه بذكر الله والدعاء.

    وهذا يشرح لنا معنى قوله سبحانه : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:161-162]، محياي ومماتي لله، صحيح كل لله، وموقن على وفق منهج الله الذي يريده ويرتضيه، ولذا جاء في الحديث : (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، إذا كان العبد مع الله، وإذا كان العبد حقاً أخلص نفسه لله، لم لا يجعله كذلك؟ وكم من عبد كان مستجاب الدعوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي عمر بن الخطاب فيقول: (إذا رأيت أويساً القرني فاطلب منه أن يدعو لك، ويستغفر لك) ، من أويس ؟ رجل من اليمن، فكان عمر يتتبع الوفود اليمنية: أفيكم أويس؟ أفيكم أويس؟ حتى قيل له: نعم هو فينا، قال: ائتوني به، فجاء وكان قد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، وبأن له أماً كان باراً بها، فلما سأله عن أمه أخبره بها، وأن في رجله علامة كذا، فقال: استغفر الله لي، ادع لي! قال: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: لقد أخبرني رسول الله بكذا وكذا.

    فلما سمع أويس هذا لم يغتر به، ولم يأته شيء في نفسه، بل قال: أستأذنك -يا أمير المؤمنين- أن أخرج إلى العراق، أي: ما دام قد عرف أمري، فيريد أن يبعد عنه هذا الجو الذي عُرف فيه، وكان شخصاً من عامة الناس، فقال: إذا أردت الذهاب فمرني أعطيك خطاباً لعامل العراق، قال: لا، فإني أحب أن أكون في عامة الناس!

    فذهب إلى العراق وأخذ عمر يسأل عن حاله في العراق، وكلما جاءه وفد من العراق يسأل عنه، فإذا به كان خادماً عاملاً عند رجل من عامة الناس في الحجارة والطين، فإذا بالرجل يقول لـعمر: إني أعرفه، فقال: إذا استطعت أن يستغفر ويدعو الله لك فافعل، فذهب الرجل إلى أويس فطلب منه الدعاء، فقال: ألقيت عمر؟! قال: نعم لقيته، فإذا به من الغد يخرج من العراق.

    أيها الإخوة! إن ذكر الله يعلي منزلة العبد بما لا يعلم قدر ذلك إلا الله، ويكفي أن الإنسان في حالة ذكره لله جليس وقرين، وما ذكرنا يكفي لهذا الباب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لذكره كما قال الله: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه:130].

    1.   

    سعة فضل الله على عباده

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن في كل تسبيحة صدقة، وتحميدة صدقة، وتكبيرة صدقة، وتهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة).

    هذا الجزء من الحديث يدلنا على سعة فضل الله على عباده تحمد الله وكأنك تصدقت، تصدقت على من؟ على نفسك؛ لأنك في حاجة إلى الصدقة.

    بل يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: إن الله سبحانه يتصدق على عباده، يتصدق عليهم بماذا؟ بكل نعمة أنعمها عليهم، وأعظم نعمه تصدق بها على خلقه: أن هداهم إلى الإسلام، ثم وفقهم لعمل الخير، ثم قبل ذلك منهم، ثم آجرهم على ذلك، أليس ذلك كله من فضل الله؟ بلى.

    التسبيحة صدقة على نفسك، والتحميدة صدقة على نفسك، والتهليلة صدقة على نفسك، وقد جاء مبيناً ذلك في الحديث: (في كل يوم تطلع فيه الشمس على كل سلامى من الناس صدقة) والسلامى: هو المفصل الصغير في الجسم، وكم في الجسم من السلاميات؟ إن كل جزء يتحرك في الجسم سلامى، فعندك عشرة أصابع في اليدين، وفي كل أصبع ثلاثة. فهذه ثلاثون، وفي القدم مثلها ثلاثون فتكون ستين، ثم في القدم وكف اليد والساعد وفقار الظهر وضلوع الإنسان وكل جزء يتحرك في الإنسان، قال بعض العلماء: ثلاثمائة وستون عضواً في جسم الإنسان يتحرك.

