إسلام ويب

عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلمللشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    اصطفاء الله عز وجل لبعض مخلوقاته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فقد قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].

    فأجمل منك لم تر قط عين وأفضل منك لم تلد النساء

    ولدت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

    لقد اختص الله سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم بالمحامد الوفيرة والمآثر الأثيرة، وأثنى عليه في كتابه في آيات كثيرة، وأبقى معجزاته ما تعاقب الجديدان، وخلّد ذكره ما توالى النّيران، حفظه بعينه التي لا تنام، وحماه بركنه الذي لا يضام، رعاه وأكرمه وسواه فأحسن خلقه وعدّله، أيده ببراعة اللسان بعد أن ركّب فيه كل خلق حسن، أوحى إليه وناجاه وبكريم الخصال حباه، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً.

    قرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعته، وأغلق طريق الجنة إلا باتباع أثره، ونفى الإيمان عمن خالفه، وحرم الجنة على من لم يطعه في هداه، فقال عز من قائل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

    والحديث عن عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه قد يكون من جهته صلى الله عليه وسلم من باب تحصيل الحاصل؛ لأنه لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يأتي بجديد أو يحصي الموجود أو يزيد، ولكنه تنبيه للعقول وإيقاظ للقلوب وتجديد للشعور بالمعقول والمنقول، وهذا جهد المقل وحصيلة المشغول.

    فأقول وبالله التوفيق:

    إن رفعة شأن كل شيء وعظم قدره إما في اصطفاء الله إياه، وهو إما في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، وقد اختص الله من الناس ومن الملائكة أفراداً على بني أجناسهم، فاختص من الملائكة جبريل عليه السلام وجعله أميناً على وحيه مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، وكذلك حملة العرش، واختص من الناس الرسل صلوات الله عليهم، واختص منهم أولي العزم، واصطفى من الجميع محمداً صلى الله عليه وسلم.

    اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، ولما اعترض بنو إسرائيل على بعث طالوت عليهم ملكاً قالوا بمقياس البشر: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، كان الجواب: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247].

    فأصل اختياره اصطفاء الله إياه، ثم آتاه مقومات الملك ومؤهلات السلطة: (بسطة في العلم والجسم) وقدم في العلم؛ لأنه الأساس للتخطيط والسياسة، والجسم للتنفيذ والتطبيق.

    وكذلك نبي الله موسى حين فر فزعاً من انقلاب العصا حيةً تسعى، ناداه ربه: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] ، وكذلك مريم: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] .

    وهذا الاصطفاء البشري لإبلاغ رسالة الخالق إلى خلقه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] وفي هذا الاصطفاء رفعة لشأن من اصطفاهم وعلو لقدرهم.

    وقد شمل منهج هذا الاختصاص والاصطفاء بعض المخلوقات من الأمكنة والأزمنة، فقد اختص الله من عموم الأماكن مكة وبيت المقدس والمدينة المنورة؛ لما فيها من المقدسات والآيات البينات، وخص الأعمال فيها بمضاعفة الأجر، ومن الأزمان اختص من الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة الجمعة، ومن الساعات ساعة في يوم الجمعة، وبيّن تعالى موجب اختصاصها عن جنسها، وهذا الاختصاص قد أعلى شأنها وعظّم قدرها.

    وإذا جئنا إلى موجب اصطفائه سبحانه لرسله ابتداءً من آدم عليه السلام إلى عيسى إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن آدم كان أول الخلق من البشر، وأنه خلقه تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ويكفيه أولية الخلق، وخلقه سبحانه بيديه، وفي الأثر: ثلاث خلقهن الله بيده: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وبقية المخلوقات من كن فيكون، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    ونوح عليه السلام خصه الله بالعمر الطويل، حتى لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يساير الليل والنهار، ويصابر قومه ويصبر عليهم، حتى أعلن يأسه منهم ودعا عليهم: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، وقال تعالى في سورة القمر: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:11-14]، وإبراهيم عليه السلام يتحدى قومه ويتلطف إلى أبيه: يا أبت! يا أبت! ويواجه الملك الطاغي النمرود ولا يبالي بهم جميعاً، ويحطم آلهتهم ويسخر منهم، ثم يواجهونه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، فأوقدوا نيرانهم فلم يبال بهم، وابتلاه الله بكلمات التكليف فأتمهن فجعله الله بإتمامها إماماً، وكان بإمامته أمة.

    أما موسى عليه السلام فقد نشأ في رعاية الله من حين مولده، فحفظه من تذبيح فرعون لأبناء بني إسرائيل، ورعاه حين ألقته أمه في التابوت في اليم، ورعاه في رضاعته، فحرم عليه المراضع؛ كي يُرد إلى أمه وهم لا يشعرون، ورعاه في بيت عدوه حين صار رجلاً، ورعاه في خروجه إلى مدين، ورعاه عند شعيب، ورعاه عائداً بأهله إلى مصر، ثم هاهو يُبعث إلى فرعون وقومه فيبدأ التحدي بين الحق والباطل، ورعاه حين سلك في البحر طريقاً يبساً، ورعاه حين أهلك عدوه وهو ينظر إهلاكه بعينيه.

    وعيسى عليه السلام: اصطفى الله مريم لتكون أماً له، واصطفاها حينما نذرت أمها ما في بطنها، واصطفاها حينما ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم ؟ واصطفاها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، واصطفاها حينما انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم:16-17]، واصطفاها في قوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:17-18]، واصطفاها حينما قال لها: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19] إلى أن جاءت به قومها تحمله، وجابهوها بتلك الفرية، فجعل الله مصدر تهمتها هو بعينه دلالة براءتها، حين قال لهم: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] إلى قوله: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم:34]، وجاء الوحي فكشف ما التبس عليهم بقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

    1.   

    عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وموجباته

    وبعد هذا التمهيد وهذه المقدمة نأتي إلى بيان موجب رفعة شأنه وعظيم قدره صلى الله عليه وسلم.

    عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي تقدم نبوته على الأنبياء

    لقد ذهب بعض المختصين في البحث عن ذلك إلى أول نقطة وجوده صلى الله عليه وسلم، وفي نظري أن وجوده صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أمرين: وجود قدري في عالم الملكوت، ووجود في عالم الإنسان.

    أما وجوده القدري: فقد ذهب البعض فيه إلى مسافات بعيدة، إلى ما قبل آدم عليه السلام؛ لأن بعد تلك المسافة لم تكن طريقها ممهدة فأجهدتهم، كما أن سلطان العاطفة قد دفعهم إلى أخذ كل ما وجدوه مما فيه تعظيم لقدره صلى الله عليه وسلم.

