الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) متفق عليه، واللفظ للبخاري ].
في هذا الحديث الثاني تقول لنا رضي الله تعالى عنها: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ليدني -أو ليدخل- عليَّ رأسه فأرجله)، زاد البخاري في رواية هذا الحديث: (وأنا حائض)، وللعلماء هنا مباحث عديدة تحت هذا الحديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ)، فأين كانت رضي الله عنها؟
الجواب: أنها كانت في حجرتها، وبين الحجرة وبين المسجد فتحة الباب التي في الجدار، إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يستلقي بجسده الشريف في المسجد موضع الاعتكاف ويخرج رأسه عن المسجد إلى الحجرة وتتولى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ترجيل شعره، والترجيل هو المسمى الآن بالتسريح وهو: تطييب الشعر وتنظيفه.
وبوب البخاري مرة أخرى على هذا الحديث (باب غسل المعتكف رأسه)، ومن مباحث هذا الحديث: أن للمعتكف أن يرجل شعره، وقاسوا على الترجيل الطيب والزينة، وقاسوا على ذلك حاجته في غير الضرورة ما دام في المسجد.
فهنا قالوا: المباشرة المنهي عنها في الآية الكريمة إنما هي الجماع، كما جاء في أول الآية: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] أي: من الولد.
فالمباشرة تطلق بالمعنى الأعم وهو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، وبالمعنى الأخص وهو الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن ربكم حيي كريم يكني ولا يصرح، ففي قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] كناية، وهي كناية لطيفة، وكذلك في آخر الآية: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] يعني: إذا كان أحدكم معتكفاً وخرج إلى بيته لحاجة فلقي أهله فلا يباشرها وإن كان في البيت وليلاً؛ لأنه معتكف ومنقطع إلى الله سبحانه وتعالى.
فقال العلماء: المباشرة التي هي دون الجماع جائزة للمعتكف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمكن عائشة من أن تباشر ترجيل شعره، ومعلوم أن مجرد ترجيل الشعر ليس خاصاً بهذه الأسلاك الناعمة التي لا تسري فيها حرارة، بل لابد أن تمس جلدة الرأس، ولابد أن تمس جانباً من الوجه، ولابد أن تمس جزءاً من الرقبة، فهذه مباشرة لا مانع للمعتكف من فعلها، وأيضاً كون المرأة حائضاً لا يمنع من أن تخدم زوجها، ولو كان متلبساً بالعبادة.
في قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) جاء عند البخاري ومسلم زيادة وهي: (لحاجة الإنسان)، وهذه كناية أيضاً؛ لأن حاجة الإنسان من الأمر الذي لا يستغني عنه قط، وهي حاجة الحيوان أيضاً، وقد فسرها سفيان الثوري : بالبول والغائط، فكان صلى الله عليه وسلم إذا كان في معتكفه لا يدخل البيت إلا للضرورة.
وهنا قال العلماء: إذا دعت الظروف لحاجة أخرى سوى الضرورية التي هي البول والغائط فيجوز أن يدخل المعتكف البيت، كما لو احتاج إلى التداوي، أو احتاج إلى حجامة، أو احتاج إلى فصد، والحجامة لا تتأتى في المسجد مخافة من تلويثه بالدم، وكذلك الفصد وكذلك التداوي، فإذا كانت هناك ضرورة تقتضي دخوله البيت دخل للضرورة، وإذا دخل للضرورة امتنع عليه الذي يمتنع على المعتكف من المباشرة التي هي الجماع.
قوله: (وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان) الرسول صلى الله عليه وسلم كان بيته في المسجد، ففرع الأئمة رحمهم الله على ذلك وقالوا: لو كان للإنسان بيتان: بيت قريب من المسجد، وبيت بعيد عنه، وكلاهما له فيه زوجة وأهل، فهل يحق له أن يعمد إلى البيت البعيد ويطيل المسافة والزمن بعداً عن معتكفه، أو يتعين عليه أن يقضي حاجته في البيت القريب؟ ومثله إذا كان له صديق وبيته بجوار المسجد وأذن له صديقه أن يقضي حاجته عنده، فهل يلزمه أن يقضي حاجته في بيت صديقه القريب لقربه أو لا؟
أما بيت صديقه فيتفقون على أنه لا يلزمه؛ لأن الإنسان قد يستحي في هذه الحالة، ولا يأخذ راحته كاملةً إلا في بيته.
أما البيت البعيد والقريب فإن الجمهور على أنهما سواء، ولكن الأولى والأفضل أن يختار الأقرب اختصاراً للوقت وتقليلاً لبعده وانقطاعه عن محل معتكفه.