    قال صلى الله عليه وسلم : (على كل سلامى من الناس كل يوم صدقة)، وهذه الصدقة لماذا؟ هذا الهيكل الإنساني جهاز يعمل ويتحرك ويستهلك وقوداً في الحركة، مثلاً: عندك سيارة تعمل كل يوم، فتحتاج إلى تغيير الزيت والبترول والعجلات تحتاج .. وتحتاج.. لأن كل أجزائها تستهلك في الحركة.

    الأسنان تطحن كيلو ونصف -ومع التوابع اثنين كيلو- في اليوم، كم في السنة؟ اثنان كيلو في ثلاثمائة بستمائة كيلو تطحنها الأضراس في السنة! وكم سنة تعيش! ففي عشر سنوات ستة آلاف كيلو، سبحان الله العظيم! كل هذا وهي على ما هي عليه! الرحا الذي يطحن الحب يتآكل ويتغير كل ستة أشهر، وهو من الحجر الأصم.

    ويقولون في علم الكثافة: جرام من العظم يحمل عشرة أضعاف جرام من الحديد، قدرة الله وآية من آياته.

    هذا الجسم الذي يعمل بهذه الحالة، لو نظرت داخله وفي أعماله لرأيت أموراً تعجز عن تصورها، يقول بعض علماء الكيمياء: لو أردنا إيجاد مصنع يفرز لنا مادة مما تفرزه الكبد بمقدار ما تنتجه خلية واحدة لاحتجنا إلى مصنع يسع في الأرض كيلو طولاً وكيلو عرضاً؛ من أجل إيجاد آلات نستطيع أن نوجد من ورائها إفراز خلية واحدة من خلايا الكبد! وأنتم ترون في المستشفيات -عافانا الله وإياكم- جهاز الكلية الصناعية، كم حجمه؟! وأنت تحمل اثنتين في جنبك، ونصف الكلى يعمل للإنسان والنصف يستريح، كلى تعمل في شهر وتستريح الأخرى في شهر، آيات! وهذا الجهاز الذي يعمل وأنت لا تدري عن عمله يحتاج إلى صيانة، وأنت لا توجد عندك ورشة صيانة لك، ولكن المولى سبحانه قد دبر صيانته، تتحرك آلاف المرات دونما تزييت أو تشحيم، وهكذا كل المفاصل تتحرك، وإذا رأيت الشاة المذبوحة تجد ماء أبيض لزجاً ينزل من المفصل، هذا الماء به ليونة الحركة، والله هو الذي يدبر هذا، وعليك صدقة تقدمها لله شكراً على سلامة هذا الجسم.

    قالوا: (يا رسول الله! ومن منا يستطيع أن يتصدق كل يوم بعدد السلامى؟!) ، كيف نستطيع أن نتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة؟! قال: (بكل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة) ، أحالهم على ذكر الله وتسبيحه وتحميده، ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتي الضحى) تصلي ركعتين ضحى فكأنك قمت بصيانة مجملة، سعة فضل من الله، وبكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة واستغفار وذكر لله وصلاة على رسول الله وكل أعمال البر صدقة، والصدقة بعشر أمثالها: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    قال: (وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، هنا قسمان متقابلان: أمر بمعروف، نهي عن منكر، الأمر بالمعروف يكون بالمعروف، لا بالشدة، والنهي عن المنكر يكون بالحسنى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].

    شمول أجر الصدقة للآمر بالمعروف والمأمور

    الأمر بالمعروف صدقة على الطرفين: الآمر له صدقة على نفسه بالأجر، والمأمور صدقة عليه بأنك هيأته وأرشدته إلى المعروف، إنسان مقصر في عمل، فجئت وأمرته به، وعمل هذا العمل، واكتسب أجراً؛ فأنت تصدقت عليه بهذا الأجر الذي تسببت له فيه، وكذلك النهي عن المنكر صدقة عليك لأجرك في ذلك، وصدقة على المنهي بأن تكفه عن هذا المنكر الذي هو عليه، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: مظلوم ننصره، فكيف الظالم؟! قال: تكفه عن الظلم فهو نصرة له).