    وهنا مبحث تعارض العقل مع العاطفة، ولكل منهما مقامه، فمن ذلك على سبيل المثال: لما كانوا في غزوة تبوك، وقاموا يتهيئون لصلاة الصبح، وذهب صلى الله عليه وسلم للخلاء فأبعد وتأخر عليهم، فانتظروه ليصلي بهم حتى أسفروا، فتحيروا هل يصلون قبل خروج الوقت، أم ينتظرون قدومه؟ والعاطفة مع الانتظار ليصلي بهم، والعقل مع الإسراع وإدراك الوقت، فقدموا العقل وصلى بهم ابن عوف رضي الله تعالى عنه، وجاء صلى الله عليه وسلم وهم في الركعة الثانية، فأراد المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم صلى الله عليه وسلم للإمامة، فمنعه النبي ودخل في الصف، ولما سلم الإمام قام صلى الله عليه وسلم فأتم الركعة التي فاتت، ولما رآهم أسفوا لذلك قال: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف أحد من أمته) أي: أنهم أصبحوا أهلاً للإمامة.

    وكذلك موقف الصديق لما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما أقيمت الصلاة وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فنبهوا أبا بكر ، فأخذ يتراجع، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك، وكان أبو بكر بين العاطفة والعقل، فالعاطفة: ألا يتقدم على رسول الله، والعقل: أن يمتثل أمره ويبقى مكانه، لكنه قدم العاطفة فتأخر وصلى بهم رسول الله، ولما فرغ قال له: (ما الذي منعك أن تبقى إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله).

    وفي كل من تقدم ابن عوف وتأخر أبي بكر وجهته، وقد أقر صلى الله عليه وسلم كلاً منهما على فعله، وهكذا لكل مقام مقال.

    وجميع كتّاب السيرة قد ذهبوا في بدايته وبداية وجوده القدري إلى ما قبل وجوده الفعلي، إلا أن منهم من أبعد الغاية وطوّل الطريق، فنقلوا آثاراً تنتهي إلى ما قبل آدم وربما إلى ما قبل خلق السماوات والأرض، وحصروا أولية الوجود في ثلاثة: العقل، والقلم، ونور محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اسمه مكتوب على ساق العرش وعلى ورق الجنة وثمارها.

    ومنهم من وقف عند خلق آدم، وهو بين الروح والجسد، أو وهو مجندل في طينته، وأثبت له النبوة هناك وقالوا: لقد أخذ نوره يتنقل في أصلاب آبائه حتى درج للوجود الفعلي مستأنسين بقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:217-219]، ذهبوا إلى أن (تقلبه) أي: تقلب نوره في أصلاب آبائه من النبيين قبله، ولكن تعقبهم النقّاد وقالوا: إن أباه إبراهيم لم يكن أبوه آزر من النبيين ولا حتى من المؤمنين، ونحن نقول: إن أباه صلى الله عليه وسلم عبد الله لم يكن من النبيين، بل كان من أهل الفترة على التحقيق.

    وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتابه الخصائص الذي قال عنه في مقدمته: كتاب فاق الكتب في نوعه جمعاً وإتقاناً، يشرح صدور المهتدين إيقاناً، ويزداد به الذين آمنوا إيماناً .. إلى قوله: مستوعباً لما تناقله أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة .. إلى أن قال: أوردت فيه كل ما ورد، ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد، وتتبعت الطرق والشواهد لما ضعف من حيث السند. انتهى، وتعقبه الشيخ الهراس رحمه الله: بأنه لم يلتزم كل ذلك، وقال في هذا الكتاب -أي: السيوطي - باب خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أول النبيين في الخلق، وتقدم نبوته وأخذ الميثاق عليه، وساق تحت هذا العنوان ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل من طرق عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7] الآية. قال: (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) فبدأ به قبلهم.

    ونقل السيوطي أيضاً: أن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين سئل: كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟

    قال: لما أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] كان محمد أول من قال: (بلى).

    ومن ذلك ما عزاه لـأحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما عن ميسرة قال: قلت: (يا رسول الله! متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد).

    وكذلك ما عزاه لـأحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته).

    وساق أيضاً: أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق لما أخذ من النبيين ميثاقهم، ودعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام) انتهى.

    وهذه كلها بدون شك آثار وأخبار تدل على علو شأنه وعظيم قدره، إلا أن بعضها لم يسلم من النقّاد في التفتيش عن السند، وهذا صاحب (سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد) قال: هذا كتاب اقتضبته من أكثر من ثلاثمائة كتاب .. إلى أن قال: ولم أذكر فيه شيئاً من الأحاديث الموضوعة .. إلخ.

    قال فيه: الباب الأول في تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم لكونه أول الأنبياء خلقاً، ذكر في هذا الباب أثر ابن أبي حاتم الذي ذكره السيوطي : (كنت أول الأنبياء خلقاً) .

    وذكر المحشي عليه عدد من خرّجه: ابن عدي وأبو نعيم وابن كثير في التاريخ والثعالبي .. إلى آخره.

    ثم قال: وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف وابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء نيرة وعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة بين العرش والكرسي والسماوات والأرض، فعرفت الملائكة محمداً قبل أن تعرف آدم أبا البشر، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم! هذا سيد ولدك من المرسلين .. إلى قوله: ثم لم يزل النور يتنقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.

    وأقول: هذا من الإسرائيليات التي تنقل في غير تشريع.

    نور النبوة المحمدية يتقلب في الأصلاب

    ثم قال صاحب سبل الهدى: وفي كتاب الأحكام للحافظ الناقد أبي الحسن بن القطان ، روى علي بن الحسين عن أبيه مرفوعاً: (كنت نوراً بين يدي ربي عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام) ، ولم يعلق المحشي على ذلك بشيء.

    ونقل في باب آخر قول ابن رجب في اللطائف على حديث: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين) قال: المقصود من هذا الحديث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورةً معروفةً قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى دار الدنيا، وأن ذلك كان مكتوباً في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.

    ثم قال المؤلف: أداء لأمانة العلم كتعليق على ذلك: هناك تنبيهان:

    الأول: ما اشتهر على ألسنة الناس بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) ، قال ابن تيمية والزركشي وغيرهما من الحفاظ: لا أصل له. وكذلك قوله: (كنت ولا آدم ولا ماء ولا طين) .