وهكذا الآن في الوقت الحاضر توجد محلات المياضي حول المسجد، فإذا كانت هذه المياضي عامة، ويمكنه أن يقضي حاجته فيها بالقدر الذي يقضيه في بيته فالأولى أن يقضي حاجته فيها، فإن كان يستحي أن يقف لينتظر محلاً يخلو، أو إذا دخل يتحفظ من صوت أو ريح، فليس بلازم عليه أن يقتصر على هذه القريبة، وله الحق في أن يذهب إلى بيته ليقضي حاجته على راحته.
يقول بعضهم: لا يخرج، ويؤتى إليه بطعامه، إلا إذا لم يكن عنده من يأتي له به فيذهب ليأكل ويرجع، وهل له أن يجلس حتى ينتهي من توابع الأكل والشرب؟ قالوا: لا، هو ممنوع عليه، كما قال بعضهم، بل يقضي حاجته في بيته ويأتي يتوضأ في المسجد؛ حتى لا يمكث في البيت كثيراً، وذلك حينما كان المسجد تراباً وماء الوضوء لا يعفن المسجد، أي: إذا أمكن ذلك ولم يضر المصلين ولم يضر المسجد.
وفترة قضاء الحاجة وفترة الوضوء أمور نسبية بسيطة فيقضي المعتكف حاجته ويتوضأ ولا شيء عليه.
ولو أنه احتلم في معتكفه -وهذا أمر يجري على الإنسان- فلا يضر اعتكافه كما لا يضر صومه، وعليه أن يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأن الاغتسال ضرورةً من أجل رفع الحدث لصومه ولصلاته.
هذا الأثر ساقت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها العديد من المسائل التي تتعلق بالاعتكاف، ولكن علماء الحديث والنقد يقولون: ليس كل ما جاء عنها في هذا الأثر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في هذا الأثر قالت: من السنة. والسنة لا تكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعض العلماء يقول: لم يأتِ في هذا الحديث في بعض الروايات كلمة من السنة، وإنما فيه: (المعتكف لا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازةً و.. و.. إلى آخره)، وقالوا: إن الحديث في آخره إدراج، وسنأتي عليه جملة جملة؛ لأن كل جملة لها أحكامها، وفيها مباحث إما اتفاقية وإما خلافية.
فقولها رضي الله تعالى عنها: (من السنة)، إذا أطلق الصحابي أو التابعي كلمة من السنة فهو أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي يملك أن يسن للناس.
لا يعود المعتكف مريضاً، فإذا كان جالساً في معتكفه وجاءه إنسان وقال: صديقك فلان مريض فلا يخرج من معتكفه، ولا يقطع اعتكافه لزيارة المريض، حتى بالغ بعضهم وقال: ولو كان المريض أباه.
وأما الشافعي رحمه الله فيقول: إن كان قد اشترط عند دخوله المعتكف أن يعود مريضاً، وأن يشهد جنازة فله ذلك، واعترض عليه الآخرون بأن المعتكف منقطع من هذا كله، وقد جاء عنها رضي الله عنها أنها كانت تخرج إلى بيتها وتمر بالمريض في بيته فتسأل: كيف هو؟ وهي مارة لا تقف، وكذلك تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يمر بالمريض في بيته فيسأل عنه ولا يدخل لعيادته).
إذاً: زيارة المعتكف للمريض الجمهور على منعها وقالوا: يبقى في معتكفه فإن خرج لزيارته انقطع اعتكافه، فإن كان اعتكافه نافلة وتطوعاً فلا شيء عليه، ويستأنف من جديد، وإن كان نذراً فإنه يستأنف ويعتبر هذا اليوم غير صحيح، وعليه أن يبدأ اعتكافاً آخر بدل هذا اليوم.
وشهود الجنائز في السابق كان له وضع آخر، يقول أبو سعيد الخدري : لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكان المهاجرون محصورين فكان الرجل إذا مرض في المدينة وهو من المهاجرين أو من الأنصار فإذا كان في حالة النزع، آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب معهم إلى بيته ليحضره، فإذا مات جهزوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيعوه، فلما كثر الحال كذلك والشخص قد يحتضر في الليل، في أوله أو في آخره، فاجتمعوا وقالوا: لقد أشفقنا على رسول الله في أن نؤاذنه في كل موتانا، فالأولى أننا ننتظر المريض حتى يموت فنجهزه ونحمله إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، واتفقوا على ذلك وأعدوا المكان لذلك وهو الموجود الآن ما بين باب جبريل وباب البقيع، هذا السور الصغير ويسمى مصلى الجنائز، والشارع الذي كان في قبلي المسجد يسمى درب الجنائز، فكانوا يأتون بالجنازة ويضعونها في هذا المكان المستطيل، ويؤذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم به فيخرج فيصلي عليه، وربما صلى عليه أحياناً في المسجد.