    وإذا جئنا إلى هذه الفقرة وحدها، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الواجب على الأمة جميعاً أفراداً وجماعات، حاكمين ومحكومين، كلٌ في مجاله، يقول صلى الله عليه وسلم محملاً الأمة مسئولية، صيانتها منها وفيها، لكي يتحمل المجتمع مسئولية صيانته، والحفاظ على كيانه، فقال: (من رأى منكم) (من) من صيغ العموم، (منكم) خطاب للجميع، يشمل الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل من يدخل تحت خطاب: (من) (ومنكم).

    (من رأى منكم منكراً)، والمنكر المقياس فيه مقياس الشرع في الحسن والقبح، والمعروف والمنكر يعرفان بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما وافق الكتاب والسنة فهو معروف، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو منكر، وليس الأمر للهوى والتشهي.

    أسلوب تغيير المنكر

    (من رأى منكم منكراً فليغيره) تغيير المنكر يكون بأحد أمرين: إما بإزالته، وإما باستبداله بمعروف، وكما يقولون: ما أحييت بدعة إلا على أعقاب سنة، فلا تظهر بدعة إلا بإماتة سنة؛ لأن السنة تشغل فراغك وتملأ حياتك، فإذا عطلت السنة جاءت البدعة محلها، وكما كانوا يقولون: في الشرق الأوسط فراغ يجب أن نملؤه، وكذلك حياة المسلم ليس فيها فراغ أبداً، وإذا تأملت السنة تجدها تصاحبك في كل حياتك: عند اضطجاعك في فراشك تقول كذا، وعند إتيانك أهلك، وعند قيامك في الصباح، وفي أكلك وشربك ولباسك وخلع ثيابك، وكل شيء، قال الله: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ [الأنعام:162] ، فإذا عطلت السنة في مرفق من تلك المرافق، فإما أن تبقى عاطلة وإما أن تأتي البدعة، وهكذا المنكر.

    ثم بيّن صلى الله عليه وسلم درجات تغيير المنكر بحسب إمكانات المغيِّر، فبدأ من القمة فقال: (بيده)، والتغيير باليد لمن له سلطة. مثل سلطة الحاكم على المحكومين، وسلطة الوالد على الأولاد ما لم يكبروا، وسلطة كل راع في رعيته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فالمدير في إدارته، والناظر في مدرسته، والأستاذ في فصله، كل إنسان مسئول عمن استرعاه الله أمره.

    إذاً: يغيّر الإنسان المنكر بيده في حدود سلطته وسلطانه، أما إذا لم يكن في سلطانه فلا يتعطل الأمر بل ينتقل: (فإن لم يستطع -بأن كان خارجاً عن سلطانه، أو لم يخول إليه- فبلسانه) ، وكذلك أيضاً تغيير المنكر باللسان يتفاوت، ولذا جعل صلى الله عليه وسلم (أعظم الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر)، ومتى تكون كلمة الحق عند سلطان جائر؟

    إذا ظهر المنكر، وقام صاحب الحق وقال كلمة الحق عند هذا السلطان، ولكن ليس كل إنسان يستطيع ذلك، فإذا كنت تعلم من نفسك القدرة والصبر وعدم التعرض للإيذاء أو الإهانة أو تعطيل قيامك بالأمر في موطن آخر، وتعلم أنه يسمع منك فقل كلمة الحق، ولتعلم أن الحكام والمسئولين لا شك أنهم مسلمون ويقبلون الحق، ولكن لهذا السلطان سلطان وهيبة، فلا ينبغي أن تأتيه في مجلسه أمام العامة وتقول: أيها الحاكم! أنت أخطأت في كذا وكذا، سبحان الله! أما وجدت وسيلة غير هذه؟!! لو كان إنساناً عادياً في هذا الجمع وقلت: يا فلان! أعلم عنك أنك فعلت كذا وكذا، فلا ينبغي لك هذا، هل هذا من باب الأمر والنصيحة أم هو من باب التشنيع والفضيحة؟ من باب الفضيحة.