    الثاني نقل عن السبكي قوله: لم يصب من فسّر: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) بأنه سيصير نبياً؛ لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء .. إلى آخر كلامه الملخص في أنه لو كان المراد ما كان في علم الله لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم زيادة فضل على غيره، سواء من الأنبياء أم عامة الخلق.

    وهنا يمكن أن يقال تعليقاً على هذين التنبيهين: أما الأول فإننا لم نجد اللفظ الذي قال عنه الإمام ابن تيمية: إنه لا أصل له، ثم إنه لم ينقل لنا عن هذا الإمام الجليل رحمه الله -وهو الناقد البصير- عن قضية النور شيئاً، ولا عن تقلبه في الأصلاب حتى ولد.

    ولعل مما يناسب ذكره هنا ما ذكره ابن هشام وغيره: أن أخت ورقة بن نوفل لقيت عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مفاداته بمائة من الإبل فقالت له: هل لك أن تذهب معي إلى بيتي ساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ فاستمهلها حتى يصل مع أبيه إلى بيته، ولكن أباه لم يذهب إلى البيت وذهب إلى بني زهرة، وخطب له آمنة بنت وهب فتزوجها ودخل عليها في ليلته، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغد لقيته تلك المرأة فأعرضت عنه فقال لها: مالك لا تعرضين عليَّ اليوم ما عرضته عليَّ بالأمس؟ فقالت: أما الآن فلا حاجة لي بك، كنت بالأمس أرى بين عينيك وبيص نور طمعت أن أظفر به، ولكن فازت به آمنة بنت وهب .

    ويمكن أن يقال: إن هذا الخبر مع أحاديث تقلب النور في الأصلاب ولو ضعفت الأسانيد فإنه يشد بعضها بعضاً، ولا سيما أنها ليست تشريعاً.

    وقد ساق صاحب سبل الرشاد قصة هذا النور بين عيني عبد الله بطرق متعددة، منها ما عزاه لـفاطمة الخثعمية ، وذكر من هذا الطريق جواباً لـعبد الله لهذه المرأة يدل على رفضه ما عرضته عليه فقال:

    أما الحرام فالممات دونه والحل فلا حل أستدينه

    فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه

    ثم روى عن البيهقي وأبي نعيم عن ابن شهاب : أن عبد الله كان أحسن رجل رئي، فمر على نساء من قريش فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج هذا الفتى فتصطب النور الذي بين عينيه، فإني أرى بين عينيه نوراً .. إلخ.

    فرؤية النور بين عيني والده الوارد بطرق متعددة سالمة أسانيدها من الوضع -كما قال عنها أصحابها- ولا شك أنها تترك أثراً بالغاً في الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه وطهارة نسبه من نكاح لا سفاح فيه، كما قال القائل في ذلك:

    نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً

    كيف لا، والله تعالى يقول في حق إحدى زوجاته ما يعم أهل البيت جميعاً: إِِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بذلك. وكما قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد قال تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:4-5] وطهارة نسبه أولى وأحق.

    وبعد هذا التمهيد الطويل نقول: إن بيان عظيم قدره وعلو شأنه قد يكون بالنسبة إليه -كما أسلفنا- بمثابة تحصيل الحاصل، وأنه في غنىً عن ذلك؛ لأنه في ذاته معجزة تشهد بعلو قدره ورفعة شأنه، كما قال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه:

    لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر

    ولدينا من النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة ما يغني، ولن نبعد كما أبعد الآخرون، وإن كان المبدأ عند البعض قول البوصيري في البردة:

    دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

    1.   

    عظم قدر المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري والفعلي

    وقد نبهنا على أنه صلى الله عليه وسلم له وجود قدري ووجود فعلي، وكلا الوجودين ثابت في الكتاب والسنة.

    وقبل المجيء إلى الكتاب والسنة وهما الأساسان العظيمان مع ما صح وثبت من أخبار التاريخ نجدد التنبيه على أن النصوص والآثار وصحيح الأخبار في هذا الموضوع أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تذكر، وقد جمع جلها علماء السيرة والتاريخ والخصائص، ونحن هنا نكتفي بالبعض، وفي البعض ما يغني عن الكل.

    عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في وجوده القدري من القرآن

    فمن الوجود القدري في كتاب الله على سبيل المثال الآتي:

    أولاً: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157] ، فكونه مكتوباً عندهم في كتبهم، وبيان منهج رسالته من أمره، وتخصيص في التشريع دلالة قاطعة على وجوده القدري في رفعة شأنه وعلو قدره.

    ثم إن هذا النص المنوه عنه والمأخوذ عليهم الميثاق به في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] ، فأخذ الميثاق عليهم وتوثيقه بإشهاد الله بعضهم على بعض، والله معهم من الشاهدين؛ دليل عظيم على قدره في عالم الملكوت والملائكة والأمم من قبل.

    ثم إنه سبحانه قد عرّفهم إياه بشخصه كما يعرفون أبناءهم فقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] ، وسأل عمر رضي الله تعالى عنه كعب الأحبار: ما هذه المعرفة التي عرفكم إياها الله بمحمد؟ فقال: والله يا عمر ! إني لأعرفه أكثر مما أعرف ولدي؛ لأن معرفتي إياه عن طريق الوحي، أما معرفتي لولدي فعن طريق أمه، والنسوة يقترفن.

    وجاء مصداق تلك المعرفة أن عيسى عليه السلام لما بشر به سماه باسمه: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6] ، فقد ذكره قبل مجيئه وسماه باسمه، فهذا أيضاً من أعظم الدلائل على علو شأنه وعظيم قدره.

    وجاءت السنة توضح تطبيق الميثاق عليهم باتباعه في حق كل من موسى وعيسى عليهما السلام:

    أما موسى فقد جاء عمر بصحيفة من التوراة قد أعجبه ما فيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم آت بها بيضاء نقية يا ابن الخطاب ؟ والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).

    وأما عيسى عليه السلام فسينزل آخر الزمان ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

    ومن أوضح الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه: أن الله تعالى عرفه وعرف أصحابه معه في كل من التوراة والإنجيل بالأمثلة المعبرة لكل من اليهود والنصارى في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:28-29].

    عظم وجود النبي صلى الله عليه وسلم القدري في اصطفاء الصحابة الكرام لصحبته

    تنبيه: لا شك أن تسجيل صفات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في الكتابين السابقين مع تعريفه صلى الله عليه وسلم؛ شرف عظيم لهم وتكريم جليل له في بيان نوعية الذين معه، وأنه تعالى كما اختاره واصطفاه اختار واصطفى له من يكون معه في أعلى المستويات.