فكان المعتكف لا يشهد جنازة؛ لأنه كان يصلى عليها خارج المسجد بجواره، والمعتكف معتكف في المسجد فكان لا يشهدها بمعنى: لا يحضرها ولا يشيعها ولا يصلي عليها؛ لأنه مشغول في معتكفه.
كيف لا يمس المعتكف امرأة وعائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المراد لا يمسها لحاجة المس، أي: لا يقصد مسها.
قولها: (ولا يباشرها).
وكذلك لا يباشرها لا بقبلة ولا بمقدمات الوطء.
ولا يخرج من معتكفه لحاجة إلا لما لابد له منه، وهو كما يعبر عنه بقضاء حاجة الإنسان، وهنا يبحث بعض العلماء والفقهاء في مسألة وهي: إذا كان هناك إنسان له ضيعة بساتين، أو له تجارة وعنده غلمان يعملون له، وهو الذي يديرها، فهل يجوز له أن يديرها ويشير بما يراه، ويأمرهم أن افعلوا كذا وكذا وهو في معتكفه أم لا؟
الجمهور يجيزون ذلك؛ لأن فيه حفظ ماله وليس فيه طول اشتغال.
ويبحثون في مسألة أخرى وهي: إذا كان هناك إنسان معتكف وليس عنده مصدر للأكل والشرب إلا من صنعة يديه، كأن يكون خياطاً يخيط الثياب، أو وراقاً ينسخ الكتب والأوراق، أو يعمل أي شيء من العمل اليدوي، فهل يجوز له أن يعتكف ويزاول ما يمكن أن يعيش به وهو في معتكفه أو أنه لا يصح له اعتكاف مع هذا العمل.
نجد كثيراً من العلماء يقولون: إن توقفت معيشته على صنعة يده وكانت الصنعة لا تتنافى مع حرمة المسجد، كالحدادة التي فيها دق بالمطارق وأصوات ونفخ كير، ولا كالدباغة؛ لأن فيها روائح غير مقبولة، قالوا: فإن كان عمله لا يؤثر على حرمة المسجد ولا يؤذي المصلين ولا يضيق عليهم فلا مانع؛ لأنه لا يمنع من فعل الخير، فهذا لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان.
ولا اعتكاف إلا بصوم، يقول علماء الحديث: (ولا يخرج إلى البيت إلا لما لا بد له منه) هذا نهاية ما قالت في أول الأمر: من السنة، وما بعدها إنما هو ممن أضافه بعد ذلك إلى الحديث، وهو: (ولا اعتكاف إلا بصوم) وما بعده، فكثير من علماء الحديث يقولون: هذا ليس مما جاءت به السنة؛ لأن الصوم مع الاعتكاف موضع خلاف، ولكن على هذا النص: (لا اعتكاف إلا بصوم) اختلف العلماء هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟
فـمالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد المشهور عنهم أنهم يقولون: لابد للمعتكف من الصوم، وأما غيرهم فيقولون: لا يشترط لما جاء من قول النبي لـعمر عند أن قال له الرسول: (أوف بنذرك) ونذره كان بالليل، وإذا أراد أن يوفيه فسيوفيه بالليل، والليل ليس موضع صيام، فهذا يدل على أن الصوم ليس بشرط.
والشافعي رحمه الله لا يشترط الصوم مع أنه يستحبه، قال: يستحب له أن يكون صائماً ولكن ليس بشرط في صحته، والجمهور يقولون: الرسول لم يعتكف إلا صائماً في رمضان، قالوا: اعتكف في شوال -كما في قصة الأخبية على ما سيأتي- العشر الأول، ومن العشر الأول يوم العيد ويوم العيد ليس بيوم صوم.
فقالوا: إنه لم يعتكف إلا بصوم وفي المسجد النبوي، فقال النووي رحمه الله: نعم هو اعتكف في رمضان صائماً، فهل صومه في رمضان وهو معتكف كان لرمضان أو للاعتكاف؟
فإن قلتم: كان صومه لرمضان فلا دخل للاعتكاف في صومه، وإن قلتم: كان صومه للاعتكاف ضيعتم عليه صوم رمضان.