    لا إنكار في مختلف فيه

    ليكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متحلياً بالرفق متخذاً أسلوب الحكمة، ولهذا يقول العلماء: حينما يقوم الإنسان بهذه المهمة يجب أن يكون حكيماً بما يفعل، عالماً بما سينكر فيه، فيعلم أن ذلك محرم، ويكون التحريم بالإجماع، ولا يكون موضع خلاف عند الناس، مثلاً: أنت طالب علم في المسجد النبوي، وبعد صلاة العصر دخل رجل المسجد وصلى، وأنت ترى أنه لا صلاة بعد العصر، فإذا كنت فعلاً تريد أن تغيّر فيجب أن تعلم حكم هذه المسألة عند الجميع، فإذا كنت تعلم أن الشافعي رحمه الله يرى جواز هذه الصلاة، فلا يحق لك أن تنكر على من صلاها؛ لأنه من حقه أن يقول لك: لم لا أصلي؟ فتقول: الأئمة الثلاثة يقولون: لا صلاة، فيقول لك: مذهبي مذهب الشافعي وهو يقول: تصلي، وليست مذاهبك بأولى من مذهبي، فتقول: الحديث فيه، فيقول لك: والحديث الآخر فيه: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي) ، وتتدخل في نزاع وخلاف لا ينبغي أن تتعرض له، فإن جاء وسألك بيّنت له الواقع، ولا تكتم الحق، وبيّن له بكل وضوح؛ لأنه جاء يستفسر عن الصحيح والراجح.

    وهكذا لما سئل أحمد رحمه الله: أتصلي خلف الشافعي وقد أكل لحم الجزور؟! وأحمد يرى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، قال: وكيف لا أصلي خلف الشافعي وخلف مالك بن أنس وخلف فلان وفلان؟! فهذه مسألة خلافية، وهم يرون رأياً وهو يرى رأياً.

    قال عمر رضي الله تعالى عنه لرجل مر عليه: من أين جئت؟ قال: جئت من عند فلان، قال: في أي شيء؟ قال: احتكمنا إليه أنا وفلان في كذا وكذا، قال: بم حكم؟ قال: حكم بكذا، قال: لو كنتم احتكمتم إلي لحكمت بغير ذلك، قال: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين أن تمضي حكمك؟ قال: لا، لو كنت أردكم إلى نص قاطع فاصل لفعلت، ولكن أردكم إلى رأيي، وليس رأيي بأولى من رأيه، فـعمر وهو خليفة راشد له حق التشريع: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ..)، ومع ذلك يقول في مسالة اجتهادية خلافية: لو كنت أردكم إلى نص لفعلت، ولكن إلى رأيي، وليس رأيي أولى من رأيه، فكيف بك مع الغير؟!!

    أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    هذا الباب -أيها الإخوة- تجب العناية به، وقد حمّل النبي صلى الله عليه وسلم كل فرد مسئوليته، فذو السلطان في سلطانه، وذو الرعية في رعيته.

    وفي آخر المطاف: (فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية: (وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان)، ولا يتساءل الإنسان: أغيّر المنكر بقلبي؟ وماذا سيؤثر على صاحب المنكر بتغييره في قلبه؟ المعنى: أن تنكر ذلك وتستنكر فعله، لا أن ترضى به وتركن إليه، ويقول العلماء: أثر ونتيجة تغيير المنكر بالقلب، أن استنكاره وعدم الرضا به، يجعلك في نفسك لا تأتي به وقد استنكرته من غيرك.

    ويقولون: سأل رجل عيسى عليه السلام: من أين لك هذا الأدب الرفيع، وأنت لا أب لك يؤدبك؟ قال: أرى الحسن فأستحسنه وأفعل مثله، وأرى القبيح فأستقبحه وأتركه ولا آتيه، فالعاقل يرتاح.