    ومما يسترعي الانتباه أنه لم يقتصر على مثال واحد للأمتين اليهود والنصارى، بل أفرد كل أمة بمثال مستقل ومغاير للآخر، فجعل مثالهم لليهود روحانياً سامياً: رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، وذلك أن اليهود غلبت عليهم الماديات، فاحتالوا على ما حرم الله، وظهر ذلك في قضية يوم السبت.

    فبيّن سبحانه وتعالى فضل أصحاب رسول الله بعزوفهم عن الدنيا ورغبتهم في الآخرة: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] سماحةً ونوراً ورونقاً وبهاء، استنارت قلوبهم بالطاعة ففاضت على محياهم بالنور ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] المنزل على اليهود.

    وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29] المنزل على النصارى كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [الفتح:29] وهو النبت الذي يخرج في أصل العود كالذرة والحب فكبر فآزر الفرع الأصل فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى [الفتح:29] وقام على سوقه مستوياً ملتفاً بعضه ببعض في قوة، يشد بعضه بعضاً ليعظم منظره ويجود مخبره ويضاعف إنتاجه ومحصوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] ، ويقدم لهم هذا الوعد المحتوم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].

    وهنا ما يسترعي الانتباه: وهو أنه سبحانه خص اليهود بالوصف بالجانب الروحي في العبادة وابتغاء الفضل من الله، وخص النصارى بالوصف بالجانب المادي في الزرع والاستثمار، وللمتأمل المسترشد أن يقول:

    إن كل مثال في مكانه أبلغ، وهو لمن خصه به أنسب؛ لأن اليهود غلبت عليهم القسوة والشدة، فوصف لهم أصحاب محمد بالرحمة: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] ، واليهود سيطرت عليهم المادة حتى احتالوا على ما حرم الله، وتهربوا من التزامهم بالشريعة كالصيد المحرم عليهم يوم السبت، حيث كانوا يلقون الشباك يوم الجمعة ويسحبونها يوم الأحد، والشحوم التي أذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وهي محرمة عليهم، وتخاذلهم عن دخول الأرض التي أمروا بدخولها، وقولهم لموسى عليه السلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] .

    بينما أصحاب محمد وقافون عند النهي سباقون عند الأمر، وهم القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (والله لا نقول لك كما قال اليهود لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك).

    فلعل اليهود بسماعهم وصف أصحاب محمد يكبحون جماح المادة ويعودون إلى الله!

    أما النصارى فكانوا على نقيض ما عليه اليهود، فقد أهملوا الجانب المادي وأغرقوا في الرهبنة وعطلوا مناهج الحياة: وقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27].

    فلعلهم بسماع وصف أصحاب محمد بالزرع والنماء يخففون من رهبانيتهم وينتبهون إلى أعمال دنياهم.

    وبهذه المناسبة فإن هذه الأمة -ومنها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- قد أخذوا بأحسن الخطتين الموضحة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] إلى قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] ، فجمعوا بين السعي إلى ذكر الله والانتشار في الأرض.

    ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في القرآن

    أما الوجود الفعلي في الكتاب والسنة فمثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] وقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] أي: تعرفون نسبه ومولده وصدقه وأمانته وفي قراءة: مِنْ أنفَسكمْ من النفاسة ورفعة الشأن وعلو القدر.

    افتتاحية رسالته وهو النبي بالأمر بالقراءة وبالعلم، والتنويه بشأن هذه الأمية في حقه صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:2-4].

    ومن ذلك فنجد في هذا إشارة إلى صفة من أعظم الصفات الدالة على عظيم قدره، إذ أصبحت الأمية التي هي عيب في حق صاحبها تعود مدحاً في حقه صلى الله عليه وسلم وكمالاً، فيعلم الأمة الكتاب والحكمة، ولم يقتصر تعليمه على معاصريه بل يمتد إلى آخرين لم يلحقوا بهم من الأجيال المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وذلك لاستمرارية معجزته الخالدة القرآن الكريم الذي تعهد الله تعالى بحفظها، بخلاف معجزات الأنبياء قبله فهي مؤقتة بأزمانهم مختصة بأشخاصهم، والقرآن كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44].

    ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع المنهج القويم للتطبيق العملي الدائم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي)، فإنزال القرآن عليه وحفظ الله تعالى إياه واستمرار العمل به أعظم ما يعلي قدره ويعظم شأنه.

    ومن التنبيه على علو شأنه وعظيم قدره من كتاب الله افتتاحية سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]، وقد نزلت في صلح الحديبية، وفعلاً كان صلح الحديبية فتحاً، وقد سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفَتْح هو يا رسول الله؟! قال: نعم إنه لفتح) ، ويكفي في كونه فتحاً مبيناً، أن تجلس قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- على مائدة المفاوضات، وتجتمع تواقيعهم على صحيفة الصلح التي انتزعت منهم الاعتراف الفعلي بالكيان الإسلامي، ويقف الجميع جنباً إلى جنب في العرف السياسي والعسكري، وقد دخل في الإسلام بهذا الفتح في مدة السنتين نحو عشرة آلاف، وهم أضعاف من دخل فيه من قبل، ثم جاء الفتح الأكبر فتح مكة الذي جاء بالحق وأزهق الباطل، وتهاوت الأصنام المعلقة بالكعبة بمجرد الإشارة إليها بقضيب في يده.

    وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقوم الليل حتى تتفطر قدماه شكراً لله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد يقول قائل: وأي ذنب كان منه وهو المعصوم؟ فيقال: هو رفع لدرجاته وتعظيم لقدره.

    وأما إتمام النعمة عليه فلقد أتم تمامها في الحج خاتمة أعماله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي .. [المائدة:3] إلى آخره.

    وقوله: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1]، قد يكون في صيغة الوعد، والوعد من الله حق.

    وقد بيّن تعالى أنه صدق وعده معه: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا [الأنعام:161]، وجعله هادياً مهدياً: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3]... إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] السورة، وفي سورة الضحى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] رداً على الشامتين في فترة فتور الوحي، فقالوا: تركه ربه وأبغضه، فأكذبهم وأعظم له المواساة مع البشارة... وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4] ، ولا حد لهذه الخيرية إلا ما يرضيه صلى الله عليه وسلم: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] .

    وقد بيّن صلى الله عليه وسلم عظم هذا العطاء حيث إنه في اليوم الذي يقول فيه كل نبي: (نفسي نفسي)، أما هو فيبعثه الله المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون حين يؤتيه الله الشفاعة العظمى على ما سيأتي.

    وسورة أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ [الشرح:1] وما جاء فيها من الآيات الكريمات إلى قوله: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] قال القرطبي : قال مجاهد يعني: بالتأذين، وفيه يقول حسان :

    أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد

    وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

    وروى عن الضحاك عن ابن عباس قال: يقول له: لا ذُكرتُ إلا ذُكرتَ معي: في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم عرفة ويوم الأضحى، وأيام التشريق، وعلى الصفا والمروة، وفي مشارق الأرض ومغاربها. انتهى.

    أقول: وعند دخول المسجد، والخروج منه، وقبل وبعد الدعاء.

    وقيل: أعلينا ذكرك في الكتب المنزلة .. إلى آخر ما ذكره من المقام المحمود.

    بل وفي قضية تظاهر نسائه عليه: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ .. [التحريم:4-5] إلخ، وهذه العناية به وحسن موالاته لا شك أنها من عظيم قدره عند الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة المكرمين.

    ذكر عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في وجوده الفعلي في السنة النبوية

    ثم في الصلاة والتسليم عليه جعلها الله قربة، وأثاب على الصلاة عليه مرة بعشر صلوات من الله، وهذا لا شك تعظيمٌ لقدره.

    ومن صحيح الأخبار والآثار قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اختار من الناس العرب، واختار من العرب كنانة، واختار من كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار) .

    وكذلك حفظ نسبه الشريف من أن يصيبه شيء من أوضار الجاهلية رغم طول الزمن وكثرة آبائه منذ آدم وحواء، وقد أفصح صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (ولدت من نكاح لا سفاح فيه) ، علماً بأنهم كانوا يتوسعون في مدلول النكاح كما جاء عن عروة عند البخاري رحمه الله وأبي داود أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أوجه:

    نكاح مثل نكاح الناس اليوم: بأن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.

    ونكاح ثان: وكان الرجل فيه يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: اغتسلي ثم اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.

    ونكاح ثالث: وفيه يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، وهو ابنك يا فلان! فتسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع الرجل أن يمتنع منه.

    ونكاح رابع: وهو نكاح البغايا.

    فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.

    قال الشوكاني رحمه الله: وكان يوجد نكاح البدل يقول الرجل لآخر: انزل لي عن زوجتك وأنزل لك عن زوجتي، ونكاح الخدن: وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] أي: ما استتر، ونكاح المتعة.

    ونقول: وكذلك السبايا في إغارة بعضهم على بعض، كما قيل:

    وبنت كرام قد نكحنا وما لنا لها خاطب إلا السنان وعامله

    وعلى الرغم من توسع العرب في ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يصب نسبه الشريف بواحد منها مع أن تلك الصور لم تكن معيبةً عندهم.

    وجاء عن ابن عباس عند قوله: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]: ما من قبيلة إلا وله فيها رحم.

    وقال القاضي عياض في الشفاء ما نصه: وروي عن علي رضي الله تعالى عنه في قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الشورى:11] قال: نسباً وقرابةً: قرابة الآباء، وَصِهْرًا [الفرقان:54].

    قال البيضاوي في قوله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54] أي: نسباً دون نسب، ذكور ينسب إليهم، وذوات صهر أي: إناث يصهر إليهن .. إلى قوله: (ليس في آبائه سفاح)

    ثم نقل عن ابن الكلبي قوله: عددت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهنَّ سفاحاً ولا ما كان عليه أمر الجاهلية، وتعقبه القاضي في ذكره لهذا العدد بقوله: لعله أراد العمات والخالات وأراد الكثرة، وقال: إنما بينه وبين عدنان واحد وعشرون أباً إجماعاً، وبين عدنان وآدم ستة وعشرون أباً، فيكون بينه وبين آدم سبعة وأربعون أباً وسبع وأربعون أماً.

    عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه في حصول أحداث عظيمة عند مولده ونشأته

    أحداث الإيجاد، أي الإيجاد الفعلي:

    رافق الإيجاد الفعلي للنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الأحداث الدالة على رفعة شأنه وتعظيم قدره ومن هذه الأحداث: أولاً: أحداث يوم مولده:

    فمنها انصداع الإيوان، أي: إيوان كسرى، وهذا الصدع لا زال موجوداً إلى اليوم، ولما جئنا إلى المدائن وجئنا إلى إيوانه نظرت فإذا صدع في الجدار على ارتفاع ما يقرب من عشرة أمتار، والإيوان ارتفاعه لا يقل عن عشرين متراً، وجداره من أسفل في الأساس بعرض المترين وينتهي من أعلى إلى نصف المتر، وهذا الصدع تأملت ونظرت إليه، فإذا بالملحق الثقافي في السفارة السعودية يقول: ماذا تبحث يا فلان؟! قلت: أبحث عن جهة القبلة -جهة مكة- فأشار إلى الجهة التي فيها الصدع في هذا الجدار، فقلت: نعم الله، أكبر! قال: على ماذا؟ قلت: هذا الصدع قديم؛ لأنه الذي جاءت الأخبار فيه أنه انصدع يوم ولد صلى الله عليه وسلم، فسأل المسئولين هناك عن السياحة: متى كان هذا؟ قالوا: ولدنا وهو موجود ولا نعلم له تاريخاً، فلا يزال هذا الصدع موجوداً في هذا الإيوان في هذا الجدار.

    ومن ذلك إخماد نار فارس، وجفاف بحيرة ساوة ... لما فيه من تنبيه العالم بحدث جديد.

    ثانياً: أحداث رضاعه: ومنها أخباره مع حليمة مرضعته من نزول الخير والبركة بأهل بيتها وبأرض قومها، ومن شق صدره في طفولته.

    نعم وألف نعم في كل ما تقدم ما يفصح ويوضح عظيم قدره ورفعة شأنه صلوات الله وسلامه عليه، بل إن في ذاته وصفاته من حيث خلْقه وخلُقه العظيم، وحسبه ونسبه الطاهر، وما أجراه الله له من الأخبار عنه قبل مجيئه والأخبار عن أصحابه معه، وأخذ المواثيق والعهود له من النبيين قبل، وإشهاد بعضهم على بعض، وشهادة الله معهم، لئن جاءهم في أزمانهم ليؤمنن به ولينصرنه.