إذاً: يتعين في هذه الحالة أن يكون الصوم لرمضان وصادف أن جمع معه الاعتكاف، ولهذا فإن الصحيح الراجح أن الاعتكاف يصح بدون صوم، ولكن كما قال الشافعي : الأفضل أن يكون المعتكف صائماً؛ لأنه أدعى إلى خلو نفسه وإلى صفاء روحه، والصوم يساعده على العبادة أكثر.
قولها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع).
ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع هذه الجملة يتفق عليها الجمهور، بمعنى: أن لا يكون الاعتكاف في بستان، ولا يكون الاعتكاف في خيمة في مكان ما، بل لابد للمعتكف أن يكون اعتكافه في مسجد، والمسجد يقول هنا: مسجد جامع يعني: أنه تصلى فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة، فأما بالنسبة للجمعة فيقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف تشتمل على يوم الجمعة؛ فهو إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة سيكون بين أحد أمرين:
إما أن يبقى في معتكفه ويترك الجمعة والجمعة أولى من الاعتكاف.
وإما أن يخرج من معتكفه إلى مسجد تقام فيه الجمعة، فيكون قد قطع اعتكافه بخروجه إلى الجمعة.
إذاً: إذا كانت مدة اعتكافه تشتمل على يوم جمعة فيشترط أن يكون اعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة، وأما بالنسبة لغير الجمعة وهي الصلوات الخمس في جماعة، فإذا كان هناك مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس جماعةً فلا يصح اعتكافه فيه؛ لأنه سيضيع الجماعة، والجماعة للصلوات الخمس أولى من اعتكافه.
إذاً: لابد أن يكون المسجد جامعاً، يشتمل على صلاة الجمعة، وعلى إقام الصلوات الخمس في جماعة.
بقي هل يشترط على المرأة إذا اعتكفت أن يكون اعتكافها في مسجد عام أو أن مسجد بيتها يجزئها؟
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ومسجد بيتها هو المكان الذي خصصته لصلاتها وتصلي دائماً فيه، وهذه هي السنة، كما جاء عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فلما أتى قلت: أريد أن تصلي لنا يا رسول الله! في بيتنا لنتخذ مكانه مصلى لنا، فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس، فنضحته بالماء وقام فصلى … الحديث).
وهنا يستحب العلماء أنه إذا كان في البيت متسع أن يُخصص فيه مكان للصلوات؛ الفريضة للنساء، والنافلة للرجال، وهذا لما جاء في الحديث: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها مقابر)؛ لأن المقابر لا صلاة فيها، والصلاة في البيوت فيها الرحمة والخير والبركة وتعليم الجاهل وتعليم الصغير، فإذا كان للمرأة مسجد في بيتها بمعنى: مكان مخصص لصلاتها فيصح اعتكافها فيه.
ويقول بعض السلف: لولا أنه جاء اعتكاف النساء في المسجد على عهد رسول الله لقلت: ليس لها أن تعتكف في المسجد؛ لكثرة ما يراها الناس، ولكثرة تعرضها للناس.
وكلمة (مسجد) اسم جنس، ولكن هناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ويستدل بقوله سبحانه: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، وبأثر عمر : نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة عند البيت.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي؛ نظراً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في أي مسجد قط إلا في مسجده، فلم يعتكف في مكة، ولا في بيت المقدس ولا في أي مسجد آخر، فقالوا: السنة أن يعتكف الإنسان حيث اعتكف صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وسيأتي المؤلف في آخر باب الاعتكاف بحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، يشير إلى هذا القول، ولكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: على صحة الاعتكاف في أي مسجد كان مادام مسجداً جامعاً.
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه)، رواه الدارقطني والحاكم ، والراجح وقفه أيضاً].
بعدما ساق لنا المصنف المدرج في حديث أم المؤمنين عائشة : (ولا اعتكاف إلا بصيام)، جاءنا بأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه)، بأن نذر أو اختار أن يصوم مع اعتكافه، أما من أجل الاعتكاف فـابن عباس يقول: ليس عليه صيام.
وهنا يقول بعض العلماء: هذا موقوف على ابن عباس ، أي: أن ابن عباس لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه يتعلق بأمر تشريعي، وبصحة عبادة مشروعة؛ لأنه قال: (لا صوم على المعتكف).
إذاً: ابن عباس يقول: لا صوم على المعتكف، وأم المؤمنين عائشة تقول: لا اعتكاف إلا بصوم، ووجدنا مع المناقشة أن الراجح أنه يصح الاعتكاف بدون صوم.