    إذاً: أول درجات التحصيل في إنكار المنكر بالقلب: هو الصيانة والبعد عن فعله.

    ثانياً: حينما تستنكر الفعل بقلبك يظل إنكار المنكر قائماً، لكنه دفين كامن ولعلك تنقل هذا الإحساس إلى من يقدر أن يغيره بلسانه أو بيده، أو تظل أنت على علم حامل لهذا الأمر، ولعلك أن تتمكن في وقت من الأوقات فتغير هذا المنكر بالدرجات الأخرى: باللسان، أو باليد.

    إذاً: إنكار المنكر بالقلب إبقاء لهذا المنهج حتى لا يضيع ولا يندثر عند الناس.

    قال: (أمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة)، ومن المعروف ما يتعلق بالأمور المادية مثل إطعام الطعام، والنفقة على الأولاد، والنفقة على الزوجة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـسعد : (واللقمة تضعها في فِي امرأتك صدقة).

    1.   

    العادة تكون عبادة بالنيبة الصالحة

    في نهاية هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة)، وفي الحديث الآخر: (وتعين الرجل على متاعه صدقة)، إنسان عنده متاع غير قادر أن يأخذه، فساعدته على حمله على ظهره، أو عنده دابته، وحمله موجود، فتحمل معه المتاع على الدابة فلك صدقة، تعين صناعاً في صنعته صدقة، أو نجاراً يريد ينشر خشبة وهو غير قادر أن يمسكها فمسكتها حتى نشرها، أو يريد أن يحزمها بحبل وساعدته في حزمها، (ومر صلى الله عليه وسلم برجل ذبح شاة، ويريد سلخها ولم يحسن، فحسر عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا تفعل)، سبحان الله العظيم! لا يستنكف عن أن يساعد، وكونك ترشد الضال فتهديه حساً أو معنى سواء، شخص كفيف لا يعرف أين بيته، وسألك: أين بيت فلان؟ فتهديه إلى هذا البيت، فهي صدقة منك عليه وعلى نفسك، إنسان جاهل تعلمه صدقة، فأبواب الخير والصدقة كثيرة جداً، وقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).

    ثم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة)، البضع هو عضو الإتيان بين الرجل والمرأة، فهنا استغرب الصحابة: في بضع أحدنا صدقة؟! صدقة على من؟ صدقة عليكما الاثنين، صدقة عليك أولاً؛ لأنها تعفك وتغض بصرك، وصدقة على الزوجة التي هي أمانة في يدك، فتؤدي حقها، فاستعجبوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم -انظروا الأسلوب النبوي للتعليم بالمحسوس، واستنتاج الحكم من السائل- لو وضعتها في حرام أكان عليك وزر؟ قالوا: نعم، قال: أتحتسبون بالوزر ولا تحتسبون بالأجر؟!)، تعدون الشرع على أنفسكم وتتركون الخير ولا تحتسبونه؟! وقول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟) ، ويقيس صلى الله عليه وسلم في الجواب بقياس العكس. هنا، وإن حسن النية يقلب العادة فيصيرها عبادة، لو أكلت لقمه وأنت جائع، ولكنك تنوي بأكلها التقوي على طاعة الله، فتشبع وتتمتع بالأكل ولك أجر، لو نمت القيلولة ونويت بذلك الاستعانة على أداء واجبك في النهار أو قيام الليل كان لك في ذلك أجر، إذا لبست ثيابك ونويت شكر النعمة وستر العورة وأداء الواجب كان لك بذلك أجر، لكن لو كنت تلبس لتتفاخر وتتطاول على الناس، أو تنام لتتقوى على سهرة في لعبة أو كذا، كان ذلك بالعكس، كما قال ابن مسعود : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا كلمة، قال صلى الله عليه وسلم: من مات يشرك بالله دخل النار، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة) ، يعني: قياس العكس، وهذا من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، وهذا يدلنا أن النية الصالحة تقلب العادة عبادة.

    ولعلنا بهذا نكون قد أوفينا هذا الحديث بما تيسر.

    ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755936948