    وفي دعوة إبراهيم وبشرى عيسى وموسى عليهم السلام، وما كان ليلة الإسراء من لقيا الأنبياء وصلاته بهم، وما اطلع عليه من نتائج أعمال العباد من جنة أو نار، وجرى له أمور عظيمة عنده سدرة المنتهى حين انتهى إليها جبريل وقال: تقدم أنت يا محمد! إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16]، ولم يزل بكامل حسه وإدراكه: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18]، وما كشف له عن مغيبات الملأ الأعلى، فأصبح الغيب له عياناً؛ كل ذلك أو بعضه يدل دلالة قاطعة على عظيم قدره وعلو شأنه صلوات الله وسلامه عليه.

    ومما يزيد في علو قدره في ذلك أنها كلها خاصةً بجنابه لم يشاركه في واحدة منها، أحد من الخلق لا قبله ولا بعده، وهذا باعتراف العقلاء وشهادة الأعداء كما جاء عن هرقل وملوك العرب وشهد به النجاشي وغيره.

    1.   

    عظم قدره وعلو شأنه في أفعاله صلى الله عليه وسلم

    علو قدره في أفعاله التي تصدر عنه وتنسب إليه:

    وهذا هو المجال الثالث بعد ذاته وصفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم هو أشد ما ينبغي العناية به؛ لأنه موضع التأسي به فيه؛ ولأنه في مجال طاقة البشر، وذلك استجابة لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]؛ لأنه لا يكون التأسي به فيما يخصه في ذاته وصفاته، ولا في نسبه ولا في حسبه، ولا في خَلقه ولا في خُلقه، ولا في الإسراء والمعراج، ولا في شق الصدر، ولا انشقاق القمر، ولا حنين الجذع، ولا نبع الماء من بين أصابعه، ولا تكثير الطعام؛ حين أطعم أهل الخندق من عناق ذبحها جابر ، لا تكثير الماء، حين سقى الجيش ودوابه من مزادتي المرأة المشركة، ولا تسبيح الحصى في كفه، ولا في غير ذلك من المعجزات الباهرات التي لا دخل للبشر فيها، ولا طاقة لهم عليها. إنما التأسي به في أفعاله وأقواله، وإن تفاوت البشر في الطاقة والاستطاعة على حد قوله تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] ، وقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] .

    وقد بيّن تعالى طرفي التأسي الأدنى والأعلى في قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:126-128] .

    وبعدها مباشرةً يأتي قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]؛ فالحد الأدنى للعامة هو المقاصة بالمثل، ثم نوّه بفضل الصبر وأنه خير للصابرين، ثم ندبه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، وهو مجال التأسي.

    وأشار إلى أن يكون الصبر لله ليس لعوض ولا عن عجز، ونظيره قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40] ، وقوله: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، فهذا مقام الكملة من الرجال، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    أولاً: أفعاله قبل البعثة

    إن مظاهر عظيم قدره صلى الله عليه وسلم في أفعاله موجود منه صلى الله عليه وسلم فيما قبل البعثة وبعدها:

    أما قبل البعثة ففي قضية زيد بن حارثة عندما اختطف من أمه في الطريق وبيع في مكة، فاشتراه حكيم بن حزام وأهداه إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فأهدته إلى رسول الله ليخدمه.

    وكان أبوه يسأل الركبان ويتقصى عن مصير ولده، حتى علم أنه عند محمد في مكة، فجاء ومعه عم زيد ومعه الفداء، وأتى إلى محمد بن عبد الله وقال: (يا محمد! علمت أنك رحيم كريم، وأنك لا ترد سائلاً، وإن ابني عندك، وقد جئتك بفدائه، فأرجو أن تقبل منا الفداء وأن تعطينا ولدنا، فقال له محمد: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن أدعوه وأخيّره بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادٍ من يختارني على أهله، قال: والله لقد أنصفتنا.

    فاستدعاه وقال له: يا زيد ! أتعرف هذين؟ قال: نعم هذا أبي وهذا عمي، قال: قد جاءا بفدائك وقد قلت لهما كذا وكذا، فاختر من شئت يا زيد ! قال: والله! لا أختار عليك أحداً سواك أبداً، فقال أبوه: ويحك يا زيد ! أتختار الغربة والرق على الأهل والحرية؟ قال: نعم، ومالي لا أختار ذلك، فوالله! مذ صحبته ما قال لي في شيء فعلتُه: لم فعلتَ، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله).

    هناك يئس أبوه من عودته، واطمأن على أن ولده يعيش حياة سعيدة، فما كان من رسول الله إلا أخذ زيداً وطاف به على الكعبة وقال: (زيد ابني) فتبناه، وكان التبني سائداً في الجاهلية، فقرت عين أبيه وتركه عند محمد ورجع إلى بلده.

    إن حسن معاملته لخادمه وذلك قبل شرف البعثة، لدليل قاطع على علو قدره وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم، وكان زيد ولا يزال حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك: قضية الحجر الأسود، لما أرادوا إعادة بناء الكعبة وقسموا جهاتها الأربع على القبائل، وبدأت كل قبيلة تبني حصتها، فلما ارتفع البناء إلى مستوى الحجر الأسود، توقفوا في من يحظى بشرف وضع الحجر الأسود مكانه؟ وتنافسوا وتنازعوا، حتى أحضروا الدم وغمسوا أيديهم إيذاناً بالقتال، لكن رحمهم الله بقول القائل: علام يقتل بعضنا بعضاً؟ فلنحكم أول من يخرج علينا من هذا الفج!

    وانتظروا.. فإذا أول من خرج عليهم محمد بن عبد الله، فنطقوا بصوت واحد بكلمة واحدة: الأمين الأمين.. ارتضيناه، فلما قصوا عليه القصة قال: نعم، فأخذ رداءه عن كتفيه وبسطه في الأرض وأخذ الحجر بيديه الكريمتين، ووضعه وسط الرداء، وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء، واشتركوا جميعاً في رفعه إلى مستواه، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه ووضعه مكانه، فحاز الشرف الذي تنافسوا فيه وكادوا عليه يقتتلون، وأرضى الجميع.

    وقضية بلغ اهتمامهم فيها حد الاقتتال عليها، يرتضون لها ويأتمنون عليها محمد بن عبد الله، لأكبر دليل على علو شأنه وعظيم قدره، وفعلاً لقد أنهى الخلاف بينهم بأمانة وأرضى الجميع فيها.