ولعل في هذا القدر -فيما يتعلق ببداية دخول المعتكف، وما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز له، وصحة الاعتكاف بصوم أو بغير صوم- كفاية إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
وجاء في بعض الروايات عند مالك في الموطأ أن نافعاً قال: لقد أخبرني ابن عمر وقال: إن شئت أريتك موضع اعتكافه، يعني: إذا أحببت أن أريك أين كان محل السرير أريتك.
وجاءت رواية أخرى صريحة: أن سريره كان خلف أسطوانة التوبة، وأسطوانة التوبة موجودة إلى الآن في الروضة بعد الحجرة بأسطوانة واحدة، وسميت بأسطوانة التوبة لقصة أبي لبابة حينما ربط نفسه فيها حتى نزلت توبته، وفي القصة أن بني قريظة جاءوا إليه ونادوه من بعيد: ماذا ترى أننزل على حكم محمد؟
فقال بأعلى صوته: نعم، وأشار بيده إلى رقبته، أي: نعم، وإن نزلتم فسيذبحكم، ففي هذا ما فيه من الأمر وكان أبو لبابة يقول: والله! ما زالت قدماي من موضعهما حتى أيقنت أني خنت الله ورسوله، بمعنى: أني قلت: نعم، ولكن أخفيت شيئاً خلاف ذلك، فانطلق من هناك ولم يرجع إلى رسول الله ليخبره حتى جاء إلى المسجد وربط نفسه في السارية، وأقسم ألا يفك وثاقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبطأ على رسول الله سأل عنه، فأخبروه، فقال: أما وقد فعل فليبق في مكانه، ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث ما شاء الله أن يمكث نزلت توبته ليلاً وكان صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة ، فقالت: ألا أبشره يا رسول الله؟! قال: إن شئتِ، فنادت: إن الله قد تاب على أبي لبابة ، فبادر الناس ليحلوه من السارية فقال: لا والله! حتى يخرج رسول الله ويفكني بيده الشريفة، فسميت هذه الأسطوانة بأسطوانة التوبة.
وتجدون في أسطوانات الروضة لوحات وعناويين: أسطوانة عائشة، أسطوانة السرير، أسطوانة الحرس، الأسطوانة المخلقة، أسطوانة التوبة أو أسطوانة أبي لبابة ، كل ذلك مكتوب بلوحات في الأسطوانات الموجودة في الروضة، ولهذا يقول عنها علماء تاريخ المسجد النبوي: الأسطوانات ذات التاريخ في المسجد النبوي.
وكان بعض السلف يتحرى الصلاة عندها، وبعض الناس ينتقد على ذلك ويقول: في هذا تتبع بقاع لا حاجة لها، وجاء عن ابن الزبير وعن غيره: أنهم كانوا يسألون عن الأسطوانات، ودخل على عائشة وهي خالته فسألها، فقال أصحابه: انتظروا حتى يخرج وانظروا أين يصلي؟ فلابد أن تكون قد أخبرته بها، فلما خرج صلى عندها فعرفوها.
وهذه الأسطوانات ليس معنى إبقائها على تاريخها وأحداثها أن فيه تقديساً لجماد السارية ولا لجماد الأسطوانة، ولكنه عنوان وتذكير للعالم الإسلامي لما شهدت من تلك الأحداث، فمثلاً أسطوانة السرير إذا دخل الإنسان المسجد وهو على طوله في التوسعة الأخيرة الثانية وقد أصبح المسجد مائة ذراع في مائة ذراع فلن يعرفها إلا إذا كان مكتوباً عليها.
وقول عائشة : (وكان يدني إليَّ رأسه وأنا في حجرتي)، أين كان السرير؟
الجواب: كان في الروضة في الصفوف الأول، ولكنه كان لا يمنع المصلين من الصلاة، وإذا كان لا يمنع المصلين من الصلاة فلا شيء في ذلك.
وأبو لبابة لما ربط نفسه ويُعرف أين مكانه الذي ربط فيه نفسه؟ وتأتي السيرة ويأتي التاريخ يذكر ذلك، عندها يتذكر الإنسان ويحذر أن يخون الله ورسوله، تأتي كذلك أسطوانة ثمامة بن أثال الذي جاء من بني حنيفة : (لما أخذ أسيراً وكان سيد قومه وربط بالمسجد وهو مشرك، وكان يؤتى كل ليلة بحلب سبع نياق أو سبع شياه فيشربها، ومكث ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول له: (كيف بك يا
والأسطوانة المخلقة وتسمى أسطوانة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس إليها ويستقبل عندها الوفود، وليس في معرفة هذه الأسطوانات ما يعاب، وليس في تتبع ذلك ابتداع، كما يظنه البعض، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر