إسلام ويب

تفسير سورة الكافرونللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أصول هذا الدين وأركانه العظيمة: الولاء للمؤمنين، والبراء من المشركين ومما يعبدون من دون الله. وقد جاءت سورة الكافرون معلنة لهذا المعلم البارز من معالم الدين، فأظهرت البراءة من المشركين ومعبوداتهم، وخاطبتهم خطاباً واضحاً لا نقاش فيه ولا مداهنة، تحقيقاً لمبدأ الولاء الكامل للإسلام وأهله، وتحطيماً لأي مداهنة أو مراوغة في التخلي عن توحيد الله.

    1.   

    البراءة من آلهة المشركين

    ورد في فضل سورة (الكافرون) حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل طرقه مقال، يقول: (سورة (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن)، ومن العلماء من حسن هذا الحديث بمجموع طرقه.

    وهذه السورة قد حملت أصلاً عظيماً من أصول ديننا، وهو البراءة من آلهة المشركين، والتبرؤ من آلهة المشركين قد ورد في كتاب الله في جملة مواطن، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]، وقال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].

    فنتبرأ من آلهة المشركين أمر واجب، ويشهد له أيضاً نصوص أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فالتبرؤ من كل شيء يخالف شرع الله أمر واجب، فتبرأ من الآلهة التي تعبد مع الله، ومن القوانين التي تخالف قانون وشرعة الله سبحانه وتعالى، ومن كل شيء يخالف أوامر الله عز وجل، ومن كل آلهة تعبد مع الله سبحانه وتعالى.

    فسورة (الكافرون) حملت براءة من البراءات، وهي البراءة من آلهة المشركين، وقد ورد لها سبب نزول، لكن في إسناده ضعف: (أن المشركين عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوماً ويعبدون إلهه يوماً، فنزلت السورة).

    1.   

    الحكمة من التكرير في قوله تعالى: (ولا أنا عابد ما عبدتم)

    قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:1-4]، لماذا هذا التكرير؟

    من العلماء من يقول: إن التكرير للتأكيد، كما في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]، تأكيداً على أن العسر يتبعه يسر، وكما قال تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3-4]، وكما قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:24]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما استأذنه آل أبي جهل في تزويج ابنتهم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: (لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن)، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وكما في قول الشاعر:

    يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه

    وكما قال الآخر:

    يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع

    وهكذا فالتكرير يكون للتأكيد، فمن العلماء من قال: إن التكرير لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] حتى يقطع أمل المشركين ورجاءهم في إيمان الرسول بآلهتهم، أو في عبادة الرسول لآلهتهم.

    لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] أي: الآن، ثم قال في المرة الثانية: وَلا أَنَا عَابِدٌ [الكافرون:4] أي: في المستقبل مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4] يعني: لا الآن ولا في المستقبل ولا في مقدم حياتي.

    1.   

    التوفيق بين قوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وإيمان بعض الكفار بعد نزولها

    قال تعالى: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] إن قال قائل: كيف وقد أسلم أناس من الكفار وعبدوا الله سبحانه وتعالى؟ أو كيف نوفق بين قوله: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3] مع ما حدث من إيمان بعض الكفار بالله سبحانه وتعالى؟

    التوفيق والله أعلم: أن الآية محمولة على الكفار الذين كتب في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، فالذين كتب عليهم أنهم سيموتون على الكفر لن يعبدوا إلهك أبداً.

    وقول آخر: إنهم لن يعبدوا إلهك ما داموا على شركهم، ولن تتحقق عبادتهم لإلهك ما داموا على شركهم، فإن تمسكوا بشركهم وعبدوا الله فعبادتهم لله ليست بصحيحة.

    1.   

    الرد على شبهة الإقرار بدين الكفار في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)

    هل في الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] بأنهم يقرون على دينهم ولا يعترضون؟

    الآية وإن فهم منها ذلك، لكن جاءت آيات أخر بعدها تضيق في ذلك بل تنفيه، قال الله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

    وقال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1] الآيات.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛ فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله).

    وقال تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] فالمفهوم: إذا لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فلا تخلوا سبيلهم.

    فإن فهم من الآية أن الكفار يقرون على كفرهم ولا يمسون بسوء من دول الإسلام، فهذا مدفوع بما ذكرنا من الآيات.

    أما إن قيل: إن معنى الآية الكريمة: أنتم لكم دينكم وجزاء دينكم أو وجزاء عبادتكم، فالدين أحياناً يحمل على الجزاء؛ فإن حمل على أن المعنى لكم دينكم، أي: جزاؤكم على كفركم، ولي جزائي على إيماني، فهو معنى صحيح، وتشهد له آيات متعددة لقوله تعالى: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]، وقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وحديث: (كما تدين تدان) إلى غير ذلك.

    وإن قيل: لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون:6] أي: لكم عبادتكم وستجازون عليها، ولي عبادتي وسأجازى عليها، وليس فيه تعرض للمعاملات الدنيوية؛ فهو أيضاً له وجه قوي.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755995909