    ثانياً: أفعاله بعد البعثة

    أما ما بعد الرسالة فكانت أفعاله الدالة على علو قدره وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأعظم؛ لأنها ضمن التكاليف والتشريعات:

    فمن ذلك مواجهته أهل مكة بما لا يألفونه وما فيه تسفيه أحلامهم وإبطال عبادة آلهتهم.

    فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، أي: اصدع ولا تخافن ولا تخافت، وأعلن ولا تسر، واملأ أجواء مكة بكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. إنه أمر وتكليف.

    فلما كان هذا يجلب سخط المشركين أمر أن يعرض عنهم: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]، ولما كان أيضاً سيعرضه للسخرية، قدم الله عز وجل له الضمان: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، إلى أن بيّن وقع ذلك عليه من ضيق الصدر وحرج النفس فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فََسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:97-98] أي: وداوم على ذلك وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

    كذلك دعوته قومه إلى الصفا، وإعلانه الدعوة إلى الله فيها بعد أن أُمر بذلك في قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] وعزيمته ومضيه ورفضه التوقف أو الترك ولو ثامنوه بالشمس والقمر، وما لقي ومن معه نتيجة الصحيفة الظالمة وانحيازهم في الشعب، حتى أكلوا ورق الشجر.

    وثمن ثم صبره على فقدان الحماية التي تمثلت في عمه، والرعاية التي تمثلت في زوجه.

    ومن ذلك خروجه إلى الطائف بحثاً عن موطن رحب لدعوته، وما لقي من ثقيف، والموقف الذي كان من الملائكة وتعاطفهم معه لما سمعوا منه تلك المناجاة التي ضاقت بها الأرض وارتجفت لها السماء حين قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) ذكره ابن هشام وغيره.

    وفي هذا السياق يسوق ابن كثير في التاريخ: (أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض نفسه على عبد ياليل فلم يجبه، خرج مهموماً ولم يفق إلا وهو بقرن الثعالب، فإذا بسحابة قد أظلته، قال: فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله بعثني إليك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) انتهى.

    وعند صاحب سبل الهدى والرشاد : (إني لأني بهم) أي: أتأنى ولا أعجل، وقد سمعت في بعض الطرق أنه قال معتذراً عنهم : (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ، وذكر صاحب سبل الهدى أيضاً أن ملك الجبال قال: (حقاً كما سماك ربك رءوف رحيم).

    فأي قدر أعظم من أن يعتذر عمن آذاه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتأنى في عودتهم منتظراً من سيخرج من أصلابهم، فعلها تنفعهم إن لم تنفع آباءهم، إنه موقف يجلّ عن الوصف!

    وهنا يرد على الذهن حالاً موقف نبي الله نوح حين غاضبه قومه، فدعا عليهم بالاستئصال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، وأيس مما في أصلابهم: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] .

    ونبي الله موسى عليه السلام بعد طول حوار مع فرعون وقومه دعا عليهم: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:88-89].

    فأي عظمة تجاوزت بنبي الله فطرة البشر، فبينما نوح وموسى يدعوان بهلاك قومهما؛ إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يتأنى بقومه رجاء إيمان من في أصلابهم، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة، فاستعجلوا بها، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).

    وهنا قد يخطر ببال البعض أن رحلة الطائف لم تؤت ثمارها، والواقع أنها أتت بما هو أعظم من إيمان ثقيف؛ وذلك لما قام صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة يصلي فاستمع إليه نفر من الجن: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30] إلى قولهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا [الأحقاف:31]، فكان في ذلك إبلاغ الدعوة إلى الجن الذين يمثلون أحد الثقلين.

    ثم جاء إلى مكة عند عودته من الطائف وكان قد طلب من ثقيف أن تكتم صنيعها عنه فلم تفعل، وبلغ خبره أهل مكة، فمنعوه الدخول إليها حتى طلب من يجيره في دخولها، ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو على دين قومه، وهنا ينشأ السؤال:

    نبي مرسل يرسل الله له ملك الجبال قوة بين يديه، والآن يرضى لنفسه أن يدخل في جوار رجل مشرك، وأن يكون للمشرك يد عنده، وفي مكة كبار الشجعان من أصحابه؛ كـحمزة وعمر وأبي بكر وغيرهم؟

    ولكن لا غرو في ذلك.. إنها الحكمة وبعد النظر وحسن السياسة والحنكة التي تمتع بها صلى الله عليه وسلم والتي كشفها الحوار الذي دار بين أبي سفيان والمطعم بن عدي حين وجد المطعم يطوف بالبيت، وأبناؤه سبعة في سلاحهم حول الكعبة، فدنا منه وسأله: أمجير أنت أم تابع؟ قال: بل مجير، فقال له: لقد أجرنا من أجرت، والفرق بينهما في ميزان أبي سفيان العسكري ومنهجه العدائي أنه إن كان مجيراً فالجوار مكرمة تحافظ عليها العرب وتفخر بها فلا بأس إذاً، أما إذا كان تابعاً -أي: أسلم وتبع محمداً- فيكون هذا تحدياً لأهل مكة كلهم، ولن يسكتوا على ذلك التحدي، فتكون حربٌ أهلية.

    وبهذا يتبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم لما لم يدخل في جوار أحد من أتباعه إنما أراد الحفاظ عليهم من حرب من لا طاقة لهم بهم آنذاك، ثم جاء حدث الإسراء، ولكأنه بمثابة التغطية والتعويض عما لحقه من ثقيف وأهل مكة، خاصةً عند سدرة المنتهى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:16-18].

    ثم جاءت الهجرة، والحديث عن الهجرة وموجباتها والإعداد لها، والنتائج التي أعقبتها يستغرق الوقت ويستفرغ الجهد، وسبق أن قدمت فيه محاضرة بعنوان: معالم على طريق الهجرة، خاصةً فيما يتعلق بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والمؤاخاة بين المختلفين من الأنصار فيما بينهم.

    ثم كانت السرايا والغزوات، وفي جميع ذلك تشكيلات لمواقف تدل على عظيم قدره وعلو شأنه، نختار منها موقفاً واحداً وهو آخر مواقفه في غزواته وهي فتح مكة، حينما وقف بباب الكعبة وأهل مكة عنده، وقال مقالة بعيدة الدلالة: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟).

    عليهم أن يتذكروا حالاً أفعالهم وإساءتهم، فإذا بصحيفة مليئة بالإساءة، فما عسى أن يقولوا وهم الآن في قبضته وتحت سلطته، فما كان منهم إلا أن يلتمسوا الرحمة وصلة الرحم فقالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم).

    وهناك عندما انخفضت رءوسهم وغضوا أصواتهم زال عنهم كبرياؤهم، وتخلى عنهم طغيانهم، فأرسلها في رفق وعاطفة وعزة وإباء: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، طلقاء بعد ماذا:

    بعد تكذيبهم وإيذائهم، وتعذيبهم أصحابه؟

    أم بعد إلقاء سلى الجزور عليه وهو ساجد في المكان الذي يأمن فيه كل خائف؟!

    أما بعد مقاطعته ومن معه وحصرهم في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر؟!

    أم بعدما منعوه دخول مكة إلا في جوار رجل مشرك؟!

    أم بعد تآمرهم عليه في دار الندوة ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه؟!

    أم بعد رصد بيته بعشرة شباب من القبائل بسيوفهم مصلته يرتقبون خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فيذهب دمه هدراً؟!

    أم بعدما اضطروه إلى الخروج من مكة مهاجراً، وألجئوه إلى الغار؟!

    أم بعدما جعلوا مائة من الإبل جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً؟!

    أم بعد مجيئهم بدراً بطراً ورياء بعد أن سلمت لهم تجارتهم؟!

    أم بعد تحالفهم مع كعب بن الأشرف وتحزيب غطفان وغيرهم في موقعة الأحزاب ليستأصلوه ومن معه في المدينة، وما صدهم إلا الخندق؟!

    أم بعد أن صدوهم عن البيت في عمرة الحديبية، والهدي معكوفاً أن يبلغ محله؟!

    نعم؛ أنتم الطلقاء، فلا مجازاة ولا عتب عليكم، إنه العفو والصفح بعد القدرة!

    فهل بعد هذا الشرف علو قدر في نطاق البشر؟! لا وألف لا، فإنا نجد مصداق ذلك ما يشاهد في أعقاب الحروب وما يفعل المنتصر من سلب ونهب وتقتيل واعتقالات وتدمير على حد قول بلقيس : إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] ولا غرابة؛ لأن قتالهم للسلطان والسلطة، أما هنا فلإعلاء كلمة الله، وكما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما غضب ولا انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط).

    1.   

    إرشاد المنهج القرآني للأمة في كيفية التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم

    ومسك الختام بعد هذه الجولة السريعة، نأتي ونتمهل أمام المنهج القرآني المنزّل، الذي جاء بالغاية القصوى في هذا المجال، فبيّن منتهى رفعة شأنه وعظيم قدره، فأدّب الأمة معه صلى الله عليه وسلم في جميع الجوانب وجميع الاعتبارات.

    أولاً: جانب الرسالة لاعتباره رسولاً، وجانب النبوة لاعتباره نبياً، وجانب الإنسانية لاعتباره إنساناًً، والجانب العام باعتبار عموم حقه حاضراً أو غائباً؛ وذلك في أوائل سورة الحجرات:

    أما جانب الرسالة فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1] أي: كونوا متبعين إياه، ولا تتقدموا عليه ولا تقدموا آراءكم بين يديه، وذلك رداً عليهم في صلح الحديبية حينما امتنعوا من التحلل، حين لجت القضية وتم الصلح، حتى رأوه صلى الله عليه وسلم بنفسه ينحر ويحلق.

    بل جاء عمر إلى أبي بكر وحاجّه قائلاً: علام نعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فيقول له الصديق : بلى، ولكنه رسول الله فالزم غرزه يا عمر ! ويقول عمر : وأنا والله أعلم أنه رسول الله.

    لا شك أن أبا بكر لم يُرد سائدة الخبر عند البلاغيين؛ لأنه يعلم أن عمر يعلم أنه رسول الله، ولكنه أراد لازم الخبر، وهو أن كونه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم اتباعه؛ لأنه إنما يعمل بتوجيه من الله، فلم ينتبه لها عمر وذهب إلى رسول الله وعرض عليه ما عرضه على أبي بكر ، وكان جوابه طبق ما أجاب به أبو بكر : (يا عمر أنا عبد الله ورسوله)، فكان ذلك من عمر تقدم بين يدي الله ورسوله.

    وقد نزلت سورة الفتح في طريق العودة إلى المدينة وبعدها جاءت سورة الحجرات.

    أما جانب النبوة: فأدب في الحديث عنده : لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] ولو كان الصوت بتلاوة القرآن، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض [الحجرات:2] أي: نوعية الحديث وكيفيته مع شدة التحذير: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] أي: لعدم إعظامكم عظيم قدره، وما أحد عرفه إلا الرجل الثاني بعد النبي في الأمة من لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح عليها، ألا وهو أبو بكر الصديق وذلك حين قال لـعمر : إنه رسول الله فالزم غرزه.

    ثم جاء التذييل بتنبيه الغافلين: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] .

    أما الجانب الإنساني: فرب أسرة، وله حرمة لبيته؛ فقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:4-5].

    وأما الجانب العام: فقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .. [الحجرات:6] إلى قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ [الحجرات:7] أي: فإن الله يكشف لرسوله الحقائق.

    فهذه النداءات للذين آمنوا وتلك الآداب الرفيعة في حقه في مختلف المجالات، والتي فهمها سادة الصحابة، ستظل قرآناً يتلى في كل جيل، وهي كافية لبيان علو شأنه عند ربه وعظيم قدره على عموم خلقه.

    ومن هذا المنطلق فقد جعل صلى الله عليه وسلم من الأميين في أقل مدة تاريخية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] أمةً وسطاً عدولاً، وأمة شهادة على الناس قبلهم، وكان الرسول عليهم شهيداً.

    وفي ذلك اليوم يكون الموقف الذي يتعطل البيان عنه ويتلعثم اللسان فيه ويحار العقل وتختلف المقاييس، موقف يشهده الأولون والآخرون، وفيهم الأنبياء والمرسلون، حين يُطلبون للشفاعة ويعتذرون ويقولون: (نفسي نفسي) وكل يحيل على من بعده من آدم أبي البشر إلى الخليل أبي الرسل.. إلى موسى، ثم إلى عيسى كلمته وروح منه، حتى يُنتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول:(نعم، أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد لم يك يعلمها قبل، إلى أن ينادى: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.

    (ثم يذهب ويطرق باب الجنة فيقال: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، ثم يأذن الله له بالشفاعة لأمته حتى يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله، أو كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) .

    رزقنا الله وإياكم جميل حبه، وعلمنا عظيم قدره، وجعلنا في شفاعته واتباع سنته، صلوات الله ربي عليه وسلامه.

    والسلام وعليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767